الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله الحنَّان (1) المنَّان، القديرِ الرحمن، مالكِ الملك عظيمِ الشان، يجيب مضطرًّا دعاه، ويعافي عبدًا ابتلاه، نحمده سبحانه على عظيم النِّعَم وجزيل الإحسان، ونشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغُرِّ الأعلام، والتابعين لهم بإحسان.
وبعد، فقد صارت الرقيةُ الشرعية من الأمور التي غفل عنها بعض الناس، بل ربما لم تخطر لهم على بال، وقد
(1) وردت أحاديثُ فيها ذِكْر [الحنّان] باعتبار أنه اسم من أسماء الله تعالى، كما في مسند الإمام أحمد (3/158-3/230) ، ومستدرك الحاكم (1/17) ، وغيرهما، لكن هذه الروايات بمجملها لا تخلو أسانيدها من مقال. لذا، فإن أهل العلم قد تفاوتت آراؤهم في إثبات هذا الاسم لله تعالى أو عدم إثباته، وحاصل ذلك على أقوال ثلاثة:
الأول: عدم اعتباره من الأسماء الحسنى، وممن قال بذلك الإمامان: مالك والخطابي، انظر: مجموع الفتاوى (10/285) ، ومعجم المناهي اللفظية ص241.
الثاني: اعتباره من الأسماء الحسنى، وممن قال بذلك الإمام البيهقي، كما في الأسماء والصفات ص 74-75.
الثالث: التوقف في ذلك، وتعليق القول بإثباته على صحة النص في ذلك، وهو ما قرره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، كما في المجموع الثمين (3/57-58) . والله تعالى أعلم بالصواب.
أضحت عندهم كأنها حديث خُرَافة (2) ، لكنِ المؤمنون حقًّا يوقنون بأن الرُّقى الشرعية جليلةُ القدر، عظيمة النفع، يُستشفى بها من الأمراض جميعِها؛ الحسِّيةِ منها والمعنوية، ولقد تضافرت نصوص الشريعة الغَرَّاء على مشروعية الاستشفاء بالقرآن، والأدعية والتعوُّذاتِ النبوية؛ قال الله تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} . وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان إذا اشتكى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل؛ قال: بِاسْمِ اللهِ يُبْرِيكَ، وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ يَشْفِيكَ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وَشَرِّ كُلِّ ذِي عَيْنٍ (3) .
ومن المقرر - عند أهل هذا الشأن - أنَّ
(2) خُرافة: اسم رجل من عُذْرَةَ، استهوته الجن، فكان يُحدِّث بما رأى، فكذبوه، وقالوا: حديث خُرَافة. انظر: مختار الصحاح للرازي، مادة (خ ر ف) .
(3)
أخرجه مسلم، كتاب: السلام، باب: الطِّب والمرض والرُّقى، برقم (2185) ، عن عائشة رضي الله عنها.
مفهوم الرُّقى فيه سعة ظاهرة، وأن ما كان منها مباحًا، ومؤداه حصول نفع به، عملوا به؛ فترى بعضَهم يقتصر بالرقية على سورة بعينها كالفاتحة مثلاً، أو سورة البقرة، أو يجمع بين سورٍ؛ كالفاتحة والمعوِّذتين، وتجد بعضًا آخر يرقي بآية وحسب؛ كآية الكرسي، ومنهم من يرى الرقية بالقراءة على ماءٍ طهور، أو على زيتٍ ليُدَّهن به، أو عسلٍ ليؤكل منه، وكلٌّ من هؤلاء الرقاة قد عَمَدَ إلى بعض ما يُباح من الرقية، مما يُرجى نفعه ويناسب حالَ المَرْقِيِّ، وعمدتهم في ذلك كلِّه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«اعْرُضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» (4)، وقولُه صلى الله عليه وسلم: مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ
(4) أخرجه مسلم، كتاب: السلام، باب: لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، برقم (2200) ، عن عوفِ بن مالكٍ الأشجعي رضي الله عنه.
أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ (5) .
ثم لما كان واقع الحال يشهد بأن أئمةً من سلف الأمة قد رقَوْا بآياتٍ لم يَرِد النصُّ باختصاص الرقية بها، ومن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في «الطِبِّ النبوي» ، من أن الإمام أحمد رحمه الله كان يكتب للمرأة إذا عَسُر عليها ولادتُها في جامٍ (ورق) أبيض، أو أي شيء نظيف: حديثَ ابن عباسٍ رضي الله عنهما: «لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللهِ، وَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (6)، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ} [الأحقاف: 35] ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا *} [النَّازِعات: 46] ، وقد
(5) أخرجه مسلم، كتاب: السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنَّمْلة والحُمَة والنظرة، برقم (2199) ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(6)
متفق عليه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه البخاري؛ كتاب: الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، برقم (6345)، ومسلم؛ كتاب: الذكر والدعاء، باب: دعاء الكرب، برقم (2730) . وعند أحمد في مسنده (1/91) - وهو اللفظ المثبت في المتن - من حديث عليٍّ رضي الله عنه.
