الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقوله قُلْ قلت: لا محذور فيه لأن السلام سلام توديع لا تعظيم.
التفسير:
هذا نوع آخر من قبائح أقوال كفرة قريش. وفي تفسير المثل وجوه للمفسرين: أحدها أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا: إذا جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بنات الله. وانتصب مَثَلًا على أنه مفعول ثان لضرب أي جعل مثلا فالضارب للمثل كافرو إِذا قَوْمُكَ أي المؤمنون مِنْهُ أي من المثل أو من ضربه يَصِدُّونَ أي يجزعون ويضجون وَقالُوا أي الكفار أهذا خير أم هو يعنون الملائكة خير من عيسى. وثانيها ما مر في آخر الأنبياء أنه حين نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
[الآية: 98]
قال ابن الزبعري للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وعزيرا، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج القوم وضحكوا وصيحوا فأنزل الله تعالى قوله إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] ونزلت هذه الآية أيضا.
والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى ابن مريم مثلا إذا قومك قريش من هذا المثل يصدون بالكسر والضم أي يرتفع لهم جلبة وصياح فرحا وسرورا بما رأوا من سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العادة قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الآخر الفرح. وَقالُوا أَآلِهَتُنا وهي الأصنام خَيْرٌ أَمْ عيسى فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا أهون.
وقيل: من قرأ بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يمنعون عن الحق. وثالثها أنه صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح إلها وأن مثله عند الله كمثل آدم، قال كفار مكة: إن محمدا يريد أن نتخذه إلها كما اتخذ النصارى المسيح إلها وضجروا وضجوا وقالوا: آلهتنا خير أم هو يعنون محمدا، وغرضهم أن آلهتهم خير لأنها مما عبدها آباؤهم وأطبقوا عليها فأبطل الله تعالى كلامهم بقوله ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي لم يضربوا هذا المثل لأجلك إلا للجدال والغلبة دون البحث عن الحق بَلْ هُمْ قَوْمٌ من عادتهم الخصومة واللدد. ثم قرر أمر عيسى عليه السلام بقوله إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بأن خلقناه من غير أب وصيرناه عبرة وحاله عجيبة وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي بدلا منكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يقومون مقامكم. وقيل: أراد لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم. والغرض بيان كمال القدرة وأن كون الملائكة في السموات لا يوجب لهم الإلهية ولا نسبا من الله. ثم بين مآل حال عيسى عليه السلام بقوله وَإِنَّهُ يعني عيسى لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ لعلامة من علامات القيامة كما
جاء في الحديث «أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي وأنه أول نازل يكسر الصليب ويقتل الخنزير
ويقاتل الناس على الإسلام» «1»
وقيل: إذا نزل عيسى رفع التكليف. وقيل: ان عيسى كان يحيي الموتى فعلم بالساعة والبعث. وقيل: الضمير في وَإِنَّهُ للقرآن أي القرآن يعلم منه وفيه ثبوت الساعة فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكن فيها واتبعوني هذه حكاية قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو المراد واتبعوا رسولي وشرعي والباقي واضح إلى قوله هَلْ يَنْظُرُونَ وقد مر في آل عمران وفي «مريم» . وقوله أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من الساعة والْأَخِلَّاءُ جمع خليل ويَوْمَئِذٍ ظرف عَدُوٌّ وهو كقوله إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:
166] ولكن خلة المتقين ثابتة لأن المحبة في الله لا تزول. ومعنى تُحْبَرُونَ تسرون والحبور السرور، والصحاف جمع صحفة وهي القصعة فيها طعام، والأكواب جمع كوب وهو الإبريق لا عروة له. وقد يدور في الخلد أن العروة للكوز أمر زائد على مصلحة الشرب وإنما هو لدفع حاجة كتعليق وتعلق وأهل الجنة فيها براء من أمثال ذلك فلهذا كانت أكوازها أكوابا والله أعلم بأسراره. وَفِيها أي في الجنة. قال القفال: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على تفصيله لم يخرجوا عنه. ثم يقال لهم وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ إلى آخره. ثم وصف حال أهل الجرائم من