الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في ذكر نص السؤال الموجة إلى السيد محمد رشيد رضا
…
فصل
قال السائل: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى حضرة سيدي العلامة المصلح العليم، مرشد الأمة، ورشيدها، الفيلسوف الحكيم، السيد محمد رشيد رضا، صاحب المنار المنير، أدام الله تعالى شريف وجوده.
وسلام الله عليك ورحمته ورضوانه، وبعد:
فالداعي لتحريره عَرْضُ مسألةٍ عَرَضَت لنا في هذه الأيام، وهو أننا عشرة أشخاص نوينا هذه السنة التوجه لحج بيت الله الحرام، والتمتع بمشاهدة 1 مهد الإسلام، وبهذه المناسبة صار بيننا جِدال وكلام كثير بخصوص الحج ومناسكه، فلجئنا إلى طلب الاستمداد من حضرتكم لإرشادنا إلى السبيل الأقوم، والصراط المستقيم، فعليه قَدَّمنا هذا الكتاب مؤملين فيه الجواب من حضرتكم على هذه الأسئلة وهي: ـ
علِمْنَا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار لنا الإسلام ديناً، وجعل هذا الدين مُقاما على خمسة أركان رئيسية، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا. هذه هي الخمسة الأركان التي لا يكمل الإسلام إلا بها.
1 في الأصل: "بمشاهدتها" والمثبت من مجلة المنار ج16 ص.
وبفضل المنار المنير، وباقي كتب العلماء المصلحين الأفاضل قد فهمنا المقاصد والحِكَم من الصلاة والزكاة والشهادتين والصيام، كما قد فهمنا المقصد من الحج على الوجه العامِّ، ولكن اسمح لنا يا حضرة المفضال الحكيم أن نقول: ـ
إن في الحج بعضَ أعمالٍ لم نعرف الحكمةَ منها، فلذلك جئنا بهذا الكتاب نلتمس منك هدايتنا إلى ما جهلنا، وهي: ـ
ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود، إذا عرفنا أنه حجر عادي لا يضر ولا ينفع، ولا يخفى ما في ذلك من الظاهرة 1 الوثنية.
هذا لفظه بحروفه إلى آخره ما ذكره.
ونحن نجيب على ما ينبغي الجواب عنه مما فيه اعتراض على ما شرعه الله ورسوله من مناسك الحج، ونترك ما عدا ذلك مما لا فائدة في الجواب عنه.
أما قول السائل: ـ "ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود، إذا عرفنا أنه حجر عادي لا يضر ولا ينفع، ولا يخفى ما في ذلك من الظاهرة1 الوثنية".
فنقول: ـ لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانا عاماً مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن التفصيل فرضٌ على الكفاية، فإن ذلك داخل في
تبليغ ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وداخل في تدبر القرآن وعَقْله وفهمه.
1 في الأصل: المظاهرة.
وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم.
وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرتهم وحاجتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقة ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوصَ وفهمها على التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحدّث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك.
إذا فهمت هذا فاعلم أنه ليس على عَوَامِّ المسلمين ممن لا قدرة لهم على معرفة تفاصيل ما شرعه الله ورسوله أن يعرفوا على التفصيل ما يعرفه مَنْ أَقْدَرَهُ الله على ذلك من علماء المسلمين وأعيانهم، مِنَ الحكمة فيما شرعه الله ورسوله، بل عليهم أن يؤمنوا بما جاء به الرسول إيماناً عاماً مجملاً، وأن يَكِلوا علمَ ما لم يعلموه إلى عالمه.
ولم يقل أحد من عوامِّ المسلمين فضلاً عن العلماء الأعلام منهم: إنه لا ينبغي للإنسان أن يعمل بشيء مما شرعه الله ورسوله إلا أن يعلم الحكمة َ في ذلك، بل لا يقول ذلك إلا من أعمى الله بصيرة قَلبه، أو زنديق منافق لا يؤمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "مفتاح دار السعادة" بعد كلام سبق فيمن اعترض على ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعد العلم بالحكمة في ذلك، قال رحمه الله تعالى: ـ
وقالوا: ـ أيُّ حكمةٍ فيها، وأيُّ فائدةٍ؟، وهذا من فرط جهلهم، وسخافة عقولهم، فإن الحكمة لا يجب أن تكون بأسرها معلومة للبشر، ولا أكثرها، بل لا نسبة لما علموه إلى ما جهلوه فيها، لو قيست علوم الخلائق كلهم بوجوه حكمةِ الله تعالى في خلقه وأمرِه إلى ما خفي عنهم منها كانت كنقرةِ عصفورٍ في البحر، وحسب الفَطِن اللبيبِ أن يستدلَّ بما عَرَفَ منها على ما لم يعرف، ويعلم الحكمة فيما جهله منها، مثلها فيما علمه، بل أعظم وأدق.
