المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في زيارة القبور - الآيات البينات في عدم سماع الأموات

[ابن الألوسي]

الفصل: ‌فصل في زيارة القبور

وَتبين أَيْضا مِنْهُ مُوَافقَة ابْن جرير الطَّبَرِيّ الْمُجْتَهد وَغَيره للحنفية فِي عدم السماع لِأَنَّهُ لما نفى الْحَيَاة فَمن الأولى أَن يَنْفِي السماع أَيْضا كَمَا لَا يخفى على كل ذِي فهم غير متصعب فَلَا تغفل

‌زِيَارَة الْقُبُور

وَأما مَشْرُوعِيَّة زِيَارَة الْمَقَابِر فاسمع مَا قالته الْأَئِمَّة الْحَنَفِيَّة فِي كتبهمْ المرضية قَالَ الشُّرُنْبُلَالِيّ فِي مراقي الْفَلاح

‌فصل فِي زِيَارَة الْقُبُور

ندب زيارتها من غير أَن يطَأ الْقُبُور للرِّجَال وَالنِّسَاء وَقيل تحرم على النِّسَاء وَالأَصَح أَن الرُّخْصَة ثَابِتَة للرِّجَال وَالنِّسَاء فتندب لَهُنَّ أَيْضا على الْأَصَح

وَالسّنة زيارتها قَائِما وَالدُّعَاء عِنْدهَا قَائِما كَمَا كَانَ يفعل

ص: 63

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْخُرُوج إِلَى البقيع وَيَقُول السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون أسأَل الله لي وَلكم الْعَافِيَة

وَيسْتَحب للزائر قِرَاءَة سُورَة يس لما ورد انْتهى وَقَالَ محشيه الطَّحْطَاوِيّ

قَوْله للرِّجَال ويقصدون بزيارتها وَجه الله

ص: 64

تَعَالَى وَإِصْلَاح الْقلب ونفع الْمَيِّت بِمَا يُتْلَى عِنْده من الْقُرْآن وَلَا يمس الْقَبْر وَلَا يقبله فَإِنَّهُ من عَادَة أهل الْكتاب وَلم يعْهَد الاستلام الا للحجر الْأسود والركن الْيَمَانِيّ خَاصَّة وَتَمَامه فِي الْحلَبِي وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء إِن ذَلِك من عَادَة النَّصَارَى قَوْله وَقيل تحرم على النِّسَاء وَسُئِلَ القَاضِي عَن جَوَاز خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَقَابِر فَقَالَ لَا تسْأَل عَن الْجَوَاز وَالْفساد فِي مثل هَذَا وَإِنَّمَا تسْأَل عَن مِقْدَار مَا يلْحقهَا من اللَّعْن فِيهِ وَقَالَ بعد أسطر

ص: 65

إِن مَسْأَلَة الْقِرَاءَة على الْقَبْر ذَات خلاف قَالَ الإِمَام تكره لِأَن أَهلهَا جيفة وَلم يَصح فِيهَا شَيْء عِنْده عَنهُ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ مُحَمَّد تسْتَحب انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ بِلَفْظِهِ

قلت وتعبير الإِمَام عَن الْمَيِّت ب الجيفة مَأْخُوذ مِمَّا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا عَنهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْبَغِي لجيفة مُسلم أَن تبقى بَين ظهراني أَهله فَافْهَم وَقَالَ أَيْضا

فللإنسان أَن يَجْعَل ثَوَاب عمله لغيره عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة صَلَاة كَانَ أَو صوما أَو حجا أَو صَدَقَة أَو

ص: 66

قِرَاءَة لِلْقُرْآنِ أَو الْأَذْكَار أَو غير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر ويصل ذَلِك إِلَى الْمَيِّت وينفعه قَالَ الزيعلي فِي بَاب الْحَج عَن الْغَيْر انْتهى

