الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّوْعُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَمَكِّيٌّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَآخَرُونَ قَالَ الْأَئِمَّةُ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ
وقد قال علي لقاض: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ قَالَ: لَا قَالَ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ
وَفِي هَذَا النَّوْعِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: يَرِدُ النَّسْخُ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}
وَبِمَعْنَى التَّبْدِيلِ وَمِنْهُ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}
وَبِمَعْنَى التَّحْوِيلِ كَتَنَاسُخِ الْمَوَارِيثِ بِمَعْنَى تَحْوِيلِ الْمِيرَاثِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ
وَبِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ وَمِنْهُ نَسَخْتُ الْكِتَابَ إِذَا نَقَلْتُ مَا فِيهِ حَاكِيًا لِلَفْظِهِ وَخَطِّهِ
قَالَ مَكِّيٌّ وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ وَأَنْكَرَ عَلَى النَّحَّاسِ إِجَازَتَهُ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِأَنَّ النَّاسِخَ فِيهِ لَا يَأْتِي بِلَفْظِ الْمَنْسُوخِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي بِلَفْظٍ آخَرَ
وَقَالَ السَّعِيدِيُّ يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
وَقَالَ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْوَحْيِ نُجُومًا جَمِيعُهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} الثَّانِيَةُ: النَّسْخُ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِحِكَمٍ مِنْهَا التَّيْسِيرُ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ وَأَنْكَرَهُ الْيَهُودُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ بَدَاءٌ كَالَّذِي يَرَى الرَّأْيَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ كَالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَعَكْسِهِ وَالْمَرَضِ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَعَكْسِهِ وَالْفَقْرِ بَعْدَ الْغِنَى وَعَكْسِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَدَاءً فكذا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقِيلَ لَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ إِلَّا بِقُرْآنٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قَالُوا: وَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَخَيْرًا مِنْهُ إِلَّا قُرْآنٌ
وَقِيلَ: بَلْ يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّهَا أَيْضًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وَجُعِلَ مِنْهُ آيَةُ الْوَصِيَّةِ الْآتِيَةُ.
وَالثَّالِثُ: إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ نَسَخَتْ وَإِنْ كَانَتْ بِاجْتِهَادٍ فَلَا حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْثُ وَقَعَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَمَعَهَا قُرْآنٌ عَاضِدٌ لَهَا وَحَيْثُ وَقَعَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَمَعَهُ سُنَّةٌ عَاضِدَةٌ لَهُ لِيَتَبَيَّنَ تَوَافُقُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ بُسِطَتْ فُرُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي الْأُصُولِ الثَّالِثَةُ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَوْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ أَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ فَلَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ وَمِنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ عَرَفْتَ فَسَادَ صُنْعِ مَنْ أَدْخَلَ فِي كُتُبِ النَّسْخِ كَثِيرًا مِنْ آيَاتِ الْإِخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ
الرَّابِعَةُ: النَّسْخُ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: نَسْخُ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ وَهُوَ النَّسْخُ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَآيَةِ النَّجْوَى.
الثَّانِي: مَا نُسِخَ مِمَّا كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا كَآيَةِ شَرْعِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ أَوْ كَانَ أُمِرَ بِهِ أَمْرًا جُمْلِيًّا كَنَسْخِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ وَصَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا نَسْخًا تَجَوُّزًا. الثَّالِثُ: مَا أُمِرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّفْحِ ثُمَّ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْقِتَالِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نَسْخًا بَلْ هُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُنْسَإِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوْ نُنْسِهَا} فَالْمُنْسَأُ هُوَ الْأَمْرُ
بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَإِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ يقتضي ذَلِكَ الْحُكْمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ لِلْحُكْمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ
وَقَالَ مَكِّيٌّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْخِطَابِ مُشْعِرٌ بِالتَّوْقِيتِ وَالْغَايَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍ وَالْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ لَا نَسْخَ فِيهِ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ سُوَرُ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَقْسَامٌ: قِسْمٌ لَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَيُوسُفَ وَيس وَالْحُجُرَاتِ وَالرَّحْمَنِ وَالْحَدِيدِ وَالصَّفِّ وَالْجُمُعَةِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْمُلْكِ وَالْحَاقَّةِ وَنُوحٍ وَالْجِنِّ وَالْمُرْسَلَاتِ وَعَمَّ وَالنَّازِعَاتِ وَالِانْفِطَارِ وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا وَالْفَجْرِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ إِلَّا التين والعصر والكافرين وَقِسْمٌ فِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ الْبَقَرَةُ وَثَلَاثٌ بَعْدَهَا وَالْحَجُّ وَالنُّورُ وَتَالِيَاهَا وَالْأَحْزَابُ وَسَبَأٌ وَالْمُؤْمِنُ وَالشُّورَى وَالذَّارِيَاتُ وَالطُّورُ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُجَادَلَةُ وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ وَكُوِّرَتْ وَالْعَصْرِ وَقِسْمٌ فِيهِ النَّاسِخُ فَقَطْ وَهُوَ سِتٌّ الْفَتْحُ وَالْحَشْرُ وَالْمُنَافِقُونَ وَالتَّغَابُنُ وَالطَّلَاقُ، وَالْأَعْلَى.
وَقِسْمٌ فِيهِ الْمَنْسُوخُ فَقَطْ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ الْبَاقِيَةُ كَذَا قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ مِمَّا سَيَأْتِي
السَّادِسَةُ: قَالَ مَكِّيٌّ النَّاسِخُ أَقْسَامٌ فَرْضٌ نَسَخَ فَرْضًا وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ كَنَسْخِ الْحَبْسِ لِلزَّوَانِي بِالْحَدِّ وَفَرْضٌ نَسَخَ فَرْضًا وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ كَآيَةِ الْمُصَابَرَةِ
وَفَرْضٌ نَسَخَ نَدْبًا كَالْقِتَالِ كَانَ نَدْبًا ثُمَّ صَارَ فَرْضًا
وَنَدْبٌ نَسَخَ فَرْضًا كَقِيَامِ اللَّيْلِ نُسِخَ بِالْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}
السَّابِعَةُ: النَّسْخُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ وَحُكْمُهُ مَعًا قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ " عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ "، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهَا:" وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ " فَإِنَّ ظَاهِرَهُ بَقَاءُ التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: قَارَبَ الْوَفَاةَ أَوْ أَنَّ التِّلَاوَةَ نُسِخَتْ أَيْضًا وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ كُلَّ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَؤُهَا.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: نَزَلَتْ ثُمَّ رُفِعَتْ
وَقَالَ مَكِّيٌّ: هَذَا الْمِثَالُ فِيهِ الْمَنْسُوخُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَالنَّاسِخُ أَيْضًا غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ نَظِيرًا انْتَهَى.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ دُونَ تِلَاوَتِهِ وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَلِيلٌ جِدًّا وَإِنْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ تِعْدَادِ الْآيَاتِ فِيهِ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَتْقَنَهُ
وَالَّذِي أَقُولُهُ: أَنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُكْثِرُونَ أَقْسَامٌ قِسْمٌ لَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِنَ التَّخْصِيصِ وَلَا لَهُ بِهِمَا عَلَاقَةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} و {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَاقٍ أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّهَا خَبَرٌ فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْفَاقِ وَذَلِكَ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالزَّكَاةِ وَبِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْلِ وَبِالْإِنْفَاقِ فِي الْأُمُورِ الْمَنْدُوبَةِ كَالْإِعَانَةِ وَالْإِضَافَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ غَيْرُ الزَّكَاةِ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ يَصْلُحُ حَمْلُهَا عَلَى الزَّكَاةِ وَقَدْ فُسِّرَتْ بِذَلِكَ
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قِيلَ إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ أَبَدًا لَا يَقْبَلُ هَذَا الْكَلَامُ النَّسْخَ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْأَمْرَ بِالتَّفْوِيضِ وَتَرْكِ الْمُعَاقَبَةِ وَقَوْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَنْسُوخِ بِآيَةِ السَّيْفِ وَقَدْ غَلَّطَهُ ابْنُ الْحَصَّارِ بِأَنَّ الْآيَةَ حِكَايَةٌ عَمَّا أَخَذَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمِيثَاقِ فَهُوَ خَبَرٌ لَا نَسْخَ فِيهِ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ
وَقِسْمٌ هُوَ مَنْ قِسْمِ الْمَخْصُوصِ لَا مِنْ قِسْمِ الْمَنْسُوخِ وَقَدِ اعْتَنَى ابْنُ
الْعَرَبِيِّ بِتَحْرِيرِهِ فَأَجَادَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا} {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا} {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي خُصَّتْ بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ غَايَةٍ وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ أَدْخَلَهَا فِي الْمَنْسُوخِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قِيلَ إِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَإِنَّمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِهِ
وَقِسْمٌ رَفَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي الْقُرْآنِ كَإِبْطَالِ نِكَاحِ نِسَاءِ الْآبَاءِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَحَصْرِ الطَّلَاقِ فِي الثَّلَاثِ وَهَذَا إِدْخَالُهُ فِي قِسْمِ النَّاسِخِ قَرِيبٌ وَلَكِنَّ عَدَمَ إِدْخَالِهِ أَقْرَبُ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ عُدَّ فِي النَّاسِخِ لَعُدَّ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مِنْهُ إِذْ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ رَافِعٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ قَالُوا وَإِنَّمَا حَقُّ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ نَسَخَتْ آيَةً انْتَهَى.
نَعَمْ النَّوْعُ الْأَخِيرُ مِنْهُ وَهُوَ رَافِعٌ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِدْخَالُهُ أَوْجَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ
إذا عملت ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُكْثِرُونَ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مَعَ آيَاتِ الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ إِنْ قُلْنَا إِنَّ آيَةَ السَّيْفِ لَمْ تَنْسَخْهَا وَبَقِيَ مِمَّا يَصْلُحُ لِذَلِكَ عَدَدٌ يَسِيرٌ وَقَدْ أَفْرَدْتُهُ بِأَدِلَّتِهِ فِي تَأْلِيفٍ لَطِيفٍ وَهَا أَنَا أُورِدُهُ هُنَا مُحَرَّرًا فَمِنَ الْبَقَرَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ قِيلَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَقِيلَ: بِحَدِيثِ " أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " وَقِيلَ بِالْإِجْمَاعِ حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَقِيلَ: مَحْكَمَةٌ وَ" لَا " مُقَدَّرَةٌ
وَقَوْلُهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا الْمُوَافَقَةُ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ بَعْدَ النَّوْمِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَحَكَى قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ نَسْخٌ لِمَا كَانَ بِالسُّنَّةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} الْآيَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وَالْوَصِيَّةُ مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ وَالسُّكْنَى ثَابِتَةٌ عِنْدَ قَوْمٍ مَنْسُوخَةٌ عِنْدَ آخَرِينَ بِحَدِيثِ "وَلَا سُكْنَى "وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ} مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا}
وَمِنْ آلِ عِمْرَانَ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وقيل: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَقِيلَ لَا بَلْ هُوَ مُحْكَمٌ وَلَيْسَ فِيهَا آيَةٌ يَصِحُّ فِيهَا دَعْوَى النَّسْخِ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ
وَمِنَ النِّسَاءِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الْآيَةَ قِيلَ: مَنْسُوخَةٌ وَقِيلَ: لَا وَلَكِنْ تَهَاوَنَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} الآية مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ النُّورِ
وَمِنَ الْمَائِدَةِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} مَنْسُوخَةٌ بِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ فِيهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
وَمِنَ الْأَنْفَالِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الْآيَةَ منسوخة بالآية بعدها
ومن براءة: قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} منسوخة بآيات العذر وهوقوله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الْآيَتَيْنِ وَبِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}
وَمِنَ النُّورِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَاّ زَانِيَةً} الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ
بِقَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الْآيَةَ قِيلَ مَنْسُوخَةٌ وَقِيلَ لَا وَلَكِنْ تَهَاوَنَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِهَا
وَمِنَ الْأَحْزَابِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الْآيَةَ
الْمُجَادَلَةِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} الآية مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ بَعْدَهَا
وَمِنَ الْمُمْتَحِنَةِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَقِيلَ: بِآيَةِ الْغَنِيمَةِ وَقِيلَ: مُحْكَمٌ
وَمِنَ الْمُزَّمِّلِ:
قَوْلُهُ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَاّ قَلِيلاً} قِيلَ مَنْسُوخٌ بِآخِرِ السُّورَةِ ثُمَّ نُسِخَ الْآخِرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
فَهَذِهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ آيَةً مَنْسُوخَةً عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِهَا لَا يَصِحُّ دَعْوَى
النَّسْخِ فِي غَيْرِهَا وَالْأَصَحُّ فِي آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ وَالْقِسْمَةِ الْإِحْكَامُ فَصَارَتْ تسعة عَشْرَ وَيُضَمُّ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} عَلَى رَأْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
الآية فَتَمَّتْ عِشْرُونَ.
وَقَدْ نَظَمْتُهَا فِي أَبْيَاتٍ فَقُلْتُ:
قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْ عَدَدٍ
وَأَدْخَلُوا فِيهِ آيًا لَيْسَ تَنْحَصِرُ
وَهَاكَ تَحْرِيرُ آيٍ لَا مَزِيدَ لَهَا
عِشْرِينَ حَرَّرَهَا الْحُذَّاقُ وَالْكُبَرُ
آيُ التَّوَجُّهِ حَيْثُ الْمَرْءِ كَانَ وَأَنْ
يُوصِيَ لِأَهْلِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُحْتَضِرُ
وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ مِنْ رَفَثٍ
وَفِدْيَةٌ لِمُطِيقِ الصَّوْمِ مُشْتَهِرُ
وَحَقَّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ مِنْ أَثَرٍ
وَفِي الْحَرَامِ قِتَالٌ لِلْأُلَى كَفَرُوا
وَالِاعْتِدَادُ بِحَوْلٍ مَعْ وَصِيَّتِهَا
وَأَنْ يُدَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالْفِكَرُ
وَالْحِلْفُ وَالْحَبْسُ لِلزَّانِي وَتَرْكُ أُولَى
كَفَرُوا شَهَادَتِهِمْ وَالصَّبْرُ وَالنَّفَرُ
وَمَنْعُ عَقْدٍ لِزَانٍ أَوْ لِزَانِيَةٍ
وماعلى الْمُصْطَفَى فِي الْعَقْدِ مُحْتَظَرُ
وَدَفْعُ مَهْرٍ لِمَنْ جاءت وآية نجواه
كَذَاكَ قِيَامُ اللَّيْلِ مُسْتَطَرُ
وَزِيدَ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ مَنْ مَلَكْتَ
وَآيَةُ الْقِسْمَةِ الْفُضْلَى لِمَنْ حَضَرُوا
فَإِنْ قُلْتَ مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَبَقَاءِ التِّلَاوَةِ:
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُتْلَى لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ مِنْهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فَيُتْلَى لِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ فَتُرِكَتِ التِّلَاوَةُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ غَالِبًا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ فَأُبْقِيَتِ التِّلَاوَةُ تَذْكِيرًا لِلنِّعْمَةِ ورفع المشقة
أما مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ أَوْ كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ أَيْضًا قَلِيلُ الْعَدَدِ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِآيَةِ الْقِبْلَةِ وَصَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ حَرَّرْتُهَا فِي كِتَابِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
فَوَائِدُ مَنْثُورَةٌ
قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ إِلَّا وَالْمَنْسُوخُ قَبْلَهُ فِي التَّرْتِيبِ إِلَّا فِي آيَتَيْنِ: آيَةِ الْعِدَّةِ فِي الْبَقَرَةِ وَقَوْلِهِ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} تَقَدَّمَ.
وَزَادَ بَعْضُهُمْ ثَالِثَةً: وَهِيَ آيَةُ الْحَشْرِ في الفئ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}
وَزَادَ قَوْمٌ رَابِعَةً: وَهِيَ قَوْلُهُ: {خُذِ الْعَفْوَ} يَعْنِي الْفَضْلَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الصَّفْحِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ وَالْكَفِّ عَنْهُمْ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهِيَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية نَسَخَتْ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَعِشْرِينَ آيَةً ثُمَّ نَسَخَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَقَالَ أَيْضًا: مِنْ عَجِيبِ الْمَنْسُوخِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ}
الْآيَةَ فَإِنَّ أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا وَهُوَ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} مَنْسُوخٌ وَوَسَطَهَا مُحْكَمٌ وَهُوَ: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}
وَقَالَ: مِنْ عَجِيبِهِ أَيْضًا آيَةٌ أَوَّلُهَا مَنْسُوخٌ وَآخِرُهَا نَاسِخٌ وَلَا نَظِيرَ لَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يَعْنِي بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَهَذَا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}
وَقَالَ السَّعِيدِيُّ: لَمْ يَمْكُثْ مَنْسُوخٌ مُدَّةً أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} الْآيَةَ مَكَثَتْ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى نَسَخَهَا أَوَّلُ الْفَتْحِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَذَكَرَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ الضَّرِيرُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الْآيَةَ إِنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ {وَأَسِيراً} وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَسِيرُ الْمُشْرِكِينَ فَقُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَابْنَتُهُ تَسْمَعُ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَتْ لَهُ أَخْطَأْتَ يَا أَبَتِ قَالَ وَكَيْفَ قَالَتْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ يُطْعَمُ وَلَا يُقْتَلُ جُوعًا فَقَالَ: صَدَقْتِ
وَقَالَ شَيْذَلَةُ فِي الْبُرْهَانِ: يَجُوزُ نَسْخُ النَّاسِخِ فَيَصِيرُ مَنْسُوخًا كَقَوْلِهِ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ثُمَّ نَسَخَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} كَذَا قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ
وَالْآخَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} مُخَصِّصٌ لِلْآيَةِ لَا نَاسِخٌ.
نَعَمْ يُمَثَّلُ لَهُ بِأَخِرِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِأَوَّلِهَا مَنْسُوخٌ بِفَرْضِ الصَّلَوَاتِ وَقَوْلُهُ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} نَاسِخٌ لِآيَاتِ الْكَفِّ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ الْعُذْرِ
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي مَيْسَرَةَ قَالَا لَيْسَ فِي الْمَائِدَةِ مَنْسُوخٌ
وَيُشْكِلُ بِمَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} منسوخ بقوله وأن {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ نَسْخُ الْقِبْلَةِ
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ أَوَّلُ آيَةٍ نُسِخَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ ثُمَّ الصِّيَامُ الْأَوَّلُ قَالَ مَكِّيٌّ: وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يَقَعْ فِي الْمَكِّيِّ نَاسِخٌ قَالَ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ غَافِرٍ: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}
قُلْتُ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ نَسْخُ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ بِآخِرِهَا أَوْ بِإِيجَابِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَذَلِكَ بِمَكَّةَ اتِّفَاقًا.
تَنْبِيهٌ
قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: إِنَّمَا يُرْجَعُ فِي النَّسْخِ إِلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ يَقُولُ آيَةُ كَذَا نَسَخَتْ كَذَا
قَالَ: وَقَدْ يُحْكَمُ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ التَّعَارُضِ الْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ عِلْمِ التَّارِيخِ لِيُعْرَفَ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ
قَالَ: وَلَا يُعْتَمَدُ فِي النَّسْخِ قَوْلُ عَوَامِّ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ وَلَا اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ صَحِيحٍ وَلَا مُعَارِضَةٍ بَيِّنَةٍ لِأَنَّ النَّسْخَ يَتَضَمَّنُ رَفْعَ حُكْمٍ وَإِثْبَاتَ حُكْمٍ تَقَرَّرَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ النَّقْلُ وَالتَّارِيخُ دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ
قَالَ: وَالنَّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ طَرَفَيْ نَقِيضٍ فَمِنْ قَائِلٍ لَا يُقْبَلُ فِي النَّسْخِ أَخْبَارُ الْآحَادِ الْعُدُولِ وَمِنْ مُتَسَاهِلٍ يَكْتَفِي فِيهِ بِقَوْلِ مُفَسِّرٍ أَوْ مُجْتَهِدٍ وَالصَّوَابُ خِلَافُ قَوْلِهِمَا انْتَهَى.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ دُونَ حُكْمِهِ وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ فِيهِ سُؤَالًا وَهُوَ مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَهَلَّا بَقِيَتِ التِّلَاوَةُ لِيَجْتَمِعَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا وَثَوَابِ تِلَاوَتِهَا
وَأَجَابَ صَاحِبُ الْفُنُونِ: بِأَنَّ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ بِهِ مِقْدَارُ طَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ لِطَلَبِ طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَيُسْرِعُونَ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ كَمَا سَارَعَ الْخَلِيلُ إِلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمَنَامٍ وَالْمَنَامُ أَدْنَى طَرِيقِ الْوَحْيِ وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرَةٌ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: قَدْ أَخَذْتُ
الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَمَا يُدْرِيهِ مَا كُلُّهُ قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ قُرْآنٌ كَثِيرٌ وَلَكِنْ لِيَقُلْ قَدْ أَخَذْتُ مِنْهُ مَا ظَهَرَ
وَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ تُقْرَأُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِائَتَيْ آيَةٍ فَلَمَّا كَتَبَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ لَمْ يُقَدَّرْ مِنْهَا إِلَّا عَلَى مَا هُوَ الْآنَ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عن زز بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ كَأَيٍّ تَعُدُّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ قُلْتُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ آيَةً أَوْ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ آيَةً قَالَ إِنْ كَانَتْ لَتَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَإِنْ كُنَّا لَنَقْرَأُ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ قُلْتُ وَمَا آيَةُ الرجم قال: " إذا زنا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ."
وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّ خَالَتَهُ قَالَتْ: لَقَدْ أَقْرَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آيَةَ الرَّجْمِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ."
وَقَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ حُمَيْدَةَ بِنْتِ أَبِي يُونُسَ قَالَتْ قَرَأَ عَلَيَّ أَبِي وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ " إِنَّ اللَّهَ وملائكته يصلون على النبي يأيها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وَعَلَى الَّذِينَ يُصَلُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ " قَالَتْ قَبْلَ: أَنْ يُغَيِّرَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَتَيْنَاهُ فَعَلَّمَنَا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَالَ فَجِئْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ الثَّانِي وَلَوْ كَانَ لَهُ الثَّانِي لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا الثَّالِثُ وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ."
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}
وَمِنْ بَقِيَّتِهَا " لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ سَأَلَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ فَأُعْطِيهِ سَأَلَ ثَانِيًا وَإِنْ سَأَلَ ثَانِيًا فَأُعْطِيهِ سَأَلَ ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ وَإِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ غَيْرُ الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ وَمَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ "
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أبي حرب ابن أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ نَزَلَتْ سُورَةٌ نَحْوَ بَرَاءَةَ ثُمَّ رُفِعَتْ وَحُفِظَ مِنْهَا " أَنَّ اللَّهَ سَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ "
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنَّا نقرأ سورة نشبهها الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِينَاهَا غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ منها " يأيها الذين آمنوا لا تقولوا مالا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبَ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ سعيد عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ
عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ كُنَّا نَقْرَأُ " لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ " ثُمَّ قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَكَذَلِكَ قَالَ: نَعَمْ
وَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا " أَنْ جَاهِدُوا كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " فَإِنَّا لَا نَجِدُهَا قَالَ: أُسْقِطَتْ فِيمَا أُسْقِطَ مِنَ الْقُرْآنِ
وَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ الْكَلَاعِيِّ أَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ: أَخْبِرُونِي بِآيَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُكْتَبَا فِي الْمُصْحَفِ فَلَمْ يُخْبِرُوهُ وَعِنْدَهُمْ أَبُو الْكَنُّودِ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ مَسْلَمَةُ " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَلَا أَبْشِرُوا أَنْتُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ آوَوْهُمْ وَنَصَرُوهُمْ وَجَادَلُوا عَنْهُمُ الْقَوْمَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ إن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ رَجُلَانِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَا يَقْرَآنِ بِهَا فَقَامَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ فَلَمْ يَقْدِرَا مِنْهَا عَلَى حَرْفٍ فَأَصْبَحَا غَادِيَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ فَالْهُوَا عَنْهَا
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ الَّذِينَ قُتِلُوا وَقَنَتَ يَدْعُو عَلَى قَاتِلِيهِمْ قَالَ أَنَسٌ وَنَزَلَ فِيهِمْ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ حَتَّى رُفِعَ " أَنْ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا "
وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ مَا تَقْرَءُونَ رُبُعَهَا يَعْنِي بَرَاءَةَ
قَالَ: الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُنَادِي فِي كِتَابِهِ" النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ" وَمِمَّا رُفِعَ رَسْمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُرْفَعْ مِنَ الْقُلُوبِ حِفْظُهُ سُورَتَا الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ وَتُسَمَّى سُورَتَيِ الْخَلْعِ وَالْحَفْدِ.
تَنْبِيهٌ
حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ عَنْ قَوْمٍ: إِنْكَارَ هَذَا الضَّرْبِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِيهِ أَخْبَارُ آحَادٍ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى إِنْزَالِ قُرْآنٍ ونسخه بأخار آحَادٍ لَا حُجَّةَ فِيهَا
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُنْسِيَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَكَتْبِهِ فِي الْمُصْحَفِ فَيَنْدَرِسُ عَلَى الْأَيَّامِ كَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} وَلَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهَا شَيْءٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ لَا يَكُونُ مَتْلُوًّا فِي الْقُرْآنِ أَوْ يَمُوتُ وَهُوَ مَتْلُوٌّ مَوْجُودٌ بِالرَّسْمِ ثُمَّ يُنْسِيهِ اللَّهُ النَّاسَ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَذْهَانِهِمْ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ فِي قَوْلِ عُمَرَ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا يَعْنِي آيَةَ الرَّجْمِ ظَاهِرُهُ أَنَّ كِتَابَتَهَا جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ قَوْلُ النَّاسِ وَالْجَائِزُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَقُومُ مِنْ خَارِجِ مَا يَمْنَعُهُ فَإِذَا كَانَتْ جَائِزَةً
لَزِمَ أَنَّ تَكُونَ ثَابِتَةً لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمَكْتُوبِ وَقَدْ يُقَالُ لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بَاقِيَةً لَبَادَرَ عُمَرُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَقَالَةِ النَّاسِ، لِأَنَّ مَقَالَةَ النَّاسِ لَا تَصْلُحُ مَانِعًا وَبِالْجُمْلَةِ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ مُشْكِلَةٌ وَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِهِ وَإِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ وَمِنْ هُنَا أَنْكَرَ ابْنُ ظَفَرٍ فِي " الْيَنْبُوعِ " عَدَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ قَالَ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُثْبِتُ الْقُرْآنَ
قَالَ وَإِنَّمَا هذا الْمُنْسَأِ لَا النَّسْخِ وَهُمَا مِمَّا يَلْتَبِسَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنْسَأَ لَفْظُهُ قَدْ يُعْلَمُ حُكْمُهُ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: " لَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ مَرْدُودٌ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ تَلَقَّاهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ من طريق كثير بن الصامت قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ يَكْتُبَانِ الْمُصْحَفَ فَمَرَّا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ زَيْدٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ " فَقَالَ عُمَرُ: لَمَّا نَزَلَتْ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ أَكْتُبُهَا فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ إِذَا زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جُلِدَ وَأَنَّ الشَّابَّ إِذَا زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ رُجِمَ
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ السَّبَبُ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا لِكَوْنِ الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ عُمُومِهَا
قُلْتُ: وَخَطَرَ لِي فِي ذَلِكَ نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ أَنَّ سَبَبَهُ التَّخْفِيفُ عَلَى الْأُمَّةِ بِعَدَمِ اشْتِهَارِ تِلَاوَتِهَا وَكِتَابَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا بَاقِيًا لِأَنَّهُ
أَثْقَلُ الْأَحْكَامِ وَأَشَدُّهَا، وَأَغْلَظُ الْحُدُودِ وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى نَدْبِ السَّتْرِ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَلَا تَكْتُبُهَا فِي الْمُصْحَفِ؟ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّابَّيْنِ الثَّيِّبَيْنِ يُرْجَمَانِ وَلَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَكْفِيكُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْتُبْ لِي آيَةَ الرَّجْمِ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُ قَوْلُهُ: "اكْتُبْ لِي" أَيْ ائْذَنْ لِي فِي كِتَابَتِهَا أَوْ مَكِّنِّي مِنْ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ لا تشكوا فِي الرَّجْمِ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَهُ فِي الْمُصْحَفِ فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ أَلَيْسَ أَتَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَقْرِئُهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَفَعْتَ فِي صَدْرِي وَقُلْتَ تَسْتَقْرِئُهُ آيَةَ الرَّجْمِ وَهُمْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدِ الْحُمُرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ فِي رَفْعِ تِلَاوَتِهَا وَهُوَ الِاخْتِلَافُ.
