الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
لَا يَخْفَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ بِالْعِتْقِ عَلَى الظِّهَارِ وَالْعَوْدِ مَعًا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ مَعًا.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّكْفِيرَ يَلْزَمُ كَوْنُهُ قَبْلَ الْعُودِ إِلَى الْمَسِيسِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ قَوْلِ دَاوُدَ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ وَالْفَرَّاءِ وَفِرْقَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَقَالَ بِهِ شُعْبَةُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا هُوَ عَوْدُهُمْ إِلَى لَفْظِ الظِّهَارِ، فَيُكَرِّرُونَهُ مَرَّةً أُخْرَى قَوْلٌ بَاطِلٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلِ الْمَرْأَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا آيَةُ الظِّهَارِ، هَلْ كَرَّرَ زَوْجُهَا صِيغَةَ الظِّهَارِ أَمْ لَا، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا.
وَالتَّحْقِيقُ، أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَمَنْعَ الْجِمَاعِ قَبْلَهَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا تَكْرِيرُ صِيغَةِ الظِّهَارِ وَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا سَالِمِينَ مِنَ الْإِثْمِ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ وُجُوبِ الْحَمْلِ عَلَى بَقَاءِ التَّرْتِيبِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ:
كَذَلِكَ تَرْتِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ
…
بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يُحْتَمَلْ
وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله عنهم وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ:
مَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ مَالِكٍ فِيهِ قَوْلَانِ؟ تُؤُوِّلَتِ الْمُدَوَّنَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِلَاهُمَا مُرَجَّحٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ فَقَطْ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ وَإِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ مَعًا، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعْزِمُونَ عَلَى الْجِمَاعِ، أَوْ عَلَيْهِ مَعَ الْإِمْسَاكِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ عَلَيْهِ مَعَ الْإِمْسَاكِ، وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ.
وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَذْفُ الْإِرَادَةِ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْءَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ [5 \ 6] ، أَيْ أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا.
وَقَوْلِهِ: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [16 \ 98] ، أَيْ أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ الْآيَةَ [16 98] .
وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُمْسِكَهَا بَعْدَ الْمُظَاهَرَةِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ فَلَا يُطَلِّقُ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ إِمْسَاكَهُ إِيَّاهَا الزَّمَنَ الْمَذْكُورَ لَا يُنَافِي التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْمَسِيسِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ أَحْمَدَ هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْجِمَاعِ أَوْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْعَزْمُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْجِمَاعُ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِنْ ظَاهَرَ وَجَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنِ الْمَسِيسِ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى يُكَفِّرَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا جَوَازُ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إِنَّمَا بَيَّنَتْ حُكْمَ مَا إِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَأَنَّهُ وُجُوبُ التَّكْفِيرِ قَبْلَ مَسِيسٍ آخَرَ.
أَمَّا الْإِقْدَامُ عَلَى الْمَسِيسِ الْأَوَّلِ فَحُرْمَتُهُ مَعْلُومَةٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَا حَكَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ حَكَى عَنْهُ أَنَّ الْعَوْدَ الْجِمَاعُ، فَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَوْدُ إِلَى الظِّهَارِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَرَفْعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ خِلَافُ الْمُقَرَّرِ فِي فُرُوعِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَغَالِبُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْعَوْدِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ؟ الْمُرَادُ بِالْعَوْدِ الرُّجُوعُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِيسِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا خُصُوصُ الْجِمَاعِ.
وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ هَذَا الْقَوْلِ، وَالتَّحْقِيقُ عَدَمُ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ وَطْءٍ أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِغَيْرِ الْوَطْءِ قَائِلًا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسِيسِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا نَفْسُ الْجِمَاعِ لَا مُقَدِّمَاتُهُ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَا قَالُوا بِمَعْنَى فِي، أَيْ يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا بِمَعْنَى يَرْجِعُونَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاهِبُ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ الْحَدِيثَ، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ يَعُودُونَ عَمَّا قَالُوا، أَيْ يَرْجِعُونَ عَنْهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْعَوْدَ لَهُ مَبْدَأٌ وَمُنْتَهَى، فَمَبْدَؤُهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَمُنْتَهَاهُ الْوَطْءُ بِالْفِعْلِ، فَمَنْ عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ فَقَدْ عَادَ بِالنِّيَّةِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَمَنْ وَطِئَ بِالْفِعْلِ تَحَتَّمَ فِي حَقِّهِ اللُّزُومُ وَخَالَفَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، وَيَدُلُّكَ لِهَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا الْقَاتِلَ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ عَمَلٌ يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ.
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا يُوَافِقُ قَوْلَ الظَّاهِرِيَّةِ الَّذِي قَدَّمْنَا بُطْلَانَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَا قَالُوا أَنَّهُ صِيغَةُ الظِّهَارِ فَيَكُونُ الْعَوْدُ لَهَا تَكْرِيرُهَا مَرَّةً أُخْرَى.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى «لِمَا قَالُوا» أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ وُجُودُ نَظِيرِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [19 80] ، أَيْ مَا يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ
مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ فِي قَوْلِهِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [19 \ 77] ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَنْ جَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنِ الْمَسِيسِ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى يُكَفِّرَ، هُوَ التَّحْقِيقُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ الْمَسِيسِ.
كَمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَلِمَنْ قَالَ: تَلْزَمُ بِهِ كَفَّارَتَانِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَلِمَنْ قَالَ: تَلْزَمُ بِهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، كَمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً.
هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ أَمَامَ الْمُنَاجَاةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [58 13] ، يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَخِيرَ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.