المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بناء مسرحياتهم وتمثيلياتهم السينمائية عن أخبار عصر الرشيد وعن قصور - جولة في كتابي (الأغاني) و (السيف اليماني)

[محمد المجذوب]

الفصل: بناء مسرحياتهم وتمثيلياتهم السينمائية عن أخبار عصر الرشيد وعن قصور

بناء مسرحياتهم وتمثيلياتهم السينمائية عن أخبار عصر الرشيد وعن قصور الحريم التي تفننوا في تصويرها وعرضوها ولا يزالون.

وإلا فأين غيرة الرشيد وجبروته وهو الحاكم المطلق الذي كان يقذف بالعشرات من الرجال إلى السيف والنطع لمجرد معارضتهم حكمه؟! فكيف به يتخلى عن هذه الغيرة في هذه المواقف التي لا يصبر عليها ذو مروعة!!.

ثم لماذا يؤثر التسلل إلى قصره عن طريق الزبيل وكان في وسعه أن يأمر الموصلي بأداء دوره في زيارة الجواري ثم يفاجئهن بشخصه ومن حيث لا يتوقعن!!.

والقارئ ذو اللب لابد أن يجد نفسه مشدودا إلى مثل هذه التساؤلات أمام الكثير مما يواجهه في مجلدات الأغاني..

وقد يسترسل الأصفهاني مع الخيال فيخترع من الأحداث مالا ينطلي إلا على الأطفال المفطورين على الولع بالغرائب، فمن اختراعاته المضحكة خبر القِطَّين الذي يورده عن لسان إبراهيم الموصلي إذ كان في سرداب له ذات ليلة فإذا هوبسنورتين تهبطان قريبا منه ثم يغنيان ويعيدان بأحسن صوت حتى لَقِنَه، ومات فرحا- كما يقول الأصفهاني- فطرحه من غدٍ على جارية له فجُنت 00) 194.

ص: 439

‌المدرسة الإبليسية:

وفي أضلولة أخرى يرينا إبراهيم هذا وقد دخل عليه شيخ في ظواهر من اليسار والأناقة، فأخذ يحدثه في مختلف فنون الأدب والتاريخ، إلى أن استثاره فغناه وشرب معه وما زال الشيخ يستزيده ويستحسن ما يسمع حتى التهبت مشاعره واستأذن إبراهيمَ بأن يكافئه على ذلك بغناء منه. وانطلق يحرك العود حتى يخيل للسامع أنه (ينطق بلسان عربي) :

ولي كبد مقروحة من يبيعني

بها كبدا ليست بذات قروح!..

فتراءى لإبراهيم أن الحيطان والأبواب وكل مافي البيت يجيبه ويغني معه.. وفجأة انفلت من بين يديه فلم يقع منه على أثر حتى سمع هاتفا من بعض جوانب البيت يقول: (لابأس عليك يا أبا اسحق.. أنا إبليس.. كنت جليسك ونديمك فلا تُرع..) !. وركب إلى الرشيد فأطرفه بالقصة، فاستنشده الرشيد ألحان إبليس فأعادها

ص: 439

عليه، (فطرب وجلس يشرب.. وأمر له بصلة وحملان وقال: ليته- إبليس- أمتعنا بنفسه يوما واحدا كما أمتعك) 230-23.

ولقد يغلب على الظن أن خبر القطين لم يكن غير رؤيا عرضت لإبراهيم بدافع من انشغاله النفسي بأصداء الغناء، ولكن خبر إبليس يتجاوز هذه الدائرة إذ سمع صوتَه سكانُ البيت فلم يقتصر عليه وحده!.. فلم يبق أمامنا إلا الحكم بأنه من مخترعات الأصفهاني، أو من نقل عنه.. ولكن مجرد روايته لهذا الضرب من التكاذيب كاف لرد شهادته في كل أو معظم ما ينفرد به من الروايات..

