الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال آخر في المعنى نفسه:
لو كلُّ جارحةٍ مِنِّي لها لغةٌ تُثني عليكَ بما أوْلَيْتَ من حَسَنِ
لكان ما زاد شكري إذ شكرتُ به إليك أبلغَ في الإحسانِ والمِنَنِ1
فاللَّهمَّ لك الحمد شكراً، ولك المن فضلاً، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، لك الحمد بكلِّ نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، لك الحمد على ذلك حمداً كثيراً، اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد ربَّنا إذا رضيت.
1 أورده ابن كثير في تفسيره (2/540) .
المطلب الرابع:
أفضلُ صِيَغِ الحمد وأكملُها
تقدّم بيانُ فضل الحمد وعظم ثوابه عند الله، والإشارةُ إلى بعض صِيَغه الواردة في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كقول:{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، وقول:"الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى"، ونحو ذلك مما ورد في القرآن الكريم مما حمد به الربُّ نفسه، وما ورد في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مما حمد به الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّه، وهي صيغٌ عظيمةٌ مشتملةٌ على أحسن الحمد وأكمله وأوفاه، وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنَّ أفضل صيغ الحمد "الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده"، واحتجّ بما ورد عن أبي نصر التمّار أنَّه قال: قال آدم عليه السلام: يا رب شغلتَني بكسب يديّ فعلّمني شيئاً من مجامع الحمد والتسبيح، فأوحى الله إليه يا آدمُ إذا أصبحت فقل ثلاثاً وإذا أمسيت فقل ثلاثاً:"الحمدلله ربِّ العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، فذلك مجامع الحمد".
وقد رُفع ذلك للإمام المحقق ابن قيِّم الجوزية – رحمه الله فأنكره على قائله غايةَ الإنكار وبيَّن رحمه الله أنَّ ذلك لم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الصحاح أو السنن أو المسانيد ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وبَسَط القول رحمه الله في ذلك في رسالة مفردة.
قال رحمه الله: "هذا الحديث ليس في الصحيحين ولا في أحدهما ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وإنَّما يُروى عن أبي نصر التمّار عن آدم أبي البشر، لا يَدري كم بين أبي نصر وآدم إلا الله - تعالى -، وذكر الحديث المتقدّم، ثم قال: فهذا لو رواه أبو نصر التمّار عن سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم لما قبلت روايته لانقطاع الحديث فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بروايته له عن آدم.
وقد ظنَّ طائفة من الناس أنَّ هذا الحمد بهذا اللفظ أكمل حمدٍ حُمِد اللهُ به وأفضله وأجمعه لأنواع الحمد، وبنوا على هذا مسألة فقهيّة فقالوا: لو حلف إنسانٌ ليحمدنَّ اللهَ بمجامع الحمد وأجلِّ المحامد فطريقه في برِّ يمينه أن يقول: "الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده" قالوا: ومعنى يوافي نعمه أي: يلاقيها فتحصل النعم معه، ويكافئ - مهموز - أي: يساوي مزيد نعمه، والمعنى: أنَّه يقوم بشكر ما زاد من النعم والإحسان".
قال ابن القيِّم رحمه الله: "والمعروف من الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به رسوله صلى الله عليه وسلم وسادات العارفين بحمده من أمته ليس فيه هذا اللفظ ألبتة، وأورد بعض صيغ الحمد الواردة في القرآن ثم قال: فهذا حمدُه لنفسه الذي أنزله في كتابه وعلَّمه لعباده، وأخبر عن أهل جنَّته به، وهو آكد من كلِّ حمدٍ وأفضلُ وأكملُ، كيف يبرُّ الحالف في يمينه بالعدول إلى لفظ لم يحمد به نفسه، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سادات العارفين من أمته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حمد الله في الأوقات التي يتأكّد فيها الحمد لم يكن يذكر هذا الحمدَ ألبتة كما في
حمد الخطبة، والحمد الذي تستفتح به الأمور، وكما في تشهّد الحاجة، وكما في الحمد عقب الطعام والشراب واللباس والخروج من الخلاء، والحمد عند رؤية ما يسرّه وما لا يسرّه
…
".
