الