المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثالث والخمسون: في تشبيهه واستعاراته - الإتقان في علوم القرآن - جـ ٣

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْمُحْكَمِ والمتشابه

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي عَامِّهِ وَخَاصِّهِ

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُشْكِلِهِ وَمُوهِمِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ

- ‌النَّوْعُ الْخَمْسُونَ: فِي مَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ

- ‌النوع الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: فِي وُجُوهِ مُخَاطَبَاتِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: فِي تَشْبِيهِهِ وَاسْتِعَارَاتِهِ

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي كِنَايَاتِهِ وَتَعْرِيضِهِ

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْحَصْرِ والاختصاص

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: فِي بَدَائِعِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي فَوَاصِلِ الْآيِ

- ‌النَّوْعُ السِّتُّونَ: فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ

- ‌النَّوْعُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: فِي مُنَاسَبَةُ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْآيَاتِ الْمُشْتَبِهَاتِ

الفصل: ‌النوع الثالث والخمسون: في تشبيهه واستعاراته

‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: فِي تَشْبِيهِهِ وَاسْتِعَارَاتِهِ

التَّشْبِيهُ نَوْعٌ مِنْ أَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَعْلَاهَا

قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ لَوْ قَالَ قَائِلٌ هُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَبْعُدْ

وَقَدْ أَفْرَدَ تَشْبِيهَاتِ الْقُرْآنِ بِالتَّصْنِيفِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبُنْدَارِ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ "الْجُمَانَ"

وَعَرَّفَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ السَّكَّاكِيُّ: بِأَنَّهُ الدلالة على مشاركة أمر لِأَمْرٍ فِي مَعْنًى وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ هُوَ إِخْرَاجُ الْأَغْمَضِ إِلَى الْأَظْهَرِ

وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِذِي وَصْفٍ فِي وَصْفِهِ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ تُثْبِتَ لِلْمُشَبَّهِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْنِيسُ النَّفْسِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ خَفِيٍّ إِلَى جَلِيٍّ وَإِدْنَائِهِ الْبَعِيدَ مِنَ الْقَرِيبِ لِيُفِيدَ بَيَانًا

وَقِيلَ الْكَشْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مَعَ الِاخْتِصَارِ

وَأَدَوَاتُهُ حُرُوفٌ وَأَسْمَاءُ وَأَفْعَالٌ فَالْحُرُوفُ الْكَافُ نحو: {كَرَمَادٍ} وكأن نحو: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} وَالْأَسْمَاءُ مِثْلٌ وَشِبْهٌ وَنَحْوُهُمَا مِمَّا يُشْتَقُّ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا تُسْتَعْمَلُ "مَثَلُ" إِلَّا فِي حَالٍ أَوْ صِفَةٍ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ نَحْوُ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

ص: 142

كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} وَالْأَفْعَالُ نَحْوُ: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} قال في التخليص اتِّبَاعًا لِلسَّكَاكِيِّ: وَرُبَّمَا يُذْكَرُ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنِ التَّشْبِيهِ فَيُؤْتَى فِي التَّشْبِيهِ الْقَرِيبِ بِنَحْوِ: "عَلِمْتُ زَيْدًا أَسَدًا" الدَّالِّ عَلَى التَّحْقِيقِ

وَفِي الْبَعِيدِ بِنَحْوِ: "حَسِبْتُ زَيْدًا أَسَدًا" الدَّالِّ عَلَى الظَّنِّ وَعَدَمِ التَّحْقِيقِ وخالفه جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الطِّيبِيُّ فَقَالُوا: فِي كَوْنِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تُنْبِئُ عَنِ التَّشْبِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِعْلَ يُنْبِئُ عَنْ حَالِ التَّشْبِيهِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَأَنَّ الْأَدَاةَ مَحْذُوفَةٌ مُقَدَّرَةٌ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى بِدُونِهِ.

ذِكْرُ أَقْسَامِهِ

يَنْقَسِمُ التَّشْبِيهُ بِاعْتِبَارَاتٍ:

الْأَوَّلُ: بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُمَا إِمَّا حِسِّيَّانِ أَوْ عَقْلِيَّانِ أَوِ الْمُشَبَّهُ بِهِ حِسِّيٌّ وَالْمُشَبَّهُ عَقْلِيٌّ أَوْ عَكْسُهُ

مِثَالُ الْأَوَّلِ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}

وَمِثَالُ الثَّانِي: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} كَذَا مَثَّلَ بِهِ فِي الْبُرْهَانِ وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَاقِعٌ فِي الْقَسْوَةِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْقُلُوبِ وَالْحِجَارَةِ فَهُوَ مِنَ الْأَوَّلِ.

