الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل السَّابِع
فِي إيثاره مَعَ فقره وتواضعه
كَانَ رضي الله عنه مَعَ شدَّة تَركه للدنيا ورفضه لَهَا وَفَقره فِيهَا وتقلله مِنْهَا مؤثرا بِمَا عساه يجده مِنْهَا قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا جَلِيلًا اَوْ حَقِيرًا لَا يحتقر الْقَلِيل فيمنعه ذَلِك عَن التَّصَدُّق بِهِ وَلَا الْكثير فيصرفه النّظر اليه عَن الاسعاف بِهِ فقد كَانَ يتَصَدَّق حَتَّى إِذا لم يجد شَيْئا نزع بعض ثِيَابه الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فيصل بِهِ الْفَقِير وَكَانَ يستفضل من قوته الْقَلِيل الرَّغِيف والرغيفين فيؤثر بذلك على نَفسه وَرُبمَا خبأهما فِي كمه ويمضي وَنحن مَعَه لسَمَاع الحَدِيث فيراه بَعْضنَا وَقد دَفعه الى الْفَقِير مستخفيا يحرص أَن لَا يرَاهُ أحد
وَكَانَ إِذا ورد عَلَيْهِ فَقير وآثر الْمقَام عِنْده يؤثره عِنْد الْأكل بِأَكْثَرَ قوته الَّذِي جعل برسمه
حَدثنِي الشَّيْخ الصَّالح الْعَارِف زين الدّين عَليّ الوَاسِطِيّ مَا مَعْنَاهُ انه أَقَامَ بِحَضْرَة الشَّيْخ مُدَّة طَوِيلَة قَالَ فَكَانَ قوتنا فِي غالبها انه كَانَ فِي بكرَة النَّهَار يأتيني وَمَعَهُ قرص قدره نصف رَطْل خبْزًا بالعراقي فيكسره بِيَدِهِ لقما وَنَأْكُل مِنْهُ أَنا وَهُوَ جَمِيعًا ثمَّ يرفع يَده قبلي وَلَا يرفع بَاقِي القرص من بَين يَدي حَتَّى اشبع بِحَيْثُ أَنِّي لَا أحتاج الى الطَّعَام إِلَى اللَّيْل وَكنت ارى ذَلِك من بركَة الشَّيْخ ثمَّ يبْقى الى بعد الْعشَاء الاخرة حَتَّى يفرغ من جَمِيع عوائده الَّتِي يُفِيد النَّاس بهَا فِي كل يَوْم من اصناف الْقرب فيؤتيى بعشائنا فيأكل هُوَ معي لقيمات ثمَّ يؤثرني بِالْبَاقِي وَكنت أسأله ان يزِيد على أكله فَلَا يفعل حَتَّى إِنِّي كنت فِي نَفسِي اتوجع لَهُ من قلَّة اكله
وَكَانَ هَذَا دأبنا فِي غَالب مُدَّة إقامتي عِنْده وَمَا رَأَيْت نَفسِي
أُغني مِنْهَا فِي تِلْكَ الْمدَّة وَلَا رَأَيْتنِي افقر هما مني فِيهَا
وَحكى غير وَاحِد مَا اشْتهر عَنهُ من كَثْرَة الايثار وتفقد المحتاجين والغرباء ورقيقي الْحَال من الْفُقَهَاء والقراء واجتهاده فِي مصالحهم وصلاتهم ومساعدته لَهُم بل وَلكُل اُحْدُ من الْعَامَّة والخاصة مِمَّن يُمكنهُ فعل الْخَيْر مَعَه وإسداء الْمَعْرُوف اليه بقوله وَفعله وَوَجهه وجاهه
وَأما تواضعه فَمَا رَأَيْت وَلَا سَمِعت بِأحد من أهل عصره مثله فِي ذَلِك كَانَ يتواضع للكبير وَالصَّغِير والجليل والحقير والغنى الصَّالح وَالْفَقِير وَكَانَ يدني الْفَقِير الصَّالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحَديثه المستحلى زِيَادَة على مثله من الاغنياء حَتَّى أَنه رُبمَا خدمه بِنَفسِهِ وأعانه بِحمْل حَاجته جبرا لِقَلْبِهِ وتقربا بذلك الى ربه
