المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في الجواب عن قول السائل: (ما القصد من ذبح الذبائح على كثرتها - إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل

[سليمان بن سحمان]

الفصل: ‌في الجواب عن قول السائل: (ما القصد من ذبح الذبائح على كثرتها

‌في الجواب عن قول السائل: (ما القصد من ذبح الذبائح على كثرتها

فصل

وأما قول السائل: ـ "ما القصد في ذبح الذبائح على كثرتها، ودفن لحومها في منى؟ وفي ذلك ما فيه من النتائج الوخيمة التي تصدر من تعفن اللحوم، إذ تنتشر الأوبئة منها، ولماذا يمنع من أكلها؟، وهل ذلك لازم، ومن المناسكِ التي لا يَتِمُّ الحجُّ إلا بها على هذه الصورة؟، ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنوياً ثمناً لهذه اللحوم، إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه، فما قولكم لو صرفوا هذه المبالغ على إصلاح آبار مكة، وطرقها، وتكاياها، وتنظيفها، وعلى كل ما يعود على الحجاج بالراحة والصحة والسلامة"

فالجواب أن يقال: ـ القصد بذبح الذبائح أيام منى، وفي عيد الأضحى في سائر الأمصار هو طاعة الله، وامتثال ما أمر به، وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه لأمته، وتقوى الله سبحانه وتعالى في هذا كله، لأن ذلك من شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب ـ أي أوامره ـ فإنها من تقوى القلوب، ومن ذلك تعظيم الهدايا والبُدُن.

ومن القصد بالذبائح أيام منى إظهارُ نعمةِ الله بالتوسعةِ على الفقراء المسلمين، وإحياء سنة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وإذا كان من المعلوم المستقر عند الخلق أن علامة المحبة الصحيحة بذلُ الروحِ والمالِ في مرضاة المحبوب، فالمحبوب الحق – الذي لا ينبغي

ص: 39

المحبة إلا له، وكل محبةٍ سوى محبته فالمحبة له باطلة – أولى بأن يشرع لعباده الجهاد الذي هو غاية ما يتقرب به إلى إلههم وربهم.

وكانت قرابين من قبلهم من الأمم ذبائحهم وقرابينهم تقديمُ أنفسهم للذبح في الله مولاهم الحق، فأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة، ولهذا ادّخرها الله لأكمل الأنبياء، وأكمل الأمم، عقلاً وتوحيداً، ومحبة لله.

وأما الضحايا والهدايا فقربان إلى الخالق سبحانه تقوم مقام الفدية عن النفس المستحِقَّة للتلف فديةً وعوضاً وقرباناً إلى الله، وتشبُّهاً بإمام الحنفاء، وإحياء لسنته، أنْ فدى الله ولدَه بالقربان، فجعل ذلك في ذريته باقياً أبداً.

وتأمل حكمة الرب تعالى في أمره إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم بذبح ولده، لأن الله اتخذه خليلاً، والخلة منزلة تقتضي إفراد الخليل بالمحبة، وأن لا يكون له فيها منازعٌ أصلاً، بل قد تخللت محبته جميعَ أجزاء القلب والروح، فلم يبق فيها موضع خالٍ من حبه، فضلاً عن أن يكون محلاً لمحبة غيره.

فلما سأل إبراهيمُ الولدَ وأُعْطِيَه، أخذ شعبة من قلبه، كما يأخذ الولد شعبة من قلب والدِه، فغار المحبوبُ على خليله أن يكون في قلبه موضعٌ لغيره، فأمره بذبح الولد ليخْرجَ حُبَّه من قلبه، ويكون الله أحبَّ إليه، وآثر عنده، ولا يبقى في القلب سوى محبتِه، فَوَطَّن نفسَه على ذلك، وعزم عليه، فخلصت المحبةُ لوليِّها ومستحقها، فحصلت مصلحةُ المأمور به من العزم عليه، وتوطين النفس على

ص: 40

الامتثال، فبقي الذبح مفسدةً، لحصولِ المصلحةِ بدونه، فنسخه في حقِّه، لَمَّا صار مفسدةً، وأمر به لما كان عزمه عليه، وتوطين نفسه مصلحة لهما، فأي حكمة فوق هذا، وأي لطف وبر وإحسان يزيد على هذا، وأي مصلحة فوق هذه المصلحة بالنسبة إلى هذا الأمر ونسخه.

وإذا تأملت الشرائعَ الناسخة والمنسوخة وجدتها كلَّها بهذه المنزلة،

فمنها ما يكون وجه المصلحة فيه ظاهراً مكشوفاً، ومنها ما يكون ذلك فيه خفياً لا يدرك إلا بفضل فطنة وجَوْدَةِ إدْراَكٍ.