وَمثله من أبحاث الزِّيَارَة فِي رد الْمُحْتَار وَغَيره من كتب الْمَذْهَب وَكَذَا مسَائِل الْقِرَاءَة وَنَحْوهَا المسطورة فِي كتب سَائِر الْمذَاهب تركناها خشيَة التَّطْوِيل إِذْ كَانَ الْمَقْصُود من تَحْرِير هَذِه الرسَالَة بَيَان قَول الْأَئِمَّة الْحَنَفِيَّة أَن الْمَيِّت لَا يسمع عِنْدهم وَعند جملَة من عُلَمَاء الْمذَاهب الْأُخَر فأثبتنا وَللَّه الْحَمد صِحَة نقلنا عَنْهُم وَمَا تلقيناه مِنْهُم

فَإِن قيل إِذا كَانَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَكثير من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين على عدم السماع فَمَا فَائِدَة السَّلَام على الْأَمْوَات وَكَيف صِحَة مخاطبتهم عِنْد السَّلَام

قلت لم أجد فِيمَا بَين يَدي الْآن من كتبهمْ جوابهم عَن ذَلِك وَلَا بُد أَن تكون لَهُم أجوبة عديدة فِيمَا هُنَالك وَالَّذِي يخْطر فِي الذِّهْن ويتبادر إِلَى الخاطر والفهم أَنهم لَعَلَّهُم اجابوا بِأَن ذَلِك أَمر تعبدي وبأنا نسلم سرا فِي آخر صَلَاتنَا إِذا كُنَّا

ص: 67

مقتدين وننوي بسلامنا الْحفظَة وَالْإِمَام وَسَائِر المقتدين مَعَ أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يسمعونه لعدم الْجَهْر بِهِ فَكَذَا مَا نَحن فِيهِ على أَن السَّلَام هُوَ الرَّحْمَة للموتى وننزلهم منزلَة المخاطبين السامعين وَذَلِكَ شَائِع فِي الْعَرَبيَّة كَمَا لَا يخفى على العارفين فَهَذِهِ الْعَرَب تسلم على الديار وتخاطبها على بعد المزار

ص: 68

وَبعد أَن حررت هَذِه الْكَلِمَات رَأَيْت فِي شرح

ص: 69

الزّرْقَانِيّ على موطأ الإِمَام مَالك فِي فصل جَامع للْوُضُوء فِي الْكَلَام على حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خرج إِلَى الْمقْبرَة فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون مَا لَفظه

قَالَ الْبَاجِيّ وعياض يحْتَمل أَنهم أحيوا لَهُ حَتَّى سمعُوا كَلَامه كَأَهل القليب وَيحْتَمل أَن يسلم عَلَيْهِم مَعَ كَونهم أَمْوَاتًا لامتثال أمته ذَلِك بعده قَالَ الْبَاجِيّ وَهُوَ الْأَظْهر

ص: 70

وَرَأَيْت أَيْضا فِي حَاشِيَة الطَّحْطَاوِيّ على مراقي الْفَلاح فِي بَاب الصَّلَاة على الْجَنَائِز مَا عِبَارَته

قَوْله وَيَنْوِي بالتسليمتين الْمَيِّت مَعَ الْقَوْم وَجزم فِي الظَّهِيرِيَّة بِأَنَّهُ لَا يَنْوِي الْمَيِّت وَمثله لقَاضِي خَان وَفِي الْجَوْهَرَة قَالَ فِي الْبَحْر وَهُوَ الظَّاهِر لِأَن الْمَيِّت لَا يُخَاطب بِالسَّلَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للخطاب قَالَ بعض الْفُضَلَاء وَفِيه نظر لِأَنَّهُ ورد أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يسلم على أهل الْقُبُور انْتهى على أَن الْمَقْصُود مِنْهُ الدُّعَاء

ص: 71

لَا الْخطاب انْتهى بِلَفْظِهِ وَكَذَلِكَ فِي حَاشِيَة ابْن عابدين على الدّرّ الْمُخْتَار وَقَالَ فِي الْبَحْر مَا نَصه

