المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تعريف الحمد، وبيان الفرق بينه وبين الشكر - دراسات في الباقيات الصالحات

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

الفصل: ‌ تعريف الحمد، وبيان الفرق بينه وبين الشكر

المطلب الخامس:‌

‌ تعريفُ الحمد، وبيان الفرق بينه وبين الشكر

الحمد في اللغة نقيض الذمِّ، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة:"الحاء والميم والدال كلمةٌ واحدة وأصلٌ واحد يدل على خلاف الذمّ، يُقال: حمدتُ فلاناً أحمده، ورجلٌ محمودٌ ومحمدٌ إذا كثرت خصالُه المحمودة غير المذمومة. ولهذا الذي ذكرناه سُمِّيَ نبيّنا محمداً صلى الله عليه وسلم"1. اهـ.

وقال الليث: أحمدت الرجل وجدته محموداً، وكذلك قال غيرُه: يُقال أتينا فلاناً فأحمدناه وأذممناه أي: وجدناه محموداً أو مذموماً2.

وقوله - تعالى -: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 3 فيه تنبيه على أنّه - صلوات الله وسلامه عليه - محمود في أخلاقه وأفعاله ليس فيه ما يُذمّ، وكذلك قوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} 4 فمحمّدٌ ههنا وإن كان اسماً له عَلَماً عليه ففيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بوافر معناه، وأما سواه فقد يُسمَّى بذلك ويكون له حظ من الوصف الذي دلّ عليه هذا الاسم وقد لا يكون، أما الرسول الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - فهو محمّدٌ اسماً ووصفاً.

فالحمد هو الثناء بالفضيلة وهو أخصُّ من المدح وأعمُّ من الشكر، فإنَّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ومما يكون منه وفيه بالتسخير، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمد يكون في الثاني دون الأول، أي: أنَّ الإنسان يُحمد على بذل

1 معجم مقاييس اللغة (2/100) .

2 انظر: تهذيب اللغة للأزهري (4/434) .

3 سورة: الصف، الآية:(6) .

4 سورة: الفتح، الآية:(29) .

ص: 90

المال والشجاعة والعلم ونحو ذلك مما يكون منه باختياره، ولا يُحمد على صباحة الوجه وطول القامة وحسن الخِلقة ونحو ذلك مما ليس له فيه اختيار.

والشكر لا يُقال إلَاّ في مقابلة نعمة، فكلُّ شكر حمد، وليس كلُّ حمدٍ شكراً، وكلُّ حمد مدح، وليس كلُّ مدح حمداً1.

قال ابن القيّم رحمه الله: "الفرق بين الحمد والمدح أن يُقال: الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخباراً مجرّداً من حبٍّ وإرادة أو مقروناً بحبّه وإرادته، فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد، فالحمد إخبارٌ عن محاسن الممدوح مع حبِّه وإجلاله وتعظيمه"2. اهـ.

وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الحمد والشكر ما حقيقتهما؟ هل هما معنى واحد أو معنيان؟ وعلى أيّ شيء يكون الحمد؟ وعلى أي شيء يكون الشكر؟

فأجاب رحمه الله بقوله: "الحمد يتضمّن المدحَ والثناءَ على المحمود بذكر محاسنه سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلاّ على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمِن هذا الوجه الحمد أعمّ من الشكر؛ لأنّه يكون على المحاسن والإحسان، فإنّ الله يُحمد على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى:{الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 3، وقال:{الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} 4، وقال: {الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي

1 انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي (2/499) .

2 بدائع الفوائد (2/93) .

3 سورة: الأنعام، الآية:(1) .

4 سورة: سبأ، الآية:(1) .

ص: 91

الخَلْقِ مَا يَشَآءُ} 1، وأما الشكر فإنّه لا يكون إلاّ على الإنعام، فهو أخصُّ من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل:

أفادتكم النَّعماءُ مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجّبا

ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} 2، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعمّ من جهة أنواعه، والحمد أعمّ من جهة أسبابه، ومن هذا الحديثُ:"الحمد لله رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره" 3، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إنَّ الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها" 4"5. اهـ كلامه رحمه الله.

وبه يتبيّن أن بين الحمد والشكر عموماً وخصوصاً من وجه، فيجتمعان فيما إذا كان باللسان في مقابلة نعمة، فهذا يُسمَّى حمداً ويُسمَّى شكراً، وينفرد الحمد فيما إذا أثنى العبد على ربّه بذكر أسمائه الحسنى ونعوته العظيمة فهذا يُسمَّى حمداً، ولا يُسمَّى شكراً، وينفرد الشكر فيما إذا استعمل العبد نعمة الله في طاعة الله فهذا يُسمى شكراً ولا يُسمَّى حمداً.

إنَّ حمدَ الله هو الثناءُ على الله بذكر صفاته العظيمة ونعمِه العميمة مع حبّه وتعظيمه وإجلاله، وهو مختصٌّ به - سبحانه - لا يكون إلاّ له، فالحمد كلّه لله رب العالمين؛ "ولذلك قال - سبحانه -:{الحَمْدُ للهِ} بلام الجنس المفيدة

1 سورة: فاطر، الآية:(1) .

2 سورة: سبأ، الآية:(13) .

3 رواه عبد الرزاق في المصنف (10/424)، والبيهقي في الآداب (ص:459) من طريق قتادة: أنَّ عبد الله ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.

قال البيهقي: "هكذا جاء مرسلاً بين قتادة ومن فوقه".

4 صحيح مسلم (رقم:2734) .

5 الفتاوى (11/133، 134) .

ص: 92

للاستغراق، فالحمد كلُّه له إمّا ملكاً وإما استحقاقاً، فحمده لنفسه استحقاق، وحمد العباد له وحمدُ بعضهم لبعض ملكٌ له

فالقائل إذا قال: الحمد لله تضمّن كلامه الخبر عن كلِّ ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيطٍ متضمّنٍ لكلّ فرد من أفراد الحمد المحققة والمقدَّرة، وذلك يستلزم إثبات كلِّ كمال يُحمد عليه الربُّ تعالى؛ ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد"1.

وإذا قيل: الحمد كلّه لله، فإنَّ هذا له معنيان:

أحدهما: أنّه محمودٌ على كلِّ شيء، وهو ما يُحمد به رسله وأنبياؤه وأتباعهم، فذلك من حمده تبارك وتعالى، بل هو المحمود بالقصد الأول وبالذات، وما نالوه من الحمد فإنّما نالوه بحمده، فهو المحمود أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

والمعنى الثاني: أن يُقال: لك الحمد كلّه؛ أي: التامّ الكامل هذا مختصٌّ بالله ليس لغيره فيه شركه.

قال ابن القيّم رحمه الله بعد أن ذكر هذين المعنيين: "والتحقيق أنَّ له الحمد بالمعنيين جميعاً، فله عمومُ الحمد وكمالُه، وهذا من خصائصه - سبحانه -، فهو المحمود على كلِّ حال، وعلى كلِّ شيء أكمل حمد وأعظمه"2.

فالحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله بمجامع حمده كلِّها ما علمنا منها وما لم نعلم.

1 بدائع الفوائد لابن القيم (2/92، 93) .

2 طريق الهجرتين (ص:206) .

ص: 93