ص: 143

وَمِثَالُ الثَّالِثِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}

وَمِثَالُ الرَّابِعُ: لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ بَلْ مَنَعَهُ الْإِمَامُ أَصْلًا لِأَنَّ الْعَقْلَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحِسِّ فَالْمَحْسُوسُ أَصْلٌ لِلْمَعْقُولِ وَتَشْبِيهُهُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْأَصْلِ فَرْعًا وَالْفَرْعَ أَصْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}

الثَّانِي: يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ وَجْهِهِ إِلَى مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ وَالْمُرَكَّبُ أَنْ يُنْتَزَعَ وَجْهُ الشَّبَهِ مِنْ أُمُورٍ مَجْمُوعٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ كَقَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} فَالتَّشْبِيهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَحْوَالِ الْحِمَارِ وَهُوَ حِرْمَانُ الِانْتِفَاعِ بِأَبْلَغِ نَافِعٍ مَعَ تَحَمُّلِ التَّعَبِ فِي اسْتِصْحَابِهِ

وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} فَإِنَّ فِيهِ عَشْرَ جُمَلٍ وَقْعَ التَّرْكِيبُ مِنْ مَجْمُوعِهَا بِحَيْثُ لَوْ سَقَطَ مِنْهَا شَيْءٌ اخْتَلَّ التَّشْبِيهُ إِذِ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ حَالِ الدُّنْيَا فِي سُرْعَةِ تَقَضِّيهَا وَانْقِرَاضِ نَعِيمِهَا وَاغْتِرَارِ النَّاسِ بِهَا بِحَالِ مَاءٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْبَتَ أَنْوَاعَ الْعُشْبِ وَزَيَّنَ بِزُخْرُفِهَا وَجْهَ الْأَرْضِ كَالْعَرُوسِ إِذَا أَخَذَتِ الثِّيَابَ الْفَاخِرَةَ حَتَّى إِذَا طَمِعَ أَهْلُهَا فِيهَا وَظَنُّوا أَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْجَوَائِحِ أَتَاهَا بِأْسُ اللَّهِ فَجْأَةً فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِالْأَمْسِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَجْهُ تَشْبِيهِ الدُّنْيَا بِالْمَاءِ أَمْرَانِ:

ص: 144

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ فَوْقَ حَاجَتِكَ تَضَرَّرْتَ وَإِنْ أَخَذْتَ قَدَرَ الْحَاجَةِ انْتَفَعْتَ بِهِ فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا طَبَّقْتَ عَلَيْهِ كَفَّكَ لِتَحْفَظَهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الْآيَةَ فَشَبَّهَ نُورَهُ الَّذِي يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بِمِصْبَاحٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْإِضَاءَةِ إِمَّا بِوَضْعِهِ فِي مِشْكَاةٍ وَهِيَ الطَّاقَةُ الَّتِي لَا تَنْفُذُ وَكَوْنُهَا لَا تَنْفُذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ لِلْبَصَرِ وَقَدْ جُعِلَ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي دَاخِلِ زُجَاجَةٍ تُشْبِهُ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي صَفَائِهَا وَدُهْنُ الْمِصْبَاحِ مِنْ أَصْفَى الْأَدْهَانِ وَأَقْوَاهَا وَقُودًا لِأَنَّهُ مَنْ زَيْتِ شجرة في وسط السراج لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ فَلَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ النَّهَارِ بَلْ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ أَعْدَلَ إصابة وهذا مثل ضربه الله لِلْمُؤْمِنِ ثُمَّ ضَرَبَ لِلْكَافِرِ مَثَلَيْنِ أَحَدُهُمَا كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ وَالْآخَرُ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ إِلَى آخِرِهِ وَهُوَ أَيْضًا تَشْبِيهُ تَرْكِيبٍ.

الثَّالِثُ: يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: تَشْبِيهُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَاسَّةُ بِمَا لَا تَقَعُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ فَإِنَّ إِدْرَاكَهُمَا أَبْلَغُ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَاسَّةِ كقوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} شَبَّهَ بِمَا لَا يُشَكُّ أَنَّهُ قَبِيحٌ لِمَا حَصَلَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ بَشَاعَةِ صُورَةِ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ لَمْ تَرَهَا عَيَانًا.

