الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الإجابة عن قول السائل: مالحكمة في الهرولة بين المروتين
…
فصل
وأما قوله: "ما الحكمة في الهرولة بين المروتين"؟
والجواب أن يقال لهؤلاء الزنادقة الضلال: قد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أن السعي والرمل بين الصفا والمروة من شعائر الله، فالواجب على المسلم أن يمتثل ما أمر الله ورسولُه مما شرعه من السعي بينهما والرمل، وأن لا يدع ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم لعدم علمه بالحكمة في ذلك، لأن ترك العمل بذلك – إلا بعد العلم بالحكمة فيه – من شأن أهل البدع المارقين المتعنتين بالأسئلة والتشكيكات، والمعارضة الباطلة لما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم – كما نبه على ذلك أهل العلم.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى في الكلام على ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن معاذة قالتْ: "سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. فقالتْ: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة":ـ
معاذةُ بنتُ عبد الله العدويةُ امرأة صلةَ بن أشيمَ، بصرية، أخرج لها الشيخان في صحيحهما.
والحروريُّ نسبةٌ إلى حروراءَ، وهو موضع بظاهر الكوفة، اجتمع فيه أوائل الخوارج، ثم كثر استعماله حتى استعمل في كل خارجي، ومنه قول عائشة لمعاذة: ـ أحرورية. أي خارجية.
وإنما قالت ذلك لأن مذهب الخوارج أن الحائض تقضي الصلاة، وإنما ذَكرتْ ذلك أيضا لأن معاذة أوردت السؤال على غير جهة السؤال المجرد، بل صيغتها قد تشعر بتعجب أو إنكار، فقالت لها عائشة ذلك، فأجابتها بأن قالت: ـ لا ولكني أسأل، أي أسأل سؤالا مجرداً عن الإنكار والتعجب، بل لطلب مجرد العلم بالحكمة.
فأجابتها عائشة رضي الله عنها بالنص، ولم تتعرض للمعنى، لأنه أبلغ وأقوى في الردع عن مذهب الخوارج، وأقطع لمن يعارض، بخلاف المعاني المناسبة، فإنها عرضة للمعارضة. انتهى.
إذا تحققت هذا وعلمته تبين لك خطأ هؤلاء المتهوكين الحيارى المفتونين، وأنهم على طريقة أهل البدع المارقين، الذين يعارضون ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بآرائهم الفاسدة، والشبهات الداحضة الكاسدة، وأما مَنْ حسنت سيرته، وصفت سريرته، فلا يداخله فيما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم شك ولا ريب، بل يمتثل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا عرفت هذا فالاعتماد في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.
قال الإمام الحافظ العماد بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره على قوله وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ
حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية158]، قال رحمه الله: ـ قال الإمام أحمد: ـ حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أنبأنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: من الآية158] قلت: ـ فوالله ما على أحد من جناح أن لا يتطوف بهما، فقالت عائشة: ـ بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه كانت: ـ "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما" ولكنَّها إنما أنزلت: أن الأنصار كانوا قبل أن يُسْلِموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهَلَّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله: ـ إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] .
قالت عائشة: ـ ثم قد سَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطوافَ بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما.
أخرجاه في الصحيحين.
وفي رواية عن الزهري أنه قال: ـ فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: إن هذا العلمَ ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: ـ إن الناس إلا من
ذكرتْ عائشةُ كانوا يقولون: ـ إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال آخرون من الأنصار: ـ إنما أمرنا الطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] .
قال أبو بكر بن عبد الرحمن: ـ فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء.
ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم، ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال سألت أنساً عن الصفا والمروة. قال: ـ كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] .
وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: ـ كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله، وكانت بينهما آلهة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما. فنزلت هذه الآية.
وقال الشعبي: ـ كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما، فتحرَّجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما. فنزلت هذه الآية.
قلت: ذكر محمد بن إسحاق في كتاب "السيرة" أن إسافاً ونائلة كانا بشرين، فزينا داخل الكعبة، فمسخا حجرين، فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم
حوِّلا إلى الصفا والمروة، فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث يُنِيْخُ الأَشْعَرُون رِكَابَهم لمفضي السيولِ من إسافٍ ونائلِ وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل وفيه: ـ
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا وهو يقول: ـ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به".
وفي رواية النسائي "ابدأوا بما بدأ الله به".
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجزاة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول:"اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي".
ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق أنبأنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيد عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كُتِبَ عليكم السَّعْيُ فاسعوا".
وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركنٌ في الحج، كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه، ورواية عن أحمد، وهو المشهور عن مالك.
وقيل: ـ إنه واجب وليس بركن، فإن تركه عمداً أو سهواً جبره
بدم، وهو رواية عن أحمد، وبه يقول طائفة.
وقيل: ـ بل مستحب، وإليه ذهب أبو حنيفة، والثوري، والشعبي، وابن سيرين، وروي عن أنس، وابن عمر، وابن عباس، وحكي عن مالك في العتبية.
قال القرطبي: ـ واحتجوا بقوله: "فمن تطوع خيراً"، والقول الأول أرجح، لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال: ـ "لتأخذوا عني مناسككم" فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل. والله أعلم.
وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج.
وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها، لَمَّا نَفِدَ ماؤهما وزادهما، حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك، وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك، ونفد ما عندهما، قامت تطلب الغوث من الله عز وجل. فلم تزل تردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجِلَةً مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي طعمها طعام طعم، وشفاء سقم.
فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره، وذلَّه، وحاجته إلى الله في هدايةِ قلبه، وصلاحِ حاله، وغفرانِ ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله عز
وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبِّتَه عليه إلى مماته، وأن يُحَوِّلَه من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام.
وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} قيل: ـ زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب: ثامنةً وتاسعةً ونحو ذلك.
وقيل: ـ يطوف بينهما في حجة تطوع، أو عمرة تطوع.
وقيل: ـ المراد تطوع خيراً في سائر العبادات حكى ذلك الرازي، وعزى الثالث إلى الحسن البصري والله أعلم.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي يثيب على القليل بالكثير، عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه، ولا يظلم
مثقال ذرة، {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40] انتهى.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، فقال المشركون: ـ إنه يقدم عليكم قوم وَهَنَتْهُم حُمَّى يثرب. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم".
وفيهما أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ـ "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يَخِبُّ ثلاثةَ أشواط".
فإذا تبين لك هذا وتحققت أن الأصل في مشروعية السعي بين
الصفا والمروة ما فعلت هاجر أم إسماعيل عليهما السلام من السعي بينهما لَمّا خافت على ولدها من الضيعة، ونفد ما عندهما، قامت تطلب الغوث من الله عز وجل، فلم تزل تردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللةً خائفةً وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي طعمها طعام طعم.
فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته السعي بينهما، وأمر به، وأخبر أن الله قد كتب السعي على هذه الأمة.
والساعي بينهما ينبغي أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأنه يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبِّته عليه إلى مماته، وأن يحوِّله من حاله إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام، وهذا هو الحكمة في مشروعية السعي بين الصفا والمروة، كما نبّه عليه أهل العلم، والله أعلم.