وَفِي الظَّهِيرِيَّة وَلَا يَنْوِي الإِمَام الْمَيِّت فِي تسليمتي الْجِنَازَة بل يَنْوِي من على يَمِينه فِي التسليمة الأولى وَمن على يسَاره فِي التسليمة الثَّانِيَة انْتهى وَهُوَ الظَّاهِر لِأَن الْمَيِّت لَا يُخَاطب بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ حَتَّى ينوى بِهِ إِذْ لَيْسَ اهلا لَهُ انْتهى مَا فِي الْبَحْر بِحُرُوفِهِ

فَتبين لَك من كَلَام الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين أَن الْمَيِّت لَا يَنْوِي بِالسَّلَامِ وَلَا يُخَاطب وَأَن الْقَصْد بسلامه الدُّعَاء وَهَذَا كُله مُطَابق لما قدمْنَاهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

إِذا علمت مَا مضى من النقول الصَّحِيحَة وأقوال أهل الْمَذْهَب الْحَنَفِيّ وَغَيرهم الرجيحة تبين لَك مَا فِي الرسَالَة الْمُسَمَّاة ب المحنة الوهبية من الْخبط والخلط وَالْكذب وَسُوء الْفَهم والتلبيس وإطالة اللِّسَان على الْقَائِلين بِعَدَمِ السماع بِمَا لفظ بعضه فَيلْزم من قَوْله هَذَا أَن الَّذِي

ص: 72

يُنكر سَماع الْكفَّار يكفر لِأَن جَاحد الْمَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ يكفر انْتهى

فنعوذ بِاللَّه من الخذلان وتكفير الْمُسلمين والجدال الْبَاطِل فِي الدّين فَافْهَم مَا قُلْنَاهُ وَكن من الشَّاكِرِينَ الخاتمة

ونسأل الله تَعَالَى حسنها إِذا بلغت الرّوح الْمُنْتَهى فِي بَيَان الْخلاف فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح بعد مفارقتها الْبدن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة والبعث ونتبعها بمسائل

قَالَ الحافط ابْن الْقيم فِي كتاب الرّوح

هَذِه مَسْأَلَة عَظِيمَة تكلم فِيهَا النَّاس وَاخْتلفُوا فِيهَا وَهِي انما تتلقى من السّمع فَقَط وَاخْتلف فِي ذَلِك

فَقَالَ قَائِلُونَ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عِنْد الله تَعَالَى فِي الْجنَّة شُهَدَاء كَانُوا أم غير شُهَدَاء اذا لم يحبسهم عَن الْجنَّة كَبِيرَة وَلَا دين

ص: 73

ويلقاهم رَبهم بِالْعَفو عَنْهُم وَهَذَا مَذْهَب أبي هُرَيْرَة وَعبد الله ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الله عَنْهُمَا

وَقَالَت طَائِفَة هم بِفنَاء الْجنَّة على بَابهَا يَأْتِيهم من روحها وَنَعِيمهَا وَرِزْقهَا

وَقَالَت طَائِفَة الْأَرْوَاح على أفنية الْقُبُور

وَقَالَ الْأَمَام مَالك بَلغنِي أَن الرّوح مُرْسلَة تذْهب حَيْثُ شَاءَت

وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة ابْنه عبد الله أَرْوَاح الْكفَّار فِي النَّار وأرواح الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة

ص: 74

وَقَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه قَالَ طَائِفَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِن التَّابِعين إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية وأرواح الْكفَّار ب (برهوت) بِئْر ب (حَضرمَوْت)

وَقَالَ صَفْوَان بن عَمْرو سَأَلت عَامر بن عبد الله أَبَا الْيَمَان هَل لأنفس الْمُؤمنِينَ مُجْتَمع فَقَالَ إِن الأَرْض الَّتِي يَقُول الله تَعَالَى {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد الذّكر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} هِيَ الأَرْض الَّتِي يجْتَمع إِلَيْهَا أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ حَتَّى يكون الْبَعْث وَقَالَ هِيَ الأَرْض الَّتِي يُورثهَا الله الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا

ص: 75

وَقَالَ كَعْب أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فِي عليين فِي السَّمَاء السَّابِعَة وأرواح الْكفَّار فِي سِجِّين فِي الأَرْض السَّابِعَة تَحت خد إِبْلِيس

