الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأبو حنيفة يُفرِّقُ بين الطَّويل الزائد على اليوم والليلة فيُلحِقُه بالجنون، وبين القصير الذي هو دون ذلك فيُلحِقُه بالنوم
(1)
.
وقد يُنكرُ كثيرٌ مِن النَّاسِ أن ا
لغضبَ يُزيلُ العقلَ
، ويبلغُ بصاحبه إلى هذه الحال، فإنَّه لا يعرفُ مِن الغضبِ إلا ما يجدُ مِن نفسِه، وهو لم يعلم غضباً انتهى إلى هذه الحال. وهذا غَلَطٌ، فإن النَّاسَ متفاوتون في الغضب تفاوتاً عظيماً، فمنه ما هو كالنَّشوة، ومنه ما هو كالسُّكْرِ، ومنه ما هو كالجنون، ومنه ما هو سريعُ الحصول سريعُ الزَّوال، وعكسه، ومنه سريعُ الحصول بطيءُ الزَّوال، وعكسه، كما قسَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأقسام
(2)
. وقِوى النَّاس متفاوتة تفاوتاً عظيماً في ملك تقواهم
(3)
عند الغضبِ والطمعِ والحزنِ والخوفِ والشهوةِ، فمنهم مَن يملِكُ ذلك ويتصرَّفُ فيه، ومنهم مَن يملكه ذلك ويتصرَّفُ فيه.
الوجهُ الخامسَ عشَرَ: أنَّ الغضبان الذي قد انغلقَ عليه القصدُ والرأيُ في الغضبِ - وقد صار إلى الجنون العارضِ أقربَ منه إلى العقلِ الثابتِ - أَولى بعدم وقوع طلاقِه مِن الهازلِ المتلفِّظِ بالطلاق في حال
(1)
«المسيوط» (1/ 217).
(2)
تقدم تخريجه ص (66)، من حديث أبي سعيد الخدري.
(3)
«تقواهم» كذا في الأصل. ولعل الصواب: «قواهم» والله أعلم.
عقلِه، وإنْ لم يرده بقلبِه، وقد ألغى طلاقَ الهازلِ بعضُ الفقهاءِ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمدَ
(1)
، حكاها أبو بكر عبدُ العزيز وغيرُه، وبه يقول بعضُ أصحابِ مالك
(2)
، إذا قام دليلُ الهزل، فلم يلزمه عِتقٌ ولا نِكاحٌ ولا طَلاقٌ. ولا ريب أنَّ الغضبانَ أَولى بعدم وقوعِ طلاقِه مِن هذا.
الوجهُ السادسَ عشَرَ: أنَّ جماعةً مِن أصحابنا لم يشترطوا في المجنون والمُبَرْسَم ألَاّ يكون ذاكِراً لطلاقِه، وإنْ كان ظاهرُ نَصِّ أحمدَ أنَّه متى ذَكَرَ الطَّلاقَ لزِمَه، فإنه قال في رواية أبي طالب في المجنون يُطَلِّقُ، فقيل له لما أفاقَ: إنَّك طلَّقتَ امرأتك، فقال: أنا ذاكرٌ أنِّي طلَّقتُ، ولم يكن عقلي معي؟ فقال: إذا كان يذكر أنَّه طلَّقَ فقد طَلُقَتْ
(3)
.
قال أبو محمد المقدسي: «وهذا هو المنقول عن الإمام أحمد فيمن كان جنونه بذهاب معرفتِه بالكليَّة وبطلان حواسه، فأمَّا مَن كان جنونُه لنشاف أو كان مُبَرْسَماً فإنَّ ذلك يسقط حكم تصرُّفه مع أنَّ
(1)
«الإنصاف» (22/ 216).
(2)
«حاشية الدسوقي» (2/ 351).
(3)
«المغني» (10/ 346)، و «الإنصاف» (22/ 138).
معرفتَه غيرُ ذاهبةٍ بالكليَّة، فلا يضرُّه ذِكْرُ الطَّلاق إنْ شاء الله»
(1)
. انتهى كلامُه.
ومعلومٌ أنَّ الغضبانَ الممتلئ أسوأُ حالاً ممن جنونُه مِن نَشَافٍ أو بِرْسَام، وأقلُّ أحوالِه أن يكون مثله
(2)
؛ يوضِّحه:
الوجهُ السابعَ عشَرَ: وهو أنَّ الموسوسَ لا يقعُ طلاقُه، صرَّحَ به أصحابُ أبي حنيفة
(3)
وغيرهم، وما ذاك إلا لعدم صِحَّةِ العقلِ والإرادة منه، فهكذا هذا.
الوجهُ الثامنَ عشَرَ: أنه لم يقلْ أحدٌ: إنَّ مجردَ التكلُّمِ بلفظِ الطَّلاقِ موجِبٌ لوقوعه على أيِّ حالٍ كان، بل لا بُدَّ مِن أمرٍ آخَرَ وراء التكلُّمِ باللفظ:
فطائفةٌ: اشترطَتْ أنْ يأتيَ به في حالِ التَّكليف فقط، سواءٌ قَصَدَه أو جَرى على لسانِه مِن غير قَصْدٍ، سواءٌ أُكره عليه أو أتى به اختياراً، وهذا مذهب مَن يوقع طلاقَ المكره، والطَّلاق الذي يجري على لسانِ العبدِ مِن غير قَصْدٍ منه، وهو المنصوصُ عن أبي حنيفة في الموضعين
(4)
.
(1)
«المغني» (10/ 346).
(2)
«مثله» في الأصل «بمثله» ، ثم صححت إلى «مثله» بقلم مغاير.
(3)
«حاشية ابن عابدين» (4/ 224).
(4)
«حاشية ابن عابدين» (3/ 235).
وطائفةٌ: اشترطت مع ذلك أن يأتيَ باللفظ مختاراً قاصداً له، وهو قول الجمهورِ الذين لا يُنْفِذُون طلاق المُكْره.
