المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرد على قوله: إن كثيرا من علماء الأمة الإسلامية ــ الآن لم يحجوا - إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل

[سليمان بن سحمان]

الفصل: ‌الرد على قوله: إن كثيرا من علماء الأمة الإسلامية ــ الآن لم يحجوا

‌الرد على قوله: إن كثيرٍٍٍٍٍاً من علماء الأمة الإسلامية ــ الآن لم يحجوا

فصل

وأما قول السائل: "بل نرى كثيراً من علماء الأمة الإسلامية، ومرشديها المصلحين، منهم من عاش ومات ولم يحج، مع أنه ربما رحل في سنة مرتين أو ثلاثاً إلى أوربا، أو إلى غيرها من البلاد، ولم يذهب إلى مكة، مع أنه كان الألزم والأوجب أن يقصد مكة والحج كل موسم للنصح والإرشاد، فهذا ساكن الجنان الأستاذ الإمام المرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم، وعاشوا وماتوا، وهم لم يروا مكة في وقت الحج، وحضرتك أيضا كذلك، فما هي الأسباب يا ترى؟ ونحن نعتقد أن امتناعكم جميعاً عن الحج لا بد له من سبب، فما هو ذلك السبب العظيم الذي يمنع رجال الإصلاح العظام عن الحج المقدس؟ "

فالجواب أن نقول: ترَ ْك هؤلاء العلماء المصلحين للحج، وقد كان الواحد منهم يسافر إلى الأماكن الشاسعة البعيدة، ويتجشمون في ذلك الأخطار الشاقة الشديدة، فَتَرْكُ هؤلاء العلماء المصلحين للحج مع ذلك والحالة هذه لا بد أن يكون لأحد أمرين: ـ

إما أن يكون تكاسلاً: وطلباً للراحة، وملاذِّ النفوس وشهواتها، وتسويلاً من الشيطان بالتسويفات الباطلة، والأماني الكاذبة، فهذا فيه من الوعيد على ترك الحج مع القدرة عليه ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

ص: 49

وإما أن يكون لسببٍ وعذرٍ من الأعذار الموجبة لترك الحج، من الخوف على النفس من القتل، أو الحبس، وغير ذلك من الأعذار، فهذا معذور، داخل في حكم من لا يستطيع إليه سبيلاً.

وقد أجاب صاحب المنار عن نفسه، وعن غيره من العلماء الذين تركوا الحج لشيء من الأسباب المانعة لذلك، ولا نظن بعلماء أهل الإسلام إلا الخير، وعدم الاستطاعة لشيء من الأعذار الموجبة لتركهم ذلك. والله أعلم.

ولو صدر من هؤلاء العلماء المصلحين على سبيل الفرض والتقدير ترك الحج مع الاستطاعة عليه، من غير عذر شرعي، لكان الفرض علينا طاعة الله ورسوله، بترك تقليدهم فيما لا ينبغي تقليدهم فيه من معصية الله ورسوله، لأن طاعتهم في معصية الله ورسوله من العبادة التي ذَمَّ الله بها النصارى في قوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] الآية.

وتفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله، كما ثبت ذلك في الصحيح 1 عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]

1ـ هكذا عزا المؤلف – رحمه الله تعالى – هذا الحديث إلى الصحيح وهو سبق قلم منه. فإن الحديث ليس في الصحيح ولا في أحدهما.

والحديث رواه أحمد والترمذي وغيرهما. وحسّنه شيخ الإسلام في كتاب الإيمان وقد تقدم بحث هذا الحديث في الرسالة الأولى من هذه السلسلة، فليراجع.

ص: 50

قلت يا رسول الله: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليسوا يحرمون ما أحل الله فتتبعونهم؟ ويحلون ما حرم الله فتتبعونهم؟ قلت: ـ بلى. قال: فتلك عبادتهم"

لكن لم يصدر هذا منهم، وقد كتبوا في ذلك بيان عذرهم، فلا نظن بهم إلا الخير إن شاء الله تعالى.

