المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفيما يعود على المسلم من قيام الليل في الدنيا والآخرة - الإبانة عن أسباب الإعانة على صلاة الفجر وقيام الليل

[رقية المحارب]

الفصل: ‌فصلفيما يعود على المسلم من قيام الليل في الدنيا والآخرة

‌فصلٌ

فيما يعُودُ على المسلم من قيامِ الليل في الدُّنيا والآخِرةِ

ذُكرت الدُّنيا قبلَ الآخرةِ لأنَّ جزاءَ الدُّنيا ولذَّتَها قريبةٌ ملموسةٌ نعيشُها الآنَ، وهذه الدارُ زمنًا تُقدَّمُ على الآخرةِ، وإلَّا فإنَّ عِظَمَ جزاءِ الآخرةِ وخلودَها أدعى للتَّقديمِ، ولكن لعلَّ التأخيرَ يكونُ أقوى ليبقى في الذِّهنِ الجزاءُ والثوابُ الأُخرويُّ.

ما يعود على المسلمِ من قيامِه في الدُّنيا:

1-

القيامُ ينهى صاحبَه عن الذنوبِ والمعاصي وفعلِ المنكراتِ، ودليلُ ذلك قولُه تعالى:(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[العنكبوت:45] وقيل لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إن فلانًا يصلي بالليلِ فإذا أصبح سرق، قال: سينهاه ما يقول) رواه أحمدُ وابنُ حبان وصححه الألباني.

والصلاةُ مطلقاً تنهى عن الفحشاءِ، ولكنَّ قيامَ الليلِ له ميزةٌ في نهي صاحبِه، لأنَّه حين يقومُ يناجي ربَّه تعرضُ له أعمالُه فيخاف أن لا يقبلَ منه بسببِها فيتركَ ما يعملُ من المعاصي.

2-

أنه يطرد الداءَ من الجسدِ، وأولُ داءٍ يطردُه داءُ العجزِ والكسلِ، قال صلى الله عليه وسلم:(عليكم بقيامِ الليلِ فإنَّه دأبُ الصالحين قبلَكم، فإنَّ قيامَ الليلِ قربةٌ إلى اللهِ عز وجل وتكفيرٌ للذنوبِ ومطردةٌ للداءِ عن الجسدِ ومنهاةٌ عن الإثمِ) أخرجه الترمذي والبيهقي، وقال العراقي: إسناده حسن، وحسنه الألباني.

ص: 20

3-

في قيامِ الليلِ يحصل العبدُ على كلِّ خيرٍ لدنياه، فإنَّ في الليلِ ساعةً لا يوافقها عبدٌ يسأل الله تعالى خيرًا من أمرِ دنياه وآخرتِه إلا أعطاه إيَّاه، فعن جابرٍ –رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ من الليلِ ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل اللهَ خيرًا إلا أعطاه إيَّاه، وذلك كلَّ ليلةٍ) أخرجه مسلم. فانظروا يا عبادَ الله كم في قيامِ الليلِ من مصالحِ دنياكم،بل فيه مصالحُ دنياكم كلُّها، لأنَّك يا عبدَ اللهِ لا تعلمُ ما سينفعُك من دنياك مما سيضرُّك، فكم من تجارةٍ تساهمُ فيها وتتحسَّرُ عندما تخسرها، وكم من بيتٍ تبنِيه ويخربُ، وكم من تعبٍ في مذاكرةٍ لامتحانٍ ترسبُ فيه، أو يلغى، وكم من زوجةٍ تدفع مهرَها وتُمنِّي نفسَك بها، لا تُوفَّقُ فيها.. وهكذا حالُ دنياك. فلو سألتَ اللهَ في ساعةِ الاستجابةِ التوفيقَ في أمورِكَ كلِّها، وقمتَ بين يدَي ربِّك قبلَ أن تُقدمَ على عملِك سائلاً إيَّاه أن لا يضيعَ تعبَك، وأن يوفِّقَك لما يرضيك، لَمَا ندِمتَ أبدًا، حينئذٍ تطمئنُّ إلى أنَّ مالِكَ الدُّنيا المعطي الباسطَ وليُّك وكافيك وحسبُك، فكيف تحزنُ أو كيف تقلقُ وإيِّاه دعوتَ وعليه توكَّلتَ؟! فهو مُجري السَّحابِ ومذلِّلُ الصِّعابِ ومدبِّرُ الكونِ ومقسِّمُ الأرزاقِ. فيا عزبًا تريدُ الزواجَ،؛ قم فاسأل ربَّك زوجةً صالحةً تسعدك..ويا مريضًا؛ قم فاسأل ربََّك شفاءً من مرضِك.. ويا متاجرًا؛ قم فاسأل ربك أن يُربِحَك.. وهل يستغني أحدٌ عن اللهِ؟! ومن يستغني يستغنِ اللهُ عنه، واللهُ الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ إليه. أيعلمُ عبدٌ أنَّ اللهَ هو الغنيُّ ويؤمنُ بذلك ثم يزهدُ فيما عندَه!! لا والله أبدًا.

