الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: القاعدة الثالثة: في إجراء النصوص على ظاهرها
* ظاهر النصوص: ما يتبادر منها من المعاني بحسب ما تضاف إليه وما يحتف بها من القرآن.
* والواجب في النصوص: إجراؤها على ظاهرها بدون تحريف لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195] . وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] . وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء} [لأعراف: 3] .
فإذا كان الله تعالى أنزله باللسان العربي من أجل عقله وفهمه، وأمرنا باتباعه، وجب علينا إجراؤه على ظاهره بمقتضى ذلك اللسان العربي، إلا أن تمنع منه حقيقة شرعية.
ولا فرق في هذا بين نصوص الصفات وغيرها، بل قد يكون وجوب التزام الظاهر في نصوص الصفات أولى وأظهر؛ لأن مدلولها توقيفي محض لا مجال للعقول في تفاصيله.
* فإن قال قائل في نصوص الصفات: لا يجوز إجراؤها على ظاهرها لأن ظاهرها غير مراد.
فجوابه أن يقال: ماذا تريد بالظاهر؟
- أتريد ما يظهر من النصوص من المعاني اللائقة بالله من غير تمثيل؟ فهذا الظاهر مراد لله ورسوله قطعاً، وواجب على العباد قبوله، والإيمان به شرعاً؛
لأنه حق ولا يمكن أن يخاطب الله عباده بما يريد منهم خلاف ظاهره بدون بيان كيف، وقد قال:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم} [النساء: 26] وقال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ويقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . ويقول: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . ومن خاطب غيره بما يريد منه خلاف ظاهره بدون بيان فإنه لم يبين له ولم يهده.
- أم تريد بالظاهر ما فهمته من التمثيل؟ فهذا غير مراد لكنه ليس ظاهر نصوص الكتاب والسنة؛ لأن هذا الظاهر الذي فهمته كفر وباطل بالنص والإجماع، ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله كفراً وباطلاً، ولا يرتضي ذلك أحد من المسلمين.
* وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن نصوص الصفات تجري على ظاهرها اللائق بالله عز وجل من غير تحريف، وأن ظاهرها لا يقتضي تمثيل الخالق بالمخلوق.
فاتفقوا على: أن لله تعالى حياة، وعلماً، وقدرة، وسمعاً، وبصراً، حقيقة، وأنه مستوٍ على عرشه حقيقة، وأنه يحب ويرضى، ويكره ويغضب حقيقة، وأن له وجهاً ويدين حقيقة؛ لقوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] . وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] . {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 102] . {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [المائدة: 119] . {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] . {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}
[الرحمن: 27] . {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: 64] .
فأجروا هذه النصوص وغيرها من نصوص الصفات على ظاهرها وقالوا: إنه مراد على الوجه اللائق بالله تعالى فلا تحريف ولا تمثيل.
وبيان ذلك: أن من صفاتنا ما هو معان وأعراض قائمة بنا كالحياة والعلم والقدرة، ومنها ما هو أعيان وأجسام وهي أبعاض لنا كالوجه واليدين. ومن المعلوم أن الله وصف نفسه بأنه حي، عليم، قدير، ولم يقل المسلمون إن المفهوم من حياته وعلمه وقدرته كالمفهوم من حياتنا وعلمنا وقدرتنا، فكذلك لما وصف نفسه بأن له وجهاً ويدين لم يكن المفهوم من وجهه ويديه كالمفهوم من وجوهنا وأيدينا. وإنما قال المسلمون إن المفهوم من صفات الله في هذا وهذا لا يماثل المفهوم منها في صفاتنا، بل كل صفة تناسب الموصوف وتليق به، فلما كانت ذات الخالق لا تماثل ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته لا تماثل صفات المخلوقين.
وقد سبق أن القول في الصفات كالقول في الذات.