ثم منهم: مَنِ اشترطَ مع ذلك أن يكون عالماً بمعناه، فإنْ تكلَّم به اختياراً غير عارفٍ بمعناه لم يلزمْه حكمه، وهذا قول مَن يقول: لا يلزم المكلَّف أحكام الأقوال حَتَّى يكون عارفاً بمدلولها. وهذا هو الصَّواب.
ومنهم: مَنِ اشترطَ مع ذلك أن يكون مريداً لمعناه ناوياً له، فإنْ لم ينوِ معناه ولم يُرِدْه لم يلزمه حكمه، وهذا قولُ مَن يَشترطُ لصريح الطَّلاق النية، وقول مَن لا يوقع طلاق الهازل، وهو قولٌ في مذهب الإمام أحمد
(1)
ومالك
(2)
في المسألتين، فيشترطُ هؤلاء:
(1)
لكن المذهب خِلافه! (محمد بن مانع).
تعقبه تلميذه الشيخ زهير الشاويش: «وهذا منه رحمه الله تمسكٌ بالمفتى به عند متأخري مذهبه الحنبلي» .
(2)
قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (5/ 235): "وبه قال جماعة من الأئمة، منهم الصادق والباقر والناصر، واستدلوا بقوله تعالى:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البَقَرَة: 227] فدلت على اعتبار العزم، والهازل لا عزم منه. اهـ.
وأما حديث: «ثلاث جِدهنّ جِدٌ وهزلهن جِدٌ: النكاح والطلاق والرجعة» المروي في أبي داود (2194) والترمذي (1184)؛ فليس من مرويات الشيخين، ولا من الصحيح لذاته، ولا لغيره. ومثل هذا المقام يحتاج فيه إلى القواطع كما لا يخفى. قال الشوكاني: حديث: «ثلاثٌ جِدهن جِدٌّ» .. إلخ في إسناده عبد الرحمن بن حبيب، وهو مختلف فيه، قال النسائي: منكر الحديث. إلخ (القاسمي).
1 -
الرِّضا بالنُّطق اللِّساني.
2 -
والعِلم بمعناه.
3 -
وإرادة مقتضاه.
ومنهم: مَنْ يشترط مع ذلك كون الطلاق مأذوناً فيه مِن جهة الشَّارع، وهو قول مَن لا يوقع الطلاق المحرَّم، وهو قول طائفة مِن السَّلفِ مِن الصَّحابة والتابعين ومَن بعدهم.
وقال [محمد]
(1)
بنُ عبد السَّلام الخُشني: حَدَّثَنَا
(2)
محمد بن بشار قال: حَدَّثَنَا عبد الوهَّاب بن عبد المجيد الثقفي، حَدَّثَنَا عُبيد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عُمر أنَّه قال - في الرَّجُلِ يطلِّقُ امرأته وهي حائضٌ -: لا يعتدُّ بذلك.
وحسبُكَ بهذا الإسناد - إذا صحَّ - رواه أبو محمد بن حَزْم، قال: حَدَّثَنَا يوسف
(3)
بن عبد الله، قال: حَدَّثَنَا أحمد بن عبد الله بن
(1)
في الأصل: «عمر» ، والمثبت من «المحلى» لابن حزم، و «زاد المعاد» للمصنف، وسيرد بعد عدة أسطر صواباً. وهو: محمد بن عبد السلام بن ثعلبة ابن الحسن بن كليب - أو كلب - الخشني، أبو عبد الله، عالم، حافظ، حدَّث عنه بالأندلس جماعة جمَّة مِن النبلاء:«جذوة المقتبس» للحميدي ص (68).
(2)
في الأصل: «قال حَدَّثَنَا» . و «قال» لا وجه لها.
(3)
كذا في الأصل «يوسف» . فإن لم يكن ثمة تصحيف؛ فهو: الإمام، الحافظ، الفقيه، أبو عمر، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر. انظر:«جذوة المقتبس» للحميدي ص (367). ووقع في مطبوعة «المحلَّى» لابن حزم: «يونس بن عبيد الله» ! ولعله: يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث، فإنه من شيوخ ابن حزم. والله أعلم بالصواب. انظر:«جذوة المقتبس» ص (385).
عبد الرحيم قال: حَدَّثَنَا أحمد بن خالد قال: حَدَّثَنَا محمد بن عبد السَّلام فَذَكَره
(1)
.
وهذا مذهبُ أفقهِ التابعين على الإطلاق سعيدِ بن المسيِّب، حكاه عنه الثعلبيُّ
(2)
في تفسير سورة الطَّلاق.
وهو مذهب أفقهِ التابعين مِن أصحاب ابن عباس، وهو طاوُس. قال عبد الرزاق: عن [ابن]
(3)
جريج، عن عبد الله بن طاوُس، عن
(1)
«المحلَّى» لابن حزم (10/ 163)، وانظر:«زاد المعاد» (5/ 202).
قال ابن القيم: صحَّ عن ابن عمر بإسناد كالشمس. «زاد المعاد» (5/ 215).
قال ابن حجر: إسناده صحيح «الفتح» شرح حديث رقم (5252).
قلتُ: وللألباني رحمه الله بحثٌ قيم، ناقش فيه احتجاج ابن القيم بهذا الأثر، وخلص إلى أن المراد به:«لا تعتدُّ بتلك الحيضة في العدة» لا نفي الاعتداد بالطلاق؛ كما هو ظاهر استدلال ابن القيم. انظر: التمهيد (15/ 51)، «الفتح» (الإحالة السابقة)، «إرواء الغليل» (7/ 135 - 136) فإنَّه مهم جداً.
(2)
في تفسيره المسمَّى «الكشف والبيان» (9/ 332).
(3)
ساقطة من الأصل، واستُدركت من «المصنف» و «زاد المعاد» (5/ 202) حيث نقل ابن القيم هذا الأثر بإسناده ومتنه.
