الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي) رواه أحمد (4/362) وصححه الألباني في "أحكام الجنائز"(156) .
هذه بعضُ عوائدِ وفوائدِ قيامِ الليل، إذا استحضرها العبدُ قبلَ نومِه عزمَ على القيامِ، وإن استحضرها عندَ إفاقتِه نشطَ عليه.
فصل
في الأسباب المعينة على قيام الليل
إنَّ اللهَ تعالى جعل لكلِّ شيءٍ سببًا، وقيامُ الليلِ له أسبابٌ تعين عليه، فمن أراد أن يقومَ فلا بدَّ أن يأخذَ بالأسبابِ التي تعينه وتمكِّنُه من القيامِ بعونِ اللهِ.
وسأذكرُ في هذه الرسالةِ جملةً من الأسبابِ بالدليلِ والبرهانِ قدرَ ما أستطيعُ، وأسألُ اللهَ أن ينفعَ بها من قرأها:
1-
الاستعانةُ باللهِ تعالى: كما أنَّ جميعَ الأمورِ من عباداتٍ وأخلاقٍ وأمورِ معاشٍ تتطلبُ الاستعانةَ باللهِ سبحانه، فإنَّ قيامَ الليلِ من ألزمها، وذلك أنَّ صاحبَه ومريدَه يهمُّ به وهو مستيقظٌ فإذا نامَ تمكَّنَ الشيطانُ منه وعقد على قافيتِه بثلاثِ عقدٍ، فإذا كان العبدُ مستعينًا باللهِ، كان اللهُ له عونًا على عدوِّه إبليس فلا يجعلُ له سلطانًا عليه ما دام على ربِّه متوكلاً وبه مستعينًا، قال تعالى:(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النحل:99]
وإن العبدَ ليستعينُ باللهِ عدةَ مراتٍ في اليومِ والليلةِ حينما يقرأُ الفاتحةَ ويقول: إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعينُ، فعليك أن تستحضرَ طلبَ الاستعانةِ حين تقرأُ هذه الآيةَ ولا سيَّما في أولِ القيامِ فإنَّه شاقٌّ إلا على من استعان باللهِ، وليتذكَّرْ قولَه تعالى وهو يجاهدُ نفسَه على القيامِ:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت:69]
2-
تصحيحُ العقيدةِ والنظرُ في سلامتِها، فعلى مريدِ القيامِ أن ينظرَ في مدى إيمانِه باللهِ سبحانه، وينظر في هذا الإيمانِ هل اكتملت جوانبُه وأركانُه حقًّا حقًّا، وصدقًا صدقًا، فلا يكون الأمرُ مجردَ كلامٍ وتلفُّظٍ باللسانِ، وإنما يَقِر في القلبِ، فيكون بالله مُعلقًا قلبه، يعيش دنياه لآخرتِه، يؤمنُ برسلِ اللهِ ويصدِّقُ ما جاؤوا به، فلا ينكرْ أحدًا منهم أو آيةً من آياتِهم ومعجزةً من معجزاتِهم، ويؤمنُ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويحبُّه ويحبُّ ما جاء به، يحبُّه اتباعًا لا هَوَسًا شعرًا ونثرًا وعِشقًا!! فإنَّ أصحابَ المحبةِ الصادقةِ هم أهلُ العملِ والمتابعةِ والاقتداءِ، وليسوا أهلَ البدعِ والمخالفةِ والأهواءِ.
وينظر في إيمانِه بالملائكةِ، هل يستحضرُ رقابتَهم له، ويتذكرُ أنَّ عليه مَلَكينِ مكلَّفَين به يكتبان حسناتِه وسيئاتِه، فلا ينطق بغيرِ رضا اللهِ وذكرِه، وإذا نطق بغيرِ ذلك تذكَّر واستغفر، ويؤمن بالملائكةِ جميعًا وخلقِهم وصفتِهم كما أخبر اللهُ عنهم، ولا يُنكرْ مما دلَّ عليه الشرعُ شيئًا؛ فمثلاً يؤمنُ بأنَّ الذي يتوفَّى الأنفسَ بإذنِ ربِّه الملكُ، ملَكُ الموتِ الموكَّلُ بها فإذا وضع جنبَه واستشعر أنَّ الملكَ يقبض روحَه وقد لا ترجع، واستحضر كم من عبدٍ نام فلم يستيقظ، وَجِل قلبُه وارتعدت أطرافُه، ووجد همًّاً يبعثُه على الاهتمامِ بطاعةِ ربِّه والمسارعةِ للعملِ له والقيامِ لملاقاتِه ومناجاتِه ورجاءِ ثوابِه.
يؤمنُ باليومِ الآخرِ فيرجو الجنةَ ويحذر الآخرةَ وعقابَها، وهذا الإيمانُ من أعظمِ الدوافعِ على قيامِ الليلِ. قال تعالى:(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)[الزمر:9] .
يؤمنُ بالقدر خيرِه وشرِّه، فلا يجزع لما فاته ولا ما أصابه، ولا يسبّ قدرَ الله، ولا يعترضُ عليه أو يشكوه، فإنما يسبُّ ربَّه ويشكو ربَّه، وهل قدَّر عليه إلا الله؟!
