الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الثَّانِي
فِي النَّقْل عَمَّن وَافق الْأَئِمَّة الْحَنَفِيَّة فِي عدم السماع من عُلَمَاء الْمذَاهب الثَّلَاثَة وَغَيرهم
قَالَ الإِمَام النَّوَوِيّ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي شَرحه ل صَحِيح مُسلم فِي بَاب عرض مقْعد الْمَيِّت من الْجنَّة فِي الْكَلَام على قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلَى بدر مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم مَا عِبَارَته
قَالَ الْمَازرِيّ قَالَ بعض النَّاس الْمَيِّت يسمع
عملا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث ثمَّ أنكرهُ الْمَازرِيّ وَادّعى أَن هَذَا خَاص فِي هَؤُلَاءِ انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ بِلَفْظِهِ
وَأَنت تعلم أَن الْمَازرِيّ من أجل الْعلمَاء الْمَالِكِيَّة الْمُتَقَدِّمين وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْفَصْل الثَّالِث نقل الزّرْقَانِيّ الْمَالِكِي عَن الْبَاجِيّ وَالْقَاضِي عِيَاض الْإِمَامَيْنِ المالكيين القَوْل أَيْضا بِعَدَمِ السماع فَلْيحْفَظ وَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد السفاريني الْحَنْبَلِيّ فِي كِتَابه البحور الزاخرة فِي أَحْوَال الْآخِرَة مَا عِبَارَته
وَأنْكرت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا سَماع الْمَوْتَى وَقَالَت مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
إِنَّهُم ليسمعون الْآن مَا أَقُول إِنَّمَا قَالَ ليعلمون الْآن مَا كنت أَقُول لَهُم أَنه حق ثمَّ قَرَأت قَوْله تَعَالَى {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى}
{وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} قَالَ الْحَافِظ ابْن رَجَب وَقد وَافق عَائِشَة على نفي سَماع الْمَوْتَى كَلَام الْأَحْيَاء طَائِفَة من الْعلمَاء وَرجحه القَاضِي أَبُو يعلى من أكَابِر أَصْحَابنَا فِي كِتَابه الْجَامِع الْكَبِير وَاحْتَجُّوا بِمَا احتجت بِهِ وَأَجَابُوا عَن حَدِيث قليب بدر بِمَا أجابت بِهِ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَبِأَنَّهُ يجوز أَن يكون ذَلِك معْجزَة مُخْتَصَّة بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دون غَيره وَهُوَ سَماع الْمَوْتَى لكَلَامه وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ قَالَ قَتَادَة أحياهم الله تَعَالَى يَعْنِي أهل القليب حَتَّى أسمعهم قَوْله صلى الله عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما وَذهب طوائف من أهل الْعلم إِلَى
سَماع الْمَوْتَى كَلَام الْأَحْيَاء فِي الْجُمْلَة انْتهى مَا هُوَ الْمَقْصُود مِنْهُ
فَتبين مِنْهُ أَن طَائِفَة من الْعلمَاء وافقوا عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَيْضا على عدم السماع وَأَن مِنْهُم القَاضِي أَبُو يعلى الَّذِي هُوَ من أكَابِر الْعلمَاء الحنبلية كَمَا هُوَ مَذْهَب ائمتنا الْحَنَفِيَّة رَحِمهم الله تَعَالَى
وَفِي روح الْمعَانِي
وَاحْتج من أجَاز السماع فِي الْجُمْلَة بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَغَيرهمَا عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وقف على مُصعب بن عُمَيْر وعَلى أَصْحَابه حِين رَجَعَ من أحد فَقَالَ أشهد أَنكُمْ أَحيَاء عِنْد الله تَعَالَى فزوروهم وسلموا عَلَيْهِم فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يسلم أحد عَلَيْهِم إِلَّا ردوا عَلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
وَأجَاب المانعون أَن تَصْحِيح الْحَاكِم غير مُعْتَبر
وَأَنا إِن سلمنَا صِحَّته نلتزم القَوْل بِأَن الْمَوْتَى الَّذين لَا يسمعُونَ هم من عدا الشُّهَدَاء لِأَن الشُّهَدَاء يسمعُونَ فِي الْجُمْلَة لامتيازهم على سَائِر الْمَوْتَى بِمَا أخبر عَنْهُم من أَنهم احياء عِنْد الله عز وجل
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث مَا من أحد يمر بِقَبْر أَخِيه الْمُؤمن كَانَ يعرفهُ فِي الدُّنْيَا فَسلم عَلَيْهِ إِلَّا عرفه ورد عَلَيْهِ
وَأجَاب المانعون إِن الْحَافِظ ابْن رَجَب تعقبه وَقَالَ إِنَّه ضَعِيف بل مُنكر انْتهى باقتصار من تَفْسِير سُورَة الرّوم