والذي يظهر لي من كلام هذا السائل أنه أراد بهذا السؤال أحد أمرين: -

إما تعجيز صاحب "المنار" عن إدراك الجواب عن وجه الحكمة عما سئل عنه، مما استشكله فيه من مناسك الحج، لظنه أن هذا لا سبيل إلى معرفة وجه الحكمة فيه.

والأمر الثاني: - أنه لما رآه قد ترك الحج، وهو قد سافر إلى الهند، وإلى غيره من الأماكن البعيدة، تَخَيَّلَ في وهمه وظنه الفاسد أنه يرى ما يراه الزنادقة، من أنه لا مصلحة للعباد في ذلك، ولا حكمة للشارع الحكيم في شرع تلك المناسك، إلا محض المشيئة، وترجيح مثل على مثل بلا مرجح، كما يقول ذلك نفاة الحِكَم والمصالح، فلأجل هذا أراد السائل من صاحب المنار أن يوافقه على أحد الأمرين، ليتم له مقصوده من ترك الحج، لسوء اعتقاده، وخبث مرامه.

يوضح ما قلناه أنه قال في أول سؤاله: ـ إلى سيدي العلامة المصلح العليم مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف فأثنى عليه بأنه فيلسوف.

ص: 51

وقد كان من المعلوم أن مذهب الفلاسفة من أخبث المذاهب، وأنهم من أضل الناس، وأبعدهم عن سلوك الصراط المستقيم، واتباع سبيل المؤمنين، وإنما غالب علومهم النظر في العقليات، وأما ما كان عليه الرسل وأتباعهم فهم لا يعرفونه، ولذلك كانوا يعارضون ما بلغهم من النقليات بما عندهم من العقليات بآرائهم الفاسدة، وأوهامهم الكاسدة، فليسوا في الحقيقة من أهل الإسلام وعلومهم في شيء.

وقد ذهب طوائف من المتكلمين وغيرهم من أهل الإسلام إلى ما وضعوه من العقليات، واستحسنوا ذلك، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، وهؤلاء هم الذين أشار إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: ـ

لا سيما والإشارة بالخَلَفِ إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه مرامهم: ـ

لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلَّها

وسيَّرْتُ طرفي بينَ تِلْكَ المَعَالِمِ

فلم أَرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ

على ذَقَنٍ أو قَارِعاً سنَّ نادِم

وأقروا على أنفسهم بما قالوا متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم: -

نهايةُ إقدامِ العقولِ عِقَالُ

وأكثرُ سَعْيِ العالمينَ ضَلَالُ

ص: 52

وأرواحُناَ في وحشَةٍ من جسومِنَا

وغايةُ دنيانا أذىً ووبالُ

ولم نستفدْ من بحثنا طولَ عمرِنا

سوى أن جمعنا فيه قِيْلَ وقالوا

لقد تأملت الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقربَ الطرقِ طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما} [طه:110] ومن جَرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

ويقول الآخر منهم: - لقد خضت البحر الخِضمّ، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي.

ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام 1.

وقال ابن القيم رحمه الله في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لما ذكر اختلاف الناس في التوحيد، وأنهم فيه أنواع قال: -

وأما توحيد الفلاسفة فهو إنكار ماهية الرب الزائدة على وجوده، وإنكار صفات كماله، وأنه لا سمع له، ولا بصر، ولا قدرة، ولا حياة،