وكلُّ هذا الإيمانِ يكون نابعًا من إيمانِه بكتابِ ربِّه وما جاء فيه من الخبرِ والأمرِ، فإذا قام وقرأ القرآنَ، وكان على يقينٍ وإيمانٍ بأنه كلامُ ربِّه واستحضر أن اللهَ يحادثُه ويُكَلِّمُه؛ خشعَ له واقشعرَ له جلدُه، قال تعالى:(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)[الزمر:23]
3-
محبةُ اللهِ والتعلُّقُ به سبحانَه، لأنَّ من أحبَّ أحدًا حرص على لقائِه وحديثِه والاستماعِ إليه، فلا يشكو إلا له، ولا يأنسُ إلا بحديثِه، فإذا تحدَّث غيرُه لم يزدْ لحديثِ ربِّه إلا حبًّا وتعلقًا وشوقًا.
باللهِ عليك يا أخي أليس لك أحدٌ تحبُّه وتحبُّ مجلسَه وحديثَه؟ تجده قريبًا إلى قلبِك.. سلْ
…
نفسَك إلى أيِّ مدىً تحترم موعدَه لك.. هب أنه غاب عنك ووعدَك لقاءً بعدَ حينٍ.
ألستَ تنتظرُ حين موعده وتذكرُه وتهيءُ نفسَك لاستقبالِه؟! لو طلبَ منك أحدٌ سواه أن تأتيَه في هذا الوقت اعتذرتَ إليه ولم تُجب دعوتَه.. بل قد تُحرِّصُ أهلَك أن يذكِّروك أو يوقِظوك إن كان وقتَ نومٍ، لحرصِك على أن لا تفِّوتَ لحظةَ لقائِه.. سلْ نفسَك يا أخي.. من هذا الذي تحرصُ عليه هذا الحرصَ؟!
أهو رزَقَك؟! أهو يشفيك؟! أهو يؤمِّنُك من فزعِك؟! أهو سببُ وجودِك وخالقُك؟! أهو أبدعَكَ وسوَّاك وعدلَك، وفي أحسنِ صورةٍ ركَّبك؟! أهو وعدَك أنَّ ما سألتَه أعطاك؟! .. لا واللهِ لا يفعلُ ذلك لك، وماله من ذلك من شيءٍ بل هو مخلوقٌ مثلُك، يحتاجُ إلى ما تحتاجُ إليه.
بل إن وعدَك الليلَ فكَّرتَ في لقائِه النهارَ، وإن وعدَك النهارَ فكَّرت في لقائِه الليلَ.. هذا إذا كان لك حبيبًا وقريبًا، ويزيدُ حرصُك وينقصُ بحسب محبتِكَ له وقربِه منك..
وعلى هذا فإنَّ من يحبُّ اللهَ ويحرصُ على لقائِه، وعلى مقدارِ ما يُكِنُّ العبدُ من محبةٍ لربِّه، وما يَقِر في قلبِه من حبِّ اللهِ؛ يكونُ حبُّه للقائِه وشوقُه لموعدِ نزوله.. وأنسُه بحديثه.
وكلُّ واحدٍ يختلفُ عن الآخرِ في حرصِه على لقاءِ الله فمنهم من يقومُ له ثُلُثَ الليلِ، ومنهم من يقومُ رُبُعَه، ومنهم من يقومُ ساعةً، ومنهم من يقومُ نصفَها وربعَها وعشرَها، وهؤلاء يختلفون في محبَّتِهم للهِ كلٌّ بحسبِ عملِه.
وكيف يُثبِتُ العبدُ محبتَه للهِ ويدَّعي ذلك وهو عن لقائِه غافلٌ ولمناجاتِه قالٍ، ولكلامِه هاجرٌ؟!
فالكلُّ عند الادِّعاءِ يدَّعي محبةَ اللهِ. ولكن عند الجزاءِ لا يقرُّ اللهُ لمدَّعي محبتِه، وإنما يقرُّ لأهلِ طاعتِه ورضاه، جعلنا اللهُ منهم.
وسأضربُ لك أخي مثالاً يقرِّبُ ما أقول ويثبته:
سافرت إلى بلدٍ غيرِ بلدك، ولك في بلدِك أهلٌ وأقاربٌ وأصدقاءُ وأخبرتَهم بيومِ عودتِك، وأنَّك تنتظر منهم لقياهم لك.
فلمَّا قدمتَ في موعدِك وجدتَ أحدَهم ينتظرُك عندَ الطائرةِ بذَلَ كلَّ ما يستطيعُ حتى سُمحَ له بالدخولِ لذلك المكانِ، ووجدتَ آخرَ ينتظرك في صالةِ الانتظارِ قدم قبلَ موعدِك بساعةٍ.. وآخرُ وصل للتوِّ، ورابعٌ انتظرك في بيتِك، وخامسٌ جاءك بعدَ وصولِك، وسادسٌ جاءك بعدَ مضيِّ يومٍ من وصولِك.. وسابعٌ لقيتَه في السوقِ فسلَّم عليك وحيَّاك وادَّعى الشوقَ إليك والانتظارَ لقدومِك.
ألستَ تصنِّفُ محبةَ هؤلاءِ بحسب إقدامِهم عليكَ؟!
وهل تصدِّق ذاك الذي لقيتَه في السوقِ لو ادَّعى أنَّه يحبُّك أكثرَ ممن استقبلك عندَ الطائرة؟!
لا أظنُّك تصدق..
إذن فمن ينامُ ملءَ جَفنيه ثم يدَّعي أنَّه يحبُّ اللهَ أكثرَ ممن يهجرُ فراشَه وراحتَه إلى لقاءِ ربِّه ومناجاتِه. إنَّ من تكون هذه حاله لا يمكن أن يكونَ يحبُّ ربَّه أكثر، واللهُ سبحانَه أعلمُ بأهلِ محبَّتِه.
