الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليها فتى لم تحمل الأرض مثله
…
أبر بميثاق، وأوفى، وأصبرا
ولو شاء كان الغزو من آل حمير،
…
ولكنه عمدا إلى الروم أنفرا
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها،
…
ولابن جريج في قرى حمص أنكرا
إذا قلت: هذا صاحب قد رضيته
…
وقرت به العينان، بدلت آخرا
كذلك جدي ما أصاحب صاحبا
…
من الناس، إلا خانني وتغيرا
وقال في آخرها:
ونشرب حتى نحسب الخيل حولنا
…
نقادا، وحتى نحسب الجون أشقرا
فلما كان عند قيصر قبله وأكرمه، وصارت له عنده منزلة.
قيل: وقد رأى امرؤ القيس بنت قيصر فشغفها وشغفته حبا، دون أن يعلم أبوها بالأمر.
رجوعه من عند قيصر
ثم إن (قيصر) ضم إليه جيشا كثيفا، وفيه جماعة من أبناء الملوك فاندس رجل من بني أسد يقال له (الطماح)(وكان امرؤ القيس قد قتل أخا له) . فجاء (الطماح) هذا إلى بلاد الروم مستخفيا فوشى به إلى قيصر، بعد أن فصل بالجيش. فقال له:"إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك وتراسله، وهو قائل فيها في ذلك أشعارا يشهرها بها في العرب فيفضحها ويفضحك". فلما سمع ذلك (قيصر) بعث إلى (امرئ القيس) بحلة مسمومة منسوجة بالذهب. وقال له: "قد أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها، تكرمة لك. فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة. واكتب إلى بخبرك من منزل منز. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد بها سروره. وكان يوما صائفا شديد الحر، فأسرع فيه السم، وسقط جلده فلذلك سمي (ذا القروح) . وفي حالته هذه يقول:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة
…
فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا
لقد طمح الطماح من بعد أرضه
…
ليلبسني من دائه ما تلبسا
ومن هذه القصيدة قوله:
فإما تريني لا أغمض ساعة
…
من الليل، إلا أن أكب فأنعسا
فيا رب مكروب كررت وراءه،
…
وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
وما خلت تبريح الحياة كما أرى،
…
تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا
فلو أنها نفس تموت جميعة،
…
ولكنها نفس تساقط أنفسا
فيا رب مكروب كررت وراءه،
…
وعان فككت الغل عنه ففداني
وفي هذه القصيدة يقول:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
…
فليس على شيء سواه بخزان
وخرق بعيد قد قطعت نياطه
…
على ذات لوث سهوة المشي مذعان
وغيث كألوان الفنا قد هبطته،
…
تعاور فيه كل أوطف حنان
على هيكل يعطيك قبل سؤاله
…
أفانين جري، غير كز ولا واني
يدافع أعطاف المطايا بركنه
…
كما مال غصن ناعم بين أغصان
ومجر كغلان الأنيعم بالغ
…
ديار العدو، ذي زهاء وأركان
مطوت بهم حتى تكل مطيهم،
…
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
موت امرئ القيس
فلما صار في بلدة من بلاد الروم تدعى (أنقرة) احتضر بها. فقال: "رب خطبة محبرة، وطعنة مسحنفرة، وجفنة مثعنجرة، تبقى غدا بأنقرة".
قالوا: ورأى امرؤ القيس قبر امرأة من بنات الملوك ماتت هناك، فدفنت في سفح جبل يقال له (عسيب) . فسأل عنها فأخبر بقصتها. فقال:
أجارتنا، إن الخطوب تنوب،
…
وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا، إنا غريبان ههنا،
…
وكل غريب للغريب نسيب
وهذا آخر شيء تكلم به. ثم مات، فدفن إلى جنب المرأة. فقبره هناك.
مما يؤثر عنه قبل وفاته بسفح جبل (عسيب) قوله:
ألا أبلغ بني حجر بن عمرو،
…
وأبلغ ذل الحي الحديدا
بأني قد هلكت بأرض قوم،
…
سحيقا من دياركم بعيدا
الكلام على شعره
كان امرؤ القيس فصيح الألفاظ، جيد السبك، كثير المعاني، مقدما على شعراء الجاهلية. وهو أول من سبق إلى أشياء ابتدعها، فاستحسنتها العرب، واتبعته عليها الشعراء. وذلك كتلطيفه المعاني، ورقة النسب، وقرب المأخذ، واستيقاف الأطلال، ووصف النساء بالظباء والمها، وتشبيه الخيل بالعقبان، والتفريق بين النسيب وما سواه في القصيدة، وإحكام التشبيه، وتجويد الاستعارة. وقد شهد له بذلك كثير من الشعراء كلبيد وغيره.
