الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: السنة والسيرة في المصادر الاستشراقية الروسية
المبحث الأول: نشأة الاستشراق الروسي وجذوره
…
الفصل الأول: السنة والسيرة في المصادر الاستشراقية الروسية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: نشأة الاستشراق الروسي وجذوره.
المبحث الثاني: السنة والسيرة في المصادر الروسية المطبوعة.
جهود الاستشراق الروسي في مجال السنة والسيرة "دراسة ببليوغرافية"
د. سليمان بن محمد الجار الله
بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الأول: نشأة الاستشراق الروسي وجذوره.
جذور الاستشراق الروسي:
ترجع جذور العناية الروسية بالاستشراق إلى الربع الأول من القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك في عهد بطرس الأول (ت:1725) ، الذي تم في عهده عدد من الإصلاحات والخطوات الجذرية، وكان لها أثر كبير في مستقبل روسيا وبنائها من جديد، وهذا النوع من الاهتمام الاستشراقي لبطرس نابع من سياسته الشرقية، وما اقتضته مصالح روسيا، وحاجاتها المتزايدة إلى التعرف على جيرانها الذين دخلت معهم في صراعات مريرة.
وترجع البداية الجادة للاهتمام بلغات الشرق وحضاراتها إلى المراسيم التي أصدرها بطرس الأول، لإعداد دارسين لمختلف اللغات الشرقية، حيث صدر في عام 1700م أمر رسمي لتهيئة رجلين أو ثلاثة من الرهبان الشباب الذين باستطاعتهم أن يتعلموا اللغة الصينية والمغولية قراءة وكتابة، وصدر مرسوم في عام 1705م بقيام خمسة رجال بتعلم اللغة اليابانية، وفي عام 1716م صدر مرسوم عن مجلس الشيوخ حول تسمية خمسة من الشباب من المدارس اللاتينية في موسكو لإرسالهم إلى إيران لتعلم اللغات الشرقية.
وفي عام 1724م صدر مرسوم من مجلس الشيوخ وبأمر من بطرس بتعلم اللغة التركية. وقد كان لبطرس مستشار فيما له صلة بالشرق والإسلام، هو ديمتري كانتيمير (ت:1723م) الذي يعد مؤسس أول مطبعة في روسيا تطبع الحروف العربية، وله مؤلفات عن تركيا والإسلام، كما يرجع إلى عهد بطرس الأول تأسيس مكتب سُمِّي بمكتب النوادر، وتجمع فيه التحف والنقود الشرقية وغيرها، وذلك في عام1724م (1) ، كما تم في عهد بطرس الأول أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الروسية، وذلك في عام 1716م، وإن كانت تعد ترجمة رديئة وسيئة، لم يتم الاعتماد فيها على النص القرآني مباشرة، وإنما عن طريق ترجمة دورييي الفرنسية التي تمت في عام 1647م (2) .
وقد تواصل هذا الاهتمام ولا سيما خلال الربع الأخير من القرن نفسه، ففي عهد القيصرة كاتيرينا الثانية تم إرسال عدد من الطلاب في بعثات لعدد من الدول الأوربية، وتم التوسع في تعليم لغات الشعوب
(1) ينظر: مقدمة في تاريخ الاستشراق في المتحف الآسيوي ومعهد الدراسات الشرقية في لينينغراد، د. بيرتيلس، في تاريخ الاستشراق والدراسات العربية والكردية في المتحف الآسيوي ومعهد الدراسات الشرقية في لينينغراد ص17-18. وينظر في تتبع جذور الاستشراق الروسي في القرن الثامن عشر، ولاسيما في عهدي بطرس الأول وكاترينا الثانية إلى: دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي لكراتشكوفسكي ص40فما بعدها، وكذلك الاستشراق الروسي للدكتور عبد الرحيم العطاوي ص59 فما بعدها.
(2)
انظر: دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي، كراتشكوفسكي ص43، "القرآن في روسيا" لبيوتر غريزنيفيتش، في أبحاث جديدة للمستعربين السوفيت، الكتاب الأول ص251.