4 -
محبةُ الرسولِ –صلى الله عليه وسلم الصادقةُ، والحرصُ على متابعتِه والاقتداءِ به ورجاءُ الله بذلك (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21] وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران:31] .
5 -
شدةُ الخوفِ من اللهِ سبحانه وتعالى واستحضارُ غضبِه على من فرَّطَ في لقائهِ ومن تهاونَ في صلاةِ الفجرِ، وهذا الخوفُ يتأتَّى بالعلمِ بأحاديثِ الوعيدِ الذي يُكسبُ القلبَ خشيةَ اللهِ، وهذا سببٌ من الأسبابِ التي كانت تدفعُ السلفَ الصالحَ للقيامِ للهِ سبحانه وتعالى.
إذا ما الليل أظلم كابدوه
…
فيسفر عنهمُ وهمُ ركوعُ
أطار الخوفُ نومَهم فقاموا
…
وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجودٌ
…
أنينٌ منه تنفرج الضلوع
وهذا الخوف إذا قُرِنَ بقِصَرِ الأمل كان عونًا للعبد على ذكر القيام ومداومتِه.
6 -
استحضارُ العبدِ شهودَ الله لصلاتِه وحضورَه إياها، وسماعَه لتلاوته واستجابتَه لدعائِه وقبولَ توبتِه واستغفارِه، فإنَّ اللهَ سبحانَه ينزلُ ثلثَ الليلِ الأخيرِ إلى السماءِ الدُّنيا، فيُعطي من سأل ويجيبُ من دعا ويغفرُ لمن استغفر، وقد ثبت ذلك في الحديثِ الذي رواه أبو هريرةَ –رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم قال:(ينزلُ اللهُ تبارك وتعالى إلى السماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ حين يمضي ثلثُ الليلِ الأولِ فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له، من ذا الذي يسألني فأعطيَه من ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له) أخرجه مسلم.
7 سلامةُ القلبِ للمسلمين فلا يحقد على أحدٍ بل ويبيت وهو لا يحمل على أحدٍ ضغينةً ولا وزرًا، فإذا وجد في نفسِه من ذلك شيئًا أحلَّهم قبل أن ينامَ وجعل ذلك صدقةً عليهم، فإذا تصدَّقَ بمظلمتِه على المسلمين تصدَّقَ اللهُ عليه ورَحِمَه وبعثَه ليحصِّلَ خيرًا مما تصدَّقَ به.
8 الابتعادُ عن المعاصي والذنوبِ، والإقبالُ على الطاعاتِ والحسناتِ، والإكثارُ منها سائرَ اليومِ، يسهِّلُ قيامَ الليلِ، لأنَّ من حفِظ اللهَ في يقظتِه حفظه اللهُ في منامِه، ومن كان على طاعةٍ سائرَ يومِه سهُل عليه القيامُ بالطاعاتِ في الليلِ، وقد قال أحدُهم: اليومُ الذي أصومُ فيه أيسر عليَّ في القيام بعدَه في الليلِ من الأيامِ التي لا أصومُ فيها، لأنَّي أشعرُ أنَّ قلبي أكثرُ رقةً. وكما قيل: الحسنةُ تجرُّ أختَها.
9 الإعراضُ عن فضولِ الدُّنيا، فإنَّ التعلُّقَ بالدُّنيا والنومَ معَ التفكيرِ فيها يُبعدُ التفكيرَ في الآخرةِ، فلا يجتمعُ ضدان.
10 اجتنابُ كثرةِ الأكلِ والشربِ والخلطةِ بلا حاجةٍ، لأنَّ ذلك يورثُ غفلةَ القلبِ، وامتلاءُ البطنِ يمنع من القيامِ، فالأكلُ الكثيرُ يستوجبُ النومَ الكثيرَ.*
11 الابتعادُ عن الأعمالِ الشاقةِ والمرهِقةِ للجسدِ بلا فائدة، والتي يحتاج الجسدُ بعدَها إلى راحةٍ ونومٍ مستغرقٍ.
12 إلزامُ النفسِ الهمَّ بالقيامِ وهذا الهمُّ لا يتأتَّى إلا بصدقِ الطلبِ والحرصِ، سُئل المحاسبي عن الدليلِ على أنَّ الهمَّ يوقظ صاحبَه، فقال: "الدليلُ على ذلك أنَّ العبدَ قد ينام الليالي الكثيرةَ، فلا يستيقظ إلا بقربِ وقتِ صلاةِ الفجرِ أو بعدَه، حتى إذا عرضت له حاجةٌ من حوائجِ الدُّنيا يهتمُّ بأن ينالَها، ويحذرُ أن تفوتَه إن لم يدلج لها، فإذا نام مهتمًا بالقيامِ وقد ألزم قلبَه الحذرَ من أن يذهبَ به النوم ُفيفوتَه البكورُ تيقَّظَ في الليلِ مرارًا لغيرِ الوقتِ الذي ينتبه له، يحرِّكه الاهتمامُ والحذرُ اللذان نام وهما في قلبِه، فإذا كان الاهتمامُ والحذرُ لأمرِ الدنيا يوقظان عقلَه وينبهانِه بعدَ ما نام وذهب عقلُه؛ فهما أولى أن يوقظاه لأمرِ الآخرةِ وهو يقظان لم ينم.