على أن الأصفهاني قد أدرك أن مثل هذه الأعاضيه من شأنه أن يهز الثقة به عند من يحسنون به الظن، فتدارك ذلك بالتبرؤ تبعتها بأن علقها على ذمة محدثه- ابن الأزهر- وأتبع ذلك بقوله: هكذا حدثنا بهذا الخبر وما أدري ما أقول فيه. ولعل إبراهيم صنع هذه الحكاية لينفق بها أو صيغت أو حُكيت عنه. "ويختم تعليله بإمكان رد الخبر كله إلى الرؤيا.. ولكن هذا الرد يظل مجروحاً بعد الذي ادعاه إبراهيم من سماع أهل بيته لألحان ذلك الإبليس..

ونحن لا يعنينا من القصة الابليسية! إلا ما تحمله من اعتراف الموصلي بعمله وزمرته في خدمة الشيطان، وهو ما يؤكده في العديد من مواقفه، وأقربها إلى الذاكرة ذلك الخبر الذي يرويه حفيده، حماد بن إسحاق عن جده إبراهيم حيث يقول: إنه دخل عليه وهو يلقي على تلميذه مخارق صوتا، فلما أتقنه مخارق جعل إبراهيم يبكي- فرحا- ثم قال: يا مخارق نعم وسيلةُ ابليسَ أنت في الأرض.. أنت بعدي والله صاحب اللواء في هذا الشأن 198/5.

أجل والله إنها للمدرسة التي تحت رايتها يحقق عدو الله ما يعجز عنه المئون من المخربين..

إنها لَلْمدرسة التي أعد بها إبراهيم جيلا من الساحرين والساحرات يضمن بهم استمرار المسيرة الابليسية

وحسبه شرفا، بشهادة الأصفهاني عن ولده اسحق أنه (أول من علم الجواري المُثمَّنات فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ ورفع من أقدارهن) - 170. وخرج رسول الرشيد ذات ليلة إلى المغنين يأمرهم بأن يغنوا بهذين البيتين:

ص: 440

يا خليلي قد مللت ثوائي

بالمصلَّى وقد سئمت البقيعا

بلغاني ديار هند وسعدي

وارجعاني فقد هويت الرجوعا

وليس في ظاهر هذا الخبر ما يستدعي الوقوف عليه، بيد أن في خلفياته ما يوجب التأمل الطويل في مراد الأصفهاني من ورائه، فهو يريد أن يوقع في خلدنا أن أمير المؤمنين وابن عم رسول الله قد وصل من التهتك إلى أن أصبح يضيق ذرعا بكل ما يتصل بمأرز الإيمان، بل حتى ليضيق بذكر المعالم التي يتشوق إليها المؤمنون من مهبط الوحي، وفي مقدمتها المسجد الذي يضاعف الله به الصلاة ألفا، والبقيع الذي يتمنى كل منهم أن يحتضنه مع أفضل خلق الله بعد النبيين.. لأن الرشيد بات شديد اللهف للعودة إلى الأيام التي رسخت في قلبه أطياف البطالين والماجنين.. ويختم هذه التفاهات بطلب الرجوع الذي أصبح يتحكم في عواطفه..

ولكن.. أي رجوع؟.. انه رجوع السئوم الذي مل حياة الرشد والفضيلة فهو يتطلع إلى الانسلاخ منها لينقطع إلى أهوائه!..

وهكذا يصور لنا هذا المغني أثره في مشاعر الخليفة الذي أصبح صراعا لا يكاد يحتمل بلا! ن نشأته الإيمانية على أيدي الصفوة من كبار علماء عصره، والمفسدات التي أحاطت به في ذلك الجو الخليع الذي يصوره صاحب الأغاني!. وشد ماكان أبؤ المهدي بعيد النظر عندما أراد تحصينه وأخاه موسى من وباء هذا الموصلي ومغريا ته، إذ حظر عليه الاتصال بهما تحت طائلة العقوبة الرادعة، وشدَّ ماكان ذلك الساحر محكم التصميم على الاستحواذ عليهما لاستعمالهما في إفساد الوسط الخلافي كله عن طريقهما.. وفي سبيل هذا الهدف تحمل مختلف العقوبات، ولم ينقطع عنهما حتى كانا بزعمه من المستهترين، وذلك هو الطريق الأقصر إلى تحقيق كل ما يريده الشياطين.

