الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الْحَادِي عشر
فِي ذكر قُوَّة قلبه وشجاعته
كَانَ رضي الله عنه من أَشْجَع النَّاس وَأَقْوَاهُمْ قلبا مَا رَأَيْت أحدا أثبت جأشا مِنْهُ وَلَا أعظم عناء فِي جِهَاد الْعَدو مِنْهُ كَانَ يُجَاهد فِي سَبِيل الله بِقَلْبِه وَلسَانه وَيَده وَلَا يخَاف فِي الله لؤمة لائم
وَأخْبر غير وَاحِد أَن الشَّيْخ رضي الله عنه كَانَ إِذا حضر مَعَ عَسْكَر الْمُسلمين فِي جِهَاد يكون بَينهم واقيتهم وقطب ثباتهم إِن رأى من بَعضهم هلعا أَو رقة أَو جبانة شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر وَالظفر وَالْغنيمَة وَبَين لَهُ فضل الْجِهَاد والمجاهدين وإنزال الله عَلَيْهِم السكينَة
وَكَانَ إِذا ركب الْخَيل يتحنك ويجول فِي الْعَدو كأعظم الشجعان وَيقوم كأثبت الفرسان وَيكبر تَكْبِيرا انكى فِي الْعَدو
من كثير من الفتك بهم ويخوض فيهم خوض رجل لَا يخَاف الْمَوْت
وَحَدثُوا انهم رَأَوْا مِنْهُ فِي فتح عكة امورا من الشجَاعَة يعجز الواصف عَن وصفهَا
قَالُوا وَلَقَد كَانَ السَّبَب فِي تملك الْمُسلمين إِيَّاهَا بِفِعْلِهِ ومشورته وَحسن نظره
وَلما ظهر السُّلْطَان غازان على دمشق المحروسة جَاءَهُ ملك الكرج وبذل لَهُ أَمْوَالًا كَثِيرَة جزيلة على ان يُمكنهُ من الفتك بِالْمُسْلِمين من اهل دمشق وَوصل الْخَبَر الى الشَّيْخ فَقَامَ من فوره وشجع الْمُسلمين ورغبهم فِي الشَّهَادَة وَوَعدهمْ على قيامهم بالنصر وَالظفر والامن وَزَوَال الْخَوْف
فَانْتدبَ مِنْهُم رجال من وُجُوههم وكبرائهم وَذَوي الاحلام مِنْهُم فَخَرجُوا مَعَه الى حَضْرَة السُّلْطَان غازان فَلَمَّا رَآهُمْ السُّلْطَان قَالَ من هَؤُلَاءِ فَقيل هم رُؤَسَاء دمشق فَأذن لَهُم فَحَضَرُوا بَين يَدَيْهِ
فَتقدم الشَّيْخ رضي الله عنه أَولا فَلَمَّا أَن رَآهُ أوقع الله لَهُ فِي قلبه هَيْبَة عَظِيمَة حَتَّى أدناه وَأَجْلسهُ
وَأخذ الشَّيْخ فِي الْكَلَام مَعَه أَولا فِي عكس رَأْيه عَن تسليط المخزول ملك الكرج على الْمُسلمين وَضمن لَهُ اموالا واخبره بحرمه دِمَاء الْمُسلمين وَذكره ووعظه فَأَجَابَهُ الى ذَلِك طَائِعا وحقنت بِسَبَبِهِ دِمَاء الْمُسلمين وحميت ذَرَارِيهمْ وصين حريمهم
وحَدثني من أَثِق بِهِ عَن الشَّيْخ وجيه الدّين ابْن المنجا قدس الله روحه قَالَ كنت حَاضرا مَعَ الشَّيْخ حِينَئِذٍ فَجعل يَعْنِي الشَّيْخ يحدث السُّلْطَان بقول الله وَرَسُوله فِي الْعدْل وَغَيره وَيرْفَع صَوته على السُّلْطَان فِي اثناء حَدِيثه حَتَّى جثا على رُكْبَتَيْهِ وَجعل يقرب مِنْهُ فِي أثْنَاء حَدِيثه حَتَّى لقد قرب ان تلاصق ركبته ركبة السُّلْطَان وَالسُّلْطَان مَعَ ذَلِك مقبل عَلَيْهِ بكليته مصغ لما يَقُول شاخص اليه لَا يعرض عَنهُ وَأَن السُّلْطَان من شدَّة مَا أوقع الله مَا فِي قلبه من الْمحبَّة والهيبة سَأَلَ من يَخُصُّهُ من أهل حَضرته من هَذَا الشَّيْخ وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ إِنِّي لم أر مثله وَلَا أثبت قلبا مِنْهُ وَلَا أوقع من حَدِيثه فِي قلبِي وَلَا رَأَيْتنِي أعظم انقيادا مني لَاحَدَّ مِنْهُ فَأخْبر بِحَالهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْعلم وَالْعَمَل فَقَالَ الشَّيْخ للترجمان قل لغازان انت تزْعم انك مُسلم ومعك قَاضِي وَإِمَام وَشَيخ ومأذنون على مَا بلغنَا فغزوتنا وَأَبُوك وَجدك كَانَا كَافِرين وَمَا عملا الَّذِي عملت عاهدا فوفيا وانت عَاهَدت فغدرت وَقلت فَمَا وفيت وَجَرت