الثَّانِي: عَكْسُهُ وَهُوَ تَشْبِيهُ مَا لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَاسَّةُ بِمَا تَقَعُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآية أَخْرَجَ مَا لَا يُحَسُّ وَهُوَ

ص: 145

الْإِيمَانُ إِلَى مَا يُحَسُّ وَهُوَ السَّرَابُ وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بُطْلَانُ التَّوَهُّمِ مَعَ شَدَّةِ الْحَاجَةِ وَعِظَمِ الْفَاقَةِ.

الثَّالِثُ: إِخْرَاجُ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ إِلَى مَا جَرَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِارْتِفَاعُ فِي الصُّورَةِ.

الرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ إِلَى مَا يُعْلَمُ بِهَا كَقَوْلِهِ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} وَالْجَامِعُ الْعِظَمُ وَفَائِدَتُهُ التَّشْوِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ بِحُسْنِ الصِّفَةِ وَإِفْرَاطِ السَّعَةِ.

الْخَامِسُ: إِخْرَاجُ مَا لَا قُوَّةَ لَهُ فِي الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قُوَّةٌ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} وَالْجَامِعُ فِيهِمَا الْعِظَمُ وَالْفَائِدَةُ إِبَانَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْخِيرِ الْأَجْسَامِ الْعِظَامِ فِي أَلْطَفِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَاءِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ انْتِفَاعِ الْخَلْقِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَقَطْعِهَا الْأَقْطَارَ الْبَعِيدَةَ فِي الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ وَمَا يُلَازِمُ ذَلِكَ مِنْ تَسْخِيرِ الرياح للإنسان فتضمن الكلام نبأ عَظِيمًا مِنَ الْفَخْرِ وَتَعْدَادِ النِّعَمِ وعلى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ تَجْرِي تَشْبِيهَاتُ الْقُرْآنِ

السَّادِسُ: يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى:

مُؤَكَّدٍ: وَهُوَ مَا حُذِفَتْ فِيهِ الْأَدَاةُ نَحْوُ: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أَيْ مِثْلَ مَرِّ السَّحَابِ {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}

وَمُرْسَلٍ: وَهُوَ مَا لَمْ تُحْذَفْ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ

والمحذوف الْأَدَاةِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهِ الثَّانِي مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ تَجَوُّزًا.

ص: 146

قَاعِدَةٌ

الْأَصْلُ دُخُولُ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُشَبَّهِ إِمَّا لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فيقلب التشبيه ويجعل الْمُشَبَّهَ هُوَ الْأَصْلَ نَحْوُ: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} كَأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الرِّبَا لَا فِي الْبَيْعِ فَعَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَجَعَلُوا الرِّبَا أَصْلًا مُلْحَقًا بِهِ الْبَيْعُ فِي الجواز لأنه الْخَلِيقُ بِالْحَلِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْعَكْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ سَمَّوْهَا آلِهَةً تَشْبِيهًا بِاللَّهِ سبحانه وتعالى فَجَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ فَخُولِفَ فِي خِطَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي عِبَادَتِهِمْ وَغَلَوْا حَتَّى صَارَتْ عِنْدَهُمْ أَصْلًا فِي الْعِبَادَةِ فَجَاءَ الرَّدُّ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ

وَإِمَّا لِوُضُوحِ الْحَالِ نَحْوُ: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} فَإِنَّ الْأَصْلَ "وَلَيْسَ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ" وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمَعْنَى "وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبْتُ كَالْأُنْثَى الَّتِي وُهِبْتُ" وَقِيلَ: لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}

وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِمَا اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ نَحْوُ: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} الْآيَةَ الْمُرَادُ "كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ خَالِصِينَ فِي الِانْقِيَادِ كَشَأْنِ مُخَاطِبِي عِيسَى إِذْ قَالُوا."