وَكَانَ لَا يسأم مِمَّن يستفتيه أَو يسْأَله بل يقبل عَلَيْهِ ببشاشة وَجه ولين عَرِيكَة وَيقف مَعَه حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يُفَارِقهُ كَبِيرا كَانَ أَو صَغِيرا رجلا أَو امْرَأَة حرا أَو عبدا عَالما أَو عاميا حَاضرا أَو باديا وَلَا يجبهه وَلَا يحرجه وَلَا ينفره بِكَلَام يوحشه بل يجِيبه ويفهمه ويعرفه الْخَطَأ من الصَّوَاب بلطف وانبساط
وَكَانَ يلْزم التَّوَاضُع فِي حُضُوره من النَّاس ومغيبه عَنْهُم فِي
قِيَامه وقعوده ومشيه ومجلسه ومجلس غَيره
وَلَقَد بَالغ معي فِي حَال إقامتي بِحَضْرَتِهِ فِي التَّوَاضُع وَالْإِكْرَام حَتَّى إِنَّه لَا يذكرنِي باسمي بل يلقبني بِأَحْسَن الالقاب وَيظْهر لي خُصُوصا بَين أَصْحَابِي من الْإِكْرَام والتبجيل والإدناء مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يتركني اجْلِسْ الا الى جَانِبه قَصِيرا كَانَ مَجْلِسه أَو طَويلا خَاصّا أَو عَاما ولازمني فِي حَال قراءتي صَحِيح البُخَارِيّ وَكَانَ قصدي قِرَاءَته على رِوَايَة مُنْفَردا لاستصغاري نَفسِي عَن الْقِرَاءَة هُنَاكَ بِمحضر من النَّاس ولقصدي تَعْجِيل فراغي مِنْهُ انتهازا للفرصة وخوفا من فَوَات ذَلِك الشَّيْخ الرَّاوِي لكَونه تفرد بروايته سَمَاعا على اصحاب ابي الْوَقْت السجْزِي
فَلَمَّا سمع الشَّيْخ بذلك ألزمني قِرَاءَته بمجمع كثير من النَّاس رجَالًا وَنسَاء وصبيانا وَقَالَ مَا يَنْبَغِي إِلَّا على صفة يكون نَفعهَا
مُتَعَدِّيا الى الْمُسلمين فتجرد لي بِحَيْثُ حصل لي مرادي وفوقه من تَحْصِيل قراءتي لَهُ فِي عشْرين مَجْلِسا متواليه لم يتخللها سوى الْجُمُعَة ولازمني فِيهَا وَحضر الْقِرَاءَة كلهَا يضبطها بنسخة كَانَت بِيَدِهِ هِيَ أصل ابْن نَاصِر الْحَافِظ يُعَارض بهَا نُسْخَة الْقِرَاءَة وَكَانَت اصل الشَّيْخ الْمُسَمّى
وَأظْهر لي من حسن الْأَخْلَاق وَالْمُبَالغَة فِي التَّوَاضُع بِحَيْثُ أَنه كَانَ إِذا خرجنَا من منزله بِقصد الْقِرَاءَة يحمل هُوَ بِنَفسِهِ النُّسْخَة وَلَا يدع أحدا منا يحملهَا عَنهُ وَكنت أعْتَذر اليه من ذَلِك خوفًا من سوء الْأَدَب فَيَقُول لَو حَملته على رَأْسِي لَكَانَ يَنْبَغِي أَلا احْمِلْ مَا فِيهِ كَلَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
وَكَانَ يجلس تَحت الْكُرْسِيّ ويدع صدر الْمجَالِس حَتَّى إِنِّي لأَسْتَحي من مَجْلِسه هُنَاكَ وأعجب من شدَّة تواضعه ومبالغته فِي إكرامي بِمَا لَا اسْتحق ورفعي عَلَيْهِ فِي الْمجْلس وَلَوْلَا قراءتي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَعظم حرمتهَا لما كَانَ يَنْبَغِي لي ذَلِك
وَكَانَ هَذَا حَاله فِي التَّوَاضُع والتنازل والاكرام لكل من يرد عَلَيْهِ اَوْ يَصْحَبهُ أَو يلقاه حَتَّى أَن كل من لقِيه يَحْكِي عَنهُ من الْمُبَالغَة فِي التَّوَاضُع نَحوا مِمَّا حكيته وَأكْثر من ذَلِك فسبحان من وَفقه وَأَعْطَاهُ وأجراه على خلال الْخَيْر وحباه