الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمد للَّه رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام.
وصلى اللَّه تعالى، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان أجمعين، وإلى يوم الدين.
وبعد
فهذا "مختصر صحيح البخاري"؛ لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي وقبل أن نُعَرِّف بهذا الكتاب ومنهج أبي العباس فيه نقدم ترجمتين موجزتين للإمام البخاري، صاحب "الصحيح"، وأبي العباس صاحب "المختصر":
*
ترجمة الإمام البخاري:
إذا كانت هناك صفات ينبغي أن تتوافر في أئمة الحديث ونقاده، وأهمها:
1 -
حفظهم للحديث، صحيحه وسقيمه، وتمييز هذا من ذاك.
2 -
أنهم من العلماء والفقهاء بالسنن والآثار.
3 -
أن لهم معرفة واسعة برواة الآثار، معرفة تمكنهم من الحكم عليهم
ومعرفة العدول منهم من المجرحين.
4 -
توافر التقوى فيهم والورع والزهد وطهارة الخلق وصفاء النفس.
5 -
أنهم من الذين يجهرون بالحق، لا يخافون في اللَّه لومة لائم عند السلطان أو المنحرفين عن الدين من ذوي البدع.
6 -
أنهم أصحاب عقل سديد، ومنطق حسن، وبراعة في الفهم (1).
إذا كان الأمر كذلك فقد توافر بحمد اللَّه في الإمام محمد بن إسماعيل أبي عبد اللَّه البخاري (194 - 256 هـ) كل هذا، كما تترجم عنه السطور التالية من حياته:
1 -
حفظ الإمام البخاري القرآن الكريم كله، وشيئًا من الحديث النبوي الشريف ولم يتجاوز العاشرة من عمره، وبعدها خرج إلى شيوخ الحديث، يكتب عنهم، ويسمع منهم.
ولم يبلغ الحادية عشرة من عمره، حتى كانت له معرفة بالحديث تمكنه من مراجعة الشيوخ الكبار وبيان أخطائهم.
يقول الإمام البخاري مؤرخًا لهذه الفترة من حياته، فيما يرويه عنه وراقه محمد بن أبي حاتم الوراق، قال: سمعت البخاري يقول: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب. قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك، فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكُتَّاب فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن
(1) راجع صفات أئمة الجرح والتعديل في كتابنا المدخل إلى منهاج المحدثين. ص: 98 - 99.
أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام، فقلت: هو الزبير وهو ابن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم، وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت.
قال: فقال له إنسان: ابن كم حين رددت عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة سنة (1).
2 -
وازدادت معرفة الإمام البخاري بالحديث رواية ودراية؛ يساعده على ذلك ملكته الحافظة، ورحلاته العديدة إلى مدن العالم الإسلامي؛ كي يسمع من شيوخها ويكتب عنهم بعد أن سمع من الشيوخ في موطنه وحفظ ما عندهم من الحديث.
وبدأ رحلاته بمكة المكرمة ليلتقي هناك بكثير من العلماء في موسم الحج، ثم رحل بعد ذلك إلى بغداد، والبصرة، والكوفة، والمدينة، والشام، وحمص، وعسقلان، ومصر، وبعض هذه البلاد رحل إليه أكثر من مرة، حتى يستقصي ما عند شيوخه من الحديث كتابة وسماعًا.
يقول: دخلت إلى الشام، ومصر، والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين (2).
وكانت له همة عالية وإخلاص وافر في تحصيل العلم وتدوينه، يؤثره على نومه وراحته، فقد روي أنه كان يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه ويكتب
(1) هدي الساري؛ مقدمة فتح الباري، دار الكتاب الجديد، لبنان (ص 478، 479).
(2)
هدي الساري (ص: 479).
الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، وقد يفعل ذلك قريبًا من عشرين مرة في الليلة الواحدة (1).
