الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم تكن العرب تَعُدُّ المال في الجاهلية إلا الخيل والإبل، وكان للخيل عندها مزية على الإبل، فلم تكن تَعْدِل بها غيرها، ولا ترى القوة والعزَّ والمنعة بسواها، لأن بها كانوا يدافعوا عن غيرها مما يملكون، ويمنعون حريمهم، ويحمون من وراء حوزتهم وبيضتهم، ويغاورون أعداءهم ويطلبون ثأرهم، وينالون بها المغانم، فكان حبهم لها، وعظم موقعها عندهم، على حسب حاجتهم إليها، وغنائهم عنها، وما يتعرفون من بركتها ويُمْنها؛ إلى أَن بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأكرم أمته بما هداهم له من دينه، وأمتنَّ عليهم به منه، فاختار لنبيه عليه الصلاة والسلام إعداد الخيل وارتباطها لجهاد عدوه؛ فقال سبحانه:) وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباِط الخيل، تُرْهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم (.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:) وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم (قال: الجن؛ ولن يخَيَّلَ الشيطان إلى إنسان في داره فرس عتيق.
فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل وارتبطها وأحبها، وحض المسلمين على ارتباطها، وأَعْلَمَهُمْ ما لهم في ذلك من المثوبة والأجر، فسارَعوا إلى ذلك وازدادوا حرصاً عليها وفي إمساكها، رغبة في الأجر والتماس البركة والخير في العاجل والآجل، في اقتنائها وتثميرها واستبطانها، وتنافسوا فيها، وغَالوْا، لما جعل الله فيها من أنواع البركات وجماع الخيرات.
قيل: ومن فضائل الخيل أنها أَصبر البهائم وأشدها شدة، وأخف الدواب كلها مئوية في العلف والمشرب عند ضيق الأمر في ذلك، إذ كان يكفيها في السرايا والمفاوز والأسفار القليل منه، ثم قسنا عليها في شدتها: فوجدنا أشد البهائم وأقواها على الأحمال الثقال الإبل، فأصَبْنا البعير البازل الشديد أكثر ما يحمل ألف رطل، فإذا حَمَل هذا المقدار لم ينهض إلا بعد الجهد والحيلة، ورأيناه لا يجري بحمله؛ وكذلك سائر البهائم التي توصف بالشدة لا تجري بأحمالها. ووجدنا ما يوصف من الوحش بشدة الْعَدْو لو حَمَل ثقيلاً لم يؤد عُشْر جريه؛ فوقفنا على أن الفرس يحمل من فارسه وآلته وسلاحه وتجِفافه وزاده وعلفه، وعَلَمٍ إن كان في يد صاحبه في يوم ريح، زُهاء ألف رطل، ويجري به يوماً جَريداً لا يكاد يمل ولا يخَوْىَ بجوع ولا عطش؛ فعلمنا أنه لا شيء من البهائم أشد ولا أصبر ولا أجود ولا أفضل ولا أكرم ولا أقوى من الخيل.
وأنزل الله عز وجل في ارتباط والاتفاق عليها آيتين من القران العظيم، قوله تعالى:) مَنْ ذا الذي يُقْرضُ اللهَ قرضناً حسناً فيضاعفَه له أضعافاً كثيرة (، وقوله سبحانه:) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وَعَلَانِيَةً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (. قال أبو أمامة، وأبو الدرداء، ومكحول، والأوزاعي، ورباح ابن يزيد: هم الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله.
وعن ابن عباس:) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية (: قال: نزلت في عَلَف الخيل.
وروى أن أبا ذَرٍّ أشار إلى بعض خيل كانت في الجَّبانة وقال: أصحاب هؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية وكان أبو هُرَيْرَةَ إذا مر بفرس سمين تلا هذه الآية، وإذا مر بفرس أعجَف سكت.
الباب الثالث
حفظ الخيل
وصونها والوصية بها
أعلم أن الأمم الماضية لم تزل تُكْثر من الاعتناء بالخيل والتشريف لها، والثقة بها، والتعويل عليها في حروبها، والافتخار بِرَبْطِها؛ وإن كانت العرب زادت في فضلها ومزيتها ما فاتوا به الأمم، فلم تكن في الجاهلية ولا في الإسلام تصون شيئاً من أموالها كصيانتها ولا تكرِمُه ككرامتها، لما كان لهم فيها من التباهي والتفاخر، والتنافس والتكاثر، والقوة والمنعة، والعز والرفعة.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم من أرغب العرب في الخيل وأصونهم لها، وأشدهم إكراماً وعُجباً بها، حتى إنه كان ليأنس بصهيلها، ويفضلها على الرجال فيما يُسهمه لها ويراهن عليها، وينهي عن استنتاج كرائمها من حمار أو هجين لا يشبه أصُلُهُ أصولها، غيرة منه عليها، وإشفاقاً من فساد أًنسالها، وقد كان عليه الصلاة والسلام وصَّيِ بها، وعوتب على اشتغاله في وقت من الأوقات عن تفقُّدها. جاء عن إسماعيل بن رافع:) إن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح ذات يوم فقام إلى فرسه فمسح عنقه ووجهه بطرف ردائه أو بكُمَّ قميصه، فقيل له: يا رسول الله! صنعت اليوم ما نراك صنعته؟ فقال: إني بتُّ الليلة وجبريل يعاتبني في سياسة الخيل (.