وروى (الجمحي) أن سائلا سأل (الفرزدق) : من أشعر الناس؟. قال: ذو القروح حيث يقول:
وقاهم جدهم ببني أبيهم،
…
وبالأشقين ما كان العقاب
ومر (لبيد) بالكوفة في بني (نهد) فسألوه: من أشعر الناس؟. قال: "الملك الضليل"(يعني امرأ القيس) . قيل: ثم من؟. قال: "الغلام القتيل"(يعني طرفة بن العبد) . قيل "ثم من؟ ". قال: "الشيخ أبو عقيل الجليل"(يعني نفسه) .
وكان (امرؤ القيس) مقلا من الشعر، كثير المعاني والتصرف. ولا يصح له إلا عشرون شعرا ونيف بين طويل وقطعة.
وسأل العباس بن عبد المطلب عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن الشعراء. فقال "امرؤ القيس سابقهم: خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر".
وامرؤ القيس يماني النسب، نزاري الدار والمنشأ. وفضله (علي) رضي الله عنه بأن قال:"رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وإنه لم يقل رغبة أو رهبة".
وكان كثير الإجادة في وصف الفرس حتى لا تكاد تجد قصيدة من قصائده تخلو من وصفه. ومن أحسن وصفه به قوله:
وقد أغتدي، والطير في وكناتها
…
بمنجرد، قيد الأوابد هيكل
مكر، مفر، مقبل مدبر معا،
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
له أيطلا ظبي، وساقا نعامة،
…
وإرخاء سرحان، وتقريب تنقل
فقوله: "قيد الأوابد" في البيت الأول هو من الألفاظ الشريفة البالغة نهاية الحسن. وعنى بذلك أنه إذا أرسل فرسه على الصيد صار قيدا له وكان الصيد بحالة المقيد، وذلك من شدة عدو هذا الفرس. وقد اقتدى به الناس واتبعه الشعراء، فقيل:"قيد النواظر" و"قيد الألحاظ" و"قيد الكلام" و"قيد الحديث" و"قيد الرهان". وذكر الأصمعي وأبو عبيدة أنه أحسن في هذه اللفظة، وأنه اتبع فيها فلم يلحق. وذكرها أهل البيان في باب (التشبيه البليغ) . وجعلها بعضهم من باب (الرداف) وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ تابع له وردف. وذلك هو الكناية. قالوا: ومنه قوله أيضا:
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها،
…
نؤوم الضحى، لم تنطق عن تفضل
أراد بقوله: "نؤوم الضحى" أنها مترفهة، عندها من يقضي لها حاجات بيتها: فلا تحتاج إلى النهوض ضحى. ومنه قول الآخر:
بعيدة مهوى القرط. إما لنوفل
…
أبوها، وإما عبد شمس وهاشم
أراد أن يصف طول جيدها فأتى بردفه.
وقوله "له أيطلا ظبي" في البيت الثالث هو من التشبيه البديع، وذلك أنه شبه أربعة أشياء بأربعة أشياء، أحسن فيها ما شاء.
وقد أمتاز امرؤ القيس عن شعراء الجاهلية - إلا أقلهم - برقة الألفاظ وحسن التشبيه ورقته. قال (بشار بن برد) : لو أزل أجهد الخيال منذ سمعت قوله:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
…
لدى وكرها
العناب والحشف البالي
حتى قلت:
كأن مثار النقع
…
فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وفي بيتي امرئ القيس وبشار تشبيه شيئين بشيئين. غير أن امرأ القيس قد سبق إلى صحة التقسيم في التشبيه، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالأخرى، دون صحة التقسيم والتفصيل.
ومما استحسن من تشبيهه قوله:
كأني غداة البين حين ترحلوا
…
لدى سمرات الحي
ناقف حنظل
وقوله:
كأن عيون الوحش
…
حول خبائنا
وأرحلنا
الجزع الذي لم يثقب
وقوله في وصف الليل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه،
…
وأردف أعجازا، وناء بكلكل:
ألا أيها الليل الطويل، ألا انجل
…
بصبح. وما الأصباح منك بأمثل
وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة:
كليني لهم
…
يا أميمة
ناصب
وليل أقاسيه، بطيء الكواكب
وصدر أراح الليل عازب همه،
…
بضاعف فيه الحزن من كل جانب
تقاعس، حتى قلت: ليس بمنقض،
…
وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء، فقدمت أبيات امرئ القيس واستحسنت استعارتها: فقد جعل لليل صدرا يثقل تنحية، ويبطئ تقضيه. وجعل له أردافا كثيرة. وجعل له صلبا يمتد ويتطاول. ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة. ورأوا أن الألفاظ جميلة.