الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هم الرجالُ فلا يُلهيهمُ لعبُ
…
عن الصلاةِ ولا أكذوبةُ الكسلِ.
فصلٌ
في فضلِ قيامِ اللَّيلِ
من رحمةِ اللهِ تعالى أنْ شرعَ لنا النوافلَ لتكمِّلَ ما في الفرائضِ من نقصٍ، ولتزيدَ في الموازين من الحسناتِ، فجعل اللهُ للفرائضِ من جنسِها نوافلَ، فالصلاةُ -وهي عمودُ الدِّينِ كانت خمسَ صلواتٍ مفروضة، لا يجب علينا غيرُها إلا أن نطَّوع-جعل اللهُ لها نوافلَ تكمِّلها، فأفضلُ الصلاةِ بعدَ المكتوبةِ قيامُ اللَّيلِ، ومن الذي يدَّعي أنَّ فرائِضَه قد كَمُلت حتى يستغنيَ عن التنفُّلِ. فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول:(إنَّ أوَّلَ ما يُحاسب به العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاتُه، فإنَّ صلحت فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتَقَصَ من فريضتهِ شيءٌ قال الرَّبُّ عز وجل: انظروا هل لعبدِي من تطوُّعٍ، فيكمل بها ما انتَقَصَ من الفريضةِ ثم يكونُ سائرُ عملِه على ذلك) رواه الترمذي وأبو داوود وابن ماجه وصححه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه عز وجل: (وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به
…
) رواه البخاري.
وقد افترضَ اللهُ سبحانه وتعالى في أوَّلِ الأمرِ قيامَ اللَّيلِ، فقام النبيُّ – صلى الله عليه وسلم وأصحابُه حولاً، وذلك في قولِه تعالى:(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا)[المزمل:1،2]، كما قالت عائشةُ –رضي الله عنها:(فإنَّ اللهَ افترض قيامَ الليلِ في أوَّلِ هذه السورةِ فقام نبيُّ الله –صلى الله عليه وسلم وأصحابُه حولاً وأمسك اللهُ خاتمتَها اثني عشر شهرًا، حتى أنزلَ اللهُ في آخرِ هذه السورةِ التخفيفَ، فصار قيامُ الليلِ تطوعًا بعدَ فريضةٍ) رواه مسلم.
وقال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[الإسراء:78،79] بعدَ الأمرِ بالصلواتِ الخمسِ، ذكر اللهُ الأمرَ بالتهجُّدِ في الليلِ، أي: قم بعدَ نومِك. والتهجُّد لا يكون إلا بعدَ النومِ، (نافلةً لك) أي: زيادةً لك،يريد فضيلةً زائدةً على سائرِ الفرائضِ فرضها اللهُ عليك، وذهبَ آخرون إلى أنَّ الوجوبِ صار في حقِّه منسوخًا كما في حقِّ أمَّته، فصارت نافلةً، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادةَ، لأنه الله قال:(نَافِلَةً لَكَ) ولم يقل عليك (1) .
وقال تعال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ)[الطور:49]
وقال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا)[الإنسان:26]
(1) مختصر تفسير البغوي
هذه كلُّها أوامرُ للنَّدبِ في قيامِ الليلِ كما دلت عليه السنةُ المطهرةُ؛ فعليك أن تسارعَ إلى القيامِ بما أوجبَ اللهُ عليك، فإنَّه أحبُّ ما تقربتَ به إليه، وأنتَ عبدٌ ضعيفٌ فقيرٌ إلى عفوِ ربِّك وغناه وجزائِه ومثوبتِه، فبادر إلى التنفُّلِ في جوفِ الليلِ فإنَّه أفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضةِ، وتذكَّر أنَّ قيامَ الليلِ صفةُ عبادِ اللهِ المؤمنين الذين امتدحهم وأثنى عليهم. ووصفَ ما أعدَّه اللهُ لهم من نعيمٍ وما لهم من ثوابٍ في محكمِ كتابِه في آياتٍ متعددةٍ منها قولُه تعالى:(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هذه صفتُهم وهذا عملُهم، أما جزاؤهم فإنَّه أعظمُ مما قدَّموا:(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة:16،17]
فأيُّ نعيمٍ هذا وأيُّ جزاءٍ وأيُّ مثوبةٍ، العملُ لها سهلٌ ميسورٌ، وقليلٌ إذا قرن بما له من جزاءٍ. وحينما يقومُ المرءُ المسلمُ بهذا العملِ ويستحضرُ ذلك الجزاءَ فإنه لا يجدُ تعبًا ولا كللاً، بل يجد اللَّذةَ التي تحلِّقُ به في جوِّ السماءِ ليعيشَ في السعادةِ التي لا ينالها إلا أصحابُ الليالي الساهرةِ في عبادةِ اللهِ.