ص: 147

قَاعِدَةٌ

الْقَاعِدَةُ فِي الْمَدْحِ تَشْبِيهُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى وَفِي الذَّمِّ تَشْبِيهُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى لِأَنَّ الذَّمَّ مَقَامُ الْأَدْنَى وَالْأَعْلَى طَارِئٌ عَلَيْهِ فَيُقَالُ فِي المدح حصى كَالْيَاقُوتِ وَفِي الذَّمِّ يَاقُوتٌ كَالزُّجَاجِ

وَكَذَا فِي السلب ومنه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} أَيْ فِي النُّزُولِ لَا فِي الْعُلُوِّ {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أَيْ فِي سُوءِ الْحَالِ أَيْ لَا نَجْعَلُهُمْ كَذَلِكَ

نَعَمْ أُورِدَ عَلَى ذَلِكَ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} فَإِنَّهُ شَبَّهَ فِيهِ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى لَا فِي مَقَامِ السَّلْبِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لِلتَّقْرِيبِ إِلَى أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ لَا أَعْلَى مِنْ نُورِهِ فَيُشَبَّهُ بِهِ.

فَائِدَةٌ

قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: لَمْ يَقَعْ فِي القرآن نشبيه شَيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ تَشْبِيهُ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ.

فَصْلٌ

زُوِّجَ الْمَجَازُ بِالتَّشْبِيهِ فَتَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا الِاسْتِعَارَةُ فَهِيَ مَجَازٌ عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ أَوْ يُقَالُ فِي تَعْرِيفِهَا: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا شُبِّهَ بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ

ص: 148

وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَجَازٌ لُغَوِيٌّ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ لَا لِلْمُشَبَّهِ ولا لأعم مِنْهُمَا فَأَسَدٌ فِي قَوْلِكَ رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي مَوْضُوعٌ لِلسَّبُعِ لَا لِلشُّجَاعِ وَلَا لِمَعْنًى أَعَمَّ مِنْهُمَا كَالْحَيَوَانِ الْجَرِيءِ مَثَلًا لِيَكُونَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً كَإِطْلَاقِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِمَا

وَقِيلَ: مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا فِي أَمْرٍ عَقْلِيٍّ لَا لُغَوِيٍّ لِأَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى الْمُشَبَّهِ إِلَّا بَعْدَ ادِّعَاءِ دُخُولِهِ فِي جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ فَيَكُونُ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ نَقْلِ الِاسْمِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ نَقْلُ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّهُ لَا بَلَاغَةَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَقْلِيًّا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَقِيقَةُ الِاسْتِعَارَةِ أَنْ تُسْتَعَارَ الْكَلِمَةُ مِنْ شَيْءٍ مَعْرُوفٍ بِهَا إِلَى شَيْءٍ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا وَحِكْمَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْخَفِيِّ وَإِيضَاحُ الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِجَلِيٍّ أَوْ حُصُولُ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الْمَجْمُوعِ مِثَالُ إِظْهَارِ الْخَفِيِّ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ: "وَأَنَّهُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ" فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ الْأُمِّ لِلْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ تَنْشَأُ مِنَ الْأُمِّ كما تنشأ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَمْثِيلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ حَتَّى يصيرمرئيا فَيَنْتَقِلُ السَّامِعُ مِنْ حَدِّ السَّمَاعِ إِلَى حَدِّ الْعَيَانِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْبَيِانِ وَمِثَالُ إِيضَاحِ مَا لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِيَصِيرَ جَلِيًّا: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} فَإِنَّ الْمُرَادَ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالذُّلِّ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً فَاسْتُعِيرَ لِلذُّلِّ أَوَّلًا "جَانِبٌ" ثُمَّ لِلْجَانِبِ جَنَاحٌ وَتَقْدِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْقَرِيبَةِ: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ" أَيِ اخِفِضْ جَانِبَكَ ذُلًّا وَحِكْمَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي هَذَا جَعْلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ مَرْئِيًّا لِأَجْلِ حُسْنِ الْبَيَانِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ خَفْضَ جَانِبِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُبْقِي الْوَلَدُ مِنَ الذُّلِّ لَهُمَا وَالِاسْتِكَانَةِ مُمْكِنًا احْتِيجَ فِي الِاسْتِعَارَةِ إِلَى

ص: 149

مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَنَاحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَحْصُلُ مِنْ خَفْضِ الْجَانِبِ لِأَنَّ مَنْ يَمِيلُ جانبه إلى جهة السفلة أَدْنَى مَيْلٍ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَفَضَ جَانِبَهُ وَالْمُرَادُ خَفْضٌ يُلْصِقُ الْجَانِبَ بِالْأَرْضِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِذِكْرِ الْجَنَاحِ كَالطَّائِرِ

وَمِثَالُ الْمُبَالَغَةِ: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} وَحَقِيقَتُهُ: " وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ " وَلَوْ عَبَّرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا فِي الْأَوَّلِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا صَارَتْ عُيُونًا.