أبيه: أنه كان لا يرى طلاقاً مما خالف وَجْهَ الطَّلاق؛ ووَجْهَ العِدة، وكان يقول: وَجْهُ الطَّلاقِ أنْ يطلِّقها طاهراً مِن غير جِماع، وإذا استبان حَمْلُها
(1)
.
وهذا مذهب خِلاس بن عَمرو. قال ابنُ حَزْمٍ: حَدَّثَنَا محمد بن سعيد بن نُبَاتٍ
(2)
، قال: حَدَّثَنَا عباس بن أصبع، قال: حَدَّثَنَا محمد بن قاسم بن محمد، قال: حَدَّثَنَا محمد بن عبد السَّلام الخُشني، قال: حَدَّثَنَا محمد بن المثنى، قال: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حَدَّثَنَا [همَّام]
(3)
بن يحيى، عن قتادة، عن خِلاس بن عَمرو أنه قال في الرَّجُلِ يطلِّق امرأته وهي حائضٌ فقال: لا يعتدُّ بها
(4)
.
وهذا قول أبي قِلابة. قال ابنُ أبي شيبة [حدَّثنا]
(5)
عبد الرزاق،
(1)
«المصنف» لعبد الرزاق رقم (10923)(10925)، «المحلَّى» لابن حزم (10/ 163)، «زاد المعاد» (5/ 202).
(2)
«نُبات» . في الأصل: «ىىث» . والمثبت من مطبوعة «المحلّى» لابن حزم، و «جذوة المقتبس» للحميدي ص (60) والضبط منه.
(3)
في الأصل «هشام» ، والمثبت من «زاد المعاد» (5/ 202) حيث نقل الأثر بإسناده ومتنه. وهو همام بن يحيى بن دينار العوذي. قال أحمد: ثبتٌ في كلِّ المشايخ. «تهذيب الكمال» للمزي (30/ 302).
ملاحظة: تصحَّف «همام» في مطبوعه «المحلَّى» إلى «حمام» بالحاء المهملة.
(4)
«المحلَّى» (10/ 163).
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، واستدرك من «المصنف» .
عن معمر، [عن أيوب]
(1)
عن أبي قِلابة، قال: إذا طلَّقَ الرَّجُلُ امرأته وهي حائضٌ فلا يعتدُّ
(2)
بها
(3)
.
وهذا اختيارُ ابنِ عَقيل في كتابه «الواضح في أصول الفقه»
(4)
؛ صرَّح به في مسألة «النَّهْيُ يقتضي الفساد» .
وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة
(5)
.
وهو أحدُ الوجهَيْن في مذهب أحمد
(6)
.
وقال أبو جعفر الباقر: لا طلاقَ إلا على سُنَّة، ولا طلاق إلا على طُهْرٍ مِن غير جِماع، وكلُّ طلاقٍ في غَضَبٍ أو يمينٍ أو عِتْقٍ، فليس بطلاق، إلا لمن أراد الطَّلاقَ.
(1)
ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، واستدرك من «المصنف» .
(2)
«يعتدُّ» كذا في الأصل، وفي مطبوعه «المصنف»:«تعتدُّ» .
(3)
«المصنف» لابن أبي شيبة (5/ 5) كتاب الطلاق، ما قالوا في الرجل يطلق امرأته وهي حائض.
(4)
(3/ 248 - 249 وما بعدهما).
(5)
«مجموع الفتاوى» (33/ 81).
(6)
قال المَرْدَاوي: الصَّحيحُ مِنَ المذهبِ، أنَّ طَلاقَها في حَيْضِها أو طُهْرٍ أصابَها فيه، مُحَرَّمٌ، ويقَعُ. نصَّ عليهما، وعليه الأصحابُ. وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وتِلْمِيذُه ابنُ القَيِّمِ، رَحِمَهما اللهُ: لا يقَعُ الطَّلاقُ فيهما. «الإنصاف» (22/ 172).
والمقصود: أنَّ هؤلاءِ يشترطون في وقوعِ الطَّلاقِ إِذْنَ الشَّارعِ فيه، وما لم يأذن فيه الشَّارعُ فهو عندهم لاغٍ، غيرُ نافذٍ.
قال شيخ الإسلام: وقولهم أصحُّ في الدَّليل مِن قول مَن يوقع الطَّلاقَ الذي لم يأذن فيه الله ورسولُه، ويراه صحيحاً لازماً.
والمقصود: أنَّ أحداً لم يقل: إنَّ مجرَّدَ التكلُّمِ بالطَّلاقِ موجبٌ لترتُّبِ أثره عليه على أيِّ وَجْهٍ كان.
الوجهُ التاسعَ عشَرَ: أنَّ هذا مقتضى نَصِّ أحمد؛ كما تقدَّم
(1)
تفسيره الإغلاق - في رواية حنبل - بالغضب
(2)
.
وقال عبدُ الله ابنُه في «مسائله»
(3)
: سألتُ أبي عن المجنون إذا طلَّقَ في وقت زَوَلانِ عقلِه أيجوز؟ قال أبي: كلُّ مَن كان صحيحَ العقل، فزال عقلُه عن صحَّته، فطلَّق - فليس طلاقُه بشيءٍ.
فهذا عمومُ كلامِه، وذاك خاصُّه؛ فقد جعل تغيّرَ العقلِ عن صحَّته مانعاً مِن وقوعِ الطَّلاق، ولا ريبَ: أنَّ إغلاقَ الغضبِ يُغَيِّرُ العقلَ عن صحَّتهِ.
(1)
ص (36).
(2)
قال المؤلف في «شفاء العليل» (1/ 410): «وهذا يدلُّ على أنَّ مذهبه أن طلاق الغضبان لا يقع» .
(3)
روى نحوه عبد الله في «مسائله» المطبوعة رقم (1332).
الوجه العشرون: أنَّ الفقهاءَ اختلفوا في صحَّةِ حُكْمِ الحاكم في الغضبِ على ثلاثةِ أقوالٍ، وهي ثلاثةُ أوجهٍ في مذهب أحمد
(1)
:
أحدها: لا يصحُّ ولا يَنْفُذُ؛ لأنَّ النَّهيَ يقتضي الفسادَ.