أصحاب هذه الليالي أخبرنا الله عن مشهد من مشاهد لياليهم، فقال:(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء:107-109] .
ويكشفُ القرآنُ عن مشهدٍ آخرَ يبيِّنُ حالَ هؤلاءِ بأنَّهم (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات:17،18] وبأنهم (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)[الفرقان:74] .
أخي.. أختي: لتعلما أنَّ هذه صفاتُ المؤمنين المحبين لربِّهم. فقد وصفهم اللهُ تنويهًا بعظم عَملِهم، ودلالة على أنَّ قيامَ الليلِ من أعظمِ القُربِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى، وكان أولَّ الموصوفين بهذا رسولُنا الكريمُ –صلى الله عليه وسلم قال تعالى:(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)[المزمل:20]
فلَنَا في هؤلاء أسوةٌ حسنةٌ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21]
ولأجلِ أن تحبَّ قيامَ الليلِ وترغبَ في أدائِه والمحافظةِ عليه؛عليك أن تبحثَ في فضلِه ومنزلتِه عند اللهِ، ولأجلِ أن لا تتكلَّفَ البحثَ فقد جمعت لك عددًا من الأحاديثِ الثابتةِ عن رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم في فضلِ قيامِ الليلِ، وذلك مثلاً لا حصرًا:
1-
عن أبي هريرةَ –رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم: (أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرمُ، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليلِ) رواه مسلم.
2-
عن عبدِ اللهِ بن عمرِو بن العاصِ –رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم قال: (أحبُّ الصلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داوودَ، كان ينامُ نصفَ الليلِ ويقومُ ثلثَه وينامُ سدسَه، ويصومُ يومًا ويفطر يومًا) متفق عليه.
3-
عن سالمِ بن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنهم عن أبيه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (نعمَ الرجلُ عبدُ اللهِ لو كان يصلِّي من الليلِ) قال سالمٌ: فكان عبدُ الله بعد ذلك لا ينام من الليلِ إلا قليلاً. متفق عليه.
4-
وعن سهلِ بن سعدٍ رضي الله عنهما قال: جاء جبريلُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمدُ عش ما شئتَ فإنك ميتٌ، واعمل ماشئت فإنك مجزيٌّ به، وأحببْ من شئتَ فإنك مفارقُه، واعلم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُ الليلِ، وعزُّه استغناؤه عن الناس) رواه الحاكم والطبراني وحسنه الألباني.
5-
عن جابرٍ رضي الله عنه قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصلاةِ أفضلُ؟ قال: (طولُ القنوتِ) رواه مسلم. والقنوتُ: القيامُ.
6-
قربُ اللهِ سبحانه وتعالى من عبدِه الذي يقوم الليلَ ففي الحديثِ: (أقربُ ما يكون الربُّ من العبدِ في جوفِ الليلِ الآخرِ فإنَّ استطعتَ أن تكونَ ممن يذكرُ للهَ في تلك الساعة فكُن) رواه الترمذي وصححه الألباني.
7-
ويخبرُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ صاحبَ القرآنِ الذي يقوم به ويتلوه يُغبَط لعِظَمِ أجرِه، فعن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسدَ إلا في اثنتين رجلٍ آتاه اللهُ القرآن فهو يتلوه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ
…
) متفق عليه.
إنَّ العالمَ بفضلِ قيامِ الليلِ لا يستوي معَ من لا يعلم، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزمر:9]
فلتكن من أولي الألبابِ الذي يتذكَّرون فإنَّ هذه الآياتِ والأحاديثَ في قيامِ الليل ذكرى لنا، فهل نكونُ من أولي الألباب؟!