الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعلم أن هذا الذى أشار إليه ((المنار)) فى خروج المفهوم على الأغلب تنزل منه على القول بالمفهوم، وإلا فهو ينفيه كما يأتى.
ثم قال فى حاشية ((المنار)): (ومما وقع من اللطف أنه كان لي عباءة، وما يكون من هذا النوع فى زماننا غالبه الطول، فكنت فى اليمن لأنه يغلب على المتفقهة لُبس ذلك، [أنشغل] * بطولها، فقلت مرة: إني لست ممن يفعل ذلك خيلاء مشيرا إلى حديث أبى بكر رضى الله عنه، فقالت لي امرأة: أوما يكفيك أنه يراك الله متخلقا بأخلاقهم، فكأنما كشفت عن قلبي غشاوة واستغربت ذلك منها ورأيت أنها ملقنة). انتهى.
هذا، وقد سبقت لنا الإشارة أنه لا يتم حمل المطلق على المقيد [كما قاله النووي والبيهقي إلا مع
القول بمفهوم الصفة
والقول بحمل المطلق على المقيد] **، وفيهما نزاع كما أشرنا إليه، فأما الحمل فقدمنا الكلام عليه، وأما القول بمفهوم الصفة فلنذكر كلام النفاة والمثبتين، ومن له ذوق سليم يعرف الصحيح من السقيم.
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خيلاء)) فى حديث: ((لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء))، مفهومه من مفهوم الصفة لاتفاقهم بأنه ليس المراد بها [التجويز بل كل ما تقيد بها من حال وعلة ونحوها]
…
.
فذهب إلى القول بمفهوم الصفة الشافعي وجماعة من الأئمة، وذهب إلى نفيه الحنفية وأئمة من الشافعية: كالقاضي (1) والغزالي، ونفاه المعتزلة والمهدي فى ((البحر)).
واستدل المثبتون بدليلين كما فى مختصر ابن الحاجب وغيره من كتب الأصول:
الأول: أنه نقل عن أبى عبيدة-وهو من أئمة اللغة- أنه قال فى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لي الواجد يحل عقوبته وعرضه)): أنه يدل
(1) في المخطوطة (لما لقاضي) وهو خطأ
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة:
(*) في (ب)(أسفل) وفي (المنار في المختار من جواهر البحر الزخار)(2/ 267)(أشتغل)
(**) زيادة من (ب)
(
…
) في (ب)(التحريم بل كل ما يقيد بها من حاله وعلمه ونحوهما)
أن لي غير الواجد لا يحل عرضه وعقوبته، قال: وفى قوله صلى الله عليه وآله سلم: ((مطل الغنى ظلم)) مثل هذا: وأنه قيل له فى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأن يمتلئ بطن أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا))، المراد بالشعر هنا الهجاء مطلقا أو هجاء النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى لأن قليله وكثيره سواء فجعل الامتلاء من الشعر فى قوة الشعر الكثير، ففهم منه أن القليل ليس كذلك، واحتج به فقد ألزم من تقدير الصفة المفهوم فكيف مع التصريح بها؟
قالوا: ولأنه قال بمفهوم الصفة الشافعي، وهو وأبو عبيد من أئمة اللغة فظهر إفادتها لغة. انتهى.
وأجيب عنه: بأن اللغة إنما ثبتت بالنقل لا بالفهم، والنقل يختص بالموضوعات للشخص أو للنوع وليس ذلك أحدهما إلا إذا قامت قرينة على
أنه من التعريض بغير المذكور، فمدلول [العربية] * منطوق لما عرف من أن التعريض من الكناية وهى موضوعة بالنوع ولا نزاع فى ذلك والحاصل أنهما لم يوردا ذلك عن اللغة، وإنما أخبرا عن فهمهما ورأيهما وهو كآرائهم الشرعية والعقلية، يوضحه أنه إذا اختلف عربيان سيلقيان فى معنى جعلنا كلامهما لغتين. وإذا اختلف إمامان لم نجعل كلامهما لغتين بل يجب الترجيح بين قوليهما، ولو كان قول الأئمة مقبولا مطلقا لساوى قول السليقيين.