والثاني: ينفُذُ.
والثالث: إنْ عَرَضَ له الغضبُ بعد فَهْمِ الحكم نَفَذَ حكُمه، وإنْ عَرَضَ له قبل ذلك لم ينفذْ، فإنّ الحاكمَ يجب أن يكون عالماً عدلاً.
فمَن نفذ حكمه قال: الغضبُ لا يمنعُه العلمَ والعدلَ، فقد حَكَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم للزُّبيرِ في شِرَاجِ الحَرَّة وهو غضبان
(2)
.
ومَن لم يُنفِذْ حُكمه قال: الغضبُ يمنعه كمالَ المقصودِ وحُسْنَ القصد، فيمنعه العلمَ والعدلَ، ولا يصحُّ القياس على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنَّه معصومٌ في غَضَبِه ورِضاه، فكان إذا غضب لم يقل إلا حقّاً؛ كما كان في رِضاه كذلك.
(1)
«المغني» (14/ 25، 26)، و «أصول الفقه» لابن مفلح (4/ 1546)، و «روضة الطالبين» (11/ 110)، و «إعلام الموقعين» (4/ 227).
(2)
رواه البخاري (2359)، ومسلم (2357) عن عبد الله بن الزبير.
ومَن فرَّق قال: إذا عَلِمَ الحقَّ قبل الغضب لم يمنعه الغضبُ مِن العلمِ، وحينئذ فيمكنُه أن يُنفِذَ الحقَّ الذي عَلِمه، وإذا غَضِبَ قبل الفهم لم يَنفُذْ حكمُه؛ لإمكان أن يَحول الغضبُ بينه وبين الفهم
(1)
، وهؤلاء يحتجُّون بقضيَّة الزبير، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما عَرَضَ له الغضبُ بعد فَهْمِ الحكومة.
والمقصودُ: أنَّ الغضبَ إذا أثَّر عند هؤلاء في بطلان الحكم، عُلِمَ أنَّ كلامَ الغضبان غيرُ كلام الرَّاضي المختارِ، وأنَّ للغضبِ تأثيراً في ذلك.
الوجه الحادي والعشرون: أنَّ وقوعَ الطَّلاق حكمٌ شرعيٌّ؛ فيستدعي دليلاً شرعياً، والدليلُ: إما كتابٌ، أو سُنَّةٌ، أو إجماعٌ، أو قياس يستوي فيه حُكم الأصل والفَرْعِ. وليس شيءٌ منها موجوداً في مسألتنا.
وإن شئتَ قلتَ: الدَّليلُ إما نَصٌّ، وإما معقول نَصٍّ، وكلاهما مُنْتَفٍ.
وإنْ شئتَ قلتَ: لو ثبت الوقوعُ لَزِمَ وجود دليله، واللازمُ مُنتفٍ؛ فالملزوم مثله.
(1)
المذهب: أنَّ حكم الغضبان ينفذ إنْ أصاب الحقَّ، وإلا فلا. (محمد بن مانع).
تعقبه تلميذه الشيخ زهير الشاويش: «رحم الله شيخنا ابن مانع، فإنه هنا يميل إلى المفتى به في المذهب، مع أن إصابة الحق أمر نسبي لا ضابط له» .
الوجهُ الثاني والعشرون: أنَّ نِكاح هذا مُثْبَتٌ بالإجماع، فلا يزول إلا بإجماعٍ مثلِه.
وإنْ شئتَ قلتَ: نِكاحُه قبل صدورِ هذا اللفظ منه ثابتٌ بالإجماعِ، والأصلُ بقاؤه حَتَّى يثبت ما يرفعُه.
الوجهُ الثالثُ والعشرون: أنَّ جمهورَ العلماء يقولون: إنَّ طلاق الصَّبيِّ المُميِّزِ العاقلِ لا ينفذُ ولا يصحُّ - هذا قول أبي حنيفة
(1)
، ومالكٍ
(2)
، والشافعيِّ
(3)
، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد
(4)
؛ اختارها الشَّيخُ أبو محمد
(5)
، وهو قولُ إسحاق - مع كونه عارفاً باللفظ، وموجبه بكلماته اختياراً وقَصْداً، وله قَصْدٌ صحيحٌ، وإرادةٌ صحيحةٌ، وقد أمر اللهُ سبحانه بابتلائه واختباره في تصرُّفاتِه. وقد نفذ عُمرُ بن الخطَّاب وصيَّته
(6)
. واعتبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قَصْدَه
(1)
«شرح فتح القدير» (3/ 487).
(2)
«المدونة» (6/ 25)، و «مواهب الجليل» (3/ 453).
(3)
«الأم» (5/ 220)، «الوسيط» للغزالي (5/ 372).
(4)
المذهب: يقع طلاق المميز إنْ عقل معناه. (محمد بن مانع).
(5)
«الإنصاف» (22/ 135، 136).
(6)
رواه مالك في «الموطأ» (2/ 584)، والدَّارمي (3330)، والبيهقي (6/ 282).
قال الحافظ ابن حجر: هو قوي، فإنَّ رجاله ثقات، وله شاهد. «الفتح» شرح حديث (2738). قال الألباني: صحيح. «الإرواء» (1645).
واختياره في التخيير بين أبويه
(1)
، فالغضبانُ الشديدُ الغضب الذي قد أُغلقَ عليه بابُ القصدِ والعِلْم أَولى بعَدَمِ وقوعِ طلاقِه مِن هذا بلا ريب.
فإن قيل: الغضبانُ مكلَّفٌ، وهذا غيرُ مكلَّفٍ؛ لأنَّ القلمَ مرفوعٌ عنه.