فَرْعٌ

أَرْكَانُ الِاسْتِعَارَةِ ثَلَاثَةٌ: مُسْتَعَارٌ وَهُوَ لَفْظُ الْمُشَبَّهِ بِهِ ومستعار منه وهو معنى اللفظ الْمُشَبَّهِ وَمُسْتَعَارٌ لَهُ وَهُوَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ

وَأَقْسَامُهَا كَثِيرَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ فَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ لِمَحْسُوسٍ بِوَجْهٍ مَحْسُوسٍ نَحْوُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} فالمستعارة مِنْهُ هُوَ النَّارُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ وَالْوَجْهُ هُوَ الِانْبِسَاطُ وَمُشَابَهَةُ ضَوْءِ النَّارِ لِبَيَاضِ الشَّيْبِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ وَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قِيلَ: "اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ" لِإِفَادَةِ عُمُومِ الشَّيْبِ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ وَمِثْلُهُ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أَصْلُ الْمَوْجِ حَرَكَةُ الْمَاءِ فَاسْتُعْمِلَ فِي حَرَكَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْجَامِعُ سُرْعَةُ الِاضْطِرَابِ وَتَتَابُعُهُ فِي الكثرة {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} اسْتُعِيرَ خُرُوجُ النَّفَسِ

ص: 150

شَيْئًا فَشَيْئًا لِخُرُوجِ النُّورِ مِنَ الْمَشْرِقِ عِنْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ قَلِيلًا قَلِيلًا بِجَامِعِ التَّتَابُعِ عَلَى طَرِيقِ التَّدْرِيجِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ.

الثَّانِي: اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ لِمَحْسُوسٍ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَهِيَ أَلْطَفُ مِنَ الْأُولَى نَحْوُ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} فَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّلْخُ الَّذِي هُوَ كَشْطُ الْجِلْدِ عَنِ الشَّاةِ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ كَشْفُ الضَّوْءِ عَنْ مَكَانِ اللَّيْلِ وَهُمَا حِسِّيَّانِ وَالْجَامِعُ مَا يُعْقَلُ مِنْ تَرَتُّبِ أَمْرٍ عَلَى آخَرَ وَحُصُولِهِ عَقِبَ حُصُولِهِ كَتَرَتُّبِ ظُهُورِ اللَّحْمِ عَلَى الْكَشْطِ وَظُهُورِ الظُّلْمَةِ عَلَى كَشْفِ الضَّوْءِ عَنْ مَكَانِ اللَّيْلِ وَالتَّرَتُّبُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ ومثله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أَصْلُ الْحَصِيدِ النَّبَاتُ وَالْجَامِعُ الْهَلَاكُ وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ.

الثَّالِثُ: اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَعْقُولٍ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَهِيَ أَلْطَفُ الِاسْتِعَارَاتِ نَحْوُ {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ الرُّقَادُ أَيِ النَّوْمُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْمَوْتُ وَالْجَامِعُ عَدَمُ ظُهُورِ الْفِعْلِ وَالْكُلُّ عَقْلِيٌّ وَمِثْلُهُ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} الْمُسْتَعَارُ السُّكُوتُ وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّاكِتُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْغَضَبُ.

الرَّابِعُ: اسْتِعَارَةُ محسوس لمعقول بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ أَيْضًا نَحْوُ: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} اسْتُعِيرَ الْمَسُّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ وَهُوَ مَحْسُوسٌ لِمُقَاسَاةِ الشَّدَّةِ وَالْجَامِعُ اللُّحُوقُ وَهُمَا عَقْلِيَّانِ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} فَالْقَذْفُ وَالدَّمْغُ مُسْتَعَارَانِ وَهُمَا مَحْسُوسَانِ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ مُسْتَعَارٌ لَهُمَا وَهُمَا مَعْقُولَانِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَاّ بِحَبْلٍ