وشتانَ بين المطلوبين هذا يطلب قليلاً فانيًا مكدرًا بالغمومِ والأمراضِ والأسقامِ، ومن بعدِه يختمُ له بالموتِ، ومن بعدِ الموتِ ينظر فيه بعدَما ذهبت لذتُه ومنفعتُه، وبقي السؤالُ بين يدي اللهِ تعالى، حتى يُسألَ عنه: ماذا صنع فيه؟ ثم العفوُ أو العذابُ عليه، ومع هذه الأسبابِ المكدرةِ في الدُّنيا والآخرةِ لن ينالَ من ذلك إلا ماقدر له، وهذا يهتمُّ لطلبِ باقٍ كثيرٍ لا يفنى، مع نعيمٍ مقيمٍ وعيشٍ سليمٍ قد أُزيلت عنه الأمراضُ والأسقامُ، ورُفعت عنه الهمومُ والغمومُ والأحزانُ، ولا يختم بموتٍ أبدًا،ولا حسابَ ولا تبعةَ فيه عليه، والمولى راضٍ عنه، هو مسرورٌ بما يتقلَّبُ فيه من نعيمِ الآخرةِ، باقٍ فيه أبدًا، ولا يشاءُ إلا بلغت فيه مشيئتُه في حياةٍ ليس فيها موتٌ، ونعيمٌ لا يخاف عليه أبدًا الفوت، مجاورُ القدوسِ الأعلى في دارِه، لا يخاف سخطَه بعدَ رضاه ثم ما رضي له بذلك حتى أكملَ ذلك له بغايةِ الكرامةِ، وقرَّبه إليه في الزيارةِ، وأنجزَ له ما وعدَه من الرؤيةِ والنظرِ إلى وجهِهِ الكريمِ عز وجل، إذ يقول جلَّ من قائلٍ:(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر:54،55] فأعظِم به من مجلسٍ، وأكرِم به من زائرٍ ومزورٍ، وناظرٍ ومنظورٍ إليه، ومقبِلٍ ومقبَلٍ عليه، مترددٌ فيما بين نعيمِه ولذاتِه، والنظرِ إلى وجهِهِ جلَّ وعزَّ، فشتانَ ما بين الهمَّتين، وشتانَ ما بين الغايتين، فإذا كان هذا النائمُ يوقظُه اهتمامُه لهذا الفاني المنغَّصِ المكدَّرِ بعد ذهابِ عقلِه، فالهمُّ للباقي الهنيءِ السليمِ، والحذر من فوتِه مع الحلولِ في العذابِ الأليمِ؛ أولى أن يتيقَّظَ له العقلُ، ولم يذهب بنومٍ، فإذا اهتم وحذر تيقظ" (1) .
(1) الرعاية لحقوق الله ص94، ص95
13 التيقُّنُ من القيامِ والقدرةِ عليه وعلى الوترِ بعدَ النومِ وذلك أفضلُ لقولِه تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا)[المزمل:6] .
قال بعضُ المفسرين: " (إنَّ ناشئةَ الليلِ) : أي ساعات الليلِ وأوقاته التي فيها التفرغُ والصفاءُ، وما ينشئُه المرءُ من طاعةٍ وعبادةٍ يقوم لها من مضجعِه بعد هدأةٍ من الليل، (هي أشد وطئًا) أي: هي أشدُّ على المصلِّي وأثقلُ من صلاةِ النهارِ، لأنَّ الليلَ جُعل للنومِ والراحةِ، فقيامُه على النفسِ أشدُّ وأثقلُ، ومن شأنِ هذه الممارسةِ الصعبةِ أن تقويَ النفوسَ، وتشدَّ العزائمَ، وتصلبَ الأبدانَ"(1) .
وصلاةُ الليلِ مشهودةٌ وذلك أفضلُ، فإن لم يتيقَّن العبدُ من القدرةِ على القيامِ فإنَّه يشرعُ له أن يصليَ قبلَ أن ينامَ.
عن جابرٍ رضي الله عنه قال رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم: (من خافَ أن لا يقومَ من آخرِ الليلِ، فليوتر أولَه، ومن طَمِع أن يقومَ آخرَه فليوتر آخرَ الليلِ، فإنَّ صلاةَ آخرِ الليلِ مشهودةٌ وذلك أفضلُ) رواه مسلم.
وما ذاك إلا لأنَّ من لم يتقين القيامَ وفاتَه الوترُ ليلتَه كلَّها فاته خيرٌ كثيرٌ، ومن ثم يتكرَّرُ هذا مراتٍ حتى يسهلَ عليه التفويتُ والتضييعُ،لأنَّ المرءَ حين يقصِّر لأولِ مرةٍ يجد في قلبِه غمًّا وهمًّا، فإن عاد مرةً أخرى خفَّ هذا الهمُّ والاغتمامُ، فإذا تكرَّر نقصَ ونقصَ حتى يذهب،فلا يحزنُ لفواتِ القيامِ فيُحرمَ القيامَ كلَّه.
14 أن يسعى إلى وضعِ ما ينبِّهُه كتوقيتِ الساعةِ المنبِّهةِ أو تكليفِ أحدٍ أهلِه أو جيرانِه أو أصدقائِه بإيقاظِه.