وأجيب أيضا بجواب آخر: وهو أنهما إنما حكما بذلك لموافقته الأصل لا بالمفهوم، والنقل من المخصصات-كما علم أما فى مطل الواجد فظاهر إذ لا عذر له بخلاف المعدم إذ التكليف إنما هو بالموجود.
وأما الشعر فلأنه قد علم فى الجاهلية والٍإسلام أن الانشغال به مفخرة الناقص ومنقصة الكامل، وأنه يشغل عن الكمالات، ويستلزم الكذب والتخيلات التي لا أصل لها، وملأ الجوف منه لا يخلو عن ذلك، نعم ربما خلا القليل منه بلا كراهية فيه، فكيف وقد تمثل به النبى صلى الله عليه وآله وسلم؟.
فهذه قرينة تعيد المفهوم منطوقا لما عرفت من أن ما قامت القرينة على اعتباره من مفهوم المخالفة فهو منطوق، وتأتي أدلة من قال بإثبات مفهوم الصفة أنه لو لم يدل على المخالفة لم يكن لتخصيص محل الذكر بالمنطوق به فائدة. وتخصيص آحاد البلغاء بغير فائدة ممتنع فالشارع أجدر
وأجيب: بأن فائدته تشخيص مناط الحكم، فهو لتحصيل أصل المعنى كاللقب فإنك إذا قلت: أكرم زيدا التميمي فقد أمرت أن يوقع الإكرام على زيد المقيد بكونه تميميا، ففائدة ذكر الصفة تعيين من أمرت بإكرامه وأردته فكيف يقال لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة؟
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة:
في (ب)(القرينة)
وكيف تطلب فائدة زائدة على فائدة الوضع؟.
فعرفت من هذا التحرير مساواته لمفهوم اللقب، وأنه يختل الكلام عند إسقاط الصفة [لأن الكلام الذي اعتبر فيه زيد التميمي من شرط إفادة المراد وجود هذه الصفة] * وكذلك المنسوب إليه في قولك: جاءني زيد الطويل، ليس مسمى زيد فقط بل الموصوف بالصفة فهي داخلة في مفهوم المسند إليه لتحصيل معناه، ولا تدل العبارة أن زيدا (1) القصير لم يجيء -الذي هو معنى اعتبارا بمفهوم الصفة- بل حكمه مسكوت عنه، بحث لو قلت: جاءني زيد القصير، بعد قولك: جاءني زيد الطويل، لم يكن كلاما متناقضا ظاهرا.
هذا قصارى ما عند الفريقين استدلالا وردا، فتأمل فإنه لا يخفى عليك الأقوى دليلا والأحسن قيلا.
وإذا عرفت ما قررناه وأحطت علماً بما سقناه، عرفت قوة التحريم مطلقا للإسبال في كل حال.
وأما ما نقل عن ابن حجر الهيتمي (2): أن الإسبال صار الآن شعار العلماء، وكأنه يريد علماء الحرمين لا غيرهم، قال:(فلا يحرم عليهم بل يباح لهم)، فهو كلام يكاد يضحك منه الحبر والورق، وكأنه يريد إذا صار شعارا لهم لم يبق فيه للخيلاء مجال. ولكنه يقال: وهل يجعل ما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حلالا إذا صار شعارا معتادا لطائفة لا سيما أشرف الطوائف، وهم هداة الناس وقدوتهم وأعيانهم فيصير حلالا وينتفي عنه النهي؟
وهل قدوة العلماء والعباد وإمام المبدأ والمعاد، سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله معلماً للعباد كل ما يقربهم إلى ربهم ويبعدهم عن معصيته حتى قال بعض الصحابة: لقد علمنا نبينا كل شيء حتى الخراءة - أي آداب التخلي-
(1) في المخطوطة (زيد) وهو خطأ والصواب ما أثبتناه
(2)
في المخطوطة (الهيثمي) الصحيح بالتاء
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة:
زيادة من (ب)
فالشعار للعلماء هو شعاره صلى الله عليه وآله وسلم وشعار أصحابه، فهم القدوة لا ما جعله من ارتكب ما نهى عنه شعارا، فإن أول من خالف النهي واتخذه له لباسا قبل أن يسبقه إليه أحد مبتدع قطعا آتيا بما نهى عنه لا تتم فيه هذه المقدرة القبيحة لأنه لم يكن شعاراً إلا من بعده، فمن تبعه تبعه على: الابتداع وارتكاب المنهي عنه، ثم اعتذر لنفسه بأنه مار له شعارا.