وأما دفن لحومها فليس من الدين في شيء، ولا ينسب ذلك إلى ما شرعه الله ورسوله، بل هذا من الأوضاع المبتدعة المحدثة الباطلة، التي وضعها الخلوف الذين ليس لهم معرفة بأصول الدين وقواعده التي تبتنى عليها الأحكام الشرعية، فإدخال مثل هذا في مناسك الحج الذي 1 شرعه الله ورسوله إدخال الدين شَرْعٌ لم يأذن الله به.

وهذا لم يقله أحد من عوام المسلمين، فضلاً عن علمائهم، فضلاً عن أن ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسأل عن الحكمة في دفن اللحوم في منى إلا من أعمى الله بصيرته، وكان من أجهل الناس وأضلهم عن سواء السبيل، لأن ذلك ليس من الدين في شيء، وإنما هو من وضع بعض الملوك بإشارة بعض حكماء أهل الطب، وذلك بآرائهم الفاسدة، وأوهامهم الكاسدة، ونتائج أفكارهم الباردة، ولو تركوا الناسَ على ما كانوا عليه أولاً من التوسعة على فقراء المسلمين، وجعل بعضه قديداً وينقلون ذلك في رحالهم، وأوطانهم، لكان ذلك أصلحَ للعباد، وأقرب إلى السداد.

1 في الأصل: "التي".

ص: 41

وأما منع الناس من أكلها فمن الظلم والعدوان، والدفعِ في نحرِ ما شرعه الله ورسوله من التوسعة على المسلمين وعلى فقرائهم.

وأما كون ذلك لازماً، ومن المناسك التي لا يتم الحجُّ إلا بها فمعاذ الله، ولا يقول ذلك من يؤمن بالله ورسوله، أو يدري ما يقول، بل لا يقول ذلك إلا من هو أضل من حمار أهله.

واعتقد أن ذلك لازم، وأنه لا يتم الحج إلا به من أوهام الزنادقة، وإدخالهم في الدين ما لم يأذن به الله، ليلبَّسوا على الناس أمور دينهم، فلا يستريب في ذلك إلا من هو من أجهل الناس، وأبعدهم عن سلوك الصراط المستقيم.

وأما قوله: "ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنوياً ثمناً لهذه اللحوم، إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه، فما قولكم لو صرفوا هذه المبالغ على إصلاح آبار مكة، وطرقها، وتكاياها، وتنظيفها 1 وعلى كل ما يعود على الحجاج بالراحة والصحة والسلامة".

فالجواب أن يقال لهؤلاء الزنادقة: قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن معارضةَ ما شرعه الله ورسوله من ذبح الذبائح، ونحر النحور، وإهراق الدماء طاعة لله، وامتثالاً لأمره، وإحياء لسنة الخليلين عليهما الصلاة والسلام، بأوهام هؤلاء الضلال وآرائهم، وزبالة أذهانهم، ونتائج أفكارهم التي هي جِيَفُ الوجودِ، وريح المقاعد: مِنْ أبطلِ الباطلِ، وأضلِّ الضلال.

1 في الأصل: "تنضيفها".

ص: 42

ومن حاول أن يصرف هذه النقود المبذولة في ذلك طاعة لله، وامتثالاً لما شرعه الله ورسوله، إلى ما توهّمه بعقله الفاسد، ورأيه الكاسد منْ أنَّ صرفَ تلك المبالغ إلى إصلاح آبار مكة، وطرقها، وتكاياها، وتنظيفها 1، وعلى كل ما يعود على الحجاج بالراحة والصحة والسلامة هو الأصلح: فقد حاول أن يشرع للناس من الدين ما لم يأذن به الله، وذلك كفرٌ بواح، لا يستريب فيه من له أدنى مسكة من عقل أو دين. قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} [الشورى:21] .

وإذا كان من المعلوم أنه ليس من شرع الله، ولا مما لم يأذن به الله، كان من شرع طواغيت هؤلاء الزنادقة، الذين يزعمون أن نصوص الكتاب والسنّة ظواهرُ ظنية، وما رأوه بعقولهم وقياساتهم الباطلة أنها قواطع عقلية، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون.

ثم إنه قد كان من المعلوم عند خواص الناس وعوامهم أنه قد بذل من الأموال والصدقات ما يقوم بإصلاح آبار مكة، وطرقها، وما يحتاج، وما يحتاج إليه الحجاج من المصالح الدنيوية والدينية ما يكفي، ويعود نفعه إلى ما فيه صلاحهم وسلامتهم، فلا حاجة إلى السعي في إبطال ما شرعه ورسوله صلى الله عليه وسلم من مناسك الحج، وشعائره التي لا يتم ولا يستقيم الحج إلا بها.

وأمّا إصلاح آبار مكة وطرقها وتكاياها فإن الحج يتم بدون ذلك والله أعلم.

1 في الأصل: "تنضيفها".

ص: 43