الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
17-
الحرصُ على قضاءِ القيامِ والوردِ إذا فات من الليلِ؛ لأنَّ من علم أن يقضيَه في النهارِ، وقد يكون مشغولاً بطلبِ رزقِه أو دراستِه أو وظيفتِه فلا يستطيعُ قضاءَه؛ من علم ذلك وكان حقًّا حريصًا على القيامِ لم يفوِّت القيامَ إلا مكرهًا، وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن تركِ القيامِ بقولِه لعبدِ اللهِ بنِ عمرِو:(يا عبدَ اللهِ لا تكن مثلَ فلانٍ كان يقومُ الليلَ فتركَ قيامَ الليلِ)
رواه البخاري.
-وقضاء القيام ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن يقضيه وترًا وإنما يقضيه شَفعًا، وجاء ذلك في حديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالت:(كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاةُ من وجعٍ أو غيرِه صلى من النهارِ ثنتيْ عشرةَ ركعة) رواه مسلم.
فهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مع أنَّه غُفر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّرَ يحرص على قضاءِ القيامِ إذا غلبه الوجعُ أو النومُ.
ومن يفعل ذلك ينل نصيبَ القائمِ لأنَّ من نام عن حزبِه أو نسيه فصلَّاه مابين طلوعِ الشمسِ إلى الزَّوالِ فكأنما صلَّاه من الليلِ كما وردَ ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في صحيحِ مسلمٍ.
وعليه أن يحاسبَ نفسَه ويعاتبَها عندَ فواتِ القيامِ.
فصل
في الأسباب الصارفة عن القيام
كما أنَّ هناك ما يعينُ على قيامِ الليلِ كما قدَّمتُ فلا ريبَ أنَّ هناك ما يعوقُ القيامَ ويصرفُ صاحبَه عنه، ومن ذلك:
1-
غفلةُ القلبِ عن اللهِ وعن نعيمِه وعقابِه وعن رضاه وسخطِه، فلا يتفكَّرُ العبدُ في دينِه ولا مولاه ولا أوامِره ولا نواهيه، إنما لا يعرف إلا أداءَ الصلاةِ كما يرى الناسُ يؤدونها ولا يحرص على اليقظِة لأدائِها فإذا كان نائمًا لم يسعَ إلى اليقظِة؛ بل قد يأبى إذا أوقظ، وهذا على خطرٍ عظيمٍ، إذ كيف يُفلحُ من هذه حاله، وإنما هذه حالُ المنافقين والعياذُ باللهِ، وقد قال عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ-رضي الله عنه:(ولقد رأيتُنا ولا يتخلَّفُ عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاقِ) رواه مسلم.
لما في القيامِ من المشقةِ التي لا يتحمَّلُها إلا الصابرون المحتسبون للأجرِ فيما عندَ اللهِ.
2-
كثرةُ الذنوبِ والإصرارُ على المعاصي ولو كانت صغارًا؛ سببٌ في حرمانِ العبدِ من قيامِ الليلِ، وإنَّ العبدَ ليحرمُ الرزقَ بالذنبِ يصيبُه، وأيُّ رزقٍ أكبرُ من التوفيقِ للقيامِ لمناجاةِ اللهِ ولقائِه. قال رجلٌ للحسنِ:"يا أبا سعيدٍ إني أبيتُ معافى، وأحبُّ قيامَ الليلِ وأعدُّ طَهوري فمالي لا أقومُ؟ فقال: ذنوبُك قيَّدتْك."
3-
اتباعُ الهوى والابتداعُ في الدينِ يقللُ القيامَ، فعلى المؤمنِ إذا كان في شِرةٍ (1) وقوةٍ أن يعملَ متبعًا السنةَ ولا يبتدع، فإن ممن تعلقوا بالقيامِ ولم يهتدوا للسنةِ فيه، من أُثرَ عنه أنه كان يصلي الليلَ ولا ينام. أو من أُثرَ عنه أنه يقرأُ القرآنَ كلَّه في قيامِ ليلةٍ، وهذا ابتداعٌ وخلافٌ للهدي النبوي، بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وغضب على من أرادَ أن يفعلَ ذلك وقال: من رغبَ عن سنَّتي فليس منِّي.
(1) الشرة: الحماس وهو ضد الفتور.