وما مثل هؤلاء الحمقى النُّوكى إلا كمثل رجل لا علم له بدقائق الصنائع والعلوم بالبناء والهندسة والطب، بل والحياكة والخياطة والتجارة، إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على أربابها في شيء من آلاتهم وصنائعهم وترتيب صناعتهم، فخفيت عليه، فجعل كل ما خفي عليه منها شيء قال: ـ هذا لا فائدة فيه، وأي حكمة تقتضيه، هذا مع أن أرباب الصنائع بَشَر مثله، يمكنه أن يشاركهم في صنائعهم، ويفوقهم فيها، فما الظن بمن بَهَرت حكمتُه العقولَ، الذي لا يشاركه مشارك في حكمته، كما لا يشاركه في خلقه، فلا شريك له بوجه، فَمَنْ ظَنَّ أن يكتال حكمته بمكيال عقله، أو يجعل عقلَه عياراً عليها، فما أَدْرَكهَ أقرَّ به، وما لم يدركه نفاه، فهو من أجهل الجاهلين، ولله في كلِّ ما خفي على الناس وجهَ الحكمةِ فيه حِكمٌ عديدةٌ لا تُدفَع ولا تنكر.
وقال رحمه الله في موضع ٍ آخر من هذا الكتاب: ـ
فصل
قد شهدت الفطرة والعقول بأن للعالم ربًّا قادراً حليماً عليماً رحيماً، كاملاً في ذاته وصفاته لا يكون إلا مريداً للخير لعباده، مجرياً لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن واستقباح القبيح، وما جبل طباعهم عليه من إيثار النافع لهم، المصلح لشأنهم، وترك الضار المفسد لهم، وشهدت هذه الشريعة له بأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه المحيط بكل شيء عليماً.
وإذا عرف ذلك فليس من الحكمة الإلهية، بل ولا الحكمة في ملوك العالم أنهم يسوون بين من هو تحت تدبيرهم في تعريفهم كلّما يعرفه الملوك، وإعلامهم جميع ما يعلمونه، وإطلاعهم على كلِّ ما يجرون عليه سياساتهم في أنفسهم وفي منازلهم، حتى لا يقيموا في بلد فيها إلا أخبروا من تحت أيديهم بالسبب في ذلك، والمعنى الذي قصدوه منه، ولا يأمرون رعيتهم بأمر، ولا يضربون عليهم بعثاً 1، ولا يسوسونهم سياسة إلا أخبروهم بوجه ذلك وسببه، وغايته ومدته، بل لا تتصرف بهم
1 في الأصل "بعضا" وما أثبته من "مفتاح السعادة" 2/207 ط الإمام بمصر. وط مكتبة الرياض 1/304 – 305.
الأحوال في مطاعمهم وملابسهم ومراكبهم إلا أوقفوهم على أغراضهم فيه، ولا شك أن هذا مناف للحكمة والمصلحة بين المخلوقين، فكيف بشأن رب العالمين وأحكم الحاكمين، الذي لا يشاركه في علمه ولا حكمته أحد أبداً.