(1) صفوة التفاسير 3/466
فإذا كان ممن لا يشعرُ بتصرفاتِه وهو نائمٌ فليُبعد منبِّهَهُ ويجعل بينه وبينه حائلاً فلا يستطيعُ إغلاقَه إلا ببذلِ جهدٍ، كوضعِه على نافذةٍ مرتفعةٍ أو خزينةِ ملابسٍ عاليةٍ فلا يتمكن من الوصول إليها إلا بالصعودِ على كرسيٍّ ونحوِه، فيكون بعد ذلك قد استيقظ تمامًا، وهذا بلا ريبٍ لا يضطرُ إليه إلا من تكررَ منه إغلاقُ المنبِّهِ والنومُ مرةٍ ومراتٍ، أو يستخدمُ التوقيتَ لإطفاءِ التكييفِ فيضبطه مثلاً قبلَ وقتِ قيامِه فيضايقه ذلك فيستيقظ.
15 أن يتعاونَ مع أحدٍ أهلِ بيتِه على القيامِ لأنَّ الشيطانَ أغلبُ على الواحدِ منه على الاثنين، والتعاونُ أدعى للتنافسِ، وأدومُ للعملِ لا سيما إذا كان التعاونُ بينَ الزوجِ وزوجتِه، قال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم:(رَحِمَ اللهُ رجلاً قامَ من اللَّيلِ فصلَّى وأيقظَ امرأتَه فإن أبت نضَحَ في وجهِها الماءَ، ورَحِمَ اللهُ امرأةً قامت من اللَّيلِ فصلَّت وأيقظت زوجَها فإن أبى نضَحَت في وجهِه الماءَ) رواه أبو داوود وقال الألباني: حسن صحيح.
وعن أمِّ سلمةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها: أنَّه استيقظَ ليلةً فزعًا، يقول:(سبحانَ اللهِ، ماذا أنزل اللهُ من الخزائنِ؟ وماذا أُنزل من الفتنِ؟ من يوقظ صواحبَ الحجراتِ، يريد أزواجَه، لكي يصلِّين؟ رُبَّ كاسيةٍ في الدُّنيا، عاريةٌ في الآخرةِ) رواه البخاري.
وكان أبو هريرةَ وامرأتُه وخادمُه يقَسِّمون الليلَ ثلاثًا. يصلِّي هذا، ثم يوقظُ هذا.
16 العزيمةُ على من تكلِّفه بإيقاظِك أن لا يتركَك حتى تستيقظَ ويتأكدَ من استيقاظِك، ولو دعاه ذلك إلى نضحِ الماءِ في وجهِك لما في ذلك من طردٍ للشيطانِ وحضورٍ للعقلِ، وعليك أن لا تغضبَ إن فعلَ ذلك، حتى لا تفترَ عزيمتُه على إيقاظِك، فإنَّك لو تعلم مقدارَ ما أيقظك صاحبُك له لقبَّلت رأسَه أن أيقظَك ولو أراقَ عليك الماءَ. ولعلِّي أضربُ مثلاً يقرِّب المعنى للقلوبِ، بأصحابٍ ناموا في بيتِ ملِكٍ وعدَهم وعدًا، وهو منجزٌ وعدَه لهم أن يعطيَهم مسألتَهم ويسمع شكواهم فيُشكيهم ويأخذ حقَّهم ممن ظلمَهم، ويصفح عن حقوقِه التي قصَّروا فيها باعتذارِهم منه، فلما أدركَهم التعبُ وكان موعدُ الملكِ متأخرًا ناموا وأمروا من يستيقظُ منهم أن يوقظَهم، فلما قَرُب موعدُ الملكِ وجاء ينظر مَن بمجلسِه، إذا هذا المستيقظُ يوقظُ أصحابَه فلما غلبَهم النومُ تركهم خشيةَ أن ينغِّصَ عليهم نومَهم، فلما ذهب الملكُ وفات الموعدُ وأخذ كلُّ حاضرٍ نصيبَه ذهبوا يعاتبون هذا الذي لم يوقظهم وقصَّر في الإلحاحِ عليهم، ولو كان أراقَ عليهم الماءَ وهم مدركون لِما له سيقومون وما سينالهم من النصيبِ الوافرِ لما تضايقوا ولا عاتبوه، وإنما عاتبوه لتقصيرِه. وهكذا الحريصُ على قيامِ الليلِ يعزِمُ على صاحبِه أو أهلِه أن يوقظوه، ولو كان ذلك مزعجًا له، ولو فرَّطوا في إيقاظِه لعاتبَهم على ذلك.
17 اتباعُ السنةِ في النومِ، وذلك في وقتِ النومِ، وكيفيةِ الاضطجاعِ وغيرِها، كما يلي:
أالنومُ أولَ الليلِ فإنَّ في ذلك عونًا كبيرًا على قيامِ الليلِ، أما من ينام نصفَ الليلِ أو بعدَ ذلك فإنه يشقُّ عليه القيامُ لأنه لم يستوفِ راحةَ جسدِه وحقَّه من النومِ، وحقُّ المرءِ من النومِ في اليومِ والليلةِ ثمان ساعاتٍ، دلَّ على ذلك حديثُ وصفِ صلاةِ داوودَ –عليه السلام، فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ –رضي الله عنهما أنَّ رسولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم قال:(أحبُّ الصلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داوودَ، وأحبُّ الصيامِ إلى اللهِ صيامُ داوودَ كان ينام نصفَ الليلِ ويقوم ثلثَه وينام سدسَه ويصوم يومًا ويفطر يومًا) متفق عليه.