3 -
وكانت نتيجة هذا كله الإلمام الواسع بالأحاديث صحيحها وسقيمها، وبجميع الرواة العدول منهم والمجرحين، فحفظ في سن مبكرة كتب إمامين كبيرين من أئمة الحديث، وهما عبد اللَّه بن المبارك، ووكيع بن الجراح (2)، وكان ذلك في السادسة عشرة من عمره، وفي الثامنة عشرة كان قد بلغ درجة من العلم في فقه الصحابة تمكنه من التصنيف فيه.
يقول: "لما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء -يعني أصحاب الرأي- فلما طعنت في ثماني عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين"(3).
ويقول مبينًا مدى معرفته بأحاديث الصحابة والتابعين: لا أجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكرهم ووفياتهم وأماكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة والتابعين -يعني من الموقوفات- إلا وله أصل حفظ عن كتاب اللَّه تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (4).
4 -
ولم يكن البخاري جمَّاعًا للعلم الكثير دون نظر وتمحيص، وإنما كان ينتقي رجاله، ويستوثق من أحاديثهم؛ يقول: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء، كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه، وكنيته، ونسبته،
(1) المصدر السابق (ص: 483)، وطبقات الشافعية (2/ 220).
(2)
تذكرة الحفاظ (2/ 555).
(3)
هدي الساري (ص: 479).
(4)
المصدر السابق (ص: 488).
وحمل الحديث إن كان الرجل فَهِمًا، فإن لم يكن سألته أن يخرج إلَيَّ أصله، ونسخته، أما الآخرون فلا يبالون بما يكتبون (1).
5 -
كما أودع ثمرة هذا كله في كتبه المختلفة التي ألفها في علوم الحديث والفقه، ومن أهم هذه المؤلفات: الجامع الصحيح، والمسند الكبير، والأدب المفرد، والتاريخ الصغير، والأوسط والكبير، والتفسير الكبير.
والجامع الصحيح، والتاريخ الكبير يدلان دلالة كبيرة على علمه الواسع بالرواية والدراية في علوم الحديث، والأول يدل على علمه بالفقه.
و"الجامع الصحيح" وإن لم يحص فيه جميع الأحاديث الصحيحة -كما سنعرف بعد قليل - وإنما انتقى فيه بعضها- أودع فيه مادة تدل على سعة علمه وحفظه.
وطبعي أنه لا يمكنه الاختيار والانتقاء، كما فعل في هذا الكتاب إلا إذا كانت عنده مادة حديثية كبيرة تمكنه من الاختيار والموازنة والمقارنة.
كما أثبت في هذا الكتاب اتجاهًا فقهيًّا قد يختلف كثيرًا عن الاتجاهات التي سبقته أو عاصرته، كما سنعرف إن شاء اللَّه تعالى.
وكتابه "التاريخ" فيه أكثر من اثنتي عشرة ألف ترجمة للرواة (2) من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى عصره.
6 -
وشهادات أئمة المحدثين له -وما أكثرها- تحمل في طياتها مقدار علم الرجل وسبقه في ميادين علوم الحديث، سماه الإمام مسلم سيد
(1) تاريخ بغداد (2/ 25).
(2)
ابن أبي حاتم (ص: 187).
المحدثين، وطبيب الحديث في علله، ويقول الإمام الترمذي: لم أر أحدًا بالعراق، ولا بخراسان في فهم العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل.
وقال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري (1).
7 -
وقصته مع أهل بغداد تدل سعة علمه، كما تدل على ذكائه وقوة حافظته.
لما قدم بغداد اجتمع عليه علماؤها وأرادوا امتحانه، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها -يعني جعلوا متن هذا لإسناد ذاك، وإسناد ذاك لمتن هذا- ثم أعطوا كل واحد منهم عشرة أحاديث منها، فألقى عليه الأول العشرة التي عنده، فكان كما ذكر حديثًا قال له البخاري: لا أعرفه، وهكذا حتى انتهى العشرة من سرد ما عندهم، فصار الجهلاء من الحاضرين يحكمون على البخاري في أنفسهم بالعجز والتقصير، وأما العلماء منهم فيقولون: فَهِمَ الرجل.