الكفار أو منهم ومن الفساق على اختلاف بين السني والمعتزلي. ومعنى لا يُفَتَّرُ لا يخفف من الفتور ومبلسون آيسون ساكتون تحيرا ودهشا. ولما أيسوا من فتور العذاب نادَوْا يا مالِكُ وهو اسم خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا كقوله فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15] قال مالك: بعد أربعين عاما أو بعد مائة أو ألف أو قال الله بدليل قوله لَقَدْ جِئْناكُمْ فإنه ظاهر من كلام الله وإن كان يحتمل أن يكون قول الملائكة. قال أهل التحقيق: سمى خازن النار مالكا لأن الملك علقة والتعلق من أسباب دخول النار كما سمى خازن الجنة رضوانا لأن الرضا بحكم الله سبب كل راحة وسعادة وصلاح وفلاح. ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً والإبرام الإحكام والمعنى أنهم كلما أحكموا أمرا في المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنا نحكم أمرا في مجازاتهم. وقال قتادة: أجمعوا على التكذيب وأجمعنا على التعذيب، وذلك أنهم اجتمعوا في دار الندوة وأطبقوا على الاغتيال بمحمد صلى الله عليه وسلم وتناجوا في ذلك فكف عنه شرهم وأوعدهم عليه بأنه يعلم سرهم وهو ما حدّث
(1) رواه البخاري في كتاب المظالم باب 31 مسلم في كتاب الإيمان حديث 242، 343 أبو داود في كتاب الملاحم باب 14 الترمذي في كتاب الفتن باب 54 ابن ماجه في كتاب الفتن باب 33 أحمد في مسنده (2/ 240، 272)
به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. ونجواهم وهي ما تكلموا به فيما بينهم على سبيل الخفية أيضا.
ثم أكد علمه بأن حفظة الأعمال يكتبونه، ثم برهن على نفي الولد عن نفسه فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ وهذه قضية شرطية جزآها ممتنعان إلا أن الملازمة صادقة نظيره قولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين.
وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وبيان الملازمة أن الولد يجب محبته وخدمته لرضا الوالد وتعظيمه، فلو كان المقدم حاصلا في الواقع لزم وقوع التالي عادة وإنما ادعى أوليته في العبادة لأن النبي متقدم في كل حكم على أمته خصوصا فيما يتعلق بالأصول كتعظيم المعبود وتنزيهه، لكن التالي غير واقع فكذا المقدم وهذا الكلام ظاهر الإلزام، واضح الإفحام، قريب من الأفهام، لا حاجة فيه إلى تقريب المرام. وأما المفسرون الظاهريون لا دراية لهم بالمعقول فقد ذكروا فيه وجوها متكلفة منها: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله. ومنها إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد. يقال: عبد بالكسر يعبد بالفتح إذا اشتد أنفه. ومنها جعل «إن» نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك، ووحد ثم نزه نفسه عما لا يليق بذاته، ثم أمر نبيه أن يتركهم في باطلهم واللعب بدنياهم حتى يلاقوا القيامة. ثم مدح ذاته بقوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ أي معبود كما مر في قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] والتقدير وهو الذي هو في السماء إله إلا أنه حذف الراجع لطول الكلام. ثم أبطل قول الكفرة إن الأصنام تنفعهم. وقوله إِلَّا مَنْ شَهِدَ استثناء منقطع أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة هو الذي يملك الشفاعة، ويجوز أن يكون متصلا لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيزا. وجوز أن تكون اللام محذوفة لأن الشفاعة تقتضي مشفوعا له أي لمن شهد بالحق وهم المؤمنون قال بعض العلماء وَهُمْ يَعْلَمُونَ دلالة على أن إيمان المقلد وشهادته غير معتبر. ثم كرر ما ذكر في أول السورة قائلا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ والغرض التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ثم يجعلون له أندادا. وقيل:
الضمير في سَأَلْتَهُمْ للمعبودين. من قرأ وَقِيلِهِ بالنصب فعن الأخفش أنه معطوف على سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أو المراد وقال قيله أي قوله، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره بالكناية في قوله قُلْ إِنْ كانَ وعن أبي علي أنه يعود إلى عيسى، وفيه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون النصب بالعطف على محل الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله كقراءة من قرأ بالجر. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأعمال الخلق الحسن معهم إلى أوان النصر وهو ظاهر والله أعلم بالتوفيق.