أتهزأ بالدعاء وتزدريه

وما تدري بما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطي

ولكن لها أمد وللأمد انقضاء

ص: 21

4-

قيامُ الليلِ يورثُ صاحبَه لذةً في القلبِ، وقد حكى ذلك كثيرٌ من السلف: قال ابنُ المنكدرِ: ما بقي من لذَّاتِ الدُّنيا إلا ثلاثٌ: قيامُ الليلِ، ولقاءُ الأخوانِ، والصلاةُ في جماعةٍ. وقال أبو سليمانَ –رحمه الله: أهلُ الدُّنيا في ليلِهم ألذُّ من أهلِ اللَّهوِ في لهوِهم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدُّنيا. وقال آخرُ: لو يعلمُ الملوكُ ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إن لي وردًا بالليل لو تركته لخارت قواي. قال الغزالي-رحمه الله في بيان ما يعود على قائم الليل من اللَّذة: "وأما النقل فيشهد له أحوالُ قوّام الليل في تلذذهم بقيام الليل واستقصارِهم له كما يستقصرُ المحبُّ ليلةَ وصالِ الحبيب، حتى قيل لبعضهم: كيف أنت والليل؟ قال: ماراعيته فقط يريني وجهه ثم ينصرف وما تأملتُه بعدُ. وقال آخر: أنا والليل فرسا رهان؛ مرة يسبقني إلى الفجر، ومرة يقطعني عن الفكر، وقيل لبعضهم: كيف الليل عليك؟ فقال: ساعة أنا فيها بين حالتين، أفرح بظلمته إذا جاء وأغتم بفجره إذا طلع ما تم فرحي به قط. وقال علي ابن بكار: منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر، قال الفضيل بن عياض: إذا غربتْ الشمسُ فرحتُ بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعتْ حزنتُ لدخول الناس عليّ"(1) .

5-

صاحبُ قيامِ الليلِ يصبحُ طيِّبَ النفسِ نشيطًا يُعان على عملِه سائرَ يومِه. قال رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم إذا هو نام ثلاثَ عقدٍ، يضرب مكانَ كلِّ عقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ ذكرَ اللهَ انحلت عقدةٌ، فإن توضأ انحلت عقدةٌ، فإن صلى انحلت عقدةٌ، فأصبح نشيطاً طيبَ النفسِ، وإلا أصبح خبيثَ النفسِ كسلانَ) متفق عليه.

(1) إحياء علوم الدين

ص: 22

وصدَقَ الصادقُ المصدوقُ، فترى أصحابَ القيامِ لا يبدو عليهم الكسلُ بل يبدون ذووا نشاطٍ وحيويةٍ، بينما ترى أصحابَ النومِ إلى الصباحِ وقد تورَّمت أعينُهم من النومِ لا يكادون يمدُّون أيديَهم أو يثنون أرجلَهم إلا شعروا بالكسلِ والتعبِ، وما ذاك النشاطُ لصاحبِ القيامِ إلا عونٌ من اللهِ تعالى لمناجاتِه وتقرُّبِه إليه حتى أصبحَ بصرَه وسمعَه ويدَه ورجلَه.. قوةٌ يمنحها اللهُ له لا يجدُها غيرُه. لذا فلا تعجب إذا قرأتَ عن الصحابةِ وتبعهِم من السلفِ الصالحِ الذين يبيتون لربِّهم سجدًا وقيامًا، وإذا أصحبوا كانوا فرسانًا يخوضون غمارَ المعاركِ ويركبون الصِّعابَ لا يغلبهم أحدٌ من أصحابِ النومِ الطويلِ والرقادِ المريحِ.

