الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني:
في معنى التكبير وبيان مدلوله
التكبير هو تعظيم الربّ تبارك وتعالى وإجلاله، واعتقاد أنّه لا شيء أكبرُ ولا أعظمُ منه، فيصغر دون جلاله كلُّ كبير، فهو الذي خضعت له الرقاب وذلَّت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كلَّ شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوّه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره المخلوقات.
قال الإمام الأزهري في كتابه تهذيب اللغة: "وقول المصلي: الله أكبر، وكذلك قول المؤذِّن، فيه قولان:
أحدهما: أنّ معناه الله كبير، كقول الله جلّ وعزّ:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ} 1، أي: هو هيّنٌ عليه، ومثله قول مَعنِ بن أوس: لعمرك ما أدري وإني لأوجلُ. معناه: وإني لوجلٌ.
والقول الآخر: أنّ فيه ضميراً، المعنى: الله أكبرُ كبيرٍ، وكذلك الله الأعزّ، أي: أعزُّ عزيزٍ، قال الفرزدق:
إنّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا بيتاً دعائمُه أَعَزُّ وأطولُ
معناه: أعز عزيز، وأطول طويل"2. اهـ
والصواب من هذين القولين اللذين ذكرهما رحمه الله هو الثاني، بمعنى أن يكون اللهُ عند العبد أكبرَ من كلِّ شيء، أي: لا أكبرَ ولا أعظمَ منه، أما الأول فهو غيرُ صحيحٍ وليس هو معنى الله أكبر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التكبير يُراد به أن يكون (الله) عند العبد
1 سورة: الروم، الآية:(27) .
2 تهذيب اللغة (10/214) .
أكبر من كلِّ شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم لعديِّ بن حاتم:"يا عديّ ما يُفرُّك؟ أيُفرُّك أن يُقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إله إلاّ الله؟ يا عديّ ما يفرُّك. أيُفرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ "، وهذا يُبطل قولَ من جعل أكبر بمعنى كبير" 1. اهـ.
وحديث عديٍّ هذا رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم بإسناد جيّد2.
وبه يتبيّن أن معنى الله أكبر أي: من كلِّ شيء، فلا شيء أكبرُ ولا أعظمُ منه، ولهذا يُقال إنَّ أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال هي: الله أكبر، أي: صِفْهُ بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء، قال الشاعر:
رأيتُ الله أكبر كلِّ شيء
محاولةً وأكثرهم جنوداً3
والتكبير معناه كما تقدّم التعظيم، لكن ينبغي أن يُعلم أنّ التعظيم ليس مرادفاً في المعنى للتكبير، فالكبرياء أكمل من العظمة؛ لأنّه يتضمّنها ويزيد عليها في المعنى، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"وفي قوله ((الله أكبر)) إثبات عظمته، فإنّ الكبرياء تتضمّن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل، ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول: ((الله أكبر)) فإنّ ذلك أكمل من قول الله أعظم، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "يقول الله - تعالى -: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذّبته" 4، فجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء، ومعلوم أنّ الرداء
1 الفتاوى (5/239) .
2 المسند (4/378) ، وسنن الترمذي (2935م)، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم:7206) .
3 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/223) .
4 صحيح مسلم (رقم:2620) .
أشرف، فلمّا كان التكبيرُ أبلغَ من التعظيم صرّح بلفظه، وتضمّن ذلك التعظيم"1. اهـ.
وها هنا أمرٌ ينبغي التنبّه له وعدم إغفاله، وهو أن المسلم إذا اعتقد وآمن بأنّ الله سبحانه وتعالى أكبر من كلِّ شيء، وأنّ كلَّ شيء مهما كبر يصغر عند كبرياء الله وعظمته، علمَ من خلال ذلك علم اليقين أن كبرياءَ الربِّ وعظمتَه وجلالَه وجمالَه وسائرَ أوصافه ونعوته أمرٌ لا يمكن أن تحيط به العقول أو تتصوّره الأفهام أو تدركه الأبصار والأفكار، فالله أعظم وأعظم من ذلك، بل إنّ العقولَ والأفهامَ عاجزةٌ عن أن تدركَ كثيراً من مخلوقات الرب تبارك وتعالى، فكيف بالرب - سبحانه -.
ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسيِّ خمسمائة عام، وبين الكرسيِّ والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"2.
وروي عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلاّ كدراهم سبعة أُلقيت في ترس"3.
وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلاّ
1 الفتاوى (10/253) .
2 رواه الدارمي في الرد على الجهمية (ص:26، 27) ، والطبراني في الكبير (9/228) ، وأبو الشيخ في العظمة (2/689) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/290) ، وغيرهم.
قال الهيثمي في المجمع (1/86) : "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الذهبي في العلو (ص:103 - مختصره) .
3 رواه ابن جرير في تفسيره (3/10) ، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف، وزيد تابعي، فهو مرسل.
كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض" 1.
وليتأمّل المسلم في عظم السماء بالنسبة إلى الأرض، وعظم الكرسيِّ بالنسبة إلى السماء، وعِظم العرش بالنسبة إلى الكرسيِّ، فإنّ العقولَ عاجزةٌ عن أن تدرك كمال هذه الأشياء أو أن تحيط بكُنْهِها وكيفيتها وهي مخلوقة، فكيف بالأمر إذاً في الخالق - سبحانه -، فهو أكبر وأجلُّ من أن تعرف العقولُ كُنْهَ صفاته أو تدرك الأفهامُ كبرياءَه وعظمتَه، ولهذا جاءت السنةُ بالنهي عن التفكّر في الله؛ لأنّ الأفكار والعقول لا تدرك كنه صفاته، فالله أكبر من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:" تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله عز وجل "2.
والتفكّرُ المأمور به هنا كما يبيّن ابن القيّم رحمه الله هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة3، وهذا يتضح بالمثال، فالمسلم إذا أحضر في قلبه كبر هذه المخلوقات من سموات وأرض وكرسي وعرش ونحو ذلك، ثم أحضر في قلبه عجزه عن إدراك هذه الأشياء والإحاطة بها حصل له بذلك معرفة ثالثة وهي عظمة وكبرياء خالق هذه الأشياء وعجز العقول عن أن تدرك صفاته أو تحيط بنعوته - سبحانه -، يقول - سبحانه -:{وقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 4، فالله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
1 رواه أبو نعيم في الحلية (1/166) ، وأبو الشيخ في العظمة (2/648 - 649) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/300 - 301) ، وغيرهما، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:109) بمجموع طرقه.
2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (3/525) ، وأبو الشيخ في العظمة (2/210) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وإسناده ضعيف جدًّا، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة، وعبد الله بن سلَام، وأبي ذر، وابن عباس. وقد حسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:1788) بمجموع طرقه.
3 مفتاح دار السعادة (ص:181) .
4 سورة: الإسراء، الآية:(111) .