الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لو أن هؤلاء شعروا بقطيعة صارمة من مجتمعاتهم، وإنكار المسلمين عليهم لما وقفوا موقف الإعلان والظهور يحادون الله ورسوله.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه، قال: يرى أمراً لله فيه مقال ثم لا يقول شيئاً".
وعن السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث".
رابعا: الإصلاح والتأديب عن طريق العقوبات بالحدود:
وهذا جانب رعته الشريعة وقررته كسبيل من سبل الإصلاح والتقويم للنفوس المعوجة والفطر المنحرفة.
وينبغي أن يعلم أن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس، ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة، والسلوك القويم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام وسعد بالمجتمع وسعد به مجتمعه، ومن هجر هذه الأسباب ونفر منها وسعى في الأرض فساداً دون رادع من خلق أو وازع من ضمير فحق للإسلام أن ينزل به عقابه ليحمي الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره"1.
ولقد سلكت الدعوة في سبيل المحافظة على مقاصدها أمرين:
الأول: رعايتها من جانب الوجود، فأداء العبادات والقربات يحفظ على الدين بقاءه ونماءه..
والثاني: رعايتها من جانب العدم وذلك بدفع ما يؤدي إلى اختلالها أو الاستهتار بها والعقوبات تحفظ الشعائر من جانب العدم كالحدود والتعازير وغير ذلك من صور التأديب، وهناك ناس لا يبالون بحل ولا حرمة، ويكرعون من الخمر كيف شاءوا ويعبون من المسكرات كما أرادوا دون رادع من خلق أو وازع من ضمير وهؤلاء لابد أن يلقوا جزاءهم وأن يؤدبوا على سفههم.
وقد أجمعت الأمة على عقوبة شارب الخمر سواء شرب كثيراً أو قليلا لقول الرسول
1 من بحث للكاتب بعنوان "الحدود في الإسلام ".
صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".
والعقوبة الواردة هنا هي الحد وإن لم يسكر.
لكن ما مقدار الحد.. هل أربعون أو أكثر..
يبدو أن شارب الخمر كان يعاقب في البداية بأربعين جلدة ونحوها كذا كان الحال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه لكن لما تغيرت أحوال الناس ولأن دينهم زيد الحد إلى ثمانين..
روى البخاري وأحمد عن السائب بن زيد قال: كنا نؤتي بالشارب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر الصديق وصدراً من إمارة عمر فنتقدم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد عمر ثمانين..
وروى مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين، وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقيل: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر فجلد ثمانين.
وجاء في المغني لابن قدامة أن عمر استشار الصحابة في حد الشرب فقال له علي كرم الله وجهه: أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى فاجلدوه ثمانين _ أي كحد المفترى _ فجلده عمر ثمانين 1.
وكأنه يشير إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} .
ولقد وصل الأمر بالبعض أن يحد من جلس في مجلس الشراب وإن لم يشرب لأنه كالراضي بفعلهم الموافق على إثمهم.. يقول ابن تيمية"رفع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له إن فيهم فلاناً وقد كان صائماً، فقال ابدءوا به أما سمعتم الله يقول {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} وزاد في مكان آخر، فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل 2.
كما قال رحمه الله"أما شارب الخمر فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحد إذا ثبت عليه، وحده أربعون جلدة، أو ثمانون جلدة، فإن جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة وإن اقتصر على الأربعين ففي الأجزاء نزاع مشهور.
فمذهب أبي حنيفة وأحمد الروايتين أنه يجب الثمانون ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه أن الأربعين الثانية تعزير يرجع فيها إلى اجتهاد
1 المغني 10 /326.
2 الفتاوى 32 / 254، 30 / 213.