6-

صلاحُ الأبناءِ من نتائجِ قيامِ الآباءِ في الليالي الباردةِ، فإذا قام العبدُ يصلِّي يسأل اللهَ أن يصلحَ له في ذرِّيتهِ ويحفظَهم حتى بعدَ مماتِه، قال تعالى:(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)[الكهف:82]

نعم.. رحمهما اللهُ برحمةِ أبيهما الذي كان يسألُ اللهَ لهما –طوالَ حياتِه- الحفظَ والصلاحَ.

7-

أصحابُ القيامِ والتهجدِ على الرُّغم من أنَّهم أقلُّ نومًا من غيرِهم؛ إلا أنَّهم يكتسبون نورًا في وجوهِهم سائرَ يومِهم وعندَ موتِهم. وقد حكى كثيرٌ من السَّلفِ أنَّهم يجدون النورَ في وجهِ صاحبِ القيامِ في حياتِه وعندَ مماتِه. قيل للحسنِ –رحمه الله: ما بالُ المتهجِّدين من أحسنِ النَّاسِ وجوهًا؟ قال: لأنَّهم خَلَوا بالرَّحمنِ فألبسَهم نورًا من نورِه.

ص: 23

8-

سعةُ الرزقِ سمةُ أصحابِ القيامِ، يرزقهم اللهُ من حيث لا يحتسبون، ذلك لأنَّهم صبروا على قيامِ الليلِ واحتسبوه واتقوا اللهَ سبحانه وتعالى، وقد وعدَ اللهُ من اتَّقاه واحتسبَ عندَه الأجرَ أن يرزقَه من حيث لا يحتسب ولا يشعر. ويجعل له مخرجًا من الضِّيقِ الذي يلمُّ به، قال تعالى:(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق:2،3] .

9-

القيامُ بالليلِ بالقرآنِ معينٌ على تثبيتِ القرآنِ في الصدرِ، فعن ابنِ عمرَ –رضي الله عنهما قال رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم:(وإذا قام صاحبُ القرآنِ فقرأه بالليلِ والنهارِ ذكَرَه وإذا لم يقُم به نسِيَه) رواه مسلم.

ويقول اللهُ تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً)[المزمل:6] بعد قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا)[المزمل:5] قال الحسنُ: أثبتُ في القراءةِ وأقوى في القراءةِ (1) .

10-

أصحابُ القيامِ مجابوا الدعوةِ إذا استنصروا اللهَ نصَرَهم،وإذا استعاذوه أعاذَهم، لأنَّهم تقرَّبوا إلى اللهِ بالفرائضِ والنوافلِ، وأحبُّ النوافلِ إلى اللهِ قيامُ الليلِ، وقد وعَدَ من تقرَّب إليه بالنَّصرِ والعوذِ.

وعن عبادةِ بنِ الصامتِ –رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (من تعارَّ من الليلِ فقال: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، الحمدُ للهِ وسبحانَ اللهِ ولا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ ثم قال: اللَّهم اغفر لي أو دعا استُجيب له فإن توضَّأ وصلَّى قُبلت صلاتُه) رواه البخاري

(1) مختصر قيام الليل للمروزي

.

ص: 24

وهذا ليس كلُّ ما يناله أصحابُ قيامِ الليلِ من خيرِ الدُّنيا بل جزءٌ منه وما عندَ اللهِ خيرٌ، ولكني ذكرتُه ليستحضرَه المؤمنُ حين يغالبه الشيطانُ ويكسله ويأمره بالنومِ والتفريطِ في القيامِ، فإنَّ استحضارَه آنذاك منفعةٌ عظيمةٌ مجديةٌ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيدٌ.