ص: 151

مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} اسْتُعِيرَ الْحَبَلُ الْمَحْسُوسُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَعْقُولٌ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} اسْتُعِيرَ الصَّدْعُ وَهُوَ كَسْرُ الزُّجَاجَةِ وَهُوَ مَحْسُوسٌ لِلتَّبْلِيغِ وَهُوَ مَعْقُولٌ وَالْجَامِعُ التَّأْثِيرُ وَهُوَ أَبْلَغُ مَنْ "بَلَغَ" وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّدْعِ أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّبْلِيغِ فَقَدْ لَا يُؤَثِّرُ التَّبْلِيغُ وَالصَّدْعُ يُؤَثِّرُ جَزْمًا {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} قَالَ الرَّاغِبُ لَمَّا كَانَ الذُّلُّ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ يَضَعُ الْإِنْسَانَ وَضَرْبٌ يَرْفَعُهُ وَقُصِدَ فِي هَذَا المكان إلى مَا يَرْفَعُ اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَنَاحِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ اسْتَعْمِلِ الذُّلَّ الَّذِي يَرْفَعُكَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَذَا قَوْلُهُ: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى} {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} كُلُّهَا مِنَ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ وَالْجَامِعُ عَقْلِيٌّ.

الْخَامِسُ: اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لمحسوس والجماع عَقْلِيٌّ أَيْضًا نَحْوُ: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} المستعار منه التكبر وَهُوَ عَقْلِيٌّ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَهُوَ حِسِّيٌّ وَالْجَامِعُ الِاسْتِعْلَاءُ وهو عقلي أيضا مثله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}

ص: 152

وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ إِلَى:

أَصْلِيَّةٍ: وَهِيَ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعَارُ فِيهَا اسْمُ جِنْسٍ كَآيَةِ: {بِحَبْلِ اللَّهِ} {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} {فِي كُلِّ وَادٍ}

وَتَبَعِيَّةٍ: وَهِيَ مَا كَانَ اللَّفْظُ فِيهَا غَيْرُ اسْمِ جِنْسٍ كَالْفِعْلِ وَالْمُشْتَقَّاتِ كَسَائِرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَكَالْحُرُوفِ نَحْوُ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} شَبَّهَ تَرَتُّبَ الْعَدَاوَةِ وَالْحُزْنِ عَلَى الِالْتِقَاطِ بِتَرَتُّبِ غَلَبَةِ الْغَائِيَّةِ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ فِي الْمُشَبَّهِ اللَّامُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ.

وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ: إِلَى مُرَشَّحَةٍ وَمُجَرَّدَةٍ وَمُطْلَقَةٍ:

فَالْأُولَى: وَهِيَ أَبْلَغُهَا أَنْ تَقْتَرِنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ نَحْوُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} استعير الاشتراء للاستبدال والاختيار ثُمَّ قُرِنَ بِمَا يُلَائِمُهُ مِنَ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تُقْرَنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ لَهُ نَحْوُ: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} اسْتُعِيرَ اللِّبَاسُ لِلْجُوعِ ثُمَّ قُرِنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مِنَ الْإِذَاقَةِ وَلَوْ أَرَادَ التَّرْشِيحَ لَقَالَ "فَكَسَاهَا" لَكِنَّ التَّجْرِيدَ هُنَا أَبْلَغُ لِمَا فِي لَفْظِ الْإِذَاقَةِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَلَمِ بَاطِنًا

وَالثَّالِثَةُ: أَلَّا تُقْرَنَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ: إِلَى تَحْقِيقِيَّةٍ وَتَخْيِيلِيَّةٍ وَمَكْنِيَّةٍ وَتَصْرِيحِيَّةٍ:

ص: 153

فَالْأُولَى: مَا تَحَقَّقَ مَعْنَاهَا حِسًّا نَحْوُ: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} الْآيَةَ أَوْ عَقْلًا نَحْوُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} أَيْ بَيَانًا وَاضِحًا وَحُجَّةً لَامِعَةً {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أَيِ الدِّينَ الْحَقَّ فَإِنَّ كُلًّا منهما يَتَحَقَّقُ عَقْلًا.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُضْمَرَ التَّشْبِيهُ فِي النَّفْسِ فَلَا يُصَرَّحُ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ سِوَى الْمُشَبَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّشْبِيهِ الْمُضْمِرِ فِي النَّفْسِ بِأَنْ يَثْبُتَ لِلْمُشَبَّهِ أَمْرٌ مُخْتَصٌّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ

وَيُسَمَّى ذَلِكَ التَّشْبِيهُ الْمُضْمَرُ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ وَمَكْنِيًّا عَنْهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ بَلْ دَلَّ عَلَيْهِ بِذِكْرِ خَوَاصِّهِ

