الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ.
لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [33 \ 2] ، بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِدُخُولِ الْأُمَّةِ تَحْتَ الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ قُدْوَتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الرُّومِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ بِفَحْوَى خِطَابِهَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِامْرَأَةٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهَا.
وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى يُوهِمُ ظَاهِرُهَا خِلَافَ ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا الْآيَةَ [66 \ 4] ، فَقَدْ جَمَعَ الْقُلُوبَ لِهَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُثَنَّى إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ شَيْئَانِ هُمَا جُزْآهُ، جَازَ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ شَيْئَانِ الْجَمْعُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْإِفْرَادُ، وَأَفْصَحُهَا الْجَمْعُ فَالْإِفْرَادُ فَالتَّثْنِيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِضَافَةُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى.
فَاللَّفْظُ مِثَالُهُ: شَوَيْتُ رُءُوسَ الْكَبْشَيْنِ أَوْ رَأْسَهُمَا أَوْ رَأْسَيْهِمَا.
وَالْمَعْنَى: قَطَّعْتُ الْكَبْشَيْنِ رَأْسَهُمَا أَوْ رَأْسَيْهِمَا.
وَالْمَعْنَى: قَطَّعْتُ الْكَبْشَيْنِ رُءُوسًا وَقَطَّعْتُ مِنْهَا الرُّءُوسَ، فَإِنْ فُرِّقَ الْمُثَنَّى فَالْمُخْتَارُ الْإِفْرَادُ نَحْوَ: عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [5 \ 78] ، وَإِنْ كَانَ الِاثْنَانِ الْمُضَافَانِ مُنْفَصِلَيْنَ عَنِ الْمُثَنَّى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كَانَا غَيْرَ جُزْأَيْهِ، فَالْقِيَاسُ الْجَمْعُ وِفَاقًا لِلْفَرَّاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ
بُيُوتِكُمَا إِذْ أَوَيْتُمَا إِلَى مَضَاجِعِكُمَا وَ: هَذِهِ فُلَانَةُ وَفُلَانَةُ يَسْأَلَانِكَ عَنْ إِنْفَاقِهِمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا أَلَهُمَا فِيهِ أَجْرٌ، وَ: لَقِيَ عَلِيًّا وَحَمْزَةَ فَضَرَبَاهُ بِأَسْيَافِهِمَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمَائِرَ الرَّاجِعَةَ إِلَى هَذَا الْمُضَافِ، يَجُوزُ فِيهِمَا الْجَمْعُ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، وَالتَّثْنِيَةُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ:
خَلِيلَيَّ لَا تَهْلِكْ نُفُوسُكُمَا أَسًا
…
فَإِنَّ لَهَا فِيمَا دُهِيتُ بِهِ أَسًا
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ:
قُلُوبُكُمَا يَغْشَاهُمَا الْأَمْنُ عَادَةً
…
إِذَا مِنْكُمَا الْأَبْطَالُ يَغْشَاهُمُ الذُّعْرُ
الثَّانِي: هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [4 \ 11] أَيْ أَخَوَانِ فَصَاعِدًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَبٌ لَهُمْ، لِأَنَّ أُمُومَةَ أَزْوَاجِهِ لَهُمْ تَسْتَلْزِمُ أُبُوَّتَهُ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ.
وَهَذَا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه لِأَنَّهُ يَقْرَؤُهَا: «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» . وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى تُصَرِّحُ بِخِلَافِ هَذَا الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ الْآيَةَ [33 \ 40] .
وَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأُبُوَّةَ الْمُثْبَتَةَ دِينِيَّةٌ وَالْأُبُوَّةَ الْمَنْفِيَّةَ طِينِيَّةٌ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ مَعَ قَوْلِهِ: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [33 \ 53] ، إِذْ يُقَالُ كَيْفَ يَلْزَمُ
الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْأَلَ أُمَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ فَهُنَّ أُمَّهَاتٌ فِي الْحُرْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالتَّوْقِيرِ وَالْإِكْرَامِ، لَا فِي الْخَلْوَةِ بِهِنَّ وَلَا فِي حُرْمَةِ بَنَاتِهِنَّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الْآيَةَ.
يَظْهَرُ تَعَارُضُهُ مَعَ قَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ [33 \ 52] .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ، مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّهُ أَحَدُ الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْمُصْحَفِ نَاسِخُهُمَا
قَبْلَ مَنْسُوخِهِمَا، لِتَقَدُّمِهِ فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ، مَعَ تَأَخُّرِهِ فِي النُّزُولِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ الْآيَةُ النَّاسِخَةُ لَهَا هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [33 \ 51] .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ، أَيْ مِنْ بَعْدِ النِّسَاءِ الَّتِي أَحَلَّهُنَّ اللَّهُ لَكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الْآيَةَ.
فَتَكُونُ آيَةُ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مُحَرِّمَةٌ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي آيَةِ: إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ كَالْكِتَابِيَّاتِ وَالْمُشْرِكَاتِ وَالْبَدَوِيَّاتِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ فِيهِنَّ، وَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ، وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ، اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ مَعَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ فِيهِنَّ أَيْضًا.
وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ النَّسْخِ قَالَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو رَزِينٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَ
عَدَمَ النَّسْخِ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو حَيَّانَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ أَرْجَحُ، وَلَيْسَ الْمُرَجِّحُ لِذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمْ: عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمْ، وَلَكِنَّ الْمُرَجِّحَ لَهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ قَوْلُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْمَسْأَلَةِ، أَعْنِي أَزْوَاجَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ حِلِّيَّةَ غَيْرِهِنَّ مِنَ الضَّرَّاتِ وَعَدَمَهَا، لَا يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَشَدُّ اهْتِمَامًا بِهَا مِنْهُنَّ، فَهُنَّ صَوَاحِبَاتُ الْقِصَّةِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، أَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ (*) ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَةَ مَيْمُونَةَ وَأَبِي رَافِعٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ، عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا، لِأَنَّ مَيْمُونَةَ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ وَأَبَا رَافِعٍ سَفِيرٌ فِيهَا.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّنْ قَالَ بِالنَّسْخِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا مَاتَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ النِّسَاءَ، وَأُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ إِلَّا ذَاتَ مَحْرَمٍ.
أَمَّا عَائِشَةُ فَقَدْ رَوَى عَنْهَا ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنَيْهِمَا، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ.
وَأَمَّا أَمُّ سَلَمَةَ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ وَجُوَيْرِيَةَ رضي الله عنهما بَعْدَ نُزُولِ: لَا يَحِلُّ
لَكَ النِّسَاءُ.
قَالَ الْأَلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.