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي بَاب دُعَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم على كفار قُرَيْش وهلاكهم يَوْم بدر من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه قَالَ ذكر عِنْد عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن ابْن عمر رفع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الْمَيِّت ليعذب فِي قَبره ببكاء أَهله فَقَالَت وَهل إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّه ليعذب بخطيئته وذنبه وَإِن أَهله ليبكون عَلَيْهِ الْآن قَالَت وَذَلِكَ مثل قَوْله إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَامَ على القليب وَفِيه قَتْلَى بدر من الْمُشْركين فَقَالَ لَهُم مَا قَالَ إِنَّهُم ليسمعون مَا أَقُول إِنَّمَا قَالَ إِنَّهُم الْآن ليعلمون أَن مَا كنت أَقُول أَقُول لَهُم حق ثمَّ قَرَأت إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور يَقُول حِين تبوأوا مَقَاعِدهمْ من النَّار انْتهى مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ فَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي شَرحه
وَقَالَ السُّهيْلي مَا محصله إِن فِي نفس الْخَبَر مَا يدل على خرق الْعَادة بذلك للنَّبِي صلى الله عليه وسلم لقَوْل الصَّحَابَة لَهُ أتخاطب أَقْوَامًا قد جيفوا فأجابهم قَالَ وَإِذا جَازَ أَن يَكُونُوا فِي تِلْكَ الْحَالة عَالمين جَازَ أَن يَكُونُوا سَامِعين وَذَلِكَ إِمَّا بآذان رؤوسهم على قَول الْأَكْثَر أَو بآذان قُلُوبهم قَالَ وَقد تمسك بِهَذَا الحَدِيث من يَقُول إِن السُّؤَال يتَوَجَّه على الرّوح وَالْبدن ورده من قَالَ إِنَّمَا يتَوَجَّه على الرّوح فَقَط بِأَن الإسماع يحْتَمل أَن يكون لأذن الرَّأْس ولأذن الْقلب فَلم يبْق فِيهِ حجَّة
قلت إِذا كَانَ الَّذِي وَقع حِينَئِذٍ من خوارق الْعَادة للنَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يحسن التَّمَسُّك بِهِ فِي مَسْأَلَة السُّؤَال أصلا
وَقد اخْتلف أهل التَّأْوِيل فِي المُرَاد بالموتى فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} وَكَذَلِكَ المُرَاد ب {من فِي الْقُبُور} فَحَملته عَائِشَة على الْحَقِيقَة وَجَعَلته أصلا احْتَاجَت مَعَه إِلَى
تَأْوِيل قَوْله عليه الصلاة والسلام مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم وَهَذَا قَول الْأَكْثَر وَقيل هُوَ مجَاز وَالْمرَاد ب الْمَوْتَى وب من فِي الْقُبُور الْكفَّار شبهوا بالموتى وهم أَحيَاء وَالْمعْنَى من هم فِي حَال الْمَوْتَى أَو فِي حَال من سكن الْقَبْر وعَلى هَذَا لَا يبْقى فِي الْآيَة دَلِيل على مانفته عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَالله تَعَالَى أعلم انْتهى مَا قَالَه الْحَافِظ ابْن حجر بِلَفْظِهِ وَقَالَ أَيْضا فِي شرح البُخَارِيّ فِي بَاب مَا جَاءَ فِي عَذَاب الْقَبْر من كَلَام طَوِيل مَا نَصه
وَقَالَ ابْن التِّين لَا مُعَارضَة بَين حَدِيث ابْن عمر وَالْآيَة لِأَن الْمَوْتَى لَا يسمعُونَ بِلَا شكّ لَكِن إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى إسماع مَا لَيْسَ من شانه السماع لم يمْتَنع كَقَوْلِه تَعَالَى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها} الْآيَة وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي قَول قَتَادَة إِن الله تَعَالَى أحياهم حَتَّى سمعُوا كَلَام نبيه عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام توبيخا ونقمة انْتهى وَقد أَخذ ابْن جرير وَجَمَاعَة من الكرامية من هَذِه الْقِصَّة أَن السُّؤَال فِي الْقَبْر يَقع على الْبدن فَقَط وَأَن الله تَعَالَى يخلق فِيهِ إدراكا بِحَيْثُ يسمع وَيعلم ويلذ ويألم وَذهب ابْن حزم وَابْن هُبَيْرَة إِلَى أَن السُّؤَال يَقع على الرّوح فَقَط من غير عود إِلَى الْجَسَد وَخَالفهُم الْجُمْهُور فَقَالَ تُعَاد الرّوح إِلَى الْجَسَد أَو بعضه كَمَا ثَبت فِي الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ ابْن حجر