ولو جمعنا السدسَ إلى النصفِ لكان الثلثين، والثلثان ثماني ساعاتٍ إذا كان الليلُ اثنتي عشرةَ ساعةً، ولما كان المؤمنُ يتأخرُ عن النومِ في أولِ الليلِ لأداءِ العشاءِ كانت القيلولةُ عوضًا له عما ينقصه من النومِ ليتمَّ له ثماني ساعاتٍ أو قريبًا منها، فإذا جاء ثلثُ الليلِ الآخرِ إذا هو يقظٌ نشيطٌ. وقد كان رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم يَقيلُ، وينام أولَ الليلِ، وقد ثبت ذلك عنه، روت عائشةُ –رضي الله عنها:" أنَّ النبيَّ–صلى الله عليه وسلم كان ينام أولَ الليلِ ويقوم آخرَه فيصلي". متفق عليه. وكان النبيُّ –صلى الله عليه وسلم يكرهُ الحديثَ بعدَ العشاءِ كما في البخاري.
ب ألا ينامَ على فراشٍ وثير، بل يكتفي باليسيرِ، وذلك لما رُوى أنَّ رسولَ اللهِ-صلى الله عليه وسلم، نام وقد ثُني فراشُه أربعَ ثنياتٍ وكان يثني اثنتين فلما أصبحَ وقد فاته القيامُ سأل: ماذا صنعتم به؟ فلما أخبروه قال: (ردُّوه كما كان) أخرجه الترمذي في الشمائل، وضعفه الألباني.
كذلك عليه أن لا يلتحفَ بأغطيةٍ كثيرةٍ لأنها تستدعيه إلى الدفءِ والكسلِ.
ج-أن ينامَ على وضوءٍ وذكرٍ، فمن توضأ ونام طاهرًا باتَ تحرسُه الملائكةُ وتدعو له وتستغفرُ له. عن ابنِ عمرَ –رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم: (من باتَ طاهرًا، بات في شِعارِه ملَكٌ، فلم يستيقظ إلا قال الملكُ: اللهم اغفر لعبدِك فلان فإنَّه بات طاهرًا) أخرجه ابن حبان في صحيحه وقال الألباني: حسن صحيح.
ويحسن به أن يسألَ اللهَ قبلَ نومِه أن يوقظَه للصلاةِ.
د-النومُ على الشِّقِّ الأيمنِ، كما أرشدَ النبيُّ –صلى الله عليه وسلم البراءَ بنَ عازبٍ فقال:(إذا أخذتَ مضجعَك فتوضأ وضوءَك للصلاةِ ثم اضطجع على شِقِّكَ الأيمنِ..) رواه مسلم.
هـ-الحرصُ على أذكارِ النومِ التي وردت في السنةِ والآياتِ والسورِ التي كان يقرأ بها قبلَ نومِه، فهي حمايةٌ للعبدِ من الشيطانِ بإذن اللهِ، ويعينُ على القيامِ، والنومُ بعدَ القراءةِ يكون خفيفًا ويبات صاحبُه على القرآنِ ويستيقظُ عليه، وإنه لمشاهدٌ أنَّ من نام على القرآنِ قام يقرأ القرآنَ، ومن نام على الشعرِ قام يشعر، ومن نام على الغناءِ قام يغني.. وهكذا.
ومما وردَ من الأذكارِ والسورِ التي تُقرأ قبلَ النومِ:
قراءةُ سورتي الزُّمرِ والإسراءِ، فعن عائشةَ –رضي الله عنها قالت:"كان رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزُّمرِ وبني إسرائيلَ". رواه الترمذي وصححه الألباني، و"بني إسرائيل" اسمٌ لسورةِ الإسراءِ.
وعن عائشة رضي الله عنها:" أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشِه كلَّ ليلةٍ جمع كفَّيه ثم نفثَ فيهما يقرأ (قل هو اللهُ أحدٌ) و (قل أعوذ بربِّ الفلقِ) و (قل أعوذ بربِّ الناسِ) ثم يمسحُ بهما ما استطاعَ من جسدِه، يبدأُ بهما على رأسِه ووجهِه وما أقبلَ من جسدِه يفعلُ ذلك ثلاثَ مراتٍ". متفق عليه.
وكذلك قراءةُ آيةِ الكرسيِّ.
وما ثبت من حديثِ أبي هريرةَ –رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أوى أحدُكم إلى فراشِه، فليأخذ داخلةَ إزارِه فلينفض بها فراشَه وليسمِّ اللهَ فإنَّه لا يعلمُ ما خلَفَه بعدَه على فراشَه، فإذا أرادَ أن يضطجعَ فليضطجِع على شِقِّه الأيمنِ وليقُل سبحانَك الَّلهم ربِّي وضعتُ جنبي وبك أرفعُه إن أمسكتَ نفسي فاغفر لها وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين) رواه مسلم.
وما أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم-إليه ابنتَه فاطمةَ-رضي الله عنهما حينما اشتكت إليه ما تلقى في يدِها من الرَّحى فسألته خادماً. فقال صلى الله عليه وسلم لها ولعليٍّ رضي الله عنهما: (ألا أدلُّكما على خيرٍ مما سألتُما؟ إذا أخذتما مضاجعَكما، أو أويتما إلى فراشِكما، فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادمٍ) أخرجه البخاري
وكذلك قراءةُ سورةِ الكافرون،فعن نوفلٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ-صلى الله عليه وسلم قال له:" اقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم عند خاتمتِها فإنها براءةٌ من الشركِ".أخرجه أبو داوود والترمذي وصححه الألباني.
