الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الإجابة عن قول السائل: (ماالحكمة في رمي الحجارة في القليب في مزدلفة
؟)
…
فصل
ثم قال السائل:
"ما الحكمة في رمي الجمار في القليب في مزدلفة؟ "
فالجواب أن نقول: قد بينا فيما تقدم أنه ليس على الإنسان أن يعلم الحكمة في جميع ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك ليس في طاقة البشر ولا في وسعهم، وإنما على الإنسان العاجز عن ذلك أن يؤمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إيماناً عاماً مجملاً، سواء عرف الحكمة في ذلك أم لم يعرفها.
والعمدة في مناسك الحج ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالواجب علينا أن نمتثل أمر الله ورسوله صلى اله عليه وسلم في جميع ما أمر به رسولُه صلى الله عليه وسلم وفعله، فكان من هديه صلى الله عليه وسلم في رمي الجمار ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي النبوي، قال رحمه الله تعالى: ـ
فصل: ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى من يومه ذلك، فبات بها، فلما أصبح انتظر زوال الشمس، فلما زالت الشمس مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة، يقول مع كل حصاة: الله أكبر، ثم يقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل وقام مستقبل القبلة، ثم
رفع يديه ودعا دعاء طويلاً بقدر سورة البقرة، ثم أتى إلى الجمرة الوسطى فرماها كذلك، ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فوقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو قريباً من وقوفه الأول، ثم أتى الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة فاستبطن الوادي، واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه فرماها بسبع حصيات كذلك، ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال، ولا جعلها عن يمينه، واستقبل البيت وقت الرّمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء. انتهى.
فإذا تبين لك هذا من أمره صلى الله عليه وسلم وفعله، وكان عليه عمل المسلمين من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فالحكمة في ذلك - والله أعلم – هي ما ذكره أئمة المفسرين وأهل الحديث على قوله تعالى عن خليله إبراهيم {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128] قال الحافظ العماد بن كثير: قال ابن جريج عن عطاء: "وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا" أخرجها لنا، عَلِّمناها. وقال مجاهد:"أَرِنَا مَنَاسِكَنَا": مذابحنا. وروي عن عطاء أيضا وقتادة نحو ذلك.
وقال سعيد بن منصور: ـ أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم "أَرِنَا مَنَاسِكَنَا" فأتاه جبرئيل فأتي به البيت فقال: ارفع القواعد 1، وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى
1 في ابن كثير "فرفع القواعد" 1/183 ط الحلبي.
المروة فقال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كَبِّرْ وارمه، فكبر ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كَبِّرْ وارمه، فكبر ورماه، فذهب الخبيث إبليس، وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئاً فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال: ـ هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات، قال: قد عرفت ما أريتك، قالها ثلاث مرات، قال: نعم.
وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك.
وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال: إن إبراهيم لما أُورِي أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبرئيل حتى أتى به منى، فقال: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتي به إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتي جمعاً فقال: ـ هذا المشعر، ثم أتي به عرفة فقال: ـ هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟ انتهى.
وقال الإمام محمد بن علي بن وهب بن دقيق العيد في شرح أحاديث الإحكام في الكلام على حديث ابن عباس قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب" الحديث.
قال في الكلام عليه: وفي ذلك من الحكمة تَذَكُّر الوقائع الماضية للسلف الكرام، وفي طَيِّ تذكرها مصالح دينية، إذ تبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله، والمبادرة إليه، وبذل الأنفس في ذلك، وبهذه النكتة يظهر لك أن كثيراً من الأعمال التي وقعت في الحج ويقال فيها: ـ إنها تعبد ليست كما قيل، ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين، وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله، فكان هذا التذكر باعثاً لنا على مثل ذلك، ومقرراً في أنفسنا تعظيم الأولين، وذلك أمر معقول إلى أن قال: ـ
وكذلك رمي الجمار إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبحَ ولدِه، حصل من ذلك مصالح عظيمة النفع في الدين. انتهى.
وأما زعمه أن الرمي بالجمار كان في القليب بمزدلفة فهذا يبين لك أن هذا السائل من أجهل الناس، وأشدهم غباوة، فإنه قد كان من المعلوم أن الرمي بالجمار لم يكن في قليب، ولم تكن هذه القليب بمزدلفة، فإن هذا مما لا يخفى على آحاد الناس، فضلاً عَمَّن ينتسب إلى المعرفة والعلم. والله أعلم.