ثم ساق رحمه الله جملةً كبيرةً مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من صيغ الحمد مما يقال في مثل هذه الأوقات، ثم قال:"فهذا جُملُ مواقع الحمد في كلام الله ورسوله وأصحابه والملائكة قد جُلِّيتْ عليك عرائسها وجُلِبَتْ إليك نفائسها، فلو كان الحديث المسؤول عنه أفضلَها وأكملَها وأجمعَها كما ظنّه الظانّ لكان واسطة عقدها في النظام، وأكثرِها استعمالاً في حمد ذي الجلال والإكرام"1. اهـ.
وبهذا التحقيق الذي ذكره رحمه الله يتبيّن ضعف هذه الصيغة في الحمد من جهة الرواية، وأنها لو كانت صحيحةً ومشتملةً على أكمل الصيغ لما عدل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما آثر غيرها عليها، قالت عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبّ الجوامع من الدعاء، ويدَعُ ما سوى ذلك"، رواه أبو داود وغيرُه.
وسبق أن مرّ معنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الدعاء الحمدلله"، وبهذا يُعلم أنَّ هذه الصيغة في الحمد لو كانت أكملَ لما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إنَّه - أيضاً - لا يمكن للعبد أن يحمد الله حمداً يوافي نعمة واحدة من نعم الله، فضلاً عن موافاته جميع نعم الله، ولا يمكن أن يكون فعلُ العبد وحمدُه له مكافئاً للمزيد، قال ابن القيّم رحمه الله: "فهذا من أمحل المحال، فإنّ العبد لو أقْدَرَه الله على عبادة الثَّقلين لم يقم بشكر أدنى نعمة عليه.... فمن الذي يقوم
1 صيغ الحمد المطبوع باسم مطالع السعد (ص:98) .
بشكر ربِّه الذي يستحقه - سبحانه - فضلاً عن أن يكافئه"1.
وقال رحمه الله: "
…
ولكن يحمل على وجه يصح، وهو أنَّ الذي يستحقه الله - سبحانه - من الحمد حمداً يكون موافياً لنعمه ومكافئاً لمزيده وإن لم يَقدِر العبدُ أن يأتي به"2.
وأحسنُ من هذا وأكملُ ما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أبي أمامة الباهلي أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه غير مكفيٍّ، ولا مودَّع، ولا مستغنى عنه ربّنا" 3، فلو كانت تلك الصيغة وهي قوله:"حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده" أكمل وأفضل من هذه لما عدل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه لا يختار إلاّ الأفضل والأكمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معنى هذا الحديث: "المخلوق إذا أنعم عليك بنعمة أمكنك أن تكافئه، ونعمُهُ لا تدوم عليك، بل لا بدّ أن يودِّعك ويقطعها عنك، ويمكنك أن تستغني عنه، والله عز وجل لا يمكن أن تكافئه على نعمه، وإذا أنعم عليك أدام نعمَه، فإنّه هو أغنى وأقنى، ولا يُستغنى عنه طرفة عين". اهـ4.
وفيه بيانٌ لعظم دلالات الأدعية المأثورة والأذكار الثابتة وعمق معانيها وسلامتها من الخطأ الذي قد يعتري ما سواها، وبهذا تكون السلامةُ وتحصيل الكامل.
فالحمد لله بمحامده التي حمد بها نفسه، وحمده بها الذين اصطفى من خلقه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى.
1 صيغ الحمد المطبوع باسم مطالع السعد (ص:41، 44) .
2 عدة الصابرين (ص:176) .
3 صحيح البخاري (رقم:5459) .
4 صيغ الحمد لابن القيم المطبوع باسم مطالع السعد (ص:49) .