أمَّا ما ينالُه أصحابُ القيامِ في الآخرةِ فأعظمُ وأعظمُ، بل لا يساوي ما ناله في الدُّنيا شيئًا بجانِبِه، ومما يناله القائمُ في الآخرةِ:

1-

رضا اللهِ سبحانه وتعالى، فإنَّ اللهَ يضحكُ للعبدِ يتركُ فراشَه الوثيرَ وزوجَه الحسناءَ يقوم يصلِّي وقد وردَ ذلك في الحديثِ، عن أبي الدرداءِ- رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ يحبُّهمُ اللهُ ويضحكُ إليهم ويستبشرُ بهم.. وذكرَ منهم والذي له امرأةٌ حسناءُ وفراشٌ لينٌ حسنٌ فيقومُ من الليلِ، فيقول: يذر شهوتَه ويذكرني ولو شاء رقد) رواه الطبراني وقال المنذري إسناده حسن.

وضَحِكَه دليلُ رضاه، جعلنا اللهَ وإيَّاكم ممن تقرُّ أعينُهم برؤيةِ ربِّهم ورضاه وضَحِكِه. كما أنَّ اللهَ يَعجب ويباهي الملائكةَ بقائمِ الليلِ: فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ –رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (عجب ربُّنا من رجلين: رجلٍ ثار عن وطائِه ولحافِه من بين حبِّه وأهلِه إلى صلاتِه فيقول اللهُ لملائكتِه: انظروا إلى عبدي ثارَ عن فراشِه ووطائِه من بين حبِّه وأهلِه إلى صلاتِه رغبةً فيما عندي وشفقةً مما عندي) رواه الطبراني والبيهقي وابن حبان وصححه الألباني والأرنؤوط.

ص: 25

2-

جنةُ المأوى التي لا يُعلم ما أُخفي فيها مِمَّا لم ترَ عينٌ ولم تسمع أذنٌ ولم يخطر على قلبِ بشرٍ، ذلك هو النعيمُ الحقُّ الذي ينتظرُه، قال تعالى:(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة:15،16] وعن عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ –رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (يا أيُّها الناسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعموا الطعامَ، وصلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ تدخلوا الجنَّةَ بسلامٍ) رواه الترمذي وصححه الألباني.

وعن عليٍّ –رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم: (إنَّ في الجنةِ غرفًا يُرى ظاهرُها من بطونِها وبطونَها من ظهورِها فقام أعرابيٌّ فقال: لمن هي يا رسولَ الله؟ قال: لمن أطابَ الكلامَ وأطعمَ الطَّعامَ وأدامَ الصِّيامَ وصلَّى بالليلِ والناسُ نيامٌ) رواه الترمذي وحسنه الألباني.

وهل أعظمُ من هذا شيءٌ..؟! أيُّ لذةٍ تحصل عليها ساعةً من الليلِ تنام فيها عن القيامِ لربِّك حين ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا. أي لذةٍ هذه تستحقُّ أن تضيعَ بها لذةَ النعيمِ والخلدِ في دارِ المقامةِ. الدارُ التي من دَخَلها نَعِمَ فلم يبأس، وفَرِحَ فلم يحزن، وسَعِدَ فلم يشقَ، ورَضِيَ فلم يسخط (أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران:170]

ص: 26

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء:101-103] إنَّك أخي لو قرأتَ شيئًا عن نعيمِ الجنَّةِ الذي يفوق الوصفَ لطار قَلبُك ترجو أن تكون من أهلِها، فلِمَ لا تكونُ من أهلِها؟! ما الذي يمنعك؟!

إنَّه الشيطانُ الذي توعدَّكَ حسدًا لتكونَ معه في الأسفلين، فشَمِّر عن ساعِد الجدِّ بعداوتِه، وإيَّاكَ أنْ تستجيبَ له أو تقبلَ إغراءَه فتتركَ القيامَ فتكونَ من النادمين.

3-

رحمةُ اللهِ تعالى للعبدِ الذي يقوم من الليلِ يصلِّي.. قال صلى الله عليه وسلم: (رَحِم اللهُ رجلاً قام من اللَّيل فصلَّى وأيقظَ امرأتَه، فإن أبت نضحَ في وجهِها الماءَ، ورَحِم اللهُ امرأةً قامت من الليلِ فصلَّت وأيقظت زوجَها، فإن أبى نضحت في وجهِه الماءَ) رواه أبو داوود وقال الألباني (حسن صحيح) .