* فتبين بذلك أن من قال: إن ظاهر نصوص الصفات غير مراد فقد أخطأ على كل تقدير، لأنه إن فهم من ظاهرها معنى فاسداً وهو التمثيل، فقد أخطأ في فهمه وأصاب في قوله "غير مراد"، وإن فهم من ظاهرها معنى صحيحاً وهو المعنى اللائق بالله، فقد أصاب في فهمه وأخطأ في قوله "غير مراد" فهو إن أصاب في معنى ظاهرها أخطأ في نفي كونه مراداً، وإن أخطأ في معنى ظاهرها أصاب في نفي كونه مراداً، فيكون قوله خطأ على كل تقدير.
والصواب الذي لا خطأ فيه: أن ظاهرها مراد، وأنه ليس إلا معنى يليق بالله.
فصل
والذين يجعلون ظاهر النصوص معنى فاسداً فينكرونه يكون خطؤهم على وجهين:
* الأول: أن يفسروا النص بمعنى فاسد لا يدل عليه اللفظ فينكرونه لذلك، ويقولون: إن ظاهره غير مراد.
- مثال ذلك: قوله تعالى في الحديث القدسي: "يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني
…
". الحديث رواه مسلم.
قالوا: فظاهر الحديث أن الله يمرض، ويجوع، ويعطش، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: لو أعطيتم النص حقه لتبين لكم أن هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر اللفظ، لأن سياق الحديث يمنع ذلك فقد جاء مفسراً بقول الله تعالى في الحديث نفسه:"أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ واستسقاك عبدي فلان فلم تسقه؟ ". وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض، ولم يجع، ولم يعطش، وإنما حصل المرض والجوع والعطش من عبد من عباده.
- ومثال آخر: قوله تعالى عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] .
- قالوا: فظاهر الآية أن السفينة تجري في عين الله، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: دعواكم أن ظاهر الآية أن السفينة تجري في عين الله سبحانه
مردودة من جهة التركيب اللفظي ومن جهة المعنى أيضاً:
أما التركيب اللفظي: فإنه إذا قال القائل: فلان يسير بعيني لم يفهم أحد من هذا التركيب أنه يسير داخل عينيه، ولو أدعى مدع أن هذا ظاهر لفظه لضحك منه السفهاء فضلاً عن العقلاء، وإنما يفهم منه أن عينيه تصحبه بالنظر والرعاية، لأن الباء هنا للمصاحبة وليست للظرفية.
وأما المعنى: فإن من المعلوم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان في الأرض، وأنه صنع السفينة في الأرض، وجرت على الماء في الأرض كما قال الله تعالى:{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38] . وقال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 – 14] .
ولا يمكن لأحد أن يدعي أن ظاهر اللفظ أن السفينة تجري في عين الله عز وجل، لأن ذلك ممتنع غاية الامتناع في حق الله تعالى، ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره، وعلم أنه مستو على عرشه، بائن من خلقه، ليس حالاً في شيء من مخلوقاته، ولا شيء من مخلوقاته حالاً فيه أن يفهم من هذا اللفظ هذا المعنى الفاسد.
وعلى هذا؛ فمعنى الآية الذي هو ظاهر اللفظ أن السفينة تجري والله تعالى يكلؤها بعينه.
- ومثال ثالث: في الأثر: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه".
قالوا: فظاهر الأثر أن الحجر نفسه يمين الله في الأرض، وهذا معنى
فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: أولاً: هذا الأثر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت والمشهور أنه عن ابن عباس. قلت: قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح". وقال ابن العربي: "حديث باطل فلا يلتفت إليه" أهـ.
ثانياً: أنه على تقدير صحته صريح في أن الحجر الأسود ليس نفس يمين الله لأنه قال: "يمين الله في الأرض" فقيده في الأرض ولم يطلق، وحكم اللفظ المقيد يخالف المطلق، ومعلوم أن الله تعالى في السماء، ولأنه قال:"فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" ومعلوم أن المشبه غير المشبه به.
فالأثر ظاهر في أن مستلم الحجر ليس مصافحاً لله، وليس الحجر نفس يمين الله، فكيف يجعل ظاهره كفراً يحتاج إلى تأويل؟!
* الوجه الثاني: أن يفسروا اللفظ بمعنى صحيح موافق لظاهره، لكن يردونه لاعتقادهم أنه باطل وليس بباطل.