وَقَالَت طَائِفَة أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ ببئر زَمْزَم وأرواح الْكفَّار ببئر برهوت

ص: 76

وَقَالَ سلمَان الْفَارِسِي أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ فِي برزخ من الأَرْض تذْهب حَيْثُ شَاءَت وأرواح الْكفَّار فِي سِجِّين وَفِي لفظ عَنهُ نسمَة الْمُؤمن أَي روحه تذْهب فِي الأَرْض حَيْثُ شَاءَت

وَقَالَت طَائِفَة أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ عَن يَمِين آدم وأرواح الْكفَّار عَن شِمَاله

ص: 77

وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم ابْن حزم مستقرها حَيْثُ كَانَت قبل خلق أجسادها

وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر أوراح الشُّهَدَاء فِي الْجنَّة وأرواح عَامَّة الْمُؤمنِينَ على أفنية الْقُبُور وروى عبد الله ابْن أبي يزِيد أَنه سمع ابْن عَبَّاس يَقُول أَرْوَاح الشُّهَدَاء تجول فِي أَجْوَاف طير خضر تعلق فِي ثَمَر الْجنَّة وَعَن عبد الله

ص: 78

ابْن عَمْرو أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير كالزرازير يَتَعَارَفُونَ وَيُرْزَقُونَ من ثَمَر الْجنَّة وَفِي مُسلم فِي أَجْوَاف طير خضر وَقَالَ قَتَادَة بلغنَا أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي صور طير بيض تَأْكُل من ثمار الْجنَّة وَقَالَ ابْن الْمُبَارك عَن ابْن جريج فِيمَا قرئَ عَلَيْهِ عَن مُجَاهِد لَيْسَ هِيَ فِي الْجنَّة وَلَكِن يَأْكُلُون من ثمارها ويجدون رِيحهَا وَذكر مُعَاوِيَة بن صَالح عَن بن سعيد بن سُوَيْد أَنه سَأَلَ ابْن شهَاب عَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ

ص: 79

فَقَالَ بَلغنِي أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء كطير خضر معلقَة بالعرش تَغْدُو وَتَروح إِلَى رياض الْجنَّة تَأتي رَبهَا كل يَوْم تسلم عَلَيْهِ وَعَن الْمُجَاهِد الارواح على أفنية الْقُبُور سَبْعَة أَيَّام من يَوْم دفن الْمَيِّت لَا تفارق ذَلِك قَالَ ابْن الْقيم

وَلَا تنَافِي بَين هَذِه الْأَقْوَال الشَّرْعِيَّة وَالْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة لِأَن الْأَرْوَاح متفاوته فِي مستقرها فِي البرزخ أعظم تفَاوت فَمِنْهَا فِي أَعلَى عليين وَهِي أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وهم متفاوتون فِي مَنَازِلهمْ وَمِنْهَا فِي حواصل طير وَمِنْهَا من يكون مَحْبُوسًا على بَاب الْجنَّة وَمِنْهَا من يكون مقره بِبَاب الْجنَّة وَمِنْهَا من يكون مَحْبُوسًا فِي الأَرْض لم تعل روحه إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى فَإِنَّهَا كَانَت روحا سفلية وَمِنْهَا أَرْوَاح تكون فِي تنور الزناة وأرواح تكون فِي نهر الدَّم تسبح وَلَيْسَ للأرواح شقيها وسعيدها مُسْتَقر وَاحِد بل روح فِي أَعلَى

ص: 80

عليين وروح أرضية سفلية لاتصعد عَن الأَرْض وَأَنت إِذا تَأَمَّلت السّنَن والْآثَار فِي هَذَا الْبَاب وَكَانَ لَك فضل اعتناء عرفت حجَّة ذَلِك وَلَا تظن أَن بَين الْآثَار الصَّحِيحَة فِي هَذَا الْبَاب تَعَارضا إِلَى آخر مَا قَالَ