وسبحان الله تعالى ما أقبح بالعالم ان يروج فعله لما نهي عنه نهي تحريم أو كراهة شعارا مأذونا فيه، وكان خيرا منه الاعتراف بأنه خطيئة أقل الأحوال مكروهة ومحل ريبة، فإن هذه الأحاديث التي سمعتها من أول الرسالة تثير ريبة إذا لم يحصل التحريم، وقد شر حديث:((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وإذا لم تثر هذه الأحاديث ريبة توجب الترك للمنهي عنه وعدم حِلّهِ حلاً خالصاً فليس عند من سمعها أهلية (2) لفهم التكاليف الشرعية، كيف وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي أخبرت فيه امرأة بإرضاعها امرأة رجل فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بفراقها وقال له:((كيف وقد قيل))
وهذا كله منا تنزُّل وإلا مما قدمناه من الأدلة وبيان دلالتها ما ينادي على التحريم أعظم نداء، والاعتذار بكون النهي للخيلاء عرفت بطلانه وهل أوضح من قول الشارع:((ما زاد على الكعبين ففى النار)) دلالة على إطلاق التحريم وشدة الوعيد، وهو كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ويل
(2) في المخطوطة (أهله) والصحيح ما أثبتناه
للعراقيب من النار)) في حديث الوضوء. ولم يستفصل صلى الله عليه وآله وسلم ابن عمر ولا الذي أمره بإعادة الوضوء ولا غيرهما ممن نهاه: هل كان إسباله للخيلاء أو لغيرها في حديث واحد، وقد عرفت القاعدة الأصولية وهي: أن ترك الاستفصال في موضع [الاحتمال] * ينزل منزلة العموم في المقال.
ولا يروج جواز الإسبال إلا من جعل الشرع تبعا لهواه، وذلك ليس من شأن المؤمن وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حنى يكون هواه تبعا لما جثت به)).
ومما يدل على عدم النظر إلى الخيلاء أمره صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمر رضي الله عنه، وهل يظن بأن ابن عمر يخبل ذلك للخيلاء- مع شدة تأسيه به صلى الله عليه وآله وسلم؟ وكيف يتأسى به في الفضائل ولا يتأسى به صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الحرمات**؟
ما ذاك إلا أنه أرخى إزاره غير عالم بالتحريم قطعاً، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:((إياك والإسبال، فإن الإسبال من المخيلة))، ولو جاز لغير المخيلة لما جاز أن يطلق صلى الله عليه وآله وسلم النهي فإن المقام
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة:
في (ب) الإجمال
(**) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة:
في (ب) المحرمات
مقام بيان ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، وأي حاجة أشد من مقام النهي والله أعلم.
* * *
وإلى هنا انتهى [بنا] * ما أردنا تحريره وإبانة المقام وإيضاحه، والله يرزقنا إتباع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كل حال صلى الله عليه وعلى آله خير آل.
* * *
قال ناسخ الرسالة في آخرها: فرغ من نسخ مسألة الإسبال، وله الحمد على كل حال.**
(*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة:
في (ب)(بيان)
(**) في (ب)(قال في الأم: من نسخة قوبلت وصححت بخط المصنف البدر رحمه الله تعالى آمين)