إِن المُصَنّف يَعْنِي البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى طَرِيق من طرق الْجمع بَين حَدِيثي ابْن عمر وَعَائِشَة بِحمْل حَدِيث ابْن عمر على أَن مُخَاطبَة أهل القليب وَقعت وَقت المسالة وَحِينَئِذٍ كَانَت الرّوح قد أُعِيدَت إِلَى الْجَسَد وَقد تبين من الْأَحَادِيث الْأُخْرَى أَن الْكَافِر المسؤول يعذب وَأما إِنْكَار عَائِشَة فَمَحْمُول على غير وَقت الْمَسْأَلَة فيتفق الخبران انْتهى بِلَفْظِهِ
وَقَالَ الشَّيْخ عبد الرؤوف الْمَنَاوِيّ الشَّافِعِي فِي شَرحه الْكَبِير للجامع الصَّغِير فِي الْكَلَام على قَوْله عليه الصلاة والسلام إِن الْمَيِّت إِذا دفن يسمع خَفق نعَالهمْ إِذا ولوا منصرفين مَا نَصه
وعورض بقوله تَعَالَى وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور وَأجِيب بِأَن السماع فِي حديثنا مَخْصُوص بِأول الْوَضع فِي الْقَبْر مُقَدّمَة للسؤال انْتهى بِلَفْظِهِ
وَفِي كتاب المفاتيح فِي حل المصابيح لشرف الدّين الْحُسَيْن بن مُحَمَّد قَوْله عليه الصلاة والسلام إِنَّه ليسمع
قرع نعَالهمْ أَي لَو كَانَ حَيا فَإِن جسده قبل أَن يَأْتِيهِ الْملك ويقعده حَيْثُ لَا يحسن بِشَيْء وَقَوله فَيُقْعِدَانِهِ الأَصْل فِيهِ أَن يحمل على الْحَقِيقَة على حسب مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر وَيحْتَمل أَن يُرَاد بالإقعاد التَّنْبِيه لما يسْأَل عَنهُ والإيقاف عَمَّا هُوَ عليه الصلاة والسلام بِإِعَادَة الرّوح إِلَيْهِ انْتهى
وَمِمَّا يُؤَيّد مَذْهَب الْحَنَفِيَّة والموافقين لَهُم بِعَدَمِ السماع أَن الْمَيِّت لَو كَانَ يسمع مُطلقًا لما ورد أَن الرّوح ترجع إِلَيْهِ وَقت الْمَسْأَلَة فِي الْقَبْر ثمَّ تذْهب فَافْهَم
وَالْعجب من بعض من لافهم لَهُ مِمَّن ينتسب إِلَى مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة يشيع عِنْد الْعَوام أَن السماع مجمع عليه الصلاة والسلام وَأَنه أَيْضا مَذْهَب ذَلِك الإِمَام الْأَعْظَم وَأَصْحَابه مِمَّن تاخر وَتقدم بزعم أَنه عليه الصلاة والسلام الرَّحْمَة قَالَ إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي وَأَن الحَدِيث فِي سماعهم قد صَحَّ وَلم يعلم أَن الْحَنَفِيَّة قد تمسكوا كعائشة وَغَيرهَا بالآيتين وَأولُوا مَا ورد بعد معرفتهم الْحَدِيثين وَلَعَلَّ هَذَا المتوهم يزْعم أَيْضا أَن النِّكَاح بِلَا ولي
بَاطِل فِي مَذْهَب أبي حنيفَة لوُرُود الحَدِيث الصَّحِيح فِيهِ وَأَن الصَّلَاة بِلَا فَاتِحَة الْكتاب خداج لِأَن الحَدِيث الصَّحِيح ورد أَن لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب وَأَن الْوضُوء بِلَا نِيَّة غير صَحِيح لوُرُود حَدِيث إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَنَحْو ذَلِك مِمَّا ذهب الإِمَام إِلَى خِلَافه مَعَ وجود هَذِه الْأَحَادِيث الْمُغَايرَة لمذهبه الْوَارِدَة عَلَيْهِ وَلم يعلم هَذَا المنتسب أَن الإِمَام وَأَتْبَاعه رَأَوْا الْأَحَادِيث المصححة الْمُعَارضَة لمذهبه فِي كثير من الْمسَائِل فأولوها أَو حفظوها مَا يعارضها من الْآيَات وَالْأَحَادِيث أَو علمُوا نسخهَا أَو تخصيصها فَلم يعملوا بهَا لهَذِهِ الْعَوَارِض أَو نَحْوهَا مِمَّا هُوَ مفصل فِي مَحَله من الْكتب الْأُصُولِيَّة والحديثية الْفِقْهِيَّة ككتاب مُخْتَلف الْآثَار الطَّحَاوِيّ
الطَّحَاوِيّ وَالْإِمَام مُحَمَّد بن الْحسن وَشرح الْهِدَايَة وَكتاب الْعُقُود وَغير ذَلِك
وَكَيف يسوغ لمن شم رَائِحَة الْعلم وَأدْركَ شَيْئا من لوامع الْفَهم بعد اطِّلَاعه على عِبَارَات الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم الَّتِي سردناها وأجوبتهم عَن الْآثَار الَّتِي رويناها أَن يَقُول ويشيع
إِن مَذْهَب الْحَنَفِيَّة كغيرهم سَماع الْمَوْتَى لقَوْل إمامنا الْأَعْظَم إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي وَيجْرِي ذَلِك على عُمُومه وَهل هَذَا إِلَّا مُكَابَرَة على الثَّابِت بالعيان وإخفاء لضوء الشَّمْس الَّذِي تجحده العينان أَو خِيَانَة فِي حمل عُلُوم الدّين لمآرب خبيثة يستخف بهَا ضعفاء الْمُسلمين (لقد أسمعت لَو ناديت حَيا
…
وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادي)
وَالله تَعَالَى والمستعان وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل