المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثامن والخمسون: في بدائع القرآن - الإتقان في علوم القرآن - جـ ٣

[الجلال السيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْمُحْكَمِ والمتشابه

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي عَامِّهِ وَخَاصِّهِ

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُشْكِلِهِ وَمُوهِمِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ

- ‌النَّوْعُ الْخَمْسُونَ: فِي مَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ

- ‌النوع الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: فِي وُجُوهِ مُخَاطَبَاتِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: فِي تَشْبِيهِهِ وَاسْتِعَارَاتِهِ

- ‌النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي كِنَايَاتِهِ وَتَعْرِيضِهِ

- ‌النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْحَصْرِ والاختصاص

- ‌النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ

- ‌النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ

- ‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: فِي بَدَائِعِ الْقُرْآنِ

- ‌النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي فَوَاصِلِ الْآيِ

- ‌النَّوْعُ السِّتُّونَ: فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ

- ‌النَّوْعُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: فِي مُنَاسَبَةُ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ

- ‌النَّوْعُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْآيَاتِ الْمُشْتَبِهَاتِ

الفصل: ‌النوع الثامن والخمسون: في بدائع القرآن

‌النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: فِي بَدَائِعِ الْقُرْآنِ

أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فَأَوْرَدَ فِيهِ نَحْوَ مِائَةِ نَوْعٍ وَهِيَ الْمَجَازُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالتَّشْبِيهُ وَالْكِنَايَةُ وَالْإِرْدَافُ وَالتَّمْثِيلُ وَالْإِيجَازُ وَالِاتِّسَاعُ وَالْإِشَارَةُ وَالْمُسَاوَاةُ وَالْبَسْطُ وَالْإِيغَالُ وَالتَّتْمِيمُ وَالتَّكْمِيلُ وَالِاحْتِرَاسُ وَالِاسْتِقْصَاءُ وَالتَّذْيِيلُ وَالزِّيَادَةُ وَالتَّرْدِيدُ وَالتَّكْرَارُ وَالتَّفْسِيرُ وَالْإِيضَاحُ وَنَفْيُ الشَّيْءِ بِإِيجَابِهِ وَالْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ وَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ وَالْمُنَاقَضَةُ وَالِانْتِقَالُ وَالْإِسْجَالُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّمْكِينُ وَالتَّوْشِيحُ وَالتَّسْهِيمُ وَرَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ وَتَشَابُهُ الْأَطْرَافِ وَلُزُومُ مَا لَا يَلْزَمُ والتخيير والتشجيع والتسريع والإيهام وهو التورية والاستخدام والالتفات وَالِاطِّرَادُ وَالِانْسِجَامُ وَالْإِدْمَاجُ وَالِافْتِنَانُ وَالِاقْتِدَارُ وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ اللَّفْظِ وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى وَالِاسْتِدْرَاكُ وَالِاسْتِثْنَاءُ والاقتصاص والإبدال وَتَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ والتفويت والتغاير والتقسيم والتدبيج والتنكيت والتجريد والتعديد والترتيب والترقي والتدلي والتضمين والجناس والجمع والتفريق والجمع والتقسيم والجمع مع التفريق والتقسيم وَجَمْعُ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ وَحُسْنُ النَّسَقِ وَعِتَابُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَالْعَكْسُ وَالْعُنْوَانُ والفرائد والقسم واللف والنشر والمشاكلة والمزاوجة وَالْمُبَالَغَةُ وَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُقَابَلَةُ وَالْمُوَارَبَةُ وَالْمُرَاجَعَةُ وَالنَّزَاهَةُ وَالْإِبْدَاعُ وَالْمُقَارَنَةُ وَحَسَنُ الِابْتِدَاءِ وَحَسَنُ الْخِتَامِ وَحُسْنُ التَّخَلُّصِ وَالِاسْتِطْرَادُ

فَأَمَّا الْمَجَازُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى الْإِيضَاحِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي أَنْوَاعٍ مُفْرَدَةٍ

ص: 284

وَبَعْضُهَا فِي نَوْعِ الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ مَعَ أَنْوَاعٍ أُخَرَ كَالتَّعْرِيضِ وَالِاحْتِبَاكِ وَالِاكْتِفَاءِ وَالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ

وَأَمَّا نَفْيُ الشَّيْءِ بِإِيجَابِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ وَالْخَمْسَةُ بَعْدَهُ فَسَتَأْتِي فِي نَوْعِ الْجَدَلِ مَعَ أَنْوَاعٍ أُخَرَ مَزِيدَةٍ وَأَمَّا التَّمْكِينُ وَالثَّمَانِيَةُ بَعْدَهُ فَسَتَأْتِي فِي أَنْوَاعِ الْفَوَاصِلِ وَأَمَّا حُسْنُ التَّخَلُّصِ وَالِاسْتِطْرَادِ فَسَيَأْتِيَانِ فِي نَوْعِ الْمُنَاسَبَاتِ وَأَمَّا حُسْنُ الِابْتِدَاءِ وَبَرَاعَةُ الْخِتَامِ فَسَيَأْتِيَانِ فِي نَوْعَيِ الْفَوَاتِحِ وَالْخَوَاتِمِ

وَهَا أَنَا أورد الباقي مع زوائد وَنَفَائِسَ لَا تُوجَدُ مَجْمُوعَةً فِي غَيْرِ هَذَا الكتاب.

الْإِيهَامُ

وَيُدْعَى التَّوْرِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ لَهُ مَعْنَيَانِ إِمَّا بِالِاشْتِرَاكِ أَوِ التَّوَاطُؤِ أَوِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ وَالْآخَرُ بَعِيدٌ وَيُقْصَدُ الْبَعِيدُ وَيُوَرَّى عَنْهُ بِالْقَرِيبِ فَيَتَوَهَّمُهُ السَّامِعُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تَرَى بَابًا فِي الْبَيَانِ أَدَقَّ وَلَا أَلْطَفَ مِنَ التَّوْرِيَةِ وَلَا أَنْفَعَ وَلَا أَعْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ وَهُوَ الْمَعْنَى الْقَرِيبُ الْمُوَرَّى بِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْهُ وَالثَّانِي: الِاسْتِيلَاءُ وَالْمُلْكُ وَهُوَ الْمَعْنَى الْبَعِيدُ الْمَقْصُودُ الَّذِي وَرَّى عَنْهُ بِالْقَرِيبِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى.

ص: 285

وَهَذِهِ التَّوْرِيَةُ تُسَمَّى مُجَرَّدَةً لِأَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ لَوَازِمِ الْمُوَرَّى بِهِ وَلَا الْمُوَرَّى عَنْهُ

وَمِنْهَا مَا تُسَمَّى مُرَشَّحَةً وَهِيَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ لَوَازِمَ هَذَا أَوْ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْجَارِحَةَ وَهُوَ الْمُوَرَّى بِهِ وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّرْشِيحِ الْبُنْيَانُ وَيَحْتَمِلُ الْقُوَّةَ وَالْقُدْرَةَ وَهُوَ الْبَعِيدُ الْمَقْصُودُ

قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابِهِ "الْإِعْجَازُ"وَمِنْهَا: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} فَالضَّلَالُ يَحْتَمِلُ الْحُبَّ وَضِدَّ الْهُدَى فَاسْتَعْمَلَ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ ضِدَّ الْهُدَى تَوْرِيَةً عَنِ الْحُبِّ

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} عَلَى تَفْسِيرِهِ بِالدِّرْعِ فَإِنَّ الْبَدَنَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْجَسَدِ وَالْمُرَادُ البعيد وهو الجسد

فقال: ومن ذلك قوله بعد ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَالَ: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِمُوسَى مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ الْيَهُودُ وَتَوَجَّهَتِ النَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِقِ كَانَتْ قِبْلَةُ الْإِسْلَامِ وَسَطًا بَيْنَ الْقِبْلَتَيْنِ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أَيْ خِيَارًا وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوهِمُ التَّوَسُّطَ مَعَ مَا يُعَضِّدُهُ مِنْ تَوَسُّطِ قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ صَدَقَ عَلَى لفظة "وسط" ها هنا أَنْ يُسَمِّي تَعَالَى بِهِ لِاحْتِمَالِهَا الْمَعْنَيَيْنِ وَلَمَّا كان المراد أبعدها وَهُوَ الْخِيَارُ صَلُحَتْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّوْرِيَةِ

ص: 286

قُلْتُ: وَهِيَ مُرَشَّحَةٌ بِلَازِمِ الْمُوَرَّى عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فَإِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِمْ خِيَارًا أَيْ عُدُولًا وَالْإِتْيَانُ قَبْلَهَا مِنْ قِسْمِ الْمُجَرَّدَةِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} فَإِنَّ النَّجْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَوْكَبِ وَيُرَشِّحُهُ لَهُ ذِكْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَعَلَى مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ وَهُوَ الْمَعْنَى الْبَعِيدُ لَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ

وَنَقَلْتُ مِنْ خَطِّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابن حجر أن التَّوْرِيَةِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} فَإِنَّ"كَافَّةً"بِمَعْنَى"مَانِعٍ"أَيْ تَكُفُّهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهَاءُ للمبالغة وهذا مَعْنًى بَعِيدٌ وَالْمَعْنَى الْقَرِيبُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمُرَادَ جَامِعَةً بِمَعْنَى "جَمِيعًا" لَكِنْ مَنَعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّأْكِيدَ يَتَرَاخَى عَنِ الْمُؤَكَّدِ فَكَمَا لَا تَقُولُ رَأَيْتُ جَمِيعًا النَّاسَ لَا تَقُولُ رَأَيْتُ كَافَّةً الناسَ

الِاسْتِخْدَامُ

هُوَ وَالتَّوْرِيَةُ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ وَهُمَا سِيَّانِ بَلْ فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهَا وَلَهُمْ فِيهِ عِبَارَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ لَهُ مَعْنَيَانِ فَأَكْثَرُ مُرَادًا بِهِ أَحَدُ مَعَانِيهِ ثُمَّ يُؤْتَى بِضَمِيرِهِ مُرَادًا بِهِ الْمَعْنَى الْآخَرُ وهذه طريقة السَّكَّاكِيِّ وَأَتْبَاعِهِ

وَالْأُخْرَى أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ ثُمَّ بِلَفْظَيْنِ يُفْهَمُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ وَمِنَ الْآخَرُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ بَدْرِ الدِّينِ بن جماعة فِي الْمِصْبَاحِ وَمَشَى

ص: 287

عَلَيْهَا ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} الْآيَةَ فَلَفْظُ"كِتَابٍ"يَحْتَمِلُ الْأَمَدَ الْمَحْتُومَ وَالْكِتَابَ الْمَكْتُوبَ فَلَفْظُ"أَجْلٍ"يَخْدِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَ"يَمْحُو"يَخْدِمُ الثَّانِي

وَمَثَّلَ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية فَالصَّلَاةُ تَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا فِعْلُهَا وَمَوْضِعُهَا وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يَخْدِمُ الْأَوَّلَ {إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} يَخْدِمُ الثَّانِي

قِيلَ وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّكَّاكِيِّ

قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَخْرَجْتُ بِفِكْرِي آيَاتٍ عَلَى طَرِيقَتِهِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} فَأَمْرُ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ قِيَامُ السَّاعَةِ وَالْعَذَابُ وَبِعْثَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أُرِيدَ بِلَفْظِهِ الْأَخِيرِ كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} قَالَ مُحَمَّدٌ وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي" تَسْتَعْجِلُوهُ "مُرَادًا بِهِ قِيَامُ السَّاعَةِ وَالْعَذَابُ

وَمِنْهَا وَهِيَ أَظْهَرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ آدَمُ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرَ مُرَادًا بِهِ ولده فقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ أَشْيَاءُ أُخَرُ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا الصَّحَابَةُ فَنُهُوا عَنْ سؤالها.

ص: 288

الِالْتِفَاتُ

نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ أَعْنِي مِنَ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ إِلَى آخَرَ مِنْهَا بَعْدَ التَّعْبِيرِ بِالْأَوَّلِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: إِمَّا ذَلِكَ أَوِ التَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا حَقُّهُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ وَلَهُ فَوَائِدُ:

مِنْهَا تَطْرِيَةُ الْكَلَامِ وَصِيَانَةُ السَّمْعِ عَنِ الضَّجَرِ وَالْمَلَالِ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلَاتِ وَالسَّآمَةِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ وَهَذِهِ فَائِدَتُهُ الْعَامَّةُ

وَيَخْتَصُّ كُلُّ مَوْضِعٍ بِنُكَتٍ وَلِطَائِفَ بِاخْتِلَافِ مَحَلِّهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ مِثَالُهُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ وَوَجْهُهُ حَثُّ السَّامِعِ وَبَعْثُهُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ حَيْثُ أَقْبَلَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ فَضْلَ عِنَايَةِ تَخْصِيصٍ بِالْمُوَاجَهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وَالْأَصْلُ"وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ"فَالْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ مُنَاصَحَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْحَ قَوْمِهِ تَلَطُّفًا وَإِعْلَامًا أَنَّهُ يُرِيدُ لَهُمْ مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ فِي مَقَامِ تَخْوِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى

كَذَا جَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ إِذَا قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: "تُرْجَعُونَ" الْمُخَاطَبِينَ لَا نَفْسَهُ

وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمَا صَحَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ لَأَنَّ رُجُوعَ الْعَبْدِ إِلَى مَوْلَاهُ لَيْسَ بِمُسْتَلْزِمٍ أَنْ يُعِيدَهُ غَيْرُ ذَلِكَ الرَّاجِعِ فَالْمَعْنَى: كَيْفَ لَا أَعْبُدُ مَنْ إِلَيْهِ رُجُوعِي وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ"وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ"إِلَى "وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" لِأَنَّهُ

ص: 289

دَاخِلٌ فِيهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ أَفَادَ فَائِدَةً حَسَنَةً وَهِيَ تَنْبِيهُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِثْلَهُمْ فِي وُجُوبِ عِبَادَةِ من إليه الرجوع ومن أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ}

وَمِثَالُهُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَوَجْهُهُ أَنْ يَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا نَمَطُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ مِنَ السَّامِعِ حَضَرَ أَوْ غَابَ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مِمَّنْ يَتَلَوَّنُ وَيَتَوَجَّهُ وَيُبْدِي فِي الْغَيْبَةِ خِلَافَ مَا يُبْدِيهِ فِي الْحُضُورِ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} وَالْأَصْلُ"لِنَغْفِرَ لَكَ"{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وَالْأَصْلُ"لَنَا"{أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وَالْأَصْلُ"مِنَّا"{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَالْأَصْلُ"وَبِي"وَعَدَلَ عَنْهُ لِنُكْتَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا دَفْعُ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَصَبِيَّةِ لَهَا وَالْأُخْرَى تَنْبِيهُهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الِاتِّبَاعَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَالْخَصَائِصِ الْمَتْلُوَّةِ وَمِثَالُهُ

مِنَ الْخِطَابِ إِلَى التَّكَلُّمِ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} ثُمَّ قَالَ {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا} وَهَذَا الْمِثَالُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ شَرْطَ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ وَاحِدًا

وَمِثَالُهُ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وَالْأَصْلُ"بِكُمْ"وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى حِكَايَةِ حَالِهِمْ لِغَيْرِهِمْ التَّعَجُّبُ

ص: 290

مِنْ كُفْرِهِمْ وَفِعْلِهِمْ إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى خِطَابِهِمْ لَفَاتَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوَّلًا كَانَ مَعَ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ بِدَلِيلِ {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فَلَوْ كَانَ"وَجَرَيْنَ بِكُمْ"لَلَزِمَ الذَّمُّ لِلْجَمِيعِ فَالْتَفَتَ عَنِ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ عُدُولًا مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ

قُلْتُ: وَرَأَيْتُ عن بعض السلف في توجهه عَكْسَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ أَوَّلُهُ خَاصٌّ وآخره عام فأخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} قَالَ: ذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنْهُمْ ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ وَجَرَيْنَ بِكُمْ لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَجْمَعَهُمْ وَغَيْرَهُمْ وَجَرَيْنَ بِهَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْخُلُقِ هَذِهِ عِبَارَتُهُ فَلِلَّهِ دَرُّ السَّلَفِ مَا كَانَ أَوْقَفَهُمْ عَلَى الْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ الَّتِي يَدْأَبُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهَا زَمَانًا طَوِيلًا وَيَفْنُونَ فِيهَا أَعْمَارَهُمْ ثُمَّ غَايَتُهُمْ أَنْ يحرموا حَوْلَ الْحِمَى وَمِمَّا ذُكِرَ فِي تَوْجِيهِهِ أَيْضًا أَنَّهُمْ وَقْتَ الرُّكُوبِ حضروا لأنهم خَافُوا الْهَلَاكَ وَغَلَبَةَ الرِّيَاحِ فَخَاطَبَهُمْ خِطَابَ الْحَاضِرِينَ ثُمَّ لَمَّا جَرَتِ الرِّيَاحُ بِمَا تَشْتَهِي السُّفُنُ وَأَمِنُوا الْهَلَاكَ لَمْ يَبْقَ حُضُورُهُمْ كَمَا كَانَ عَلَى عَادَةِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إذا أمن غالب قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ فَلَمَّا غَابُوا ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ وَهَذِهِ إِشَارَةٌ صُوفِيَّةٌ

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ} وَالْأَصْلُ"عَلَيْكُمْ"ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فَكَرَّرَ الِالْتِفَاتَ

ص: 291

وَمِثَالُهُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ثُمَّ الْتَفَتَ ثَانِيًا إِلَى الْغَيْبَةِ فَقَالَ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَعَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ"لِيُرِيَهُ"بِالْغِيبَةِ يَكُونُ الْتِفَاتًا ثَانِيًا مَنْ"بَارَكْنَا"وَفِي"آيَاتِنَا"الْتِفَاتٌ ثَالِثٌ وَفِي"إِنَّهُ"الْتِفَاتٌ رَابِعٌ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفَائِدَتُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْقُدْرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ أَحَدٍ

وَمِثَالُهُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ}

وَمِنْ مَحَاسِنِهِ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا ذكر الله تعالى وحده ثم ذكر صفاته التي كُلَّ صِفَةٍ مِنْهَا تَبْعَثُ عَلَى شِدَّةِ الْإِقْبَالِ وَآخِرُهَا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الْمُفِيدُ أَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ حَامِلًا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَلَى خِطَابِ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ بِتَخْصِيصِهِ بِغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمُهِمَّاتِ وَقِيلَ إِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْغِيبَةِ لِلْحَمْدِ وَلِلْعِبَادَةِ الْخِطَابُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْحَمْدَ دُونَ الْعِبَادَةِ فِي الرُّتْبَةِ لِأَنَّكَ تَحْمَدُ نظيرك وَلَا تَعْبُدُهُ فَاسْتَعْمَلَ لَفْظَ "الْحَمْدِ"

ص: 292

مَعَ الْغَيْبَةِ وَلَفْظَ الْعِبَادَةِ مَعَ الْخِطَابِ لِيَنْسِبَ إِلَى الْعَظِيمِ حَالَ الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُوَاجِهَةِ مَا هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّأَدُّبِ وَعَلَى نَحْوٍ مَنْ ذَلِكَ جَاءَ آخِرُ السُّورَةِ فَقَالَ: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مُصَرِّحًا بِذِكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِسْنَادِ الْإِنْعَامِ إِلَيْهِ لَفْظًا وَلَمْ يُقَلْ: "صِرَاطَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ" فَلَمَّا صَارَ إلى ذكر الغضب روى عَنْهُ لَفْظَهُ فَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَيْهِ لَفْظًا وَجَاءَ بِاللَّفْظِ مُنْحَرِفًا عَنْ ذِكْرِ الْغَاضِبِ فَلَمْ يَقُلْ: "غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ"تَفَادِيًا عَنْ نِسْبَةِ الْغَضَبِ إِلَيْهِ فِي اللَّفْظِ حَالَ الْمُوَاجَهَةِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْحَقِيقَ بِالْحَمْدِ وَأَجْرَى عَلَيْهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةَ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالِمِينَ وَرَحْمَانًا وَرَحِيمًا وَمَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِمَعْلُومٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ حَقِيقٍ بِأَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا دُونَ غَيْرِهِ مُسْتَعَانًا بِهِ فَخُوطِبَ بِذَلِكَ لِتَمَيُّزِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: "إِيَّاكَ يَا مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ نَخُصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ لَا غَيْرَكَ"

قِيلَ: ومن لطائفه التنبيه على أَنَّ مُبْتَدَأَ الْخَلْقِ الْغَيْبَةُ مِنْهُمْ عَنْهُ سبحانه وتعالى وَقُصُورُهُمْ عَنْ مُحَاضَرَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ وَقَيَامُ حِجَابِ الْعَظَمَةِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا عَرَفُوهُ بِمَا هُوَ له وَتَوَسَّلُوا لِلْقُرْبِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَأَقَرُّوا بِالْمَحَامِدِ لَهُ وتعبدوا له بما يليق بهم تأهلوا لمخاطباته وَمُنَاجَاتِهِ فَقَالُوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

تَنْبِيهَاتٌ

الأول: شرط الالتفات أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلى المنتقل عنه وَإِلَّا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي"أَنْتَ صَدِيقِي"التفات

الْتِفَاتٌ الثَّانِي: شَرْطُهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَغَيْرُهُ وَإِلَّا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا غَرِيبًا.

ص: 293

الثَّالِثُ: ذَكَرَ التَّنُوخِيُّ فِي"الْأَقْصَى الْقَرِيبُ"وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمَا نَوْعًا غَرِيبًا مِنَ الِالْتِفَاتِ وَهُوَ بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ خِطَابِ فَاعِلِهِ أَوْ تَكَلُّمِهِ كَقَوْلِهِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بَعْدَ {أَنْعَمْتَ} فَإِنَّ الْمَعْنَى: "غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ" وَتَوَقَّفَ فِيهِ صَاحِبُ عَرُوسُ الْأَفْرَاحِ

الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِالْتِفَاتِ قِسْمٌ غَرِيبٌ جِدًّا لَمْ أَظْفَرْ فِي الشِّعْرِ بِمِثَالِهِ وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُتَكَلِّمُ فِي كَلَامِهِ مذكورين مرتيين ثُمَّ يُخْبِرُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَيَنْصَرِفُ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الثَّانِي: ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} انْصَرَفَ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى ثُمَّ قَالَ مُنْصَرِفًا عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِنْسَانِ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} قَالَ وَهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يُسَمَّى الْتِفَاتَ الضَّمَائِرِ

الْخَامِسُ: يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ أَوِ الْجَمْعِ لِخِطَابِ الْآخَرِ ذَكَرَهُ التَّنُوخِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَهُوَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ: أَيْضًا

مِثَالُهُ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الِاثْنَيْنِ: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} وإلى الجمع {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}

وَمِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}

ص: 294

وَإِلَى الْجَمْعِ {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}

وَمِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}

وإلى الاثنين {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}

السَّادِسُ: وَيَقْرُبُ مِنْهُ أَيْضًا- الِانْتِقَالُ مِنَ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ أَوِ الْأَمْرِ إِلَى آخَرَ مِثَالُهُ مِنَ الماضي إلى المضارع {رْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ} {خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}

وَإِلَى الْأَمْرِ {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا}

وَمِنَ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ}

وَإِلَى الْأَمْرِ {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ}

وَمِنَ الْأَمْرِ إِلَى الْمَاضِي {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا}

وَإِلَى الْمُضَارِعِ {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}

ص: 295

الِاطِّرَادُ

هُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ أَسْمَاءَ آبَاءِ الْمَمْدُوحِ مُرَتَّبَةً عَلَى حُكْمِ تَرْتِيبِهَا فِي الْوِلَادَةِ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}

قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَأْلُوفِ فَإِنَّ الْعَادَةَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَبِ ثُمَّ الْجَدِّ ثُمَّ الْجَدِّ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ هُنَا مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْآبَاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ لِيَذْكُرَ مِلَّتَهُمُ الَّتِي اتَّبَعَهَا فَبَدَأَ بِصَاحِبِ الْمِلَّةِ ثُمَّ بِمَنْ أَخَذَهَا عَنْهُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا عَلَى التَّرْتِيبِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}

الانسجام

هو أن يكون الكلام لخلوه من العقادة منحدرا كَتَحَدُّرِ الْمَاءِ الْمُنْسَجِمِ وَيَكَادُ لِسُهُولَةِ تَرْكِيبِهِ وَعُذُوبَةِ ألفاظه أن يسيل رِقَّةً وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ كَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْبَدِيعِ: وَإِذَا قَوِيَ الِانْسِجَامُ فِي النَّثْرِ جَاءَتْ قِرَاءَتُهُ مَوْزُونَةً بِلَا قَصْدٍ لِقُوَّةِ انْسِجَامِهِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَوْزُونًا

فَمِنْهُ مِنْ بَحْرِ الطَّوِيلِ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}

وَمِنَ الْمَدِيدِ: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}

وَمِنَ الْبَسِيطِ: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ}

ص: 296

وَمِنَ الْوَافِرِ: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}

وَمِنَ الْكَامِلِ: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

وَمِنَ الْهَزَجِ: {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً}

وَمِنَ الرَّجَزِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}

وَمِنَ الرَّمَلِ: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}

وَمِنَ السَّرِيعِ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}

وَمِنَ الْمُنْسَرِحِ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ}

وَمِنَ الْخَفِيفِ: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}

وَمِنَ الْمُضَارِعِ: {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}

وَمِنَ الْمُقْتَضَبِ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}

وَمِنَ الْمُجْتَثِّ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}

وَمِنَ الْمُتَقَارِبِ: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}

ص: 297

الإدماج

قال ابن الْإِصْبَعِ هُوَ أَنْ يُدْمِجَ الْمُتَكَلِّمُ غَرَضًا فِي غَرَضٍ أَوْ بَدِيعًا فِي بَدِيعٍ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا أَحَدُ الْغَرَضَيْنِ أَوْ أَحَدُ الْبَدِيعَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} أُدْمِجَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمُطَابَقَةِ لِأَنَّ انفراده بِالْحَمْدِ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يُحْمَدُ فِيهِ سِوَاهُ- مبالغة في الوصف بِالِانْفِرَادِ بِالْحَمْدِ وَهُوَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ فِيهِ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ رَبُّ الْحَمْدِ وَالْمُنْفَرِدُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ انْتَهَى

قُلْتُ: وَالْأَوْلَى أَنَّ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّهَا مِنْ إِدْمَاجِ غَرَضٍ فِي غَرَضٍ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا تَفْرُّدُهُ تَعَالَى بِوَصْفِ الْحَمْدِ وَأَدْمَجَ فِيهِ الْإِشَارَةَ إلى البعث والجزاء.

الافتان

هُوَ الْإِتْيَانُ فِي كَلَامٍ بِفَنَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْفَخْرِ وَالتَّعْزِيَةِ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} فَإِنَّهُ تَعَالَى عَزَّى جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ مَا هُوَ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَتَمَدَّحَ بِالْبَقَاءِ بَعْدَ فَنَاءٍ الْمَوْجُودَاتِ فِي عَشْرِ لَفْظَاتٍ مَعَ وَصْفِهِ ذَاتَهُ بَعْدَ- انْفِرَادِهِ بِالْبَقَاءِ- بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ سبحانه وتعالى!

وَمِنْهُ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الْآيَةَ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ هَنَاءٍ وَعَزَاءٍ.

ص: 298

الِاقْتِدَارُ

هُوَ أَنْ يُبْرِزَ الْمُتَكَلِّمُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ فِي عِدَّةِ صُوَرٍ اقْتِدَارًا مِنْهُ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ وتركيبه وعلى صِيَاغَةِ قَوَالِبِ الْمَعَانِي وَالْأَغْرَاضِ فَتَارَةً يَأْتِي بِهِ فِي لَفْظِ الِاسْتِعَارَةِ وَتَارَةً فِي صُورَةِ الْإِرْدَافِ وَحِينًا فِي مَخْرِجِ الْإِيجَازِ وَمَرَّةً فِي قَالَبِ الْحَقِيقَةِ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَعَلَى هَذَا أَتَتْ جَمِيعُ قَصَصِ الْقُرْآنِ فَإِنَّكَ تَرَى الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا تَأْتِي فِي صور مُخْتَلِفَةٍ وَقَوَالِبَ مِنَ الْأَلْفَاظِ مُتَعَدِّدَةٍ حَتَّى لَا تَكَادَ تَشْتَبِهُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ وَلَا بُدَّ أَنْ تَجِدَ الْفَرْقَ بَيْنَ صُوَرِهَا ظَاهِرًا.

ائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ اللَّفْظِ وَائْتِلَافُهُ مَعَ الْمَعْنَى

الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ يُلَائِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِأَنْ يقرن الْغَرِيبُ بِمِثْلِهِ وَالْمُتَدَاوَلُ بِمِثْلِهِ رِعَايَةً لِحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْمُنَاسَبَةِ

وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُ الْكَلَامِ مُلَائِمَةً لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ فَإِنْ كَانَ فَخْمًا كَانَتْ أَلْفَاظُهُ فَخْمَةً أَوْ جَزْلًا فَجَزْلَةً أَوْ غَرِيبًا فَغَرِيبَةً أَوْ مُتَدَاوَلًا فَمُتَدَاوَلَةً أَوْ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْغَرَابَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ فَكَذَلِكَ

فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} أَتَى بِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْقَسَمِ وَهِيَ التَّاءُ فَإِنَّهَا أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا وَأَبْعَدُ مِنْ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الباء والواو وَبِأَغْرَبِ صِيَغِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَرْفَعُ الْأَسْمَاءَ وَتَنْصِبُ الْأَخْبَارَ فَإِنَّ"تَزَالُ"أَقْرَبُ إِلَى الْأَفْهَامِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْهَا وَبِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْهَلَاكِ وَهُوَ الْحَرَضُ فَاقْتَضَى حُسْنُ الْوَضْعِ فِي النظم أن تجاوز كُلُّ لَفْظَةٍ

ص: 299

بِلَفْظَةٍ مِنْ جِنْسِهَا فِي الْغَرَابَةِ تَوَخِّيًا لِحُسْنِ الجوار ورغبة فِي ائْتِلَافِ الْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ وَلِتَتَعَادَلَ الْأَلْفَاظُ فِي الْوَضْعِ وَتَتَنَاسَبُ فِي النَّظْمِ وَلَمَّا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} فَأَتَى بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ مُتَدَاوَلَةً لَا غَرَابَةَ فِيهَا

وَمِنَ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} لَمَّا كَانَ الرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِ وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ دُونَ مُشَارَكَتِهِ فِي الظُّلْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِقَابُ عَلَيْهِ دُونَ الْعِقَابِ عَلَى الظُّلْمِ فَأَتَى بِلَفْظِ"الْمَسِّ"الَّذِي هُوَ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَالِاصْطِلَاءِ

وَقَوْلُهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} أَتَى بِلَفْظِ"الِاكْتِسَابِ"الْمُشْعِرِ بِالْكُلْفَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ لِثِقَلِهَا

وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} فهو أَبْلَغُ مِنْ كُبُّوا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أنهم يكبون كَبًّا عَنِيفًا فَظِيعًا

{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} فإنه أبلغ من"يَصْرُخُونَ"لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ صُرَاخًا مُنْكَرًا خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ

{أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ"قَادِرٍ"لِلْإِشَارَةِ إِلَى زِيَادَةِ التَّمَكُّنِ فِي الْقُدْرَةِ وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لَهُ وَلَا معقب ومثل ذلك {وَاصْطَبِرْ} فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ"اصْبِرْ"وَ"الرَّحْمَنِ"

ص: 300

فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ"الرَّحِيمِ": فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ كَمَا أَنَّ الرحمن مشعر بِالْفَخَامَةِ وَالْعَظَمَةِ

وَمِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ سقى وأسقى فَإِنَّ"سَقَى"لِمَا لَا كُلْفَةَ مَعَهُ فِي السُّقْيَا وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ تَعَالَى فِي شَرَابِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} وَ "أَسْقَى" لِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ فِي شَرَابِ الدُّنْيَا فَقَالَ: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} لِأَنَّ السُّقْيَا فِي الدُّنْيَا لَا تَخْلُو مِنَ الْكُلْفَةِ أَبَدًا

الِاسْتِدْرَاكُ وَالِاسْتِثْنَاءُ

شَرْطُ كَوْنِهِمَا مِنَ الْبَدِيعِ أَنْ يَتَضَمَّنَا ضَرْبًا مِنَ الْمَحَاسِنِ زَائِدًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ

مِثَالُ الِاسْتِدْرَاكِ: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ تُؤْمِنُوا لَكَانَ مُنَفِّرًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ إِيمَانًا فَأَوْجَبَتِ الْبَلَاغَةُ ذِكْرَ الِاسْتِدْرَاكِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ موافقة القلب اللسان وإن انفرد اللِّسَانِ بِذَلِكَ يُسَمَّى إِسْلَامًا وَلَا يُسَمَّى إِيمَانًا وَزَادَ ذَلِكَ إِيضَاحًا بِقَوْلِهِ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} فَلَمَّا تَضَمَّنَ الِاسْتِدْرَاكُ إِيضَاحَ مَا عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ مِنَ الْإِشْكَالِ عُدَّ مِنَ الْمَحَاسِنِ

وَمِثَالُ الِاسْتِثْنَاءِ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَاماً} فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ يُمَهِّدُ عُذْرَ نُوحٍ فِي دُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ بِدَعْوَةٍ

ص: 301

أَهْلَكَتْهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ إِذْ لَوْ قِيلَ: "فَلَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا"لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ مَا فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ لَفْظَ"الألف"في الْأَوَّلِ أَوَّلُ مَا يَطْرُقُ السَّمْعُ فيشتغل بِهَا عَنْ سَمَاعِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ وَإِذَا جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ لَمْ يَبْقَ له بعدما تَقَدَّمَهُ وَقْعٌ يُزِيلُ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَلْفِ

الِاقْتِصَاصُ

ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كل كَلَامٌ فِي سُورَةٍ مُقْتَصًّا مِنْ كَلَامٍ فِي سُورَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي تِلْكَ السُّورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} والآخرة دَارُ ثَوَابٍ لَا عَمَلَ فِيهَا فَهَذَا مُقْتَصٌّ من قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}

وَمِنْهُ: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} مأخوذ مِنْ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}

وقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} مُقْتَصٌّ مِنْ أَرْبَعِ آيَاتٍ لِأَنَّ الْأَشْهَادَ أَرْبَعَةٌ: الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}

وَالْأَنْبِيَاءُ فِي قَوْلِهِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}

وَالْأَعْضَاءُ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} الآية

ص: 302

وقوله: {يَوْمَ التَّنَادِ} قُرِئَ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا فَالْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} وَالثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}

الْإِبْدَالُ

هُوَ إِقَامَةُ بَعْضِ الْحُرُوفِ مَقَامَ بَعْضٍ وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ {فَانْفَلَقَ} أَيِ انْفَرَقَ وَلِهَذَا قال: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} فَالرَّاءُ وَاللَّامُ مُتَعَاقِبَتَانِ وَعَنِ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أَنَّهُ أُرِيدَ"فَحَاسُوا" فَجَاءَتِ الْجِيمُ مَقَامَ الْحَاءِ وَقَدْ قُرِئَ بِالْحَاءِ أَيْضًا وَجَعَلَ مِنْهُ الْفَارِسِيُّ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أَيِ الْخَيْلَ وَجَعَلَ مِنْهُ أَبُو عبيدة {لَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} أَيْ تَصْدِدَةً

تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ

قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: هُوَ فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ مِنْهُ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً وَهِيَ قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَاّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ الْخَارِجِ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ عَلَى مَا عَابُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِيمَانِ يُوهِمُ أَنَّ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يُنْقَمَ عَلَى فَاعِلِهِ مِمَّا

ص: 303

يُذَمُّ بِهِ فَلَمَّا أَتَى بَعْدَ الاستثناء ما يُوجِبُ مَدْحَ فَاعِلِهِ كَانَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ

قُلْتُ: وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} فَإِنَّ ظَاهِرَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ مَا بَعْدَهُ حَقٌّ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ فَلَمَّا كَانَ صِفَةَ مَدْحٍ يَقْتَضِي الْإِكْرَامَ لَا الْإِخْرَاجَ كَانَ تَأْكِيدًا لِلْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ

وَجَعَلَ مِنْهُ التَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} اسْتَثْنَى"سَلَامًا سَلَامًا"الَّذِي هُوَ ضِدُّ اللَّغْوِ وَالتَّأْثِيمِ فَكَانَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِانْتِفَاءِ اللَّغْوِ وَالتَّأْثِيمِ انْتَهَى

التَّفْوِيتُ

هُوَ إِتْيَانُ الْمُتَكَلِّمِ بِمَعَانٍ شَتَّى مِنَ الْمَدْحِ وَالْوَصْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ كُلُّ فَنٍّ فِي جُمْلَةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ أُخْتِهَا مَعَ تَسَاوِي الْجُمَلِ فِي الزِّنَةِ وَتَكُونُ فِي الْجُمَلِ الطَّوِيلَةِ وَالْمُتَوَسِّطَةِ وَالْقَصِيرَةِ

فَمِنَ الطَّوِيلَةِ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}

وَمِنَ الْمُتَوَسِّطَةِ {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}

ص: 304

قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَلَمْ يَأْتِ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْقَصِيرَةِ فِي القرآن

التَّقْسِيمُ

هُوَ اسْتِيفَاءُ أَقْسَامِ الشَّيْءِ الْمَوْجُودَةِ لَا الْمُمْكِنَةِ عَقْلًا نَحْوُ: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إِذْ لَيْسَ فِي رُؤْيَةِ الْبَرْقِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ

وَقَوْلُهُ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يَخْلُو مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثلَاثَةِ إِمَّا عَاصٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا سَابِقٌ مُبَادِرٌ للخيرات وَإِمَّا مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا مُقْتَصِدٌ فِيهَا

وَنَظِيرُهَا {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} اسْتَوْفَى أَقْسَامَ الزَّمَانِ وَلَا رَابِعَ لهما

وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} ستوفى أَقْسَامَ الْخَلْقِ فِي الْمَشْيِ

وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} استوفى جميع هيآت الذَّاكِرِ

ص: 305

وَقَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يشاء عقيما} اسْتَوْفَى جَمِيعَ أَحْوَالِ الْمُتَزَوِّجِينَ وَلَا خَامِسَ لَهَا

التَّدْبِيجُ

هُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمَ أَلْوَانًا يَقْصِدُ التَّوْرِيَةَ بِهَا وَالْكِنَايَةَ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} قَالَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمُشْتَبَهِ وَالْوَاضِحِ مِنَ الطُّرُقِ لِأَنَّ الْجَادَّةَ الْبَيْضَاءَ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي كَثُرَ السُّلُوكُ عَلَيْهَا جِدًّا وَهِيَ أَوْضَحُ الطُّرُقِ وَأَبْيَنُهَا وَدُونَهَا الْحَمْرَاءُ وَدُونَ الْحَمْرَاءِ السَّوْدَاءُ كَأَنَّهَا فِي الْخَفَاءِ وَالِالْتِبَاسِ ضِدَّ الْبَيْضَاءِ فِي الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْوَانُ الثَّلَاثَةُ فِي الظُّهُورِ لِلْعَيْنِ طَرَفَيْنِ وَوَاسِطَةً فَالطَّرَفُ الْأَعْلَى فِي الظُّهُورِ الْبَيَاضُ وَالطَّرْفُ الْأَدْنَى فِي الْخَفَاءِ السَّوَادُ وَالْأَحْمَرُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَضْعِ الْأَلْوَانِ فِي التَّرْكِيبِ وَكَانَتْ أَلْوَانُ الْجِبَالِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ الثَّلَاثَةِ وَالْهِدَايَةُ بِكُلِّ عَلَمٍ نُصِبَ لِلْهِدَايَةِ مُنْقَسِمَةٌ هَذِهِ الْقِسْمَةَ أَتَتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُنْقَسِمَةً كَذَلِكَ فَحَصَلَ فِيهَا التَّدْبِيجُ وصحة التقسيم.

التَّنْكِيتُ

هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى شَيْءٍ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَسُدُّ مَسَدَّهُ لِأَجْلِ نُكْتَةٍ فِي الْمَذْكُورِ تُرَجِّحُ مَجِيئَهُ عَلَى سِوَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ

ص: 306

الشِّعْرَى} خَصَّ الشِّعْرَى بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النُّجُومِ وَهُوَ تَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ ظَهَرَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ عَبَدَ الشِّعْرَى وَدَعَا خَلْقًا إِلَى عِبَادَتِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} الَّتِي ادُّعِيَتْ فِيهَا الرُّبُوبِيَّةُ

التَّجْرِيدُ

هُوَ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْ أَمْرٍ ذِي صِفَةٍ آخَرُ مِثْلُهُ مُبَالَغَةً فِي كَمَالِهَا فِيهِ نَحْوُ"لِي مِنْ فُلَانٍ صِدِّيقٍ حَمِيمٍ" جَرَّدَ مِنَ الرَّجُلِ الصِّدِّيقِ آخَرَ مِثْلَهُ متصف بصفة الصداقة ونحو مررت بِالرَّجُلِ الْكَرِيمِ وَالنَّسَمَةِ الْمُبَارَكَةِ جَرَّدُوا مِنَ الرَّجُلِ الْكَرِيمِ آخَرَ مِثْلَهُ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْبَرَكَةِ وَعَطَفُوهُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ وَهُوَ هُوَ

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا دَارُ خُلْدٍ وَغَيْرُ دَارِ خُلْدٍ بَلْ هِيَ نَفْسُهَا دَارُ الْخُلْدِ فَكَأَنَّهُ جَرَّدَ مِنَ الدَّارِ دَارًا ذَكَرَهُ في"لمحتسب"جعل مِنْهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَيِّتِ النُّطْفَةُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى حَصَلَتْ مِنْهَا وَرْدَةٌ قَالَ وَهُوَ مِنَ التَّجْرِيدِ وَقُرِئَ أيضا {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ ابْنُ جِنِّي هَذَا هُوَ التَّجْرِيدُ وَذَلِكَ أَنَّهُ"يُرِيدُ وَهَبْ لِي مِنْ

ص: 307

لدنك وليا يرثني منه وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ"وَهُوَ الْوَارِثُ نَفْسُهُ فَكَأَنَّهُ جَرَّدَ مِنْهُ وارثا

التَّعْدِيدُ

هُوَ إِيقَاعُ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى سِيَاقٍ وَاحِدٍ وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}

وَقَوْلُهُ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} الْآيَةَ

وقوله: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} الآية.

التَّرْتِيبُ

هُوَ أَنْ يُورِدَ أَوْصَافَ الْمَوْصُوفِ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْخِلْقَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَلَا يُدْخِلَ فِيهَا وَصْفًا زَائِدًا وَمَثَّلَهُ عَبْدُ الْبَاقِي الْيَمَنِيُّ بِقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} وبقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} الْآيَةَ

ص: 308

التَّرَقِّي وَالتَّدَلِّي

تَقَدَّمَا فِي نَوْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ

التضمين

يطلق على أشياء:

أحدهما: إِيقَاعُ لَفْظٍ مَوْقِعَ غَيْرِهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَاهُ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ تقدم"الكلام" فِيهِ.

الثَّانِي: حُصُولُ مَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لَهُ بِاسْمٍ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْإِيجَازِ تَقَدَّمَ أَيْضًا

الثَّالِثُ: تَعَلُّقُ مَا بَعْدَ الْفَاصِلَةِ بِهَا وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي نَوْعِ الْفَوَاصِلِ.

الرَّابِعُ: إِدْرَاجُ كَلَامِ الْغَيْرِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْمَعْنَى، أَوْ تَرْتِيبِ النَّظْمِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْبَدِيعِيُّ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: وَلَمْ أَظْفَرْ فِي الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ تَضَمَّنَا فَصْلَيْنِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} الْآيَةَ

وَمَثَّلَهُ ابْنُ النَّقِيبِ وَغَيْرُهُ بِإِيدَاعِ حِكَايَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ، وَعَنِ الْمُنَافِقِينَ:

ص: 309

{أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} ، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} ، {وَقَالَتِ النَّصَارَى} قَالَ وَكَذَلِكَ مَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ اللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ

الْجِنَاسُ

هُوَ تَشَابُهُ اللَّفْظَيْنِ فِي اللَّفْظِ قَالَ فِي كَنْزِ الْبَرَاعَةِ: وَفَائِدَتُهُ الْمَيْلُ إِلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ فَإِنَّ مُنَاسَبَةَ الْأَلْفَاظِ تُحْدِثُ مَيْلًا وَإِصْغَاءً إِلَيْهَا وَلِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا حُمِلَ عَلَى مَعْنًى ثُمَّ جَاءَ وَالْمُرَادُ بِهِ آخَرُ كَانَ لِلنَّفْسِ تَشَوُّقٌ إِلَيْهِ وَأَنْوَاعُ الْجِنَاسِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا التام: بأن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها وهيآتها كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} وقيل: وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُ وَاسْتَنْبَطَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ مَوْضِعًا آخَرَ وَهُوَ {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ}

وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْجِنَاسُ، وَقَالَ السَّاعَةُ: فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَالتَّجْنِيسُ: أَنْ يَتَّفِقَ الْلَّفْظُ وَيَخْتَلِفَ الْمَعْنَى وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً وَالْآخِرُ مَجَازًا، بل يكونان حَقِيقَتَيْنِ، وَزَمَانُ الْقِيَامَةِ وَإِنْ طَالَ لَكِنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي حُكْمِ السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِطْلَاقُ السَّاعَةِ عَلَى القيام مَجَازٌ وَعَلَى الْآخِرَةِ حَقِيقَةٌ وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ الْكَلَامُ عَنِ التَّجْنِيسِ كَمَا لَوْ قُلْتُ:" رَكِبْتُ حِمَارًا وَلَقِيتُ حِمَارًا"تَعْنِي بَلِيدًا.

ص: 310

وَمِنْهَا الْمُصَحَّفُ: وَيُسَمَّى جِنَاسَ الْخَطِّ بِأَنْ تَخْتَلِفَ الْحُرُوفُ فِي النَّقْطِ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}

وَمِنْهَا الْمُحَرَّفُ: بِأَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْحَرَكَاتِ كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}

وَقَدِ اجْتَمَعَ التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}

وَمِنْهَا النَّاقِصُ بِأَنْ يَخْتَلِفَ فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَرْفُ الْمَزِيدُ أَوَّلًا أَوْ وَسَطًا أَوْ آخِرًا كَقَوْلِهِ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ

وَمِنْهَا الْمُذَيَّلُ: بِأَنْ يَزِيدَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ حَرْفٍ فِي الْآخِرِ أَوِ الْأَوَّلِ وَسَمَّى بَعْضُهُمُ الثَّانِي بِالْمُتَوَّجِ كَقَوْلِهِ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} {مَنْ آمَنَ بِهِ} ، {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} {مذبذبين بين ذلك}

وَمِنْهَا الْمُضَارِعُ: وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا بِحَرْفٍ مُقَارِبٍ فِي الْمَخْرَجِ سَوَاءٌ كان في الأول أَوِ الْوَسَطِ أَوِ الْآخِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}

ص: 311

وَمِنْهَا اللَّاحِقُ، بِأَنْ يَخْتَلِفَا بِحَرْفٍ غَيْرِ مُقَارَبٍ فِيهِ كَذَلِكَ، كَقَوْلِهِ:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ}

ومنها المرفوّ: وَهُوَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ كَلِمَةٍ وَبَعْضِ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: {جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ}

وَمِنْهَا اللَّفْظِيُّ: بِأَنْ يَخْتَلِفَا بِحَرْفٍ مُنَاسِبٍ لِلْآخَرِ مُنَاسِبَةً لَفْظِيَّةً كَالضَّادِ وَالظَّاءِ كَقَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}

وَمِنْهَا تَجْنِيسُ الْقَلْبِ: بِأَنْ يَخْتَلِفَا فِي تَرْتِيبِ الْحُرُوفِ نَحْوُ: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ}

وَمِنْهَا تَجْنِيسُ الِاشْتِقَاقِ: بِأَنْ يَجْتَمِعَا فِي أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ وَيُسَمَّى الْمُقْتَضَبَ نَحْوُ: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}

وَمِنْهَا تَجْنِيسُ الْإِطْلَاقِ: بِأَنْ يَجْتَمِعَا فِي الْمُشَابَهَةِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي} {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ} {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ

ص: 312

أَرَضِيتُمْ} {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الأِنْسَانِ أَعْرَضَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فذودعاء عريض}

تَنْبِيهٌ

لِكَوْنِ الْجِنَاسِ مِنَ الْمَحَاسِنِ اللَّفْظِيَّةِ لَا الْمَعْنَوِيَّةِ تُرِكَ عِنْدَ قُوَّةِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} ، قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَقُلْ: "وَمَا أَنْتِ بِمُصَدِّقٍ" فَإِنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مَعَ رِعَايَةِ التجنيس وأجيب بأن في" مؤمن لنا" من المعنى ما لَيْسَ فِي"مُصَدِّقٍ"لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: " فُلَانٌ مُصَدِّقٌ لِي" قَالَ لِي: صَدَقْتَ وَأَمَّا "مُؤْمِنٌ" فَمَعْنَاهُ مع التَّصْدِيقِ إِعْطَاءُ الْأَمْنِ وَمَقْصُودُهُمُ التَّصْدِيقُ وَزِيَادَةٌ وَهُوَ طَلَبُ الْأَمْنِ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِهِ

وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ:{أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} لَوْ قَالَ: "وَتَدَعُونَ"لَكَانَ فِيهِ مراعاة للتجنيس

وَأَجَابَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: بِأَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ لِرِعَايَةِ هَذِهِ التكليفات بَلْ لِأَجْلِ قُوَّةِ الْمَعَانِي وَجَزَالَةِ الْأَلْفَاظِ

وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعَانِي أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ، ولو قال:" أتدعون" و "تدعون" لوقع الإلتباس على القارئ فيجعلها بِمَعْنًى وَاحِدٍ تَصْحِيفًا وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ نَاضِجٍ

وَأَجَابَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ: بِأَنَّ التَّجْنِيسَ تَحْسِينٌ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ وَالْإِحْسَانِ، لَا فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ

ص: 313

وَأَجَابَ الْخُوَيِّيُّ: بِأَنَّ "تَدَعُ" أَخَصُّ مِنْ"تَذَرُ"لِأَنَّهُ بِمَعْنَى تَرْكِ الشَّيْءِ مَعَ اعْتِنَائِهِ بِشَهَادَةِ الِاشْتِقَاقِ نَحْوَ الْإِيدَاعِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْوَدِيعَةِ مَعَ الِاعْتِنَاءِ بِحَالِهَا وَلِهَذَا يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا

وَمِنْ ذَلِكَ الدَّعَةُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَأَمَّا "تَذَرُ" فَمَعْنَاهُ التَّرْكُ مُطْلَقًا أَوِ التُّرْكُ مَعَ الْإِعْرَاضِ وَالرَّفْضِ الْكُلِّيِّ

قَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ فَلَانٌ يَذَرُ الشَّيْءَ، أَيْ يَقْذِفُهُ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ وَمِنْهُ الْوَذَرَةُ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا يُنَاسِبُ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فَأُرِيدَ هُنَا تَبْشِيعُ حَالِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي الْإِعْرَاضِ انْتَهَى.

الْجَمْعُ

هُوَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي حُكْمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} جَمَعَ الْمَالَ وَالْبَنُونَ فِي الزِّينَةِ

وكذلك قَوْلُهُ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ.}

الْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ

هُوَ أَنْ تُدْخِلَ شَيْئَيْنِ فِي مَعْنًى، وَتُفَرِّقَ بَيْنَ جِهَتَيِ الْإِدْخَالِ وَجَعَلَ مِنْهُ الطِّيبِيُّ قَوْلَهُ:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الْآيَةَ جَمَعَ النَّفْسَيْنِ

ص: 314

في حكم المتوفي ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ جِهَتَيِ التَّوَفِّي بِالْحُكْمِ بِالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ أَيِ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي تُقْبَضُ وَالَّتِي لَمْ تُقْبَضُ فَيُمْسِكُ الْأُولَى وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى.

الجمع والتقسيم

وهو مع مُتَعَدِّدٍ تَحْتَ حُكْمٍ ثُمَّ تَقْسِيمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}

الْجَمْعُ مَعَ التَّفْرِيقِ وَالتَّقْسِيمِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} الْآيَاتِ فَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: "لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ" لِأَنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ مَعْنًى إِذِ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ وَالتَّفْرِيقُ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وَالتَّقْسِيمُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}

جَمْعُ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ

هُوَ أَنْ يُرِيدَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَمْدُوحِينَ فَيَأْتِيَ بمعان مؤتلفة في مدحهما وَيَرُومُ بَعْدَ ذَلِكَ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، بِزِيَادَةِ فَضْلٍ لَا يُنْقِصُ الْآخَرَ، فَيَأْتِي لِأَجْلِ

ص: 315

ذَلِكَ بِمَعَانٍ تُخَالِفُ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} الْآيَةَ سَوَّى فِي الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ وَزَادَ فَضْلُ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ

حُسْنُ النَّسَقِ

هُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُتَكَلِّمَ بِكَلِمَاتٍ مُتَتَالِيَاتٍ مَعْطُوفَاتٍ مُتَلَاحِمَاتٍ، تَلَاحُمًا سَلِيمًا مُسْتَحْسَنًا بِحَيْثُ إِذَا أُفْرِدَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهُ قَامَتْ بِنَفْسِهَا وَاسْتَقَلَّ مَعْنَاهَا بِلَفْظِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الْآيَةَ، فَإِنَّ جُمَلَهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا على بعضها بِوَاوِ النَّسَقِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ انْحِسَارُ الْمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ غَايَةُ مَطْلُوبِ أَهْلِ السَّفِينَةِ مِنَ الْإِطْلَاقِ مَنْ سِجْنِهَا ثُمَّ انْقِطَاعُ مَادَّةِ السَّمَاءِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ تَمَامُ ذَلِكَ مِنْ دَفْعِ أَذَاهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ وَمِنْهُ اخْتِلَافُ مَا كَانَ بِالْأَرْضِ ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِذَهَابِ الْمَاءِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَادَّتَيْنِ الَّذِي هُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ قَطْعًا ثُمَّ بِقَضَاءِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ هَلَاكُ مَنْ قُدِّرَ هَلَاكُهُ وَنَجَاةُ مَنْ سَبَقَ نَجَاتُهُ وَأُخِّرَ عَمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا وَخُرُوجُهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ أَخْبَرَ بِاسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا الْمُفِيدِ ذَهَابَ الْخَوْفِ وَحُصُولَ الْأَمْنِ مِنَ الِاضْطِرَابِ ثُمَّ خَتَمَ بِالدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْغَرَقَ وَإِنَّ عَمَّ الْأَرْضَ فَلَمْ يَشْمَلْ إِلَّا مَنِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ لِظُلْمِهِ.

ص: 316

عِتَابُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ

مِنْهُ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي} الْآيَاتِ

وَقَوْلُهُ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} الْآيَاتِ.

الْعَكْسُ

هُوَ أَنْ يُؤْتَى بِكَلَامٍ يُقَدَّمُ فِيهِ جُزْءٌ وَيُؤَخُّرُ آخَرُ ثُمَّ يُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرَ وَيُؤَخَّرُ الْمُقَدَّمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}

وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي عَكْسِ هَذَا اللَّفْظِ فَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ

وَقَالَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الصاحِبِ: الْحَقُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكَافِرُ مَنْفِيٌّ عن الْحِلُّ أَمَّا فِعْلُ الْمُؤْمِنَةِ فَيَحْرُمُ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ وَأَمَّا فِعْلُ الْكَافِرِ فَنُفِيَ عَنْهُ الْحِلُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا الْوَطْءَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ فَلَيْسَ الْكُفَّارُ مَوْرِدَ الْخِطَابِ بَلِ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ مُخَاطَبُونَ بمنع ذلك لأن الشرح أَمَرَ بِإِخْلَاءِ الْوُجُودِ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُؤْمِنَةَ نُفِيَ عَنْهَا الْحِلُّ بِاعْتِبَارٍ وَالْكَافِرُ نُفِيَ عَنْهُ الْحِلُّ بِاعْتِبَارٍ.

ص: 317

قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: وَمِنْ غَرِيبِ أُسْلُوبِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} فَإِنَّ نَظْمَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَكْسُ نَظْمِ الْأُولَى لِتَقْدِيمِ الْعَمَلِ فِي الْأُولَى عَلَى الْإِيمَانِ وَتَأْخِيرِهِ فِي الثَّانِيَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ

وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الْقَلْبُ وَالْمَقْلُوبُ الْمُسْتَوِي وَمَا لَا يَسْتَحِيلُ بِالِانْعِكَاسِ وَهُوَ أَنْ تُقْرَأَ الْكَلِمَةُ مِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا كَمَا تُقْرَأُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} ، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا فِي الْقُرْآنِ.

الْعُنْوَانُ

قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُتَكَلِّمُ فِي غَرَضٍ فَيَأْتِي لِقَصْدِ تَكْمِيلِهِ وَتَأْكِيدِهِ بأسئلة فِي أَلْفَاظٍ تَكُونُ عُنْوَانًا لِأَخْبَارٍ مُتَقَدِّمَةٍ وَقِصَصٍ سَالِفَةٍ وَمِنْهُ نَوْعٌ عَظِيمٌ جِدًّا وَهُوَ عُنْوَانُ الْعُلُومِ بِأَنْ يُذْكَرَ فِي الْكَلَامِ أَلْفَاظًا تَكُونُ مفاتيح لعلوم وَمَدَاخِلَ لَهَا

فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} الْآيَةَ، فَإِنَّهُ عُنْوَانُ قِصَّةِ بَلْعَامَ وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى:{انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} الْآيَةَ، فِيهَا عُنْوَانُ عِلْمِ الْهَنْدَسَةِ فَإِنَّ الشَّكْلَ الْمُثَلَّثَ أَوَّلُ الْأَشْكَالِ،

ص: 318

وَإِذَا نُصِبَ فِي الشَّمْسِ عَلَى أَيِّ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، لَا يَكُونُ لَهُ ظِلٌّ لِتَحْدِيدِ رؤوس زَوَايَاهُ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ جَهَنَّمَ بِالِانْطِلَاقِ إِلَى ظِلِّ هَذَا الشَّكْلِ تَهَكُّمًا بِهِمْ وَقَوْلُهُ:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الْآيَاتُ، فِيهَا عُنْوَانُ عِلْمِ الْكَلَامِ وَعِلْمِ الْجَدَلِ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ.