1 انتهى من الحموية

ص: 53

ولا إرادة، ولا كلام، ولا وجه، ولا يدين، وليس فيه معنيان يتميز أحدهما عن الآخر البتة، قالوا لأنه لو كان كذلك لكان مركباً، وكان جسماً مؤلفاً، ولم يكن واحداً من كل وجه، فجعلوه 1 من جنس الجوهر الفرد الذي لا يُحَسُّ، ولا يُرى، ولا يتميز منه جانب عن جانب، بل جوهر فرد يمكن وجوده، وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده، فلما اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد، وسمعوا قوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} [البقرة: 163]، وقوله:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِد} نزلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحي، وقالوا: - لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة أو علم أو حياة أو قدرة أو سمع أو بصر لم يكن واحداً، وكان مركباً مؤلفاً، فسموا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء وهو التوحيد، وسموا أصح الأشياء وأحقها بالثبوت وهو 2 صفات الرب بأقبح الأسماء وهو التركيب والتأليف، فتولد من بين هذه التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحد حقائق أسماء الرب وصفاته، بل 3 وجحد ماهيته وذاته، وتكذيب رسله، ونشأ من نشأ على اصطلاحهم، مع إعراضه عن استفادة الهدى والحق من الوحي، فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه، فجعلوا أصل دينهم 4 فلما رأى أنّ ما جاءت به

1 في الأصل: - "وجعلوه" وما أثبته من "مختصر الصواعق المرسلة" 1/169.

2 في الأصل: - "وهي" وما أثبته من الصدر السابق.

3 سقطت: - "بل" من الأصل وما أثبته من الصدر السابق1/ 170.

4 في "مختصر الصواعق المرسلة": - أصلا لدينه.

ص: 54

الرسل يعارضه قال: إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل. انتهى.

وقال أيضاً في "الإغاثة": -

والمقصود أن الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها. وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلى ما يقتضيه العقل في زعمه، وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطوا، وهم المشاؤن خاصة، وهم الذين هذّب ابن سيناء طريقَتَهم وبسّطها، وقررها، وهي التي يعرفها – بل لا يعرف سواها – المتأخرون من المتكلمين إلى آخر كلامه رحمه الله.

والمقصود أن أحد هؤلاء الفلاسفة لا يذهب إلا إلى ما يقتضيه عقله في زعمه، فلما كان هذا الفيلسوف منهم توهم هذا السائل أن صاحب المنار يرى هذا الرأي، وحاشا وكلا، بل هو بريء منهم، وهم برآء منه، وكلامه يقتضي تكفير هذا الضرب من الناس، ولا يخفى هذا إلا على من ليس له معرفة وإلمام بالعلوم، والله المستعان.

ثم لو سلمنا أن الفيلسوف على عرف الفلاسفة وأتباعهم من أهل الكلام هو محب الحكمة، وأنه يمدح ويثنى به على العالم المصطلح المرشد للعباد، لم يكن هذا من عُرف أهل الإسلام، ولا من لغتهم، ولا يمدح به أحد من علماء الإسلام، لأنه قد كان من المعلوم أنه لم يكن يسمى به أحد من علماء الصحابة، ولا علماء التابعين، ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين، والعلماء المصلحين المرشدين، ولا أكابر

ص: 55

علماء أهل الحديث المجتهدين، بل كان هذا الاسم في عرف أهل الإسلام لا يسمى به إلا من كان من علماء الفلاسفة، ومن نحا نحوهم من زنادقة هذه الأمة، فكان في الحقيقة أن هذا مما يعاب ويذم به من يسمى بذلك، لا مما يمدح ويثنى به عليه.

ولو أراد هؤلاء المتنطعون المتعمقون أن ينقلوا هذا عن أحد من أهل العلم، أو يذكروه في شيء من دواوين أهل الإسلام لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً البتة، اللهم إلا ما يذكر عن أشباه هؤلاء الهمج الرعاع، اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق من الفهم، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَل} {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون} 1

1 في كلام المردود عليه السابق في أول الفصل جملة يجب التنبيه عليها. ولعل المؤلف رحمه الله تعالى – تركها سهواً.

هي قوله عن الكواكبي: - "ساكن الجنان" وهذه العبارة مجانبة لعقيدة أهل السنة والجماعة، القائلة: إنه لا يجزم لأحد بجنة ولا نار. إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. والله أعلم.

ص: 56