- مثال ذلك: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] .
قالوا: فظاهر الآية أن الله علا على العرش، والعرش محدود فيلزم أن يكون الله سبحانه محدوداً، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: إن علو الله تعالى على عرشه – وإن كان العرش محدوداً – لا يستلزم معنى فاسداً، فإن الله تعالى قد علا على عرشه علواً يليق بجلاله وعظمته، ولا يماثل علو المخلوق على المخلوق، ولا يلزم منه أن يكون الله محدوداً، وهو علو يختص بالعرش، والعرش أعلى المخلوقات فيكون الله
تعالى عالياً على كل شيء وهذا من كماله وكمال صفاته، فكيف يكون معنى فاسداً غير مراد؟!
- مثال آخر: قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64] .
قالوا: فظاهر الآية أن الله تعالى يدين حقيقتين وهما جارحة، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: إن ثبوت اليدين الحقيقيتين لله عز وجل لا يستلزم معنى فاسداً، فإن لله تعالى يدين حقيقيتين تلقيان بجلاله وعظمته، وبهما يأخذ ويقبض، ولا تماثلان أيدي المخلوقين، وهذا من كماله وكمال صفاته.
قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 7] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب – إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل".
فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال إنه غير مراد؟!
*وقد يجتمع الخطأ من الوجهين: في مثال واحد مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء".
فقالوا على الوجه الأول: ظاهر الحديث أن قلوب بني آدم بين أصابع الرحمن فيلزم منه المباشرة والمماسة، وأن تكون أصابع الله سبحانه داخل أجوافنا، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
وقالوا على الوجه الثاني: ظاهر الحديث أن لله أصابع حقيقية والأصابع جوارح، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول على الوجه الأول: إن كون قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن حقيقة لا يلزم منه المباشرة والمماسة، ولا أن تكون أصابع الله عز وجل داخل أجوافنا.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] ؛ فإن السحاب لا يباشر السماء ولا الأرض ولا يماسهما.
ويقال: سترة المصلي بين يديه وليست مباشرة له ولا مماسة له.
فإذا كانت البينية لا تستلزم المباشرة والمماسة فيما بين المخلوقات فكيف بالبينية فيما بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو بكل شيء محيط؟!
وقد دل السمع والعقل على أن الله تعالى بائن من خلقه، ولا يحل في شيء من خلقه، ولا يحل فيه شيء من خلقه، وأجمع السلف على ذلك.
ونقول على الوجه الثاني: إن ثبوت الأصابع الحقيقية لله تعالى لا يستلزم معنى فاسداً، وحينئذ يكون مراداً قطعاً، فإن لله تعالى أصابع حقيقية تليق بالله عز وجل، ولا تماثل أصابع المخلوقين.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد!، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] . هذا لفظ البخاري في تفسير سورة الزمر.
فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال إنه غير مراد؟!
* ويشبه هذا الخطأ أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله:
كما قيل في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75] . إنه مثل قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] . فيكون المراد باليد نفس الفاعل في الآيتين.
وهذا غلط؛ فإن الفرق بينهما ثابت من وجوه ثلاثة:
الأول: من حيث الصيغة، فإن الله قال في الآية الأولى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75] وهي تخالف الصيغة في الآية الثانية، فإن الله قال فيها:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] ولو كانت الأولى نظيرة للثانية لكان لفظها: "لما خلقت يداي" فيضاف الخلق إليهما، كما أضيف العمل إليهما في الثانية.
الثاني: أن الله تعالى أضاف في الآية الفعل إلى نفسه معدى بالباء إلى اليدين، فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيديه. ألا ترى إلى قول القائل: كتبت بالقلم؟ فإن الكاتب هو فاعل الكتابة، ومدخول الباء - وهو القلم - حصلت به الكتابة.
وأما الآية الثانية: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] فأضاف الفعل فيها إلى الأيدي المضافة إليه، وإضافة الفعل إلى الأيدي كإضافته إلى النفس فكأنه قال: مما عملنا. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} [الشورى: 30] . والمراد بما كسبتم؛ بدليل قوله في آية