قيل: نعم، الأمرُ كذلك، ولكنْ لا يلزمُ مِن كونه مكلَّفاً أن يترتَّبَ الحكم على مجرَّد لفظِه كما تقدَّم، كيف والمُكره مكلَّف؛ ولا يصحُّ طلاقُه، والسَّكرانُ مكلَّفٌ، والمريضُ مكلَّفٌ، فلا يلزم مِن كون العبد مكلَّفاً ألَّا يعرِض له حالٌ يمنعُ اعتبارَ أقوالِه ونقص
(2)
أفعاله.
الوجهُ الرابعُ والعشرون: أنَّ غايةَ التلفُّظِ بالطَّلاق أن يكون جزءَ سبب، والحكمُ لا يتمُّ إلا بعد وجودِ سببه وانتفاء مانعه، وليس مجرَّدُ التلفُّظِ سبباً تاماً باتِّفاقِ الأئمة كما تقدَّم؛ وحينئذٍ: فالقَصْدُ
(1)
رواه عبد الرزاق (12611)، (12612)، وسعيد بن منصور (2275)، وأحمد (2/ 447)، وأبو داود (2277)، والترمذي (1357)، والحاكم (4/ 97) من حديث أبي هريرة، به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وصححه ابن القطان أيضاً في «بيان الوهم والإيهام» رقم (2421).
(2)
«نقص» كذا في الأصل، ولعل الصواب:«نقض» ويكون المعنى أنه عرض له حالٌ ألغى أحواله ونقض أفعاله. والله أعلم.
والعِلم والتكليف إمَّا أن تكونَ بقيةَ أجزاء [الكسب]
(1)
، أو تكونَ شروطاً في اقتضائه، أو يكونَ عدمُها مانعاً مِن تأثيره، وعلى التقادير الثلاثة: فلا يؤثِّر التكلُّمُ بالطَّلاق بدونها. وليس مع مَنْ أوقعَ طلاقَ الغضبان، والسَّكران، والمُكْرَه، ومَن جرى على لسانه بغير قَصْدٍ منه، إلا مجرَّدُ السبب، أو جزؤه؛ بدون شرطِهِ وانتفاءِ مانعه، وذلك غيرُ كافٍ في ثبوت الحكم. والله أعلم.
الوجه الخامس والعشرون: أنه لو سَبَقَ لسانُه بالطَّلاق، ولم يُرِدْهُ، دُيِّنَ فيما بينه وبين الله تعالى، ويُقْبَلُ منه ذلك في الحكم في إحدى الرِّوايتين عن أحمد
(2)
، إلا أن تكذِّبه قرينةٌ.
والرواية الأخرى: يُديَّن، ولا يُقبل في الحكم
(3)
.
وكذلك قال أصحابُ الشافعيِّ
(4)
: إذا سَبَقَ الطَّلاقُ إلى لسانه بغير قَصْدٍ، فهو لغوٌ، ولكن لا تُقْبَلُ دعوى سَبْقِ اللسان إلا إذا ظهرتْ قرينةٌ تدلُّ عليه؛ فقبلوا منه في الباطن دون الحكم إلا بقرينة.
(1)
«الكسب» في الأصل: «لكسب» .
(2)
المذهب: أنه يُديّن؛ ولا يقبل في الحكم؛ كما هو في الرواية الأخرى. (محمد بن مانع).
(3)
«الشرح الكبير» مع «الإنصاف» (22/ 218).
(4)
«روضة الطالبين» (8/ 53).
وكذلك قال أصحابُ مالك
(1)
: مَن سَبَقَ لسانُه إلى الطَّلاق، لم يقع عليه الطَّلاقُ، قالوا: ويُقبل في الفتوى.
وأبو حنيفة
(2)
: لا يرى سَبْقَ اللسان مانعاً مِن وقوع الطَّلاقِ، وعنه في سَبْقِ اللسان في العتقِ روايتان، وقرَّرَ أصحابُه بأن المرأة تملك بُضْعَها لسببٍ يستوي فيه القَصْدُ وعدمُ القَصْد؛ كالسَّكران والمُكْره والهازل، وكالرِّضاع بالاتِّفاق، فزوال البُضْعِ لا يختلف في سببه القَصْدُ وعدم القَصْدِ، بخلاف العتق، فإنَّ السبب الذي يملك به نفسَه يختلف فيه القَصْدُ وعدمُه، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة التسويةَ بينهما، ثم اختلف أصحابُه:
فقالت طائفةٌ: هما سواءٌ في الوقوع.
وقالت طائفةٌ: بل هما سواءٌ في عَدَمِ الوقوع.
والمقصود: أنَّ سَبْقَ اللسان إلى الطَّلاقِ مِن غير قَصْدٍ له مانعٌ مِن وقوعِه عند الجمهور، والغضبانُ إذا عَلِمَ مِن نفسِه أنَّ لسانَه سَبَقَه بالطَّلاق مِن غير قَصْدٍ، جاز له الإقامة على نِكاحه ويُدَيَّن في الفتوى. وأما قَبولُهُ في الحكم فيُخرَّجُ على الخِلاف.
والأظهرُ: أنَّه إنْ قامتْ قرينةٌ ظاهرةٌ تدلُّ على صحَّةِ قوله، قُبِلَ في الحكم، والغضبُ الشديدُ مِن أقوى القرائن، ولا سيمَّا فإنَّ كثيراً ممن يُطَلِّقُ في شدَّةِ الغضب يحلف بالله جَهْدَ يمينه أنه لم يقصدِ الطَّلاقَ، وإنما سَبَقَ لسانُه؛ وحينئذٍ فالجمهورُ لا يوقعون عليه الطَّلاقَ، كما صرَّحَ به أصحابُ أحمدَ والشافعيِّ ومالكٍ، وفي قبوله في القضاء ثلاثةُ أقوالٍ؛ أصحُّها: أنَّه إنْ قامتْ قرينةٌ ظاهرةٌ على صحَّةِ قوله قُبِلَ؛ وإلا فلا.
