الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الرَّابِع
فِي ذكر تعبده
اما تعبده رضي الله عنه فَإِنَّهُ قل ان سمع بِمثلِهِ لانه كَانَ قد قطع جلّ وقته وزمانه فِيهِ حَتَّى انه لم يَجْعَل لنَفسِهِ شاغلة تشغله عَن الله تَعَالَى مَا يُرَاد لَهُ لَا من اهل وَلَا من مَال
وَكَانَ فِي لَيْلَة متفردا عَن النَّاس كلهم خَالِيا بربه عز وجل ضارعا مواظبا على تِلَاوَة الْقُرْآن الْعَظِيم مكررا لانواع التعبدات الليلية والنهارية وَكَانَ اذا ذهب اللَّيْل وَحضر مَعَ النَّاس بَدَأَ بِصَلَاة الْفجْر يَأْتِي بسنتها قبل اتيانه اليهم وَكَانَ اذا احرم بِالصَّلَاةِ تكَاد تتخلع الْقُلُوب لهيبة اتيانه بتكبيرة الاحرام فَإِذا دخل فِي الصَّلَاة ترتعد اعضاؤه حَتَّى يميله يمنة ويسرة وَكَانَ اذا قَرَأَ يمد قِرَاءَته مدا كَمَا صَحَّ فِي قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ رُكُوعه
وَسُجُوده وانتصابه عَنْهُمَا من اكمل مَا ورد فِي صَلَاة الْفَرْض وَكَانَ يُخَفف جُلُوسه للتَّشَهُّد الاول خفَّة شَدِيدَة ويجهر بالتسليمة الاولي حَتَّى يسمع كل من حضر
فَإِذا فرغ من الصَّلَاة اثنى على الله عز وجل هُوَ وَمن حضر بِمَا ورد من قَوْله اللَّهُمَّ انت السَّلَام ومنك السَّلَام تَبَارَكت يَا ذَا الْجلَال والاكرام ثمَّ يقبل على الْجَمَاعَة ثمَّ يَأْتِي بالتهليلات الواردات حِينَئِذٍ ثمَّ يسبح الله وَيَحْمَدهُ ويكبره ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيخْتم الْمِائَة بالتهليل كَمَا ورد وَكَذَا الْجَمَاعَة ثمَّ يَدْعُو الله تَعَالَى لَهُ وَلَهُم وللمسلمين اجناس مَا ورد
وَكَانَ غَالب دُعَائِهِ
اللَّهُمَّ انصرنا وَلَا تنصر علينا وامكر لنا وَلَا تَمْكُر علينا واهدنا وَيسر الْهدى لنا اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَك شاكرين لَك ذاكرين لَك اواهين لَك مخبتين اليك راغبين اليك راهبين لَك مطاويع رَبنَا تقبل توباتنا واغسل حوباتنا وَثَبت حجَجنَا
واهد قُلُوبنَا اسلل سخيمة صدورنا
يفتتحه ويختمه بِالصَّلَاةِ على النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثمَّ يشرع فِي الذّكر
وَكَانَ قد عرفت عَادَته لَا يكلمهُ اُحْدُ بِغَيْر ضَرُورَة بعد صَلَاة الْفجْر فَلَا يزَال فِي الذّكر يسمع نَفسه وَرُبمَا يسمع ذكره من الى جَانِبه مَعَ كَونه فِي خلال ذَلِك يكثر من تقليب بَصَره نَحْو السَّمَاء هَكَذَا دأبه حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس وَيَزُول وَقت النَّهْي عَن الصَّلَاة
وَكنت مُدَّة اقامتي بِدِمَشْق ملازمه جلّ النَّهَار وَكَثِيرًا من اللَّيْل وَكَانَ يدنيني مِنْهُ حَتَّى يجلسني الى جَانِبه وَكنت اسْمَع مَا يَتْلُو وَمَا يذكر حِينَئِذٍ فرأيته يقْرَأ الْفَاتِحَة ويكررها وَيقطع ذَلِك الْوَقْت كُله اعني من الْفجْر الى ارْتِفَاع الشَّمْس فِي تَكْرِير تلاوتها