الإسلامية في الأقاليم الإسلامية، كما تم التوسع في الطباعة العربية، ولقد كان لمطابع سان بطرسبرج وقازان شهرة عالمية في هذا المجال، حيث طُبع العديد من المؤلفات والكتب الإسلامية، ويأتي على رأس تلك المطبوعات، طباعة المصحف الشريف، الذي طبع سنة 1778م، ثم تكرر طبعه في سنوات لاحقة (1) .
بداية الاستشراق الروسي النظامية:
أما بداية الاستشراق النظامية فترجع إلى العقدين الأولين من القرن التاسع عشر الميلادي، وهي البداية التي كانت أساساً لما عُرف بالاستشراق الأكاديمي، وذلك من خلال الأقسام والكراسي الجامعية التي أنشئت في الجامعات الروسية، والتي ترجع بدايات تأسيسها إلى بداية القرن التاسع عشر (2) .
(1) ينظر: دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي ص53، وكذلك الاستشراق الروسي للدكتور عبد الرحيم العطاوي ص64-65.
(2)
يجمع الباحثون في الاستشراق الروسي، على تحديد تلك البداية وأهميتها في تاريخ الاستشراق: ينظر في ذلك مثلاً:
دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي، كراتشكوفسكي، ص73.
years of oriental studies in Russia p.
الدراسات العربية في الاتحاد السوفيتي، تسيريتيلي، مجلة المجمع العلمي العربي، دمشق، مجلد31/561.
ومن أهم تلك الأقسام والمراكز والشخصيات الاستشراقية فيها:
(1)
جامعة خاركوف حيث تعد أول جامعة تأسس فيها كرسي لتدريس اللغة العربية، وذلك حينما عيّن الألماني بيريندت عام1805م ليقوم بهذا الأمر، ولم يستمر طويلاً، فبعد سنة واحدة خلفه أستاذ ألماني آخر هو روميل، وقد تأرجح تعليم العربية فيها بين استمرار وانقطاع، إلى أن أتى المستشرق الألماني المشهور دورن، الذي استدعاه القيصر فأمضى ست سنوات في هذه الجامعة، وذلك بين عامي 1829ـ1836م، قبل أن ينتقل منها ويستقر به المقام في سان بطرسبرج، وقد قام بالإشراف على المتحف الآسيوي خلفاً للمستشرق فران.
(2)
جامعة قازان حيث بدأ تدريس العربية فيها مع مجئ المستشرق الألماني المشهور باختصاصه في المسكوكات والنقود كريستيان فران، حيث قام بالإشراف على قسم اللغات السامية فيها مدة عشر سنوات، وذلك في المدة من عام 1807ـ1817م، ويرجع المستشرقون الروس إليه الفضل في تأسيس بدايات الاستشراق العلمي في روسيا، وذلك من خلال عمله في جامعة قازان ثم لاحقاً في المتحق الآسيوي. وقد خلفه في عمله أردمان ف. الذي تخرج
باللغات السامية من روستوك وبطرسبرج وباريس، وذهب إلى لبنان، وقد أمضى فترة طويلة في التدريس في قازان، وكان ذلك بين عامي 1819ـ1845م.
(3)
جامعة موسكو التي تأسست سنة 1755م، وقد تأخر تدريس العربية فيها إلى عام 1811م، وبدأت فيها تلك الدراسات على يد الاختصاصي باللغات السامية الروسي بولديرييف، الذي تخرج في الجامعة نفسها عام 1806م، ثم ذهب في جولة دراسية إلى ألمانيا وفرنسا، حيث تلقى عن المستشرق الفرنسي المشهور سلفيسترودو ساسي، وقد كان من حظ العربية في الجامعة أن تولى الأستاذ بولديرييف رئاسة الجامعة، مما كان له أثره في دعم الدراسات العربية. وفي موسكو كانت هناك مؤسسة لها أثر ظاهر في مسيرة الاستشراق الروسية، وهي معهد لازاريف الذي تأسس في سنة 1815م، وقد قام المعهد بإصدار العديد من الإصدارات، من أهمها عدد من الأعمال العلمية للمستشرق المعروف كريمسكي، والذي تخرج في جامعة موسكو عام 1896م، ورحل إلى الشام حيث أمضى قرابة السنتين هناك، وهو من أشهر أساتذة الاستشراق الروسي الذين قاموا بالتدريس في المعهد.