فصل
ومما يُبيِّنُ أنَّ الغضبان قد يتكلَّمُ في الغضب بما لا يريدُه: ما رواه مسلم في «صحيحه» من حديث أبي الزُّبير أنَّه سمع جابرَ بن عبد الله يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنِّي [اشْترطتُ]
(1)
على رَبِّي عز وجل أيُّ عَبْدٍ مِن المسلمين شَتمتُهُ أو سَببتُهُ أنْ يكون ذلك له زكاةً وأجراً»
(2)
.
وفي مسند الإمام أحمد مِن حديث مسروق، عن عائشة قالت: دَخَلَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلان [فأغلظ لهما]
(3)
وسبَّهما. قالت: فقلت: يا رسولَ الله، لَمَنْ أصابَ منك خيراً [ما أصابَ هذان منك خيراً]
(4)
(5)
.
وفي «الصحيحين» مِن حديث أبي هُريرة أنَّه سمع النَّبيَّ
(1)
في الأصل: «اشترط» ، والمثبت من صحيح مسلم.
(2)
رواه مسلم (2602).
(3)
«فأغلظ لهما» في الأصل: «فأغلظا» والمثبت من «المسند» .
(4)
ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، واستُدرِك من «المسند» .
(5)
«المسند» (6/ 45).
صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ يقول: «اللَّهُمَّ، أيّما عبدٍ مؤمنٍ سَبَبتُهُ؛ فاجعلْ ذلك [له]
(1)
قُرْبةً إليكَ يومَ القيامةِ»
(2)
.
وفي بعض ألفاظِ الحديث: «إنَّما أنا بَشَرٌ، أرضى كما يرضى البشرُ، وأغضبُ كما يغضبُ البشر، فأيُّما مؤمنٍ سببتُه أو لعنتُه فاجعلها له زكاةً» .
فلو كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مريداً لما دعا به في الغضبِ لما شَرَطَ على ربِّه وسأله أنْ يفعلَ بالمدعو عليه ضِدَّ ذلك؛ إذ مِن الممتنع اجتماعُ إرادة الضِّدين، وقد صرَّحَ بإرادة [أحدهما]
(3)
مشترطاً لَهُ على ربِّه، فدلَّ على عَدَم إرادتِهِ لما دَعَا به في حالِ الغضب. هذا؛ وهو صلى الله عليه وسلم معصومُ الغضبِ كما هو معصومُ الرِّضَا، وهو مالكُ لفظِه بتصرُّفِه، فكيف بمن لم [يعصمْهُ]
(4)
في غضبهِ وتمليكه، ويتصرَّفُ فيه غضبُه، ويتلاعبُ الشيطانُ به فيه؟ وإذا كان الغضبانُ يتكلَّمُ بما لا يريده، ولا يريد مضمونه، فهو بمنزلة المُكْره الذي يلجأ إلى الكلام أو يتكلَّمُ به باختياره، ولا يريد مضمونه، والله أعلم.
(1)
ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، واستدرك من «صحيح مسلم» .
(2)
رواه البخاري (6361)، ومسلم (2601).
(3)
في الأصل: «أحدها» .
(4)
في الأصل: «يعصمهم» .
فإن قيل: ما ذكرتم معارَضٌ بما يدلُّ على وقوع الطَّلاقِ، فإنَّ الغضبان أتى بالسَّببِ اختياراً وأرادَ في حال الغضب ترتُّب أثره عليه، ولا يضرُّ عدم إرادتِه له في حال رِضاه؛ إذ الاعتبار بالإرادة إنما هو حال التلفُّظِ، بخلاف المُكْره، فإنه محمولٌ على التكلُّمِ بالسبب غير مريد لترتُّبِ أثره عليه، وبخلاف السَّكران المغلوب [على]
(1)
عقله، فإنه غير مكلَّفٍ، والغضبان مكلَّفٌ مختار، فلا وجه لإلغاء كلامه.
فالجواب: أن يقال: إنْ أُريدَ بالاختيار رِضَاه به وإيثاره له فليس بمختار، وإنْ أردتم أنَّه وقع بمشيئته وإرادته التي هو غير راضٍ بها ولا بأثرها فهذا بمجرَّدِه لا يوجب ترتُّب الأثر، فإن هذا الاختيار [ثابت]
(2)
للمُكْره والسَّكران، فإنا لا نشترط في السَّكران ألّا يفرِّقَ بين الأرض والسماء، بل المشترط في عَدَمِ ترتُّبِ أثر أقواله أنه يهذي ويخلِّطُ في كلامِه، وكذلك المحمومُ والمريض، وأبلغ مِن هذا: الصَّبيُّ المراهقُ للبلوغ، إذ هو مِن أهل الإرادة والقَصْد الصحيح، ثم لم يرتب على كلامِه أثره، وكذلك مَن سَبَقَ لسانُه بالطَّلاق ولم يُردْه؛ فإنه لا يقع طلاقُه؛ وقد أتى باللفظ في حال الاختيار غير مُكره، ولكن لم يقصده، والغضبان - وإن قَصَدَه - فلا حكم لقَصْدِه في حال الغضب لما تقدَّم مِن الأدلة الدَّالة على ذلك. وقد صَرَّحَ
(1)
زيادة يقتضيها المعنى.
(2)
في الأصل: «ثابتة» .
أصحابُنا
(1)
بأنَّ مَن كان جنونُه لنَشَافٍ أو بِرْسَام لا يقع طلاقُه، ويسقط حكم تصرُّفِه [و]
(2)
إنْ كانت معرفته غير ذاهبة بالكلية، ولا يضرُّه أنْ يذكرَ الطلاقَ وأنه أوقعه، وما ذكرناه مِن دُعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّه أنْ يجعلَ سبَّه لمن سَبَّه في حال غضبه صَريحٌ في أنه [غير]
(3)
مريدٍ له، إذ لو أراده واختاره لم يسأل رَبَّه أن يفعل بالمدعو عليه ضِدَّ ما دعا به عليه، إذ لا يتصور إرادة ضِدَّين في حالٍ واحدة، وهذا وحدَه كافٍ في المسألة.