فمثلاً ما قيل عن وهبِ بن منبهٍ أنه ما وضع جنبَه إلى الأرضِ ثلاثين سنةً، وكان يقول: لئن أرى في بيتي شيطانًا أحب إليَّ من أن أرى في بيتي وسادةً لأنها تدعو إلى النومِ. هذا ولله الحمدُ غيرُ ثابت عنه فهو قولٌ مُمَرَّضٌ (أي منقولٌ بقيل) ولو صح عنه ذلك فإنا لا نقبلُه حتى لو كان وهبُ بنُ منبه من التابعين لأنَّ هذا العملَ خلافُ السنةِ، بل إنَّ رسولَنا –صلى الله عليه وسلم كان يضعُ جنبَه على الأرضِ وينامُ ويتكئُ على الوسادةِ ويكرهُ أن يكونَ الشيطانُ في بيتِه. وإنك حين تقرأ في بعضِ الكتبِ التي تذكر تكلَّفَ بعضِ السلفِ في العبادةِ تجد منها الكثيرَ من هذه المخالفاتِ ككتابِ "حليةِ الأولياءِ" لأبي نعيمٍ، و"إحياءِ علومِ الدين"ِ للغزاليِّ وغيرِها، مما لا يكون مؤلِّفُه متحريًا صحةَ المتنِ.
وأنتَ يجبُ أن تكونَ بصيرًا بدينِك وأن تقبلَ من الأخبارِ عن السلفِ ما وافقَ السنةَ، وما خالفها فلا تأخذْ به ولا تغبْطهم عليه؛ فإنه بدعٌ ورهبانيةٌ، الإسلامُ منها براء، وإنما انتشرت حينما تقلدَّها المتصوفةُ ودعوا إليها ووضعوا فيها الأحاديثَ المناكيرَ.
وقد نهى –صلى الله عليه وسلم عن المبالغةِ في العبادةِ بما يشقُّ على النفسِ مما لم يأمرِ اللهُ به، فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: دخل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسجدَ وحبلٌ ممدودٌ بين ساريتين فقال: (ما هذا؟ ، قالوا: لزينبَ تُصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حلّوه، ليصلِّ أحدُكم نشاطَه فإذا كسلَ أو فترَ قعد) رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشةَ –رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعسَ أحدُكم في الصلاةِ فليرقد حتى يذهبَ عنه النومُ، فإنَّ أحدَكم إذا صلَّى وهو ناعسٌ، لعلَّه يذهبُ يستغفرُ فيسبُّ نفسه) رواه البخاري ومسلم. وعن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم قالت: (إن الحوْلاءَ بنتَ تُوَيْت بنِ حبيبِ بنِ أسدِ بنِ عبدِ العزَّى مرَّت بها وعندها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقلت: هذه الحوْلاءُ بنتُ تُوَيْت وزعموا أنها لا تنامُ الليلَ، فقال: لا تنام الليلَ؟ خذوا من العملِ ما تطيقون، فو اللهِ لا يسأمُ الله حتى تسأموا) متفق عليه واللفظ لمسلم.
4-
التعلقُ بالدُّنيا، والنومُ وأنت تفكرُ فيها يقسِّي قلبَك ويطيلُ أملَك، وتقومُ من نومِك على ما نمتَ عليه، فكيف تريدُ أن تقومَ وأنت لا تستحضرُ الآخرةَ ولا العملَ لها؟!
وسبحانَ اللهِ إنَّ من الملاحَظِ أن من نام يردِّدُ آيةً قام يرددها، ومن نام يردد أغنيةً قام يرددها. وكذلك التعلُّقُ بأحدِ المخلوقين يجعل المرءَ ينامُ وهو يفكِّر فيه، ويقومُ وهو يفكِّر فيه، ومَن هذه حالُه فأنّى له أن يتذكرَ ربَّه أو نعيمَه وعذابَه؟!