والاكتحالُ قبلَ النومِ من هديِ نبيِّنا –صلى الله عليه وسلم، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما – قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتحلُ بالإثمدِ ثلاثاً قبلَ أن ينامَ كلَّ ليلةٍ " أخرجه الإمام أحمد وصحح إسناده أحمد شاكر.
وله أثرٌ في القيامِ بيدَ أنَّ أكثرَ الناسِ عن هذا غافلون. والاكتحالُ بالإثمدِ يجلو البصرَ ويذهب الرمدَ، والرمدُ يجعل المرءَ ميالاً لإغماضِ عينيه بعدَ النومِ مما يكون مدعاةً لغلبةِ النومِ، وقد ورد في الحديثِ:(وكاءُ السّهِ العينان فمن نام فليتوضأ) رواه أبو داوود وحسنه الألباني.
وحين الاستيقاظ:
أ-أن يذكرَ اللهَ أولَ ما يدركه وعيُه ويعقلُ يقظتَه، ويلزمُ نفسَه بذلك قبلَ النومِ ويستحضرُ أنَّه إن لم يفعل فإنَّ عدوَّه يتربصُ له بالكيدِ، بل قد أعدَّ الحبلَ ليوثِقَه به ويعقدُ عليه ثلاثَ عقدٍ، فإذا أرادَ العبدُ حلَّ العقدِ سارعَ الشيطانُ لعقدِها مرةً أخرى، وهذه العقدٌ تحَلُّ بإذنِ اللهِ، ولكن لكلِّ عقدةٍ حلٌّ:
فالعقدةُ الأولى: حلُّها بذكرِ اللهِ.
والعقدةُ الثانيةُ: حلُّها بالوضوءِ.
والعقدةُ الثالثةُ: حلُّها بالصلاةِ.
والشَّيطانُ ينتهزُ ويتحيَّنُ الفرصَ ليعيدَ العقدَ مرةً أخرى، فإذا قام العبدُ وذكر اللهَ وانحلت عقدةٌ عاد الشيطانُ ليعقدَها بقولِه: عليك ليلٌ طويلٌ فنَم، وقد تقولُ: إذا كان الشيطانُ يعود ليعقدَ عليَّ فكيف أحصِّنُ نفسي من عقدِه؟!
إذا أردتَ أن تحصنَ نفسَك من عقدِه، فعليك أن لا تعطيَ الشيطانَ فرصةً لإعادةِ العقدِ وذلك بأن تستمرَّ في ذكرِ اللهِ وترفع به صوتَك رفعًا ليس بالقويِّ، وإنما تسمع نفسَك ومن كان مستيقظاً عندك وذلك هديُ نبيِّك محمدٍ –صلى الله عليه وسلم.
عن ابنِ عباسٍ –رضي الله عنهما أنَّ رسولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاةِ من جوفِ الليلِ: (اللَّهم لك الحمدُ، أنتَ نورُ السماواتِ والأرضِ، ولك الحمدُ، أنتَ قيَّومُ السماواتِ والأرضِ، ولك الحمدُ، أنتَ ربُّ السماواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ، أنتَ الحقُّ، ووعدُك الحقُّ، وقولُك الحقُّ، ولقاؤك الحقُّ، والجنةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ، والساعةُ حقٌّ، اللَّهم لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ وأخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت إلهي، لا إله إلا أنتَ) رواه البخاري ومسلم.
فلو لم يكن رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم يرفعُ صوتَه بهذا الدعاءِ لمَا سمِعَه عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ وحدَّثَ به.
وانظر يا عبد َاللهِ في هذه الكلماتِ التي يبادِرُ بها –صلى الله عليه وسلم أولَ ما يقومُ، إنها تجديدٌ للإيمانِ بعدَ البعثِ من المنامِ، وكأنَّها حياةٌ جديدةٌ تبدأها بالإيمانِ والاستسلامِ للهِ، ومَن هذا قولُه، وهذه حالُه عندَ يقظتِه فأنَّى للشيطانِ أن يجدَ إليه سبيلاً.
كما يمكن أن تقرأَ شيئًا من القرآنِ عند يقظتِك ويُسنُّ قراءةُ العشرِ الأواخرِ من سورةِ آلِ عمرانَ، ولكن عليك أن تقرأَها جالسًا لئَلَّا يغلبك النومُ.
عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ –رضي الله عنه أنَّه بات عندَ ميمونةَ زوجِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم وهي خالتُه. قال: (فاضطجعت في عرضِ الوسادةِ، واضطجع رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم وأهلُه في طولِها، فنام رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصفَ الليلُ أو قبلَه بقليلٍ أو بعدَه بقليلٍ، استيقظ رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم، فجلس يمسحُ النومَ عن وجهِه بيديه (1) ، ثم قرأَ العشرَ الآياتِ الخواتمَ من سورةِ آلِ عمرانَ، ثم قام إلى شنٍّ (2) معلقةٍ، فتوضأ منها فأحسنَ الوضوءَ، ثم قام يصلِّي. قال عبدُ اللهِ: فقمتُ فصنعتُ مثلَ ما صنع ثم ذهبتُ فقمتُ إلى جنبِه، فوضع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يدَه اليمنى على رأسي فأخذ بأُذُني يفتِلُها، فصلَّى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم أوترَ ثم اضطجعَ حتى جاءَه المؤذِّنُ، فقامَ فصلَّى الصبحَ) متفق عليه.