فهذا ما ظَهَر في هذه المسألة، بعد طول التأمُّل والفِكْرِ، ونحن مِن وراءِ القَبول والشُّكر لمن رَدَّ ذلك بحجَّة يجب المصيرُ إليها، ومِن وراءِ الرَّدِّ على مَن رَدَّ ذلك بالهوى والعناد. واللهُ المستعان، وعليه التكلان، وصَلَّى الله على سيِّدِ المرسلين، وخاتم النَّبيين، وعلى آله وأصحابه، وعترته وأنصاره، صلاة دائمة بدوام ملك الله عز وجل.
(تمّت)
(1)
«المغني» (10/ 346).
(2)
زيادة يقتضيها المعنى؛ انظر «المغني» (10/ 346).
(3)
زيادة يقتضيها المعنى.
[وافق الفراغ من نَسْخ المخطوط، ومقابلته، وتصحيحه، وتخريج أحاديثه، والتعليق عليه، لخمس بقين من رمضان، لسنة اثنتين وعشرين وأربع مئة وألف من هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على يَدِ العبد الفقير لعفوِ رَبِّه عُمر بن سليمان الحفيان غفر الله له ولوالديه.]
قصيدة المطلقة
المطلَّقة
(1)
قصيدة من البحر الوافر لأديب العراق معروف أفندي الرُّصَافي في الانتصار لمذهب المؤلِّف وشيخه، عليهما الرحمةُ والرضوان:
بَدَتْ كالشمس يحضُنُها الغُرُوبُ
…
فتاةٌ راعَ نَضرتَهَا الشُّحوبُ
منزَّهةٌ عن الفحشاء خَوْدٌ
(2)
…
من الخَفِراتِ
(3)
آنِسَةٌ عَروبُ
(4)
نَوَارٌ
(5)
تَستَجِدُّ بها المَعَالي
…
وتَبلى دُونَ عِفَّتِها العُيوبُ
صفا ماءُ الشَّبابِ بوَجْنَتَيْهَا
…
فحامَتْ حولَ رَوْنقهِ القُلوبُ
ولكنَّ الشَّوائِبَ أدركتْهُ
…
فعادَ وصَفْوُهُ كَدِرٌ مَشوبُ
ذوى منها الجمالُ الغَضُّ وَجْداً
…
وكادَ يَجِفُّ ناعِمُهُ الرَّطيبُ
أصابَتْ مِنْ شَبيبَتِها الليالي
…
ولم يُدرِكْ ذُؤابَتَها المَشيبُ
وقد خَلَبَ العُقُولَ لها جبينٌ
…
تَلوحُ على أَسِرَّتِهِ
(6)
النُّكوبُ
(1)
ديوان الرُّصَافي (2/ 137) شرح: مصطفى علي، ومنه استفدتُّ الشرحَ مع التصرُّف.
(2)
الخَوْد: الشابَّة الحسنةُ الخَلْق.
(3)
الخَفِرات: جمع «خَفِرة» ، وهي المرأة التي اشتدَّ حياؤها.
(4)
العَرُوب: المرأة المتحبِّبة إلى زوجها.
(5)
النَّوَار: المرأة النفور من الرِّيبة، وهو اسم لامرأة كانت زوجاً للشاعر الفرزدق، فطلَّقها فندم على طلاقه إيَّاها، وفي البيت إشارةٌ إلى ذلك.
(6)
الأسِرَّة: خطوط الجبهة.
ألا إنَّ الجَمَال إذا علاه
…
نِقابُ الحُزنِ مَنظَرُه عَجيبُ
* * *
حَليلةُ طيِّبِ الأعراق زالَتْ
…
بهِ عنها وعَنْهُ بها الكُروبُ
رَعَى ورَعَتْ
(1)
فلم تَرَ قَطُّ منه
…
ولم يَرَ قطُّ مِنها ما يَريبُ
توثَّقَ حَبْلُ وُدِّهما حُضوراً
…
ولم يَنكُثْ توثُّقَهُ المَغيبُ
فغاضَبَ زوجَها الخُلَطاءُ يوماً
…
بأمرٍ للخِلافِ به نُشوبُ
فأقسَمَ بالطَّلاقِ لهم يميناً
…
وتِلكَ أَلِيَّةٌ
(2)
خَطَأٌ وحُوْبُ
(3)
وطلَّقها على جَهْلٍ ثلاثاً
…
كذلِكَ يَجْهَلُ الرَّجُلُ الغَضوبُ
وأفتَى بالطَّلاقِ طلاقَ بَتٍّ
…
ذَوو فُتيا تَعَصُّبُهُم عَصيبُ
(4)
فبانَتْ عنهُ لم تَأتِ الدَّنايا
…
ولم يَعْلَقْ بها الذَّامُ
(5)
المَعيبُ
فظَلَّت وَهْيَ باكيةٌ تُنادي
…
بصوتٍ منهُ ترتَجِفُ القُلوبُ
لماذا يا «نجيبُ» صَرَمْتَ
(6)
حَبْلي!
…
وهل أذنَبْتُ عِندَكَ يا نجيبُ!
(1)
أي: رعى عهدها، ورعت عهده.
(2)
الأليَّة: القَسَم واليمين.
(3)
الحُوب: الذَّنْب.
(4)
العصيب: الشديد.
(5)
الذَّامُ: العَيْبُ.
(6)
صَرَمْتَ: قطَعْتَ.
ومالكَ قد جَفَوتَ جَفاءَ قَالٍ
(1)
…
وصِرتَ إذا دَعوتُكَ لا تُجيبُ؟ !
أبِنْ ذنبي إليَّ فَدَتْكَ نفسي
…
فإنِّي عنهُ بعدَئِذٍ أتوبُ!
أ
أَمَا عاهَدتَّني بالله ألَّا
…
يُفرِّقَ بيننا إلا شَعُوبُ؟ !