5-
السهرُ والنومُ المتأخرُ من أكبرِ العوائقِ عن القيامِ لأنَّ العبدَ إذا لم يكتفِ جسدُه من النومِ فإنَّه يصعبُ عليه القيامُ ويثقل نومُه، ونحن الآن في هذا العصر كَثُر سهرُنا فأصبحنا لا ننامُ إلا بعد منتصفِ الليلِ، وليتَ هذا في خيرٍ أو طلبِ علمٍ أو سهرٍ على جهادٍ أو على الأقلِّ في مباحٍ، بل أكثرُ سهرِنا في اللهوِ واللَّعبِ؛ فمِن ساهرٍ على لَعِبِ الوَرقِ، ومِن ساهرٍ عندَ التلفازِ، ومِن ساهر على لغوٍ وغيبةٍ إلى غيرِ ذلك، وهذا لو لم يكن به تضييع الفريضة فهو محرم، فكيف وهو يعطل أداءَك لفريضةِ صلاةِ الفجرِ؟!! بل إنَّ المباحَ إذا كان السهرُ عليه يعطِّلُك عن أداءِ الفريضةِ صار محرمًا.. لذا كره النبيُّ –صلى الله عليه وسلم الحديثَ بعدَ صلاةِ العشاءِ.
فعن أبي برزةَ قال: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكرهُ النومَ قبلَ صلاةِ العشاءِ والحديثَ بعدَها". رواه البخاري، إلا طلب العلم وحديث الرجلِ مع أهلهِ (أي زوجه) والسفرِ، وهذه كلُّها مندوبةٌ ولكن بشرطِ أن لا تضيعَ عليك صلاةَ الفجرِ في وقتِها وإلا فهي محرمةٌ، واللهُ أعلم.
وكان عمرُ بنُ الخطابِ يضربُ الناسَ بالدِّرةِ بعدَ صلاةِ العشاءِ ويقول: (أسَمَرٌ أولَّ الليل ونومٌ آخرَه) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.
6-
التعبُ في النهارِ وإرهاقِ الجسدِ بالأعمالِ التي لا فائدةَ منها مما يجعلُ العبدُ لا يستطيع القيامَ، فكثيرٌ من الشبابِ يلعبُ الكرةَ في النهارِ عدةَ ساعاتٍ فإذا نام نام مرهقًا، فإذا حضرتْه الصلاةُ لم يستطعِ القيامَ لتعبِه، وكذلك كثيراتٌ من الشابَّاتِ تتعبُ نفسَها في كثيرٍ من الأمورِ التي لا طائلَ منها أو هي عنها في غنىً، فإذا وضعتْ جنبَها لم تكد ترفعُه إلا بعدَ طلوعِ الفجرِ لتعبِها وإرهاقِها،كالتعبِ في الأسواقِ والإعدادِ للحفلاتِ والولائمِ التي قد تَذهبُ بنهارِها كلِّه، وهي تستطيع أن تقللَ من تعبِها هذا، فتعطي نفسَها راحةً تمكِّنها من القيامِ.
7-
كثرةُ اللغوِ بالنهارِ وقلةُ الذكرِ تقسِّي القلبَ فلا يستطيعُ أن يذكرَ اللهَ بعد يقظتِه فيغلب عليه الشيطانُ فينام.
8-
كثرةُ الأكلِ فإنَّ الشبعَ يكثرُ النومَ ويزيدُه. يقول أحدُ الشيوخِ لطلَاّبِه: لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا كثيرًا فترقدوا كثيرًا فتتحسَّروا عند الموتِ كثيرًا. قال الغزاليُّ –رحمه الله: وهذا هو الأصلُ الكبيرُ وهو تخفيفُ المعدةِ عن ثقلِ الطعامِ.
9-
أكلُ الحرامِ والخبيثِ يقسِّي القلبَ ويضربُ عليه القفالَ، فلا يستيقظُ صاحبُه، بل ويحرم الخيرَ، ومن أكبرِ الخيرِ القيامُ للهِ ومناجاتُه.
10-
النومُ في الفراشِ الوثيرِ فإن يثقلُ صاحبَه عن القيامِ.
وقد مرَّ الحديثُ عن هذا في الأسبابِ المعينةِ.
قال الثوريُّ –رحمه الله: حُرمتُ قيامَ الليلِ خمسةَ أشهرٍ بذنبٍ أذنبتُه، قيل: وما ذاك الذنبُ؟ قال: رأيتُ رجلاً يبكي فقلت في نفسي: هذا مراءٌ.
وقال بعضُهم: دخلتُ على كرزِ بنِ وبرةَ، وهو يبكي فقلت: أتاك نعيُ أهلِك؟ فقال: أشدُّ، فقلت: وجعٌ يؤلمك؟ فقال: أشدُّ، قلت: فما ذاك؟ قال: بابي مغلقٌ وستري مسبلٌ ولم أقرأ حزبي البارحةَ، وما ذاك إلا بذنبٍ أحدثتُه.