(1)1.يمكن أن يكون مسح الوجه بعد النوم من الأسباب المعينة على القيام فتدبر ذلك. فيه طرد للكسل وإبعاد أثر النوم والاستعداد للنهوض وتجلية البصر، لأن النوم له أثر في إطباق الجفون، فعندما يصحوا النائم قد تراه مفتوح العينين ولكنه لا يرى شيئا أو لا يدرك ولا يتحقق ما أمامه ومن الناس من يستيقظ ويمشي وهو مفتوح العينين ولا يدري إلى أي اتجاه يذهب.
(2)
شن: القربة القديمة.
فرسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم قرأ بصوتٍ مسموعٍ سمِعه ابنُ عباسٍ –رضي الله عنه.
ولا يجبُ لقراءتِك الوضوءُ ما دمتَ تقرأُ من صدرِك.
ثم تسارعُ إلى الوضوءِ لتحُلَّ العقدةَ الثانيةَ، وأنتَ عندَ وضوئِك تستحضرُ أنَّ الشيطانَ قد بال في أذنيك ومنخريك، فتبالغ في المضمضةِ والاستنشاقِ، والمبالغةُ فيهما لا سيَّما عندَ القيامِ من النومِ
مطردةٌ للنومِ ومبعدةٌ للشيطانِ.
وإيَّاك أن ترجعَ إلى فراشِك بعدَ الوضوءِ، فإنَّ الشيطانَ يريد أن يعيدَك إلى قيدِه فيزيِّن لك الفراشَ ويغريك، ويوسوسُ لك تارةً بالاستدفاءِ وتارةً بالراحةِ.
ب- السواكُ من أعظمِ ما يُذهبُ النومَ ويعينُ على القيامِ، فله فائدةٌ عجيبةٌ لا سيَّما قبلَ الوضوءِ، فإذا استقعدتَ في فراشِك فتناول سواكَك الذي أعددتَه قبلَ النومِ، وليكن قريباً منك، ثم استك به فإنَّه سنةُ نبيِّك ومطهرةٌ لفمِك ومرضاةٌ لربِّك.
عن حذيفةَ-رضي الله عنه قال: "كان رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-يشوصُ (1) فاه بالسِّواك".متفق عليه.
ج- أن ينهضَ من الفراشِ مباشرةً، إن غلبَ عليك النومُ فمارس بعضَ التمارينِ الرياضيةِ الخفيفةِ لتستعيدَ نشاطَك، وذلك كالمشي والحركةِ والقيامِ والجلوسِ بسرعةٍ مراتٍ متكررةٍ.
د- البدءُ بركعتين خفيفتين يُذهبُ عنك النومَ، لأنَّ البدءَ بركعتين طويلتين إذا كنت ناعساً قد يغلبك النومُ أثناءَها لقلةِ الحركةِ.
فمن هديه –صلى الله عليه وسلم بدءُ القيامِ بركعتين خفيفتين،وأمرَ بذلك لما فيه من فائدةِ تنشيطِ الجسمِ وطردِ النومِ، فعن أبي هريرةَ –رضي الله عنه-أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم-قال:" إذا قام أحدُكم من الليلِ فليبدأ الصلاةَ بركعتين خفيفتين" رواه مسلم.
(1) يدلك أسنانه وينقيها
هـ-وحتى لا يملَّ قائمُ الليلِ أو يغلبَه الشيطانُ، فعليه أن ينوِّعَ في صلاتِه من حيث عددِ الركعاتِ وصفتِها، كما وردت السنةُ بذلك.
فتارةً يصلي إحدى عشرةَ ركعةً، مثنى مثنى، وهي أكثرُ صلاتِه –صلى الله عليه وسلم ولم يزد على هذا العددِ، لا في رمضانَ ولا في غيرِه، ولكنَّها صلاةٌ بطمأنينةٍ وخشوعٍ.
تقول عائشةَ –رضي الله عنها (ما كان رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم يزيدُ في رمضانَ ولا في غيرِه على إحدى عشرةَ ركعة يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنِهن وطولِهن ثم يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنِهن وطولِهن ثم يصلي ثلاثًا) متفق عليه.
وتارةً يصلي تسعَ ركعاتٍ، وعنها –رضي الله عنها:(وكان يصلي من الليلِ تسعَ ركعاتٍ فيهنَّ الوترُ) رواه مسلم.
وإن شاء أوترَ بثلاثٍ وإن شاء أوترَ بخمسٍ وإن شاء أوترَ بواحدةٍ.
وعلى المبتدئ في قيامِ الليلِ أن يتدرَّجَ فيه، فلا يثقلُ على نفسِه في بدايةِ الأمرِ حتى لا يملَّ أو يتركَ القيامَ، فيبدأُ بركعاتٍ قليلةٍ لمدةِ أشهر ثم إذا اعتاد عليها زاد وهكذا، وكذلك تطويلُ القيامِ يكون بالتدرجِ.
ويرى في الجهرِ والإسرارِ في القراءةِ أيُّهما الأنسبُ له وأخشعُ لقلبِه.
-وإذا غلبه نعاسٌ تركَ الصلاةَ ونام، فعن أبي هريرةِ –رضي الله عنه يرفعه:(إذا قام أحدُكم من الليلِ فاستعجمَ القرآنُ على لسانِه فلم يدرِ ما يقول فليضطجِع) رواه مسلم.
-ولم يستكمل رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم قيامَ ليلةٍ وقال لابنِ عمرَ –رضي الله عنه: (فإنَّك إذا فعلت ذلك هجمت عينُك ونفهت نفسُك وإنَّ لنفسِك حقًّا) رواه البخاري. ونفهت:بمعنى نهكت وتعبت.