ففكرت فِي ذَلِك لم قد لزم هَذِه السُّورَة دون غَيرهَا فَبَان لي وَالله اعْلَم ان قَصده بذلك ان يجمع بتلاوتها حِينَئِذٍ بَين مَا ورد فِي الاحاديث وَمَا ذكره الْعلمَاء هَل يسْتَحبّ حِينَئِذٍ تَقْدِيم الاذكار الْوَارِدَة على تِلَاوَة الْقُرْآن اَوْ الْعَكْس فراى رضي الله عنه ان فِي الْفَاتِحَة وتكرارها حِينَئِذٍ جمعا بَين الْقَوْلَيْنِ وتحصيلا للفضيلتين وَهَذَا من قُوَّة فطنته وثاقب بصيرته
ثمَّ انه كَانَ يرْكَع فَإِذا اراد سَماع حَدِيث فِي مَكَان اخر سارع اليه من فوره مَعَ من يَصْحَبهُ
فَقل ان يرَاهُ اُحْدُ مِمَّن لَهُ بَصِيرَة الا وانكب على يَدَيْهِ يقبلهما حَتَّى انه كَانَ اذا رَاه ارباب المعايش يتخطون من حوانيتهم للسلام عَلَيْهِ والتبرك بِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُعْطي كلا مِنْهُم نَصِيبا وافرا من السَّلَام وَغَيره
واذا رأى مُنْكرا فِي طَرِيقه ازاله اَوْ سمع بِجنَازَة سارع الى الصَّلَاة عَلَيْهَا اَوْ تأسف على فَوَاتهَا وَرُبمَا ذهب الى قبر صَاحبهَا بعد فَرَاغه من سَماع الحَدِيث فَصلي عَلَيْهِ
ثمَّ يعود الى مَسْجده فَلَا يزَال تَارَة فِي افتاء النَّاس وَتارَة فِي قَضَاء حوائجهم حَتَّى يُصَلِّي الظّهْر مَعَ الْجَمَاعَة ثمَّ كَذَلِك بَقِيَّة يَوْمه
وَكَانَ مَجْلِسه عَاما للكبير وَالصَّغِير والجليل والحقير وَالْحر وَالْعَبْد وَالذكر والانثى قد وسع على كل من يرد عَلَيْهِ من النَّاس يرى كل مِنْهُم فِي نَفسه ان لم يكرم احدا بِقَدرِهِ
ثمَّ يُصَلِّي الْمغرب ثمَّ يتَطَوَّع بِمَا يسره الله ثمَّ اقْرَأ عَلَيْهِ من مؤلفاته اَوْ غَيْرِي فيفيدنا بالطرائف ويمدنا باللطائف حَتَّى يُصَلِّي الْعشَاء ثمَّ بعْدهَا كَمَا كُنَّا وَكَانَ من الاقبال على الْعُلُوم الى ان يذهب هوي من اللَّيْل طَوِيل وَهُوَ فِي خلال ذَلِك كُله فِي النَّهَار وَاللَّيْل لَا يزَال يذكر الله تَعَالَى ويوحده ويستغفره
وَكَانَ رضي الله عنه كثيرا مَا يرفع طرفه الى السَّمَاء لَا يكَاد يفتر من ذَلِك كَأَنَّهُ يرى شَيْئا يُثبتهُ بنظره فَكَانَ هَذَا دَابَّة مُدَّة إقامتي بِحَضْرَتِهِ
فسبحان الله مَا اقصر مَا كَانَت يَا ليتها كَانَت طَالَتْ وَلَا وَالله مَا مر على عمري الى الان زمَان كَانَ احب الي من ذَلِك الْحِين وَلَا رَأَيْتنِي فِي وَقت احسن حَالا مني حِينَئِذٍ وَمَا كَانَ الا ببركة الشَّيْخ رضي الله عنه
وَكَانَ فِي كل اسبوع يعود المرضى خُصُوصا الَّذين بالبمارستان
واخبرني غير وَاحِد مِمَّن لَا يشك فِي عَدَالَته ان جَمِيع زمن الشَّيْخ يَنْقَضِي على مَا رَأَيْته فَأَي عبَادَة وَجِهَاد افضل من ذَلِك فسبحان الْمُوفق من يَشَاء لما يَشَاء