تَنْبِيهٌ
قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ فِي هَذَا النَّوْعِ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ يَقَعُ النَّسْخُ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} وَهَذَا إِخْبَارٌ لَا يَدْخُلُهُ خُلْفٌ فَالْجَوَابُ أَنْ نقول كُلُّ مَا ثَبَتَ الْآنَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ بَدَلٌ مِمَّا قَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَكُلُّ مَا نَسَخَهُ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا لَا نَعْلَمُهُ الْآنَ فَقَدْ أَبْدَلَهُ بِمَا عَلِمْنَاهُ وَتَوَاتَرَ إِلَيْنَا لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي الْحَصْرِ والاختصاص
…
الاستثناء المفرغ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّفْيُ فِيهِ إِلَى مُقَدَّرٍ وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى مَخْرَجٍ مِنْهُ وَالْمُرَادُ التَّقْدِيرُ الْمَعْنَوِيُّ لَا الصِّنَاعِيُّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَامٍّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِلْمُسْتَثْنَى فِي جِنْسِهِ مِثْلُ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ أَيْ أَحَدٌ وَمَا أَكَلْتُ إِلَّا تَمْرًا أَيْ مَأْكُولًا وَلَا بُدَّ أَنْ يُوَافِقَهُ فِي صِفَتِهِ أَيْ إِعْرَابِهِ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَصْرُ إِذَا أُوجِبَ مِنْهُ شيء بإلاضرورة بِبَقَاءِ مَا عَدَاهُ عَلَى صِفَةِ الِانْتِفَاءِ
وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ هَذَا الطَّرِيقِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ فَيُنَزَّلَ الْمَعْلُومُ مَنْزِلَةَ الْمَجْهُولِ لِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ نَحْوُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ} فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْهَلُونَ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه نَزَّلَ اسْتِعْظَامَهُمْ لَهُ عَنِ الْمَوْتِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ رِسَالَتَهُ لِأَنَّ كل رسول فلا بُدَّ مِنْ مَوْتِهِ فَمَنِ اسَتَبْعَدَ مَوْتَهُ فَكَأَنَّهُ اسَتَبْعَدَ رِسَالَتَهُ
الثَّانِي إِنَّمَا الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ فَقِيلَ بِالْمَنْطُوقِ وَقِيلَ بِالْمَفْهُومِ وَأَنْكَرَ قَوْمٌ أفادتها إياه مِنْهُمْ أَبُو حَيَّانَ وَاسْتَدَلَّ مُثْبِتُوهُ بِأُمُورٍ:
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} بِالنَّصْبِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ "مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمِيتَةَ" لِأَنَّهُ الْمُطَابِقُ فِي الْمَعْنَى لِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَإِنَّهَا لِلْقَصْرِ فَكَذَا قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَالْأَصْلُ اسْتِوَاءُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ
وَمِنْهَا أَنَّ"إن" للإثبات و "ما" لِلنَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ الْقَصْرُ لِلَجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ "مَا"زَائِدَةً كَافَّةً لَا نَافِيَةً وَمِنْهَا أَنَّ إِنَّ لِلتَّأْكِيدِ وَمَا كَذَلِكَ فاجتمع تأكيدان فأفادا الْحَصْرَ قَالَهُ السَّكَّاكِي وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اجْتِمَاعُ تَأْكِيدَيْنِ يُفِيدُ الحصر