المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثفي أنها مسكرة ومفسدة للعقل - زهر العريش في تحريم الحشيش

[بدر الدين الزركشي]

الفصل: ‌الفصل الثالثفي أنها مسكرة ومفسدة للعقل

‌الفصل الثالث

في أنها مسكرة ومفسدة للعقل

والذي أجمع عليه الأطباء والعلماء لأحوال النبات أنها مسكرة منهم: أبو محمد عبدالله بن أحمد المالقى العشاب، ابن البيطار في كتاب:" الجامع لقوى الأدوية والأغذية " قال: ومن القنب الهندي نوع ثالث يقال له: القنب، ولم أره بغير مصر، ويزرع في البساتين، وتسمى الحشيشة أيضا، وهو يسكر جدا، إذا تناول منه الإنسان يسيراً قدر درهم أو درهمين،

ص: 101

حتى إن من أكثر منه أخرجه إلى حد الرعونة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم، وربما قتل.

وقال في علاجه: القيء بسمن وماء سخن حتى تنقى المعدة، وشراب الحماض لهم في غاية النفع.

وأما الفقهاء: فقد صرحوا بأنها مسكرة منهم: أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله، في كتاب " التذكرة في الخلاف "، والشيخ محيي

ص: 102

الدين النووي رحمه الله في " شرح المهذب "، ولا يعرف فيه خلاف عندنا، وقد يدخل في حدهم السكران، بأنه الذي اختلط كلامه المنظوم، وباح بسره المكتوم، أو الذي لا يعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض. ويحكى عن بعض من تناولها أنه إذا رأى القمر يظنه لجة ماء، فلا يقدم عليه.

وبلغني عن أبي العباس ابن تيمية أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها، ولذلك يتناولونها، بخلاف البنج وغيره،

ص: 103

فإنه لا ينشى ولا يشتهى. ولم أر من يخالفه في ذلك، إلا أبا العباس القرافي في قواعده فقال: نص العلماء بالنبات في كتبهم على أنها مسكرة، والذي يظهر لي أنها مفسدة. قال: وتحرير الفرق بين المفسد، والمرقد، والمسكر أن المتناول من هذه إما أن يغيب عنه الحواس أو لا، فإن غابت عنه الحواس كالسمع والبصر واللمس والشم والذوق فهو المرقد، وإن لم يغب عنه الحواس، فإما أن يحدث معه نشوة وسرور أو قوة عند التناول غالباً أم لا، فإن حدث فهو المسكر،

ص: 104

وإلا فهو المفسد، فالمسكر هو المغيب للعقل مع نشوة وسرور كالخمر، والمفسد: هو المشوش للعقل مع عدم السرور الغالب كالبنج.

ويدل على ضابط المسكر قول الشاعر:

ص: 105

ونشربها فتتركنا ملوكا

وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

فالمسكر يزيد في الشجاعة والمروءة، وقوة النفس، والميل إلى البطش في الأعداء والمنافسة في العطاء، ومنه قول القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله تعالى:

زعم المدامة شاربوها أنها تنفي الهموم وتصرف الغما

صدقوا سرت بعقولهم فتو هموا أن السرور لهم بها تما

سلبتهم أديانهم وعقولهم أرأيت عادم دينه، مغتما

قال: فظهر بهذا أن الحشيشة مفسدة، وليست مسكرة لوجهين:

ص: 106

أولهما: أنها تثير الخلط الكامن في الجسد كيفما كان، فصاحب الصفراء تحدث له حدة، وصاحب البلغم تحدث له سباتا وصمتا، وصاحب السوداء تحدث له بكاء وجزعاً، وصاحب الدم تحدث له سروراً يقدر حاله، فتجد منهم من يشتد بكاؤه، ومنهم من يشتد صمته.

وأما الخمر والمسكرات: فلا تكاد تجد أحدا ممن يشربها إلا وهو نشوان مسرور بعيد عن صدور البكاء والصمت.

ص: 107

وثانيهما: إننا نجد شراب الخمر تكثر عربدتهم، ووثوب بعضهم على بعض بالسلاح، وهو معنى البيت المتقدم في قوله:

* وأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنا اللِّقَاءُ *

وأكلة الحشيش خلاف ذلك، بل هم رقدة سكوت، وهم أشبه شيء بالبهائم، وذلك أن القتلاء توجد كثيرا مع شراب الخمر دون

ص: 108

أكلة الحشيش.

وهذا الذي قاله القرافي ممنوع، ولا يساعد عليه دليل. وقوله: إن المغيب للحواس هو المرقد يرد عليه: الإغماء والنوم فإنهما مغيبان للحواس، وليسا بمرقد، والبيت الذي أنشده ليس دليلاً على ضابط المسكر، لكن على تأثير الخمر في هذا القائل وأضرابه، ولا يساوي الخمر غيرها في هذه الخصال، وإن تحققنا فيه الإسكار، كالمزر.

وما ذكره في الوجه الأول في الفرق، ليس باستقراء صحيح،

ص: 109

فقد بلغني عن بعض الناس أنه إذا سكر بكى بكاء شديداً.

وأما أهل الحشيش فقد رأيناهم في أول التناول ذوي نشأة وطرب، ثم يعتريهم الخمود والغيبة.

وكذلك في أهل الخمر من يفضي به الحال إلى شبه الميت، إما بحسب الأمزجة، وإما بحسب قلة التناول، أو كثرته فيهما، فهي وما ذكره في الوجه الثاني بالحل أيضا، فإن الخمر كما قلنا هي مراد الشاعر، وهو صاحب هذه الخاصية، وقد ثبت الإسكار لغيره من أنواع الأشربة، وهو دونه في ذلك، وعلى التناول فإنه من تأثير الأخلاط الرديئة كما

ص: 110

سلف في الحشيش، فإن المجرم الداعي الذي تحدث عنده زيادة عربدة كما في الشراب، فظهر بهذا أن في الحشيش من الإسكار والإفساد ما يساوي الخمر في أحكامه ويزيد بمزيد الإفساد.

والصواب أنها مسكرة، كما أجمع عليه العارفون بالنبات، ويجب الرجوع إليهم، كما رجع إليهم في غيرها من الخواص.

ويدل على أن الحشيشة مسكرة، أن معنى الإسكار تغطية العقل وقد قال تعالى:

(إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) أي غطيت.

ص: 111

وقد دل العقل على أنه يحدث عند تناولها حالة لم تكن قبل تناولها، فتلك الحالة هي مبادئ تغيير العقل، فإن كان المعني بالإسكار هذا فذاك، وإن كان المراد من الإسكار، تغيير العقل الحادث في المزاج المضر بالأفعال الاختيارية، المخرج عن حد الاعتدال إلى الإفراط والتفريط، فهو موجود فيه.

ص: 112

وقول من قال: إنها مفسدة للعقل باطل لأنه إن فسد لجن صاحبه، إذ فساد العقل ذهابه.

ص: 113