كتب - أي الإمام أحمد رحمه الله ذلك لغير واحد، وذكر ابن القيم رحمه الله ذلك عن جماعة من السلف، منهم شيخ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله، وقد يضيق المقام بنا لو أردنا استقصاء ما أُثِر عن السلف الصالح في ذلك، وقد كان ذلك كله اجتهادًا منهم رحمهم الله، لذلك فإني لم أقتصر في اختيار الآيات على ما دلت النصوص على خصوص الاستشفاء بها، لكنْ أوردتُ معها ما يُستشفُّ منه وجهُ نفعٍ فيما يُقرأ لأجل الاستشفاء به من أعراض السحر والمس والعين، وسائر العلل المعنوية والحسية.
وقد اجتهدتُ - بحمد الله - في اختيارها؛ مستفيدًا من خبرة بعض الرُّقاة الذين نحسبهم على خير - والله حسيبهم -
وقد رقيتُ بها نفسي، ومن احتاج إليها من ذوي قرابتي، فألفيتُها - بفضل الله عز وجل ظاهرةَ الأثر، بيِّنةَ النفع، وإني لأحتسب الأجر بنشرها محبة لإخواني المؤمنين، وحرصًا على نفعهم.
وقد جعلت ذلك على ثلاثة أقسام، من أجل أن توافق حال كلٍّ من الراقي والمرقي؛ حيث اكتفيتُ في القسم الأول بذكر رقية موجزة من كتاب الله، وما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي رقية وقائية لكل محتاجٍ إليها، كما أنها مناسبة ليُرقى بها مَنْ هم دون سن البلوغ؛ لكونها موجزة فلا تثقل عليهم، ثم متى كان لدى الراقي متسع من الوقت وكانت حالة المَرْقِيِّ تستدعي وقتًا مُطوَّلاً للعلاج، أخذ بما في
القسم الثاني من هذه الرقية، وهي رقية من القرآن وما ثبت من السنة أيضًا، لكنها متوسطة الكمِّ ومناسبةٌ لأن يَرقِي بها عموم المسلمين.
أما القسم الثالث من الرقية فقد أوردت فيه رقية مطوَّلة من القرآن الكريم ومفصَّلةً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ يرقي بها من تمرَّس في شأن الرقية، ويُلجأ إليها في الحالات المستعصية التي قد تستدعي زمنًا طويلاً في العلاج.
هذا، وقد قدَّمت بين يدي الكتاب بيانًا لحقيقة العين والسحر وطرق علاج ذلك. كما ذكرت تعريفًا بالرقية، وأنواعها، وضابطها، وشروط الانتفاع التام بها، والأسباب التي تساعد في تعجيل الشفاء
بإذن الله. كما أوردت أسبابًا عشرة يندفع بها شرُّ الحاسد وغيره، وبيَّنت بعدها أمورًا لو أيقن بها المُصاب لهانت عليه مصيبته. ثم أتبعت ذلك بإرشادات عامة، رأيت الحاجة إليها ماسة. كما ألحقت بالكتاب ثلاثة ملحقات؛ بيَّنت في الأول منها سُبُل العلاج بالماء والسِّدْر والزيت والعسل، وأوردت في الثاني أذكارًا يتحصن بها المسلم في يومه وليلته من شرِّ شياطين الإنس والجن وكيدهم، أما الأخير منها فقد ذكرت فيه بعض الأعراض التي تعتري المسحور، أو المَعِين، أو مَنْ به مَسٌّ؛ وذلك ليكون الراقي على بصيرة من أمره، متثبتًا في حال المَرْقِيِّ، قبل الشروع برَقْيِه.
هذا، وقد أوردت آيات الرقية بحَسَب موضوعاتها لا بترتيب سور القرآن؛ فجعلت آياتِ الحمد والثناء متتابعة، وكذلك آيات الرقية من العين والسحر وغير ذلك؛ بحيث يتمكّن الراقي من توجيه تركيزه على الداء، كما أن ذلك يعينُه على استذكارها - لترابط موضوعها - فلا يجد بعدُ حاجةً لتلاوتها من هذا الكتاب، ومن شاء قراءتها بترتيب المصحف فقد أوردت رقىً مرتبة بترتيبه في كتابي (الرقية الشرعيَّة) .
هذا وقد تيسَّر تسجيل هذه الرقية صوتيًّا، ليتسنى للمرضى الاستماع إليها، بخاصةٍ منهم من لا يُحسن القراءة. راجيًا الله تعالى أن ينفع بها عباده؛ إنه سميع قريب
مجيب الدعاء، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمدٍ الرحمةِ المهداة والنعمة المُسداة، وعلى آله وصحبه ومنِ استَنَّ بسنَّته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
د. خالد بن عبد الرحمن الجريسي