الإمام فإن احتاج إلى ذلك لكثرة الشرب أو إصرار الشارب ونحو ذلك فعل، وقد كان عمر ابن الخطاب يعزر بأكثر من ذلك، كما روى عنه أنه كان ينفى الشارب عن بلده ويمثل بحلق رأسه ثم قال:"وقد روى من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شربها فاجلدوه، ثم إن شربها فاجلدوه ثم إن شربها الثالثة أو الرابعة فاقتلوه" فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة، وأكثر العلماء لا يوجبون القتل، بل يجعلون هذا الحديث منسوخاً، وهو المشهور من مذاهب الأئمة، وطائفة يقولون، إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك، كما في حديث آخر في السنن أنه نهاهم عن أنواع من الأشربة قال: "فإن لم يدعوا ذلك فاقتلوهم" والحق ما تقدم، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا كان يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر فكان كلما شرب جلده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، وهذا يقتضي أنه جلد مع كثرة شربه 1.
أما المخدرات فقد ذهب فريق من الفقهاء إلى أنه لم يرد في تناولها حد مقرر، وكل ما كان كذلك وجب فيه التعزير فقط ولعل حجتهم في ذلك أن الحد في المائع المطرب، أما المأكول الذي لا تتحققق فيه خاصية الطرب فلا 2.
وذهب آخرون ومنهم ابن تيمية وابن حجر الهيثمي وابن حزم إلى أن العقوبة في المخدرات هي حد السكر وقياسها على المسكرات لوجود تغطية العقل في كل منهما قال ابن تيمية:"وأما قليل الحشيشة المسكرة فحرام عند جماهير العلماء كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام يتناول ما يسكر ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولاً أو مشروباً أو جامداً أو مائعاً فلو اصطبغ كالخمر كان حراماً، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراماً ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن 3.
1 الفتاوى ج34 / 216، 217.
2 هكذا يرى متقدموا الحنفية حاشية ابن عابدين 3/228 ط بولاق 1326 وإن كان المتأخرون أفتوا بوجوب الحد لفشو هذا الفعل وانتشاره بين الناس، انظر تنوير الأبصار مع حاشية ابن عابدين ج 6 / 458 ط سنة 1966 ثانية.
والشافعية لا يرون الحد أيضا إلا إذا أذيبت بحيث تقذف بالزبد وصارت تطرب كالخمر ففيها الحد انظر: نهاية المحتاج 8 /12 ط الحلبي ومغني المحتاج 4 /187.
كما يرى المالكية أن الحد مختص بالمائعات المغيبة للعقل، انظر:"بلغة السالك "198، 323.
وحكى القرافي الخلاف بين فقهاء عصره في حكم تعاطي الحشيشة هل هي الحد أو التعزير، انظر الفروق 1 / 216 أما القرافي فقال لا أوجب فيها الحد بل التعزير الزاجر عن ملابستها 1 /218.
3 انظر: في ذلك الفتاوى ج 34، 204، 205.
وقال: وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين، وأما تعاطي البنج الذي لم يسكر ولم يغيب العقل ففيه التعزير.. ثم قال: ومن الناس من يقول: إنها أي الحشيشة تغير العقل فلا تسكر كالبنج وليس كذلك، بل تورث نشوة ولذة وطرباً كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر، فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر، ولهذا قال الفقهاء إنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر 1.
وقد سبق أن رأيت أن ابن حجر الهيثمي يؤكد حرمتها وينقل ذلك عن الذهبي وغيره 2.
وبعد: فهذه خلاصة عن عقوبة متعاطي المسكرات والمخدرات، والعقوبات في الإسلام مع أنها جوابر وكفارات لأهلها من آثامهم هي زواجر أيضا، تزجر الآخرين، وتمنعهم من التردي في حمأة الرذيلة، أو العبث بحدود الله ومحارمه، ولذلك كانت بركتها على المجتمع الذي يقيمها كثيرة وفيرة، وفي الحديث"حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً 3.. وفي رواية أربعين ليلة..
والله الهادي إلى سواء السبيل
من خصال الإيمان ترك الخمر
أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على فراش الموت ابنه عبد الله فقال له: عليك بخصال الإيمان. قال: وما هن يا أبت؟ قال: الصوم في شدة أيام الصيف، وقتال الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم، وترك ردغة الخبال، قال عبد الله وما ردغة الخبال؟ قال: شرب الخمر..
1 المرجع السابق.
2 الزواجر ج1 /216.
3 ابن ماجة _ باب الحدود.