فحسب العقول الكاملة أن تستدل بما عرفت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلم أن له حكمةً في كل ما خلقه وأمر به وشرعه، وهل تقتضي الحكمة أن يخبر الله تعالى كلَّ عبد من عباده بكل ما يفعله، ويوقفهم على وجه تدبيره في كل ما يريده، وعلى 1 حكمته في صغير ما ذرأ وبرأ من خليقته، وهل في قوى المخلوقات ذلك؟ بل طوى سبحانه كثيراً من صنعه وأمره عن جميع خلقه، فلم يطلع على ذلك ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
والمدبر الحكيم من البشر إذا ثبتت حكمته وابتغاؤه الصلاح لمن تحت تدبيره وسياسته كَفاَ في ذلك تتبع مقاصده فيمن يولي ويعزل، وفي جنس ما يأمر به وينهى عنه، وفي تدبيره لرعيته وسياسته لهم دون تفاصيل كل فعل من أفعاله، اللهم إلا أن يبلغ الأمر في ذلك مبلغاً لا يوجد لفعله منفذ ومساغ في المصلحة أصلاً، فحينئذ يخرج بذلك عن استحقاق اسم الحكيم، ولن يجد أحد في خلق الله ولا في أمره ولا واحد من هذا الضرب، بل غاية ما تخرجه نفس المتعنت أمور يعجز العقل عن معرفة وجوهها وحكمتها، وأما أن ينفي ذلك عنها فمعاذ الله إلا أن يكون ما أخرجه كذب على الخلق والأمر فلم يخلق الله ذلك ولا شرعه.
1 في الأصل "وعلمه وحكمته" وما أثبته من "مفتاح دار السعادة".
وإذا عرف هذا، فقد علم أن رب العالمين أحكم الحاكمين، والعالم بكل شيء 1، والقادر على كل شيء، ومن هذا شأنه لم تخرج أفعاله وأوامره قط عن الحكمة والرحمة والمصلحة، وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه. فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العام أن تضمنته حكمة بالغة، وإن لم يعرفوا تفصليها، وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به. فيكفيهم في ذلك الإسناد إلى الحكمة البالغة العامة الشاملة التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم.
هذا وإن الله تعالى بنى أمور عباده على أن عرفهم معاني جلائل خلقه وأمره دون دقائقهما وتفاصيلهما. وهذا مطرد في الأشياء أصولها وفروعها، فأنت إذا رأيت الرجلين مثلاً أحدهما أكثر شعراً من الآخر أو أشد بياضا، أو أحد ذهناً لأمكنك أن تعرف من جهة السبب الذي أجرى الله عليه سنة الخليقة وجه اختصاص كل واحد منهما بما اختص به، وهكذا في اختلاف الصور والأشكال، ولن لو أردت تعرف المعنى الذي كان شعر هذا مثلاً يزيد على شعر الآخر بعدد معين، أو المعنى الذي فضله به في القَدْر المخصوص والتشكيل المخصوص، ومعرفة القدر الذي بينهما من التفاوت وسببه لما أمكن ذلك أصلاً، وقس على هذا جميع المخلوقات من الرمال، والجبال، والأشجار، ومقادير الكواكب، وهيئاتها.
1 في المفتاح: والغني عن كلِّ شيء.
وإذا كان لا سبيل إلى معرفة هذا في الخلق، بل يكفي فيه العلة العامة، والحكمة الشاملة، فهكذا في الأمر يعلم أن جميع ما أمر به متضمن لحكمة بالغة، وأما تفاصيل أسرار المأمورات والمنهيات فلا سبيل إلى علم البشر به، ولكن يطلع الله من شاء من خلقه على ما شاء منه، فاعتصم بهذا الأصل، انتهى.
فتبين من كلام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى أنه لا يجب على الإنسان أن يعلم الحكمة في جميع ما شرع الله ورسوله، فإن ذلك ليس في قوى البشر، ولا في وسعهم وطاقتهم، وإنما يجب هذا على الأعيان الذين أَهَّلَهُم الله لمعرفة ما أنزله الله، وأطلعهم عليه.
وأما من كان عاجزا عن ذلك، وليس في طاقته ووسعه معرفة ذلك والاطلاع عليه، فالواجب عليه أن يؤمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إيماناً عاماً مجملاً، وأن يعمل بما أمر الله به ورسوله، سواء عرف الحكمة في ذلك أو لم يعرفها.
إذا تبين هذا، فاعلم أن الحكمة ـ والله أعلم ـ في اجتماع الناس على تقبيل الحجر الأسود هو ما ثبت عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال: ـ "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو استلمه فكأنما صافح الله".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونوَّر ضريحه في الجواب على هذا الحديث: ـ
أما الحديث الأول فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس قال: "الحجر الأسود يمين الله في
الأرض، فمن صافحه أو استلمه 1 فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه".
ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه، وإنما يشكل على من لا يتدبره 2، فإنه قال: ـ "يمين الله في الأرض" فقيده بقوله: "في الأرض" ولم يطلق، فيقول:"يمين الله" وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق.
ثم قال: ـ "من استلمه وصافحه فكأنما صافح الله، وقبل يمينه"، ومعلوم أن المشَبَّهَ غيرُ المشبه به.
وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً، ولكن شُبَّه بمن يصافح الله.
فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر الأسود ليس من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل، ولكن بين أن الله كما جعل للناس بيتاً يطوفون به، جعل لهم ما يستلمونه، ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء، فإن ذلك تقريب للمقبّل، وتكريم له، كما جرت العادة.
والله ورسوله لا يتكلمون بما فيه ضلال الناس، [بل لا بد] 3 من أن يبين لهم ما يتقون، فقد بَيَّن 4 في الحديث ما يتقى 5 من التمثيل. انتهى.
1 في الفتاوى لابن تيمية 6/397: "..أو قبّله".
2 في الفتاوى لابن تيمية 6/397: "إلا على من لم يتدبره".
3 ما بين المعقوفين من الفتاوى 6/398 وهي كذلك في الفتاوى بين معقوفين.
4 في الفتاوى: "بين لهم".
5 في الفتاوى: "ما ينفي".
فبين رحمه الله تعالى أن الحكمة في تقبيل الحجر واستلامه: أن الله كما جعل للناس بيتاً يطوفون به، جعل لهم ما يستلمونه، ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء، فإن ذلك تقريب للمقبّل، وتكريم له، كما جرت العادة. والله ورسوله لا يتكلمون بما فيه ضلال الناس، بل لا بد من أن يبين لهم ما يتقون، فقد بيَّن في الحديث ما يتقى من التمثيل.
ولو كان في استلام الحجر وتقبيله مظاهرة الوثنيين لم يشرع الله ورسوله ما يوهم الناس ويوقعهم في مظاهرة الوثنية، بل قد بين لهم ما يتقون، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ـ "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"1.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبّله واستلمه، وعمل بذلك الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم إلى يومنا هذا، كان الواجب على المسلم أن يؤمن بما شرعه الله ورسوله، ويعمل به سواء عرف الحكمة في ذلك أو لم يعرفها.
ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على هداية الخلق، وتحذيرهم وإبعادهم عمَّا يوقعهم في الشرك ومظاهرة الوثنيين حتى في الألفاظ، وكذلك الصحابة بعده رضي الله عنهم، فلو كان في استلام الحجر وتقبيله ما يوقع أو يقارب مظاهرة الوثنيين لنهى عن ذلك، ولبين للناس ما يتقون، فكان هذا
1 أخرجاه في الصحيحين.
من نتائج أَوْضَاعٍ الزنادقةِ الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجاً، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين.
ولولا أن هؤلاء الذين أوردوا هذا السؤال من أجهل الناس، وأفسدهم عقولا، وأضلهم عن سواء السبيل، وأبعدهم عن سلوك سبيل المؤمنين، والدخول معهم في امتثال ما أمر الله به ورسوله، والإيمان بما أخبر الله به وشرعه، لما داخلهم في ذلك شك وارتياب.
ولكِنْ على تلكَ القلوبِ أَكِنَّة
فليستْ وإِنْ أَصْغَتْ تُجِيْبُ المُنَادِيا
وقال الإمام ابن قتيبة في "مختلف الحديث في الرد على الزنادقة": ـ
قالوا حديثان متناقضان. قالوا: رويتم عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: "الحجر الأسود من الجنة، وكان أشدَّ بياضاً من الثلج حتى سوّدَته خطايا أهلِ الشرك"1.
ثم رويتم أن ابن الحنفيَّةِ سئل عن الحجر الأسود فقال: "إنما هو من بعض هذه الأودية".
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند1/307-329-373 من طريق حماد بن سلمة ثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم....به.
وقد أخرجه الترمذي من هذا الطريق وقال: "حسن صحيح" ا?.
وقد اختلف في سماع حماد من عطاء هل هو قبل الاختلاط أو بعده.
وقد صحح العلامة أحمد شاكر الحديث بناءً منه على قوله بسماع حماد بن سلمة من عطاء قبل الاختلاط كما في تعليقه على المسند (4/284) .