(4)
جامعة سان بطرسبرج بدأت كمعهد تربية في عام 1804م، تحول بعد ذلك إلى معهد عالٍ للتربية عام 1816م، ثم تحوَّل إلى جامعة عام 1819م، وقد كان قد وصل للتدريس عام 1817م، اثنان من تلامذة المستشرق الفرنسي دوساسي بتوصية منه، هما ديمانج وشارموي للتدريس في المعهد الذي أسس حديثاً، وقد تولى ديمانج تدريس العربية في حين قام شارموي بتدريس الفارسية، وقد انتقلا إلى المعهد الشرقي في القسم الآسيوي في وزارة الخارجية بعد افتتاحه عام 1823م، وخلف ديمانج على كرسي العربية في الجامعة الأديب والمستشرق سينكوفسكي البولوني الأصل، الذي قصد الشرق العربي وبقي فيه عدة سنوات لاستكمال تحصيله، وقد استمر في الكرسي مدة طويلة وذلك من عام 1822م إلى عام 1847م، حيث خلفه الشيخ محمد عياد طنطاوي (ت:1861م) . وفي عام 1855م بدأ عهد جديد للدراسات العربية في روسيا بتأسيس كلية اللغات الشرقية في جامعة سانت بطرسبرج.
وقد كان من أوائل خريجي الجامعة في اللغات الشرقية المستعرب جيرجاس (ت:1887م) الذي ذهب إلى باريس للتزود من الدراسات العربية ثم ذهب إلى المشرق حيث زار الشام ومصر، وأمضى هناك ثلاث سنوات أتقن فيها العربية، ثم رجع ودَرَّس في الجامعة، ويرجع المستشرقون إليه الفضل في تأسيس الدراسات الاستعرابية الجديدة بالإضافة إلى المستعرب الكبير فيكتور روزن (ت:1908م) الذي ذهب بعد تخرجه في
الجامعة إلى ليبزيج في ألمانيا ودرس على فلايشر، ثم لما رجع سنة 1872م حصل على الدكتوراه، وتعين أستاذاً للعربية فيها، وقد رحل أيضاً إلى ألمانيا عام 1873م للتلقي عن أهلفارت في جرايسفالد، وقد كان لروزن جهود وأعمال عدة في المجال الاستشراقي، وتولى عمادة الكلية الشرقية ما بين الأعوام (1893ـ1903م) ، وكان له عدد كبير من التلاميذ، ويأتي على رأسهم الأستاذان الشهيران بارتولد (ت:1930م) وكراتشكوفسكي (ت:1951م) ، اللذان تخرجا في جامعة سان بطرسبرج وعُدَّا بعد ذلك من أساتذتها الكبار، ومن رموز الاستشراق ليس على مستوى روسيا فحسب وإنما على مستوى العالم (1) .
في عام 1818م تأسس المتحف الآسيوي التابع لأكاديمية العلوم، ويعد تأسيس هذا المتحف منعطفاً جديداً في تاريخ الاستشراق الأكاديمي، وصار مخزناً مهماً للنوادر والآثار والمخطوطات والوثائق والنقود والمسكوكات تأتي إليه من خلال قنوات عدة، وكان المستشرق فرين أول أمين له، وبقي يشرف عليه ويرعى أعماله أكثر من عقدين من الزمان حتى خلفه المستشرق الألماني الآخر دورن، وقد كان لجهود فران في
(1) تم الاعتماد في هذا الاستعراض لمؤسسات الاستشراق الروسي الأكاديمية والمختصين فيها، على المصادر التالية:
ـ دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي، كراتشكوفسكي ص73ـ187.
ـ المستشرقون، نجيب العقيقي ص53 فما بعدها.
ـ years of oriental studies in Russia p.
تأسيس المتحف وتنظيم أعماله أثرٌ عظيم ليس فقط في مسيرة المتحف، بل والاستشراق بوجه عام. وقد كان كرسي اللغات الشرقية في جامعة سان بطرسبرج في تعاون وثيق مع المتحف الآسيوي، وكان الدارسون والطلاب يجدون في المتحف مركز بحث ينهلون من وثائقه ومخطوطاته وكنوزه.