وَيُقَابِلُهُ التَّصْرِيحِيَّةُ وَيُسَمَّى إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُخْتَصِّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ اسْتِعَارَةً تَخْيِيلِيَّةً لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُعِيرَ لِلْمُشَبَّهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُخْتَصُّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ وَبِهِ يَكُونُ كَمَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَقِوَامُهُ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ لِتَخَيُّلِ أَنَّ الْمُشَبَّهَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} شبه العهد بِالْحَبْلِ وَأَضْمَرَ فِي النَّفْسِ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ التَّشْبِيهِ سِوَى الْعَهْدِ الْمُشَبَّهِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ النَّقْضِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْحَبْلُ وَكَذَا: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} طَوَى ذِكْرَ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ النَّارُ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِلَازِمِهِ وَهُوَ الاشتعال: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} الْآيَةَ شَبَّهَ مَا يُدْرَكُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ بِمَا يُدْرَكُ مِنْ طَعْمِ الْمُرِّ فَأَوْقَعَ عَلَيْهِ الْإِذَاقَةَ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} شبهها في ألا تَقْبَلُ الْحَقَّ بِالشَّيْءِ الْمَوْثُوقِ

ص: 154

الْمَخْتُومِ ثُمَّ أَثْبَتَ لَهَا الْخَتْمَ: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} شَبَّهَ مَيَلَانَهُ لِلسُّقُوطِ بِانْحِرَافِ الْحَيِّ فَأَثْبَتَ لَهُ الْإِرَادَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَاصِّ الْعُقَلَاءِ

وَمِنَ التَّصْرِيحِيَّةِ آية: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}

وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ: إِلَى:

وِفَاقِيَّةٍ: بِأَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ مُمْكِنًا نَحْوُ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} أَيْ ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ اسْتُعِيرَ الْإِحْيَاءُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ حَيًّا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَالْإِحْيَاءُ وَالْهِدَايَةُ مِمَّا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ.

وَعِنَادِيَّةٍ: وَهِيَ مَا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ كَاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْمَعْدُومِ لِلْمَوْجُودِ لِعَدَمِ نَفْعِهِ وَاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فِي شَيْءٍ مُمْتَنِعٍ.

وَمِنَ الْعِنَادِيَّةِ التَّهَكُّمِيَّةُ وَالتَّمْلِيحِيَّةُ وَهُمَا مَا اسْتُعْمِلَ فِي ضِدٍّ أَوْ نَقِيضٍ نَحْوُ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ أَنْذِرْهُمْ اسْتُعِيرَتِ الْبِشَارَةُ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَسُرُّ لِلْإِنْذَارِ الَّذِي هو ضده بإدخاله في جِنْسِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ ونحو: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} عنى الْغَوِيَّ السَّفِيهَ تَهَكُّمًا، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}

وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ: إِلَى تَمْثِيلِيَّةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِيهَا مُنْتَزَعًا مِنْ مُتَعَدِّدٍ نَحْوُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} شَبَّهَ اسْتِظْهَارَ الْعَبْدِ

ص: 155

بِاللَّهِ وَوُثُوقَهُ بِحِمَايَتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَكَارِهِ بِاسْتِمْسَاكِ الْوَاقِعِ فِي مَهْوَاةٍ بِحَبْلٍ وَثِيقٍ مُدَلًّى مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ يَأْمَنُ انْقِطَاعَهُ.

تَنْبِيهٌ

قَدْ تَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ بِلَفْظَيْنِ نَحْوُ: {قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} يَعْنِي تِلْكَ الْأَوَانِي لَيْسَتْ مِنَ الزُّجَاجِ وَلَا مِنَ الْفِضَّةِ بَلْ فِي صَفَاءِ الْقَارُورَةِ وَبَيَاضِ الْفِضَّةِ

{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} فَالصَّبُّ كِنَايَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَالسَّوْطُ عَنِ الْإِيلَامِ فَالْمَعْنَى عَذَّبَهُمْ عَذَابًا دَائِمًا مُؤْلِمًا

فَائِدَةٌ

أَنْكَرَ قَوْمٌ الِاسْتِعَارَةَ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمُ الْمَجَازَ وَقَوْمٌ إِطْلَاقَهَا فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهَا إِيهَامًا لِلْحَاجَةِ ولأنه لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ إِذْنٌ مِنَ الشَّرْعِ وَعَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ

وَقَالَ الطَّرْطُوشِيُّ إِنْ أَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ الِاسْتِعَارَةَ فِيهِ أَطْلَقْنَاهَا وإنامتنعوا امْتَنَعْنَا وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ "إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ" وَالْعِلْمُ هُوَ الْعَقْلُ ثُمَّ لَا نَصِفُهُ بِهِ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ انْتَهَى.