الْفَرَائِدُ

هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْفَصَاحَةِ دُونَ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ الْإِتْيَانُ بِلَفْظَةٍ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْفَرِيدَةِ مِنَ الْعِقْدِ- وَهِيَ الْجَوْهَرَةُ الَّتِي لَا نَظِيرَ لَهَا- تَدُلُّ عَلَى عِظَمِ فَصَاحَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَقُوَّةِ عَارِضَتِهِ وَجَزَالَةِ مَنْطِقِهِ وَأَصَالَةِ عَرَبِيَّتِهِ بِحَيْثُ لَوْ أُسْقِطَتْ مِنَ الكلام عزت على الفصحاء " غرابتها "

وَمِنْهُ لَفْظُ: " حَصْحَصَ " فِي قَوْلِهِ: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} "والرفث " فِي قَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وَلَفْظَةُ " فُزِّعَ " فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} {خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ}

وَأَلْفَاظُ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}

ص: 319

الْقَسَمُ

هُوَ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ الْحَلِفَ عَلَى شَيْءٍ فَيَحْلِفُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ فَخْرٌ لَهُ أَوْ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ أَوْ تَنْوِيهٌ لِقَدْرِهِ أَوْ ذَمٌّ لِغَيْرِهِ أَوْ جَارِيًا مجرى الغزل والترقق أَوْ خَارِجًا مَخْرَجَ الْمَوْعِظَةِ وَالزُّهْدِ كَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} أقسم سبحانه وتعالى بقسم يوجب الْفَخْرُ لِتَضَمُّنِهِ التَّمَدُّحَ بِأَعْظَمِ قُدْرَةٍ وَأَجَلِّ عَظَمَةٍ

{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أَقْسَمَ سبحانه وتعالى بِحَيَاةِ نَبِيهِ صلى الله عليه وسلم تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَنْوِيهًا بَقَدْرِهِ وَسَيَأْتِي فِي نَوْعِ الْأَقْسَامِ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بذَلِكَ.

اللَّفُّ وَالنَّشْرُ

هُوَ أَنْ يُذْكَرَ شَيْئَانِ أَوْ أَشْيَاءُ، إِمَّا تَفْصِيلًا بِالنَّصِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ إِجْمَالًا بِأَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ ثُمَّ يُذْكَرَ أَشْيَاءُ عَلَى عَدَدِ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ وَيُفَوِّضُ إِلَى عَقْلِ السَّامِعِ رَدَّ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فَالْإِجْمَالِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} أَيْ وَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا الْيَهُودُ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا النَّصَارَى وَإِنَّمَا سَوَّغَ الْإِجْمَالَ فِي اللَّفِّ ثُبُوتُ الْعِنَادِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِدُخُولِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ الْجَنَّةَ فَوُثِقَ بِالْعَقْلِ فِي أَنَّهُ يَرُدُّ كُلَّ قَوْلٍ إِلَى فَرِيقِهِ لِأَمْنِ اللَّبْسِ وَقَائِلُ ذَلِكَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ

ص: 320

قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ الْإِجْمَالُ فِي النَّشْرِ لَا فِي اللَّفِّ بِأَنْ يُؤْتَى بِمُتَعَدِّدٍ ثُمَّ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ يَصْلُحُ لَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ أُرِيدَ بِهِ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ لَا اللَّيْلُ وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ

وَالتَّفْصِيلِيُّ قِسْمِانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} فَالسُّكُونُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّيْلِ وَالِابْتِغَاءُ رَاجِعٌ إِلَى النَّهَارِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} فاللوم راجع إلى البخل ومحسورا رَاجِعٌ إِلَى الْإِسْرَافِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: مُنْقَطِعًا لَا شَيْءَ عِنْدَكَ

وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} الْآيَاتِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: {وَوَجَدَكَ ضَالاً} فَإِنَّ الْمُرَادَ السَّائِلُ عَنِ الْعِلْمِ كَمَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} رَأَيْتُ هَذَا الْمِثَالَ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ لِلنَّوَوِيِّ المسمى بالتنقيح.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِهِ كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ}

وجَعَلَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ قَوْلَهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى

ص: 321

نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، قَالُوا:" مَتَى نَصْرُ اللَّهِ " قَوْلُ الَّذِينَ آمَنُوا " أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " قَوْلُ الرَّسُولِ

وَذَكَرَ الزمخشري قِسْمًا آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: هَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَتَقْدِيرُهُ: "وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " إِلَّا أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ " مَنَامِكُمْ " و" ابتغاؤكم " بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِأَنَّهُمَا زَمَانَانِ وَالزَّمَانُ الواقع فِيهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَعَ إِقَامَةِ اللَّفِّ عَلَى الإتحاد

الْمُشَاكَلَةُ

ذِكْرُ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا

فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} فَإِنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِ وَالْمَكْرِ فِي جانب البارئ تعالى إنما هو لِمُشَاكَلَةِ مَا مَعَهُ وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} لِأَنَّ الْجَزَاءَ حَقٌّ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ سَيِّئَةٌ، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} {نَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}

ومثال التقديري قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} ، أَيْ تَطْهِيرُ اللَّهِ لِأَنَّ

ص: 322

الْإِيمَانَ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَغْمِسُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَاءٍ أَصْفَرَ يُسَمُّونَهُ الْمَعْمُودِيَّةَ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ تَطْهِيرٌ لَهُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الإيمان ب " صبغة اللَّهِ " لِلْمُشَاكَلَةِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ.

الْمُزَاوَجَةُ

أَنْ يُزَاوَجَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُمَا كَقَوْلِهِ:

إِذَا مَا نَهَى النَّاهِي فَلَجَّ بِيَ الْهَوَى

أَصَاخَتْ إِلَى الْوَاشِي فَلَجَّ بِهَا الْهَجْرُ

وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} .

الْمُبَالَغَةُ

أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ وَصْفًا فَيَزِيدُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ وَهِيَ ضَرْبَانِ:

مُبَالَغَةٌ بِالْوَصْفِ: بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِحَالَةِ، وَمِنْهُ:{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وَمُبَالَغَةٌ بِالصِّيغَةِ:

وَصِيَغُ الْمُبَالَغَةِ: "فَعْلَانُ: كَالرَّحْمَنِ وَ" فَعِيلٌ" كَالرَّحِيمِ وَ "فَعَّالٌ" كَالتَّوَّابِ وَالْغَفَّارِ وَالْقَهَّارِ وَ" فَعُولٌ" كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَوَدُودٍ وَ "فَعِلٌ" كَحَذِرٍ وَأَشِرٍ وَفَرِحٍ وَ" فُعَالٌ" بِالتَّخْفِيفِ كَعُجَابٍ وَبِالتَّشْدِيدِ كَكُبَّارٍ وَ" فُعَلٌ" كَلُبَدٍ وَكُبَرٍ وَ "فُعْلَى" كَالْعُلْيَا وَالْحُسْنَى وَشُورَى وَالسُّوءَى.

ص: 323

فَائِدَةٌ

الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ "فَعْلَانَ" أَبْلَغُ مِنْ "فَعِيلٍ" وَمِنْ ثَمَّ قيل: "الرَّحْمَنُ" أَبْلَغُ مِنَ "الرَّحِيمِ" وَنَصَرَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَالتَّثْنِيَةُ تَضْعِيفٌ فَكَأَنَّ الْبِنَاءَ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الصِّفَةُ وَذَهَبَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِلَى أَنَّ "الرَّحِيمَ" أَبْلَغُ مِنَ "الرَّحْمَنِ" وَرَجَّحَهُ ابن عسكر بِتَقْدِيمِ "الرَّحْمَنِ" عَلَيْهِ وَبِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ كَعَبِيدٍ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَذَهَبُ قُطْرُبٌ إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ.

فَائِدَةٌ

ذَكَرَ الْبُرْهَانُ الرَّشِيدِيُّ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كُلُّهَا مَجَازٌ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَا مُبَالِغَةَ فِيهَا لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ أن تثبت للشيء أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ وَصِفَاتُهُ تَعَالَى مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ لَا يُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا وَأَيْضًا فَالْمُبَالَغَةُ تَكُونُ فِي صِفَاتٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَصِفَاتُ اللَّهِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ التَّحْقِيقُ أن صيغ المبالغة قسمان:

أحدهما: مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ

وَالثَّانِي: بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَفْعُولَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً إِذِ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُتَعَدِّدِينَ وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ تَنْزِلُ صِفَاتُهُ تَعَالَى وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ ولهذا قاله بَعْضُهُمْ فِي "حَكِيمِ" مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ تَكْرَارُ حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ

وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ

ص: 324

من عبادة أو لأنه بيلغ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ نُزِّلَ صَاحِبُهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ لِسَعَةِ كَرَمِهِ

وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ سُؤَالًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَهُوَ أَنَّ "قَدِيرًا" مِنْ صِيَغِ الْمُبَالِغَةِ فَيَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَعْنَى "قَادِرٍ" وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَعْنَى "قَادِرٍ" مُحَالٌ إِذِ الْإِيجَادُ مِنْ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ

وَأُجِيبُ: بِأَنَّ المبالغة لما تعذر حملها على كُلِّ فَرْدٍ وَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ السِّيَاقُ عَلَيْهَا فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ المتعلق لا الوصف.