وَالْمَفْهُوم مِنْهُ أَن مستقرها يتَفَاوَت بتفاوت حَال صَاحبهَا وإيمانا وَكفرا وصلاحا وفسقا وَأَنت تعلم اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيمَا قَالَ وَمَا رَوَاهُ الإِمَام مَالك فِي الْمُوَطَّأ إِنَّمَا نسمَة الْمُؤمن طير يعلق فِي شجر الْجنَّة حَتَّى يرجعه

ص: 81

الله تَعَالَى إِلَى جسده يَوْم يَبْعَثهُ وَالله تَعَالَى أعلم

وَقَالَت فرقة مستقرها الْعَدَم الْمَحْض وَهَذَا قَول من يَقُول إِن النَّفس عرض من أَعْرَاض الْبدن كحياته وإدراكه فتعدم بِمَوْت الْبدن كَمَا تعدم سَائِر الْأَعْرَاض الْمَشْرُوطَة بحياته وَهَذَا قَول مُخَالف لنصوص الْقُرْآن وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْمَقْصُود أَن عِنْد هَذَا الْفرْقَة المبطلة مُسْتَقر الْأَرْوَاح بعد الْمَوْت الْعَدَم الْمَحْض

وَقَالَت فرقة مستقرها بعد الْمَوْت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها الَّتِي اكتسبها فِي حَال حَيَاتهَا فَتَصِير كل روح إِلَى بدن حَيَوَان يشاكل تِلْكَ الْأَرْوَاح فَتَصِير النَّفس السبعية إِلَى أبدان السبَاع والكلبية إِلَى أبدان الْكلاب

ص: 82

والبهيمية إِلَى ابدان الْبَهَائِم والدنية السفلية إِلَى أبدان الحشرات وَهَذَا قَول التناسخية منكري الْمعَاد وَهُوَ قَول خَارج عَن أَقْوَال أهل الاسلام كلهم

قلت وَإِن مَا تَقوله الْيَهُود الْآن قريب من هَذَا فَإِن عِنْدهم أَن الْمَيِّت تنْتَقل روحه الى غَيره إِلَى ثَلَاث مَرَّات أَي تنْتَقل من شخص الى آخر ثمَّ إِذا مَاتَ تنْتَقل الى آخر ثمَّ الى ثَالِث ثمَّ إِلَى مَا شَاءَ الله تَعَالَى من الْأَمَاكِن على مَا ذكر لي أحد عُلَمَائهمْ

مسَائِل

الأولى هَل أَرْوَاح الْمَوْتَى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لَا

وجوابها على مَا فِي كتاب الرّوح

ص: 83

إِن الْأَرْوَاح قِسْمَانِ الْأَرْوَاح قِسْمَانِ أَرْوَاح معذبة وأرواح منعمة فالمعذبة فِي شغل بِمَا هِيَ فِيهِ من الْعَذَاب عَن التزاور والتلاقي والأوراح المنعمة الْمُرْسلَة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر مَا كَانَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا وَمَا يكون من أهل الدُّنْيَا فَتكون كل روح مَعَ رفيقها الَّذِي هُوَ على مثل عَملهَا

الثَّانِيَة هَل تتلاقى أَرْوَاح الْأَحْيَاء وأرواح الْأَمْوَات وجوابها نعم قَالَ الله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} روى أَبُو عبد الله بن مَنْدَه بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة قَالَ بَلغنِي أَن أَرْوَاح الْأَحْيَاء والأموات تلتقي فِي الْمَنَام فيتساءلون بَينهم فَيمسك الله تَعَالَى أَرْوَاح الْمَوْتَى وَيُرْسل أَرْوَاح الْأَحْيَاء إِلَى أجسادها

وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن الممسك والمرسل فِي الْآيَة كِلَاهُمَا توفّي وَفَاة النّوم فَمن استكملت أجلهَا أمْسكهَا عِنْده فَلَا يردهَا إِلَى جَسدهَا وَمن لم تستكمل أجلهَا ردهَا إِلَى جَسدهَا لتستكمله