والشطر الأول من الحديث ثابت من حديث أنس عند الإمام أحمد 3/277 وغيره.
قالوا: ـ وهذا اختلاف وبُعْدُ، فكيف يجوز أن يُنْزِل الله تعالى حجراً من الجنة! وهل في الجنة حجارة؟ وإن كانت الخطايا سودته فقد ينبغي أن يبيض لما أسلم 1 الناس، ويعود إلى حالته الأولى.
قال أبو محمد: ونحن نقول إنه ليس بمنكرٍ أن يخالف ابنُ الحنفية ابنَ عباس، ويخالف عليٌ عمرَ، وزيدُ بن ثابت ابنَ مسعود في التفسير وفي الأحكام.
وإنما المنكر أن يحكوا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرين مختلفتين من غير تأويل.
فأما اختلافهم فيما بينهم فكثير، فمنهم من يعمل على شيء سمعه، ومنهم من يستعمل ظنه، ومنهم من يجتهد رأيه، ولذلك اختلفوا في تأويل القرآن، وفي أكثر الأحكام.
غير أن ابن عباس قال في الحجر بقولٍ سمعه، ولا يجوز غير ذلك، لأنه يستحيل أن يقول: ـ كان أبيضَ وهو من الجنة برأي نفسِه.
وإنما الظان 2 ابن الحنفية لأنه رآه بمنزلة غيره من قواعد البيت، فقضى عليه بأنه أخذ من حيث أخذت 3.
والأخبار المقَوِّية لقول ابن عباس في الحجر، وأنه من الجنة كثيرة.
1 في الأصل: "استلم" والمثبت من كتاب ابن قتيبة تأويل مختلف الحديث ص288.
2 في الأصل: "ظن" والمثبت من كتاب ابن قتيبة.
3 في الأصل: "فقضى عليه بأنه من حيث أخذت" والمثبت من كتاب ابن قتيبة.
منها: أنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان، يشهد لمن استلمه بحق.
ومنها: أنه يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها من شاء من خلقه، وقد تقدم ذكر هذا.
ومنها ما ذكره وهب بن منبه، فإنه قال: كان لؤلؤةً بيضاءَ فسَوَّده المشركون.
وأما قولهم: "هل في الجنة حجارة"؟ فما الذي أنكروه من أن يكون في الجنة حجارة، وفيها الياقوت وهو حجر، والزُّمُرُّد حجر، والذهب والفضة من الحجارة.
وما الذي أنكروه من تفضيل الله تعالى حجراً، حتى لُثِمَ واستلم! والله تعالى يستعبد عبادَه بما شاء من العمل والقول، ويفضِّل بعض ما خلق على بعض.
فليلة القدر خير من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر، والسماء أفضل من الأرض والكرسي أفضل من السماء، والعرش أفضل من الكرسي، والمسجد الحرام أفضل من المسجد الأقصى، والشام أفضل من العراق.
وهذا كله مبتدأ بالتفضيل لا بعمل عمله، ولا بطاعة كانت منه، كذلك الحجر أفضل من الركن اليماني، والركن اليماني أفضل من قواعد البيت، والمسجد أفضل من الحرم، والحرم أفضل من بقاع تهامة.
وأما قولهم: "إن كانت الخطايا سودته فقد يجب أن يبيض لما
أسلم الناس" فمن الذي أوجب أن يبَيَّضَ بإسلام 1 الناس، ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك من غير أن يجب.
وبعد 2: ـ فإنهم أصحاب قياس وفلسفة، فكيف ذهب عليهم أن السواد يصبغ ولا ينصبغ، والبياضَ ينصبغ ولا يصبغ انتهى.
فتبين من كلام ابن قتيبة أن الحكمة في تقبيل الحجر الأسود أنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان يشهد لمن استلمه بحق، وأنه يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها من شاء من خلقه.
وقد بسط الجواب على هذه المسألة صاحب المنار فأجاد وأفاد، فمن أراد الوقوف على ذلك فليراجعه هناك والله المستعان.
1 في الأصل: ـ "باستلام" والمثبت من كتاب ابن قتيبة.
2 سقطت "و" من الأصل وأثبتها من كتاب ابن قتيبة ص 290.