الْمُطَابَقَةُ

وَتُسَمَّى الطِّبَاقُ: الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ قِسْمِانِ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌ وَالثَّانِي يُسَمَّى التَّكَافُؤُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ وَإِمَّا طِبَاقُ إِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِيِّ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} ، أَيْ ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ طِبَاقِ السَّلْبِ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}

ص: 325

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَعْنَوِيِّ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} مَعْنَاهُ "رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا لَصَادِقُونَ"

{جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} قَالَ: أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمَّا كَانَ الْبِنَاءُ رَفْعًا لِلْمَبْنِي قُوبِلَ بِالْفِرَاشِ الَّذِي هُوَ عَلَى خِلَافِ الْبِنَاءِ

وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الطِّبَاقَ الْخَفِيَّ كَقَوْلِهِ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} لِأَنَّ الْغَرَقَ مِنْ صِفَاتِ الْمَاءِ فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ قَالَ ابْنُ مُنْقِذٍ وَهِيَ أَخْفَى مُطَابَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ

وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: مِنْ أَمْلَحِ الطِّبَاقِ وَأَخْفَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لِأَنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ الْقَتْلُ فَصَارَ الْقَتْلُ سَبَبُ الحياة

وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى تَرْصِيعُ الْكَلَامِ وَهُوَ اقْتِرَانُ الشَّيْءِ بِمَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} أَتَى بِالْجُوعِ مَعَ الْعُرْيِ وَبَابُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الظَّمَأِ وَبِالضُّحَى مَعَ الظَّمَأِ وَبَابُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعُرْيِ لَكِنَّ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ اشْتَرَكَا فِي الْخُلُوِّ فَالْجُوعُ خُلُوُّ الْبَاطِنِ مِنَ الطَّعَامِ وَالْعُرْيُ خُلُوُّ الظَّاهِرِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالظَّمَأُ وَالضُّحَى اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِرَاقِ فَالظَّمَأُ احْتِرَاقُ الْبَاطِنِ مِنَ الْعَطَشِ وَالضُّحَى احْتِرَاقُ الظَّاهِرِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ

ص: 326

وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الْمُقَابَلَةُ وَهِيَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظَانِ فَأَكْثَرُ ثُمَّ أضدادها عَلَى التَّرْتِيبِ.

قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الطِّبَاقِ وَالْمُقَابَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطِّبَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ضِدَّيْنِ فَقَطْ وَالْمُقَابَلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَا زَادَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الطِّبَاقَ لَا يكون إلا بالأضداد والمقابلة بالأضداد وبغيرها قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَمِنْ خَوَاصِّ الْمُقَابَلَةِ أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ فِي الْأَوَّلِ أَمْرٌ شُرِطَ فِي الثَّانِي ضِدُّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآيتين قَابَلَ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالْبُخْلِ وَالِاتِّقَاءِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْيُسْرَى وَالْعُسْرَى وَلَمَّا جُعِلَ التَّيْسِيرُ فِي الْأَوَّلِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالِاتِّقَاءِ وَالتَّصْدِيقِ جُعِلَ ضِدُّهُ وَهُوَ التَّعْسِيرُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَضْدَادِهَا

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُقَابَلَةُ إِمَّا لِوَاحِدٍ بِوَاحِدٍ وَذَلِكَ قَلِيلٌ جدا كقوله: {تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}

أَوِ اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} أَوَ ثَلَاثَةٍ بِثَلَاثَةٍ كَقَوْلِهِ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} وأربعة بأربعة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الآيتين

وَخَمْسَةٍ بِخَمْسَةٍ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} الْآيَاتِ قَابَلَ بَيْنَ "بَعُوضَةً فَمَا فوقه" وبين "فأما الذين آمنو"،

ص: 327

و "وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا" وَبَيْنَ يُضِلُّ "وَيَهْدِي" وبين "ينقضون""وميثاقه"" وَبَيْنَ يَقْطَعُونَ " وَ "أَنْ يُوصَلَ"

أَوْ سِتَّةٍ بِسِتَّةٍ كَقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الْآيَةَ، ثُمَّ قال:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} الآية، قَابَلَ "الْجَنَّاتِ" وَالْأَنْهَارَ وَالْخُلْدَ وَالْأَزْوَاجَ وَالتَّطْهِيرَ وَالرِّضْوَانَ بِإِزَاءِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثَ

وَقَسَّمَ آخَرُ الْمُقَابَلَةَ إِلَى ثَلَاثَةِ: أَنْوَاعٍ نَظِيرِيٍّ وَنَقِيضِيٍّ وَخِلَافِيٍّ.

مِثَالُ الْأَوَّلِ: مُقَابَلَةُ السِّنَةِ بِالنَّوْمِ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ بَابِ الرُّقَادِ الْمُقَابَلِ بِالْيَقَظَةِ فِي آيَةِ: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} وَهَذَا مِثَالُ الثَّانِي: فَإِنَّهُمَا نَقِيضَانِ

وَمِثَالُ الثَّالِثِ: مُقَابَلَةُ الشَّرِّ بِالرَّشَدِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فَإِنَّهُمَا خِلَافَانِ لَا نَقِيضَانِ فَإِنَّ نَقِيضَ الشَّرِّ الْخَيْرُ وَالرُّشْدِ الْغَيُّ

الْمُوَارَبَةُ

بِرَاءٍ مُهْمِلَةٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ أَنْ يَقُولَ الْمُتَكَلِّمُ قَوْلًا يَتَضَمَّنُ مَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ الْإِنْكَارُ اسْتَحْضَرَ بِحَذَقِهِ وَجْهًا مِنَ الْوُجُوهِ يَتَخَلَّصُ بِهِ إِمَّا بِتَحْرِيفِ كَلِمَةٍ أَوْ تَصْحِيفِهَا أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَكْبَرِ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ

ص: 328

سَرَقَ} فَإِنَّهُ قُرِئَ: " إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَلَمْ يَسْرِقْ"، فَأَتَى بِالْكَلَامِ عَلَى الصِّحَّةِ بِإِبْدَالِ ضَمَّةٍ مِنْ فَتْحَةٍ وتشديد الراء وكسرتها.

الْمُرَاجَعَةُ

قَالَ: ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ: هِيَ أَنْ يَحْكِيَ الْمُتَكَلِّمُ مُرَاجَعَةً فِي الْقَوْلِ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَاوِرٍ لَهُ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَعْدَلِ سَبْكٍ وَأَعْذَبِ أَلْفَاظٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جَمَعَتْ هَذِهِ الْقِطْعَةُ- وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ ثَلَاثَ مُرَاجَعَاتِ فِيهَا مَعَانِي الْكَلَامِ مِنَ الْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ

قُلْتُ: أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ جَمَعَتِ الْخَبَرَ وَالطَّلَبَ وَالْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ وَالتَّأْكِيدَ وَالْحَذْفَ وَالْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ والوعد والوعيد.

النزاهة

هي خلوص ألفاظ الهجاء مِنَ الْفُحْشِ حَتَّى يَكُونَ كَمَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَحْسَنِ الْهِجَاءِ هُوَ الَّذِي إِذَا أَنْشَدَتْهُ الْعَذْرَاءُ فِي خِدْرِهَا لَا يَقْبُحُ عَلَيْهَا

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} ثُمَّ قَالَ: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فَإِنَّ أَلْفَاظَ ذَمِّ هَؤُلَاءِ

ص: 329

الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ أَتَتْ مُنَزَّهَةً عَمَّا يَقْبُحُ فِي الْهِجَاءِ مِنَ الْفُحْشِ وَسَائِرِ هِجَاءِ الْقُرْآنِ كذلك.

الْإِبْدَاعُ

بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ عَلَى عِدَّةِ ضُرُوبٍ مِنَ الْبَدِيعِ قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَلَمْ أَرَ فِي الْكَلَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} فَإِنَّ فِيهَا عِشْرِينَ ضَرْبًا مِنَ الْبَدِيعِ وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَفْظَةً وَذَلِكَ: الْمُنَاسِبَةُ التَّامَّةُ فِي "ابْلَعِي" وَ "أَقْلِعِي"، وَالِاسْتِعَارَةُ فِيهِمَا وَالطِّبَاقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالْمَجَازُ فِي قوله تعالى:{يَا سَمَاءُ} فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ يَا مَطَرَ السَّمَاءِ وَالْإِشَارَةُ فِي "وَغِيضَ الْمَاءُ" فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَغِيضُ حَتَّى يُقْلِعَ مَطَرُ السَّمَاءِ وَتَبْلَعَ الْأَرْضُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ عُيُونِ الْمَاءِ فَيَنْقُصُ الْحَاصِلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ وَالْإِرْدَافُ فِي "وَاسْتَوَتْ" وَالتَّمْثِيلُ فِي: "وَقُضِيَ الْأَمْرُ " وَالتَّعْلِيلُ فَإِنَّ "غِيضَ الْمَاءُ" عِلَّةُ الِاسْتِوَاءِ وَصِحَّةُ التَّقْسِيمِ فَإِنَّهُ اسْتَوْعَبَ فِيهِ أَقْسَامَ الْمَاءِ حَالَةَ نَقْصِهِ إِذْ لَيْسَ إِلَّا احْتِبَاسُ مَاءِ السَّمَاءِ وَالْمَاءِ النَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ وَغِيضَ الْمَاءُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا وَالِاحْتِرَاسُ فِي الدُّعَاءِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْغَرَقَ لِعُمُومِهِ شمل مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْهَلَاكَ فَإِنَّ عَدْلَهُ تَعَالَى يَمْنَعُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ وَحُسْنُ النَّسَقِ وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى وَالْإِيجَازُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَصَّ الْقِصَّةَ مُسْتَوْعَبَةً بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ وَالتَّسْهِيمُ لأن أَوَّلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى آخِرِهَا وَالتَّهْذِيبُ لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهَا مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتِ الْحُسْنِ كُلُّ لَفْظَةٍ سَهْلَةُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ عَلَيْهَا رَوْنَقُ

ص: 330

الْفَصَاحَةِ مَعَ الْخُلُوِّ مِنَ الْبَشَاعَةِ وَعَقَادَةِ التَّرْكِيبِ وَحُسْنُ الْبَيَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّامِعَ لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ وَالتَّمْكِينُ لِأَنَّ الْفَاصِلَةَ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَحَلِّهَا مُطَمْئِنَةٌ فِي مَكَانِهَا غَيْرُ قَلِقَةٍ ولا مستدعاة والانسجام "وهو تحدر الكلام بسهوله وعذوبة وسبك مع جزالة لفظ كما ينسجم الماء القليل من الهواء "

هذا ما ذكر ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ

قُلْتُ فِيهَا أَيْضًا الِاعْتِرَاضُ.

ص: 331