ص: 84

الثَّالِثَة هَل الرّوح تَمُوت أم الْمَوْت للبدن وَحده

وجوابها أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَقَالَت طَائِفَة تَمُوت وتذوق الْمَوْت لِأَنَّهَا نفس وَالنَّفس ذائقة الْمَوْت قَالُوا وَقد دلّت الْأَدِلَّة على أَنه لَا يبْقى إِلَّا الله وَحده قَالَ الله تَعَالَى {كل من عَلَيْهَا فان} وَقَالَ الله تَعَالَى {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} قَالُوا وَإِذا كَانَت الْمَلَائِكَة تَمُوت فالنفوس البشرية أولى بِالْمَوْتِ

ص: 85

وَقَالَ آخَرُونَ لَا تَمُوت الْأَرْوَاح فَإِنَّهَا خلقت للبقاء وَإِنَّمَا تَمُوت الْأَبدَان قَالُوا وَقد دلّ على هَذَا الْأَحَادِيث الدَّالَّة على نعيم الْأَرْوَاح وعذابها بعد الْمُفَارقَة إِلَى أَن يرجعها الله تَعَالَى فِي أجسادها وَلَو مَاتَت الْأَرْوَاح لَا نقطع عَنْهَا النَّعيم وَالْعَذَاب وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} هَذَا مَعَ الْقطع بِأَن أَرْوَاحهم قد فَارَقت أَجْسَادهم وَقد ذاقت الْمَوْت وَقد نظم أَحْمد بن الْحُسَيْن الْكِنْدِيّ ذَلِك فِي قَوْله

(تنَازع النَّاس حَتَّى لَا اتِّفَاق لَهُم

إِلَّا على شجب وَالْخلف الشجب)

ص: 86

(فَقيل تخلص نفس الْمَرْء سَالِمَة

وَقيل تشرك جسم الْمَرْء فِي العطب) الرَّابِعَة اخْتلف النَّاس فِي حَقِيقَة الرّوح من سَائِر الطوائف وَكَذَا اختلفو فِي أَنَّهَا هَل النَّفس أَو غَيرهَا وَهل هِيَ جُزْء من أَجزَاء الْبدن أَو عرض من أعراضه أَو جسم مسَاكِن لَهُ مُودع فِيهِ أَو جَوْهَر مُجَرّد وَهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس وَاحِدَة لَهَا هَذِه الصِّفَات أم هِيَ ثَلَاث أنفس وَهل الرّوح هِيَ الْحَيَاة أَو غَيرهَا وَهل هِيَ مخلوقة قبل الأجساد أم بعْدهَا

أما مَسْأَلَة تقدم خلق الْأَرْوَاح على الأجساد وتأخرها عَنْهَا فللعلماء فِيهَا قَولَانِ معروفان وَمِمَّنْ ذهب إِلَى من تقدم خلقهَا

ص: 87

مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي وَأَبُو مُحَمَّد بن حزم وَحَكَاهُ إِجْمَاعًا وأدلتهم قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَعْرَاف {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون} قَالُوا وَهَذَا الاستنطاق وَالْإِشْهَاد إِنَّمَا كَانَ لأرواحنا وَلم تكن الْأَبدَان حِينَئِذٍ مَوْجُودَة وَقَوله صلى الله عليه وسلم إِن الله خلق أَرْوَاح الْعباد قبل الْعباد بألفي عَام فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف

ص: 88

وَأجَاب عَن ذَلِك من يَقُول بتأخر خلق الرّوح عَن الْبدن بأجوبة مُطَوَّلَة والعلامة الْبَيْضَاوِيّ حمل الْآيَة على التَّمْثِيل فِي تَفْسِيره وَفِي شَرحه للمصابيح

ص: 89

وَاسْتَدَلُّوا على تَأَخّر خلقهَا بأدلة مفصلة مِنْهَا قَوْله عليه الصلاة والسلام إِن خلق ابْن آدم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ يكون علقه مثل ذَلِك ثمَّ يكون مضعة مثل ذَلِك ثمَّ يُرْسل إِلَيْهِ الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بِغَيْر هَذَا مِمَّا هُوَ مفصل فِي كتاب الروحين روح الْمعَانِي لوالدنا المبرور