أجل.. إن أبرز الملامح في شخصية الرشيد- كما تصوره روايات الأصفهاني- هو ذلك الصراع النفسي الذي يوزع كيانه بين الرصانة والخلاعة.. وقد رأيت مَثَل الأولى في غضبته البركانية حين رأى من أحد جلسائه ما يوهم الاستخفاف بالخبر النبوي، على حين تراه في موقف آخر متهالكا مسلوب الإرادة قد أخذه الشراب والطرب حتى ليتعرى من ثيابه فيخلعها على مغنيه، كما سبق لأخيه موسى الهادي ذات يوم وقد استخفه

ص: 441

الطرِب فلم يتمالك أن تملص من در اعته، وحكَّم المغني في جائزته، فطلب أن يُقطعه عين مروانَ بالمدينة، ثم لم يتخل عن ذلك الطلب إلا بعد أن أطلق الهادي يده في بيت مال الخاصة فكانت الفدية خمسين ألف دينار! 84/5 أ-185. ومثل هذا السفه هو المرتكز الأساسي في مرويات الأصفهاني، وحسبك من ذلك الخبرُ الذي يريك الخليفة وقد طاش وعيه من السكر والانتشاء إذ سمع لحنا غناه به إبراهيم فلم يجد ما يكافئه عليه بأقل من (الهنيء والمريء) وهما ضيعتان مشهورتان من أعمال الرقة وتُسقيان من الفرات. يقول المغني إبراهيم: (فلما أصبحت عُوّضتُ عنهما مئتي ألف درهم- أي اثنين وعشرين ألف دينار- مقابل غنائه ليلة واحدة، ولعله لم يزد عن بيت واحد 00/ 166.

وسواء صحت هذه الأخبار المحيرة أم ضعفت فمما لا يتسع للخلاف أنها تعكس واقعا له جذوره، التي نمت وتفرعت حتى تركت طابعها على الكثير من جوانب ذلك المجتمع المتناقض..

ولعل القارئ لم ينس بعد خبر ذلك العائل الفقير الذي هجر مكة وفيها زوجه تنتحب لفراقه، ليكدح في جدة طلبا للرزق، وقد سرت عدوى الغناء إلى قلبه فلا يتمالك أن يتسلى بترجيعه ابتغاء التخفيف من أعبائه.. ولهذا القارئ أن يضيف الآن إلى ذلك المشهد خبر ذلك النبطي الفلاح الذي ارتضاه إبراهيم وابنه إسحاق حكما بينهما في أيهما أفضل غناء من الآخر، فأصغى الفلاح إلى كل من المغنيين على حدة ثم أصدر حكمه للوالد على ابنه، فلم يستطع هذا اعتراضا ورضى من الغنيمة بلطمة من أبيه يقول انه لم يمربه مثلها 199- 255.

ولا غرو فالناس دائما على دين ملوكهم، وفي القانون الإلهي الذي نقرؤه في قوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الإسراء/ 16 نجد مصداق ذلك. لأن من معاني (امرنا مترفيها) أكثرناهم حتى غلبت طرائقهم على مجتمعهم ففسد تركيبه ففقد صلاحية الحياة فصار إلى الدمار.. وهو القانون الذي مضى حكمه في الأندلس ثم في الدول الإسلامية كلها فكانت ولا تزال عبرة المعتبرين!!.

ومن هنا كان ذكر المترفين في كتاب الله مقروناً أبداً بالذم والتسفيه.. وكان انتصار

ص: 442