ثم التفت البخاري إلى الأول، فقال له: أما حديثك الأول فصحته كذا، وأما حديثك الثاني فصحته كذا، حتى انتهى من الأحاديث العشرة.
ثم التفت إلى الثاني والثالث، وهكذا إلى العاشر، يذكر الحديث المقلوب، ثم يذكر صحته، فلم يجد علماء بغداد بُدًّا من الاعتراف له بالحفظ والتبريز والإحاطة.
والعجيب -كما قال ابن حجر- هو سرده للأحاديث على الترتيب الذي
(1) هدي الساري (ص: 486).
سمعه من المحدثين مرة واحدة.
إن هذا ولا شك -كما قدمنا- يدل على حافظة قوية، وبديهة حاضرة، وحفظ متمكن (1).
8 -
ويزين علم الرجل هذا ورع وتقوى وزهد؛ فتنأى به كلها عن الغرور الذي يفسد بعض العلماء، وعن الانشغال بالدنيا وتسخير العلم لمغرياتها والتكالب عليها، فيتخلق بأخلاق لا تليق بما يحمله من العلم النبوي الشريف.
ومن مظاهر هذه في حياة الرجل:
(أ) أنه كان لا يشتري لنفسه شيئًا ولا يبيعه، وإنما يوكل في هذا غيره؛ لخوفه من أن ينزلق فيما يغضب اللَّه تعالى، ولو من غير قصد منه، وللنأي بسمعه ولسانه عن السوق، وما يحدث فيه من لغو وباطل، يقول: ما توليت شراء شيء قط ولا بيعه، كنت آمر إنسانًا فيشتري لي، قيل له: ولِمَ؟ قال: لما فيه من الزيادة والنقصان والتخليط (2).
(ب) وكان له مال كثير ينفق منه سرًّا وجهرًا على طلاب العلم ما يلزمه في ذلك من شراء الورق والرحلة يقول: كنت أستغل في كل شهر خمسمائة درهم فأنفقها في الطلب، وما عند اللَّه خير وأبقى (3).
وخرج يومًا إلى أحد شيوخه فتأخرت نفقته، فجعل يتناول من خضروات الأرض، ولا يسأل أحدًا شيئًا حتى وصل إليه المال (4).
(1) المصدر السابق (ص: 487).
(2)
هدي الساري (ص: 480).
(3)
المصدر السابق (ص: 480).
(4)
المصدر السابق (ص: 440).
(ج) كان يخشى اللَّه أن يَقْدِمَ إليه وقد أساء إلى أحد من عباده، فأحسن معاملة الخلق وسار فيهم سيرة حسنة. يقول: لا يكون لي خصم يوم القيامة، فقيل له: إن بعض الناس ينقمون عليك التاريخ، يقولون: فيه اغتياب الناس، فقال: إنما روينا ذلك رواية، ولم نقله من عند أنفسنا، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"بئس أخو العشيرة"، وقال: ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغِيبَةَ حرام (1).
(د) وأحسن صلته باللَّه تعالى فكان يدعوه فيستجيب له دعاءه. يقول: دعوت ربي مرتين فاستجاب لي، فلن أحب أن أدعو بعد، فلعله ينقص من حسناتي.
(هـ) وكان يرى أن نفس المرء عبء عليه ينبغي أن يزكيها بالصلاة والركوع للَّه رب العالمين، فعسى الموت أن يفاجئها فلا تجد ما تقدمه يوم الحساب، فكان يقول:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع
…
فعسى أن يكون موتك بَغْتَة
كم صحيح رأيت من غير سُقْمٍ
…
ذهبت نفسه الصحيحة فَلْتَة
ونعى إليه أحد أحبائه فأنشد:
إن عشتَ تُفْجَعُ بالأحبة كلِّهم
…
وبقاء نفسك لا أَبَالَك أفجع (2)
(و) ولحرصه على نظافة لسانه من أن تدنسه كلمة قد لا تكون حقًّا كان في نقده للرجال لا يطلق على الكذابين ألفاظًا صريحة تدل على كذبهم، وإنما
(1) المصدر السابق (ص: 481).
(2)
هدي الساري (ص: 482).