وَسَأَلَهُ إِن أَحْبَبْت أَن اعمر لَك بلد آبَائِك حران وتنتقل اليه وَيكون برسمك فَقَالَ لَا وَالله لَا أَرغب عَن مهَاجر إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم استبدل بِهِ غَيره
فَخرج من بَين يَدَيْهِ مكرما معززا قد صنع لَهُ الله بِمَا طوى عَلَيْهِ نِيَّته الصَّالِحَة من بذله نَفسه فِي طلب حقن دِمَاء الْمُسلمين فَبَلغهُ مَا أَرَادَهُ
وَكَانَ ذَلِك ايضا سَببا لتخليص غَالب أُسَارَى الْمُسلمين من
أَيْديهم وردهم على أهلهم وَحفظ حريمهم
وَهَذَا من أعظم الشجَاعَة والثبات وَقُوَّة الجأش
وَكَانَ يَقُول لن يخَاف الرجل غير الله إِلَّا لمَرض فِي قلبه فان رجلا شكى إِلَى أَحْمد بن حَنْبَل خَوفه من بعض الْوُلَاة فَقَالَ لَو صححت لم تخف أحدا أَي خوفك من أجل زَوَال الصِّحَّة من قَلْبك
وَأَخْبرنِي من لَا اتهمه أَن الشَّيْخ رضي الله عنه حِين وشي بِهِ الى السُّلْطَان الْمُعظم الْملك النَّاصِر مُحَمَّد احضره بَين يَدَيْهِ قَالَ فَكَانَ من جملَة كَلَامه
إِنَّنِي اخبرت انك قد أطاعك النَّاس وَأَن فِي نَفسك اخذ الْملك فَلم يكترث بِهِ بل قَالَ لَهُ بِنَفس مطمئنة وقلب ثَابت وَصَوت عَال سَمعه كثير مِمَّن حضر أَنا أفعل ذَلِك وَالله إِن ملكك وَملك الْمغل لَا يُسَاوِي عِنْدِي فلسين
فَتَبَسَّمَ السُّلْطَان لذَلِك وأجابة فِي مُقَابلَته بِمَا اوقع الله لَهُ فِي
قلبه من الهيبة الْعَظِيمَة إِنَّك وَالله لصَادِق وَإِن الَّذِي وَشَيْء بك إِلَيّ كَاذِب
وَاسْتقر لَهُ فِي قلبه من الْمحبَّة الدِّينِيَّة مَا لولاه لَكَانَ قد فتك بِهِ مُنْذُ دهر طَوِيل من كَثْرَة مَا يلقى اليه فِي حَقه من الاقاويل الزُّور والبهتان مِمَّن ظَاهر حَاله للطغام الْعَدَالَة وباطنه مشحون بِالْفِسْقِ والجهالة
وَلم يزل المبتدعون أهل الاهواء وآكلو الدُّنْيَا بِالدّينِ متعاضدين متناصرين فِي عدوانه باذلين وسعهم بالسعي فِي الفتك بِهِ متخرصين عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ الصراح مختلقين عَلَيْهِ وناسبين اليه مَا لم يقلهُ وَلم يَنْقُلهُ وَلم يُوجد لَهُ بِهِ خطّ وَلَا وجد لَهُ فِي تصنيف وَلَا فَتْوَى وَلَا سمع مِنْهُ فِي مجْلِس
أَترَاهُم مَا علمُوا أَن الله سائلهم عَن ذَلِك ومحاسبهم عَلَيْهِ أَو مَا سمعُوا قَول الله تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان ونعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد}
بلَى وَالله وَلَكِن غلب عَلَيْهِم مَا هم فِيهِ من إِيثَار الدُّنْيَا على الاخرة وَالْعَمَل للعاجلة دون الاجلة فَلهَذَا حسدوه وابغضوه لكَونه مباينهم ومخالفهم لبغضه ورفضه مَا احبوا وطلبوا ومحبته
مَا باينوا ورفضوا وَلما علم الله نياته ونياتهم أَبى ان يظفرهم فِيهِ بِمَا راموا حَتَّى أَنه لم يحضر مَعَه مِنْهُم أحد فِي عقد مجْلِس إِلَّا وصنع الله لَهُ وَنَصره عَلَيْهِم بِمَا يظهره على لِسَانه من دحض حججهم الْوَاهِيَة وكشف مكيدتهم الداهية للخاصة والعامة