وعبَّر فران عن جهود هاتين المؤسستين بقوله عنهما: "إنهما تقدمان إلى روسيا بمرور الزمن عدداً كبيراً ورصيناً من المستشرقين الماهرين المدركين، ليس فقط كمترجمين أو علماء لغة، وإنما كاختصاصيين في الشؤون كافة من المستشرقين المهنيين علمياً وثقافياً أيضاً" وقد استمرت تلك الصلة الوثيقة بين الجامعة والمتحف، ولا سيما بعد تأسيس كلية اللغات الشرقية في الجامعة (1) .
يتضح من خلال هذا الاستعراض الصلة المباشرة للاستشراق الروسي بالاستشراق الألماني بوجه خاص والأوروبي بوجه عام. ورغم ذلك تميَّز هذا الاستشراق بجهود ودراسات ميزته عن الاستشراق الغربي، وجعلت له شخصيته المستقلة، وإن كان قد بقي للاستشراق الغربي أثره فيه، سواء من حيث المنهج أو الموضوع. ويعد بارتولد علامة فارقة في الاستشراق الروسي. يقول في تقديمه لأطروحته الدكتوراه: "تركستان من الفتح
(1) تاريخ الاستشراق في المتحف الآسيوي ومعهد الدراسات الشرقية في لينينغراد، وبالأخص ص29 فما بعدها.
العربي إلى الغزو المغولي": "محاولة متواضعة لتطبيق واسع لمناهج علم التاريخ الأوروبي على تاريخ آسيا الوسطى، تلك المناهج التي سبق أن طبقت من قبل على تاريخ آسيا الغربية في مؤلفات دوزي وكريمر وغيرهما" (1) .
من خلال استقراء جهود الاستشراق الروسي الأكاديمي، وعلى الأخص في القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، يُلحظ عنايته الكبيرة باللغة العربية وآدابها ودراسة النقود الشرقية والمسكوكات، وتتبع المصادر الشرقية التاريخية مما له صلة بروسيا، والعناية المتنامية بالمخطوطات دراسة وتحقيقاً، ولقد كان للصلة المباشرة بالشرق ومصادره أثره الإيجابي في أكاديمية الاستشراق الروسي واستقلالية نتائجه في بعض الدراسات التي قام بها. ولكن من المجالات التي لا نجد للاستشراق الروسي الأكاديمي فيها جهوداً مثل جهوده السابق ذكرها، مجال الدراسات ذات الصلة بالشريعة الإسلامية ومصادرها؛ ولذا نجد رؤيته فيها عند تناولها متأثرة بشكل واضح بنمطية الاستشراق الأوروبي في هذا المجال. ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أنه قد تنامى في العقدين الأخيرين الاهتمام في مجال الدراسات الإسلامية، وظهر عدد من الأعمال العلمية المتخصصة، التي تستحق الاهتمام والدراسة.
(1) تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي، بارتولد، ص752.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر برز نوع آخر من الاستشراق، يمكن إطلاق مسمى الاستشراق التبشيري عليه، إذ تم إنشاء شعبة للتبشير ملحقة بأكاديمية كنسية، تسمى أكاديمية الرهبان في قازان، وقد كان لهذه الأكاديمية أثرٌ كبير في ازدهار نوع من الاستشراق بعيد عن التقاليد العلمية. ومن أكبر الشخصيات التي كان لها دور في هذا النوع من النشاط ايلمنسكي الذي توفي سنة 1891م، وقد تخرج هو نفسه في تلك الأكاديمية، ثم قام بالتدريس فيها، وكان هناك عدد من الشخصيات ذات الصلة بهذا النوع من الاستشراق، ممن كتبوا عن الدين الإسلامي ومصادره من خلال تلك الرؤية التبشيرية، ومما يُحمد للاستشراق الأكاديمي رموزه أمثال روزن وبارتولد وكريمسكي وكراتشكوفسكي وقوفهم في وجه هذا النوع من الاستشراق البعيد عن الحقيقة ومنهج العلم (1) .
(1) ينظر: دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي، فقد تناول كراتشكوفسكي هذا النوع من الاستشراق بالتحليل في كتابه، في القسم الذي تحدث فيه عن المستعربين القازانيين، ينظر على الأخص الصفحات 179ـ187.