وعن عائشةَ رضي الله عنها:) إنها خرجت ذات غَدَاةِ، والنبي صلى الله عليه وسلم يمسح فرسه بثوبه، فقالت: يا رسول الله! بثوبك؟ فقال: ما يُدْريك؟ لعل جبريل قد عاتبني فيه الليلة؛ قالت: فولَّني عَلَفَهُ، فقال لها: لقد أردت أن تذهبي بالأجر كلَّه! أخبرني أن ربي يكتب لي بكل حبة حسنة (.
قيل:) وبَيْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة) تَبُوكَ (إذ قام إلى فرسه الظَّرب فعلق عليه شعره، وجعل يمسح ظهره بردائه، فقيل: يا رسول الله! أتسمح ظهره برادئك؟ قال: نعم، وما يدريكم؟ لعل جبريل أمرني بذلك، مع أني قد بت الليلة وأن الملائكة تعاتبني في حسَّ الخيل ومسحها، وقال: أخبرني خليلي جبريل أنه يكتب لي بكل حبة أَوْفَيْتُها إياه حسنه، وأن ربي يَحُطُّ عني بها سيئة؛ وما من امرئ من المسلمين يرتبط فرساً في سبيل الله فيوفيه عَليقه يلتمس له قوة إلا كتب الله له بكل حبة حسنة، وحط عنه بها سيئة (.
وعن محمد بن عُقْبَةَ عن أبيه عن جده قال: أتينا تميماً الداريَّ وهو يعالج عليق فرسه بيده، فقلنا له: يا أبا رُقَيَّة! أما لك من يكفيك هذا؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:) من ارتبط فرساً في سبيل الله فعالج عليقه بيده كان له بكل حبة حسنة (.
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:) من كان له فرس عربي فأكرمه أكرمه الله، وإن أهانه أهانه الله (.
وعن مجاهد قال:) أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنساناً ضرب فرسه، فقال: هذه مع تلك؟ لتمسَّك النار، فَكُلَّمَ فيه، فقال: لا: إلا أن يقاتل في سبيل الله؛ فجعل الرجل يحمل عليه ويقول: أشهدوا! أشهدوا! (.
وكانت العرب لقدر الخيل عندها وإعزازها إياها تَقْتَصُّ من لطمه الفرس وتُعَيِّر بذلك، وتطلب الثأر فيه كما تطلبه في أنفسها؛ ولا تلطم بلطمة البعير؛ ذكر ذلك حَمَّاد الراوية عن سماك بن حرب، قال الجراح الهْمداني في ذلك:
ونهدةٍ يُلطم الجاني بلطمتها
…
كأنهَّا ظل برد بين أرماح
ونهى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ركض الخيل إلا في حق. وعن الوضين بن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) لا تقودوا الخيل بنواصيها فَتذَلوها (. وقال صلى الله عليه وسلم:) ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها وأعجازها، أو قال: أكفالها، وقلِّدُوها، ولا تقلدوها الأوتار (. وكانوا يقلدون الخيل أوتار القِسىَّ لئلا تصيبها العين، فنهاهم عليه السلام عن ذلك، وأعلمهم أن الأوتار لا ترد من قضاء الله شيئاً. وقيل نهاهم عن ذلك خوفاً على الخيل من الاختناق. وقيل الأوتار الذُّحول، وهي الدماء: أي لا تطلبوا عليها الذحول التي وتُرِتْم بها في الجاهلية. والقول الأول أصح.
وعن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:) لا تَهْلُبوا أذناب الخيل، ولا تجُزُّوا أعرفها ونواصيها، ودِفاؤها في أعرافها، وأذنابها مذابُّها (.
وقال صلى الله عليه وسلم:) لا تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فأن الله تعالى إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشقِّ الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم (.
وقال مكحول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) أكرموا الخيل وجَلَّلوها (.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن خِصاء الخيل.