ص: 156

فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ

تَقَدَّمَ أَنَّ التَّشْبِيهَ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَشْرَفِهَا وَاتَّفَقَ الْبُلَغَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ أَبْلَغُ مِنْهُ لِأَنَّهَا مَجَازٌ وَهُوَ حَقِيقَةٌ وَالْمَجَازُ أَبْلَغُ فَإِذَا الِاسْتِعَارَةُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ وَكَذَا الْكِنَايَةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْكِنَايَةِ كَمَا قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ: إِنَّهُ الظَّاهِرُ لِأَنَّهَا كَالْجَامِعَةِ بَيْنَ كِنَايَةٍ وَاسْتِعَارَةٍ وَلِأَنَّهَا مَجَازٌ قَطْعًا وَفِي الْكِنَايَةِ خِلَافٌ

وَأَبْلَغُ أَنْوَاعِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْكَشَّافِ وَيَلِيهَا الْمَكْنِيَّةُ صَرَّحَ بِهِ الطِّيبِيُّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّرْشِيحِيَّةُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُجَرَّدَةِ وَالْمُطْلَقَةِ وَالتَّخْيِيلِيَّةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّحْقِيقِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْأَبْلَغِيَّةِ إِفَادَةُ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي كَمَالِ التَّشْبِيهِ لَا زِيَادَةٍ فِي الْمَعْنَى لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.

خَاتِمَةٌ

مِنَ الْمُهِمِّ تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّشْبِيهِ الْمَحْذُوفِ الْأَدَاةِ نَحْوُ: "زِيدٌ أَسَدٌ"

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يُسَمَّى مَا فِي الْآيَةِ استعارة قلت مختلف فِيهِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا لَا اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَإِنَّمَا تُطْلَقُ الِاسْتِعَارَةُ حَيْثُ يُطْوَى ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خُلُوًّا عَنْهُ صَالِحًا لِأَنْ

ص: 157

يُرَادَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ وَالْمَنْقُولُ لَهُ لَوْلَا دَلَالَةُ الْحَالِ أَوْ فَحَوَى الْكَلَامِ وَمِنْ ثَمَّ تَرَى الْمُفْلِقِينَ السَّحَرَةَ يَتَنَاسَوْنَ التَّشْبِيهَ وَيَضْرِبُونَ عَنْهُ صَفْحًا

وَعَلَّلَهُ السَّكَّاكِيُّ: بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ إِمْكَانُ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ وَتَنَاسِي التَّشْبِيهِ وَزَيْدٌ أَسَدٌ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ وَمَا قَالَاهُ مَمْنُوعٌ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ صَلَاحِيَةُ الْكَلَامِ لِصَرْفِهِ إلى الحقيقة في الظاهرقال بَلْ لَوْ عُكِسَ ذَلِكَ وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ عَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لَكَانَ أَقْرَبَ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ مَجَازٌ لا بد له قَرِينَةٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ امْتَنَعَ صَرْفُهُ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ وَصَرَفْنَاهُ إِلَى حَقِيقَتِهِ وَإِنَّمَا نَصْرِفُهُ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ بِقَرِينَةٍ إِمَّا لَفْظِيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ نَحْوُ: "زِيدٌ أَسَدٌ" فَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ زَيْدٍ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنْ إِرَادَةِ حَقِيقَتِهِ قَالَ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ فِي نَحْوِ: "زِيدٌ أَسَدٌ" أنه قِسْمَانِ تَارَةً يُقْصَدُ بِهِ التَّشْبِيهُ فَتَكُونُ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ مُقَدَّرَةً وَتَارَةً يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ فَلَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً وَيَكُونُ الْأَسَدُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَذَكَرَ زَيْدٌ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ حَقِيقَةً قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ دَالَّةٌ عَلَيْهَا فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى حَذْفِ الْأَدَاةِ صِرْنَا إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ فَنَحْنُ بَيْنَ إِضْمَارٍ وَاسْتِعَارَةٍ وَالِاسْتِعَارَةُ أَوْلَى فَيُصَارُ إِلَيْهَا

وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْفَرْقِ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ فِي "قواني الْبَلَاغَةِ" وَكَذَا قَالَ: حَازِمٌ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ فَتَقْدِيرُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ لَا يَجُوزُ فِيهَا وَالتَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَاجِبٌ فِيهِ.

ص: 158