فهذا الحديثُ يدلُّ على تساوي الرجلِ والمرأةِ في العبادةِ أداءً لحقِّ اللهِ، وتساويهما في الجزاءِ استحقاقًا لرحمةِ اللهِ.

4-

من يصلِّي ركعتين يُكتب في الذاكرين اللهَ كثيرًا. فانظر يا رعاك اللهُ عِظم القيامِ، حيث صلاة ركعتين في جوفِ الليلِ تُلحقُ صاحبَها بالذاكرين اللهَ كثيرًا، فما ظنُّك بمن صلَّى أكثرَ من ذلك. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(إذا أيقظ الرجلُ أهلَه من الليلِ فصلَّيا –أو صلَّى- ركعتين جميعًا، كُتبا في الذاكرين والذاكرات) رواه أبود داوود وصححه الألباني.

ص: 27

5-

قيامُ الليلِ بالقرآنِ يُخرجُ صاحبَه من مسمَّى الغافلين، ويُكسبه الأجرَ الوفيرَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ –رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (من قام بعشرِ آياتٍ لم يكتبْ من الغافلين، ومن قام بمائةِ آيةٍ كُتب من القانتين، ومن قام بألفِ آيةٍ كُتب من المقنطرين) رواه أبو داوود وصححه الألباني.

المقنطرين: أي المالكين مالاً كثيرًا والمرادُ كثرةُ الأجرِ (1) .

قال ابنُ حجر: من سورةِ تباركَ إلى آخرِ القرآنِ ألفُ آيةٍ.

6-

الهمُّ بالصلاةِ والقيامِ، والعزمُ عليه، وبذلُ الأسبابِ له موجبٌ للأجرِ والثوابِ، ولو لم يقم صاحبُه، بل ونومُه عليه صدقةٌ، قال صلى الله عليه وسلم:(ما من امرئٍ تكون له صلاةٌ بالليلِ فغلبه عليها النومُ إلا كُتب له أجرُ صلاتِه وكان نومُه صدقةً عليه) رواه أبو داوود وصححه الألباني.

7-

نيلُ ما يرجوه العبدُ في الآخرةِ من المغفرةِ والرحمةِ والنعيمِ والخلدِ وكلِّ ما سألِ، لأنَّ في الليلِ ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله خيرًا من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ إلا أعطاه. كما وردَ ذلك في الحديثِ الصحيحِ:(إنَّ في الليلِ لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأل اللهَ خيرًا من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ إلا أعطاه إيَّاه وذلك كُلَّ ليلةٍ) رواه مسلم.

8-

قائمُ الليلِ يشهدُ نزولَ اللهِ إلى السماءِ الدُّنيا في ثلثِ الليلِ الأخيرِ، حيث ينزلُ إلى السماءِ الدُّنيا فيسأل سبحانه: هل من سائلٍ فأعطيَه؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟.

وهناك الفوزُ في دارِ الخلدِ حيث يجد العبدُ ما سأله في جوفِ الليلِ من المغفرةِ والرحمةِ.

(1) عون المعبود

ص: 28

9-

وقيامُ الليلِ مكفِّرٌ للسيئاتِ والخطايا، كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ –رضي الله عنه:(ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ الصومُ جنةٌ والصدقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النارَ وصلاةُ الرجلِ من جوفِ الليلِ ثم تلا (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتى بلغ (يَعْمَلُونَ)) رواه الترمذي وصححه الألباني.

10-

النورُ يومَ القيامةِ، عن أبي الدرداءِ، عن النبيِّ –صلى الله عليه وسلم قال:(من مشى في ظلمةِ الليلِ إلى المساجدِ لقي اللهَ عز وجل بنورٍ يومَ القيامةِ) رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني.

11-

حين يجدُ أصحابُ النومِ والتفريطِ الضَّنكَ والضِّيقَ في قبورِهم، يجد صاحبُ الليلِ والتهجدِ والقرآنِ السعةَ والراحةَ والسرورَ في قبرِه، فإنَّه يجيءُ إليه عملُه الصالِحُ في أحسنِ صورةٍ يجالسُه ويؤانسُه ويجد ما كان يقرأه من قرآنٍ أنسًا ونعيمًا في قبرِه.

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

(إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ

إلى أن قال – في وصف حال المؤمن في القبر -:

فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ.

ص: 29