(2)
لَئِنْ فارَقْتَني وصَدَدتَّ عنِّي
…
فقَلبي لا يُفارِقُهُ الوَجيبُ
(3)
وما أَدْماءُ
(4)
تَرتَعُ حَوْلَ رَوضٍ
…
ويَرتَعُ خَلفَها رَشَأٌ رَبيبُ
فما لَفَتَتْ إليهِ الجِيدَ حَتَّى
…
تَخَطَّفَهُ بآزِمَتَيْهِ
(5)
ذِيبُ
فرَاحَتْ مِن تَحرُّقها عليهِ
…
بِدَاءٍ ما لَهَا فيهِ طَبيبُ
تَشَمُّ الأرضَ تطلُبُ منه رِيحاً
…
وتَنْحَبُ والبُغَامُ
(6)
هوَ النَّحيبُ
وتَمْزَعُ
(7)
في الفَلاةِ لغيرِ وَجهٍ
…
وآوِنَةً لِمَصْرَعِهِ تَؤوبُ:
بأجْزَعَ
(8)
مِنْ فؤادي يومَ قالوا
…
بِرُغْمٍ مِنكِ فارَقكِ الحبيبُ
* * *
(1)
القالي: المُبغِض.
(2)
شَعُوب: الموت.
(3)
الوَجيب: الاضطراب والخفقان.
(4)
الأدماء: الظَّبية التي أُشرِبَ لونُها بياضا، أو البيضاءُ البطنِ السَّمراءُ الظَّهرِ.
(5)
آزِمته: نابيه.
(6)
البُغام: صياح الظَّبية إلى ولدها بأرخمِ وألينِ ما يكونُ من صَوتها.
(7)
تمزَعُ: تعدو عدواً سريعاً.
(8)
قوله: «بأجزع» خبر «ما» في قوله: «وما أدماء» .
فأطرقَ رأسَه خَجَلاً وأغضى
…
وقالَ ودَمعُ عَينَيْهِ سَكوبُ
"نَجيبةُ" أقصِري عنِّي فإنِّي
…
كَفاني مِنْ لَظَى النَّدَمِ اللَّهيبُ
وما - واللهِ - هَجْرُكِ باختِياري
…
ولكنْ هكذا جَرَتِ الخُطوبُ
فليس يَزولُ حُبُّكِ مِن فُؤادي
…
وليسَ العَيشُ دونَكِ لي يَطيبُ!
ولا أسلو هَواكِ وكيفَ أسلو
…
هَوًى كالرُّوحِ فِيَّ لَهُ دَبيبُ؟ !
سَلي عنِّي الكَواكِبَ وَهْيَ تَسْرِي
…
بجُنْحِ اللَّيلِ تَطْلُعُ أو تَغيبُ
فكَمْ غالَبْتُها بهَواكِ سُهْداً
…
ونَجمُ القُطبِ مُطَّلِعٌ رَقيبُ! !
خُذي مِن نور (رَنْتَجْنٍ)
(1)
شُعاعاً
…
بِهِ للعَينِ تنكَشِفُ الغُيوبُ
وألْقِيهِ بصَدْرِيَ وانْظُريني
…
تَرَيْ قَلبي عَلَيكِ به نُدوبُ
وما المَكبولُ أُلقِيَ في خِضَمٍّ
…
بهِ الأمواجُ تَصْعَدُ أو تَصوبُ
فراحَ يغُطُّه التَّيارُ غطّاً
…
إلى أن تمَّ فيه لَهُ الرُّسوبُ
بأَهْلَكَ
(2)
- يا ابنةَ الأمجادِ - منِّي
…
إذا أنا لم يَعُدْ بكِ لي نَصيبُ!
* * *
ألا قُلْ في الطَّلاقِ لِمُوقِعيهِ
…
بِما في الشَّرعِ ليس لهُ وجوبُ
غَلَوْتُم في دِيانَتِكُم غُلُوّاً
…
يَضيقُ ببَعضِهِ الشَّرعُ الرَّحيبُ
أرادَ اللهُ تَيْسيراً وأنتُمْ
…
مِن التَّعسيرِ عِندَكُمُ ضُروبُ
(1)
رنتجن: اسم مكتَشِف أشعة إكس (×).
(2)
«بأهلك» خبر «ما» في قوله: «وما المكبول» .
وقَد حَلَّتْ بأُمَّتِكُم كُروبُ
…
لكُمْ فِيهِنَّ لا لَهُمُ الذُّنوبُ
وَهَى حَبْلُ الزَّواجِ ورَقَّ حَتَّى
…
يَكاد إذا نَفَخْتَ لهُ يذوبُ
كخَيطٍ من لُعَابِ الشَّمسِ أدلَتْ
…
بهِ في الجَوِّ هاجِرَةٌ حَلُوبُ
(1)
يُمَزِّقُه مِنَ الأفواهِ نَفْثٌ
…
ويَقطَعُهُ مِنَ النَّسَمِ الهُبوبُ
فَدى (ابنَ القيِّم) الفُقَهاءُ كَمْ قَد
…
دَعاهُم للصَّوابِ فَلَم يُجيبوا!
فَفي (إعلامِه
(2)
) للنَّاسِ رُشْدٌ
…
ومُزْدَجَرٌ لِمَنْ هُوَ مُستَريبُ
نَحا فيما أتاهُ طَريقَ عِلمٍ
…
نَحاها شَيخُه الحَبْرُ الأريبُ
(3)
وبَيَّنَ حُكمَ دِينِ الله لكِنْ
…
مِنَ الغالينَ لم تَعِهِ القُلوبُ
لعلَّ الله يُحدِثُ بعدُ أمراً
…
لنا فَيخيبَ منهُم مَن يَخيبُ!
(1)
الحلوب: أي: تحلب العرق لشدة حرها.
(2)
أي: كتابه «إعلام الموقِّعين، عن ربِّ العالمين» .
(3)
يعني: ابن تيميَّة.