ص: 90

نور الله تَعَالَى روضته وَالروح لِابْنِ الْقيم فراجعهما إِن شِئْت

أما الْكَلَام على بَقِيَّة الْمسَائِل فقد قَالَ ابْن الْقيم وَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وأدله الْعقل والفطرة أَنه جسم حَادث مُخَالف بالماهية لهَذَا الْجِسْم الحسوس وَهُوَ جسم نوراني علوي خَفِيف حَيّ متحرك ينفذ فِي جَوْهَر الْأَعْضَاء ويسري فِيهَا سريان المَاء فِي الْورْد والدهن فِي الزَّيْتُون وَالنَّار فِي الفحم فَمَا دَامَت هَذِه الْأَعْضَاء صَالِحَة لقبُول الْآثَار الفائضة عَلَيْهَا من هَذَا الْجِسْم اللَّطِيف بَقِي هَذَا الْجِسْم اللَّطِيف متشابكا لهَذِهِ الْأَعْضَاء وأفادها هَذِه الْآثَار

ص: 91

من الْحس وَالْحَرَكَة والإدارة وَإِذا فَسدتْ هَذِه الْأَعْضَاء بِسَبَب اسْتِيلَاء الأخلاط الغليظة عَلَيْهَا وَخرجت عَن قبُول الْآثَار فَارق الرّوح الْبدن وانفصل بِأَمْر الله تَعَالَى إِلَى عَالم الْأَرْوَاح قَالَ الله تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي}

وَإِن أردْت استقصاء أبحاثها فَعَلَيْك بِكِتَاب الرّوح فَإِنَّهُ يهب لَك روحا وينيلك فِيمَا ترجوا نجحا وَإِن شِئْت أَن ترد قَالَا وقيلا فَتذكر هَذَا قَوْله تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا}

هَذَا وأصخ بفكرك نَحْو مَا قلته وتدبر جَمِيع ماز برته وتأمله تَأمل طَالب للحق غير كاتم لِلْقَوْلِ الصدْق وَلَا تنظر بِعَين الْحَاسِد فتلفى لضوء الشَّمْس جَاحد إِذْ لم يبْق وَالْفضل لله سُبْحَانَهُ مجَال لإنكار المكابرين وَلَا حجَّة بعد هَذَا للمعاندين وَغير المطلعين

فلنكتف بِهَذَا الْمِقْدَار لِئَلَّا يطول الْكتاب على ذَوي

ص: 92

الأنظار وَيَكْفِي لكل ذِي رَأْي سديد من القلادة مَا أحَاط بالجيد وَلَا سِيمَا وَقد تكفلت بتفصيل هَذِه الْمسَائِل كتب الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين وَالْأَئِمَّة الْمُحَقِّقين الأفاضل وَالله سُبْحَانَهُ الْهَادِي إِلَى صوب الصَّوَاب والمسمع للجماد كَلَام الْأَحْيَاء إِذا شَاءَ كَمَا أسمع سَارِيَة كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب

ص: 93

وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلَاته وَسَلَامه على جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وعَلى أَشْرَفهم نَبينَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ الطيبين الطاهرين

قلت جَاءَ فِي آخر الأَصْل المطبوع عَنهُ مَا نَصه وَقد كملت هَذِه الرسَالَة تأليف شَيخنَا الْعَلامَة الحبر الْبَحْر الفهامة فريد عصره ووحيد مصره مؤيد سنة سيد الْمُرْسلين وقامع المبتدعين خَاتِمَة الْمُحَقِّقين مَوْلَانَا السَّيِّد نعْمَان خير الدّين أَفَنْدِي آلوسي زَاده رَئِيس المدرسين بِبَغْدَاد حماه الله تَعَالَى من كيد الحساد وأدام بِهِ نفع الْعباد آمين فِي 8 ربيع الثَّانِي سنة 1329

وَهُوَ يشْعر بِأَنَّهُ مَنْقُول عَن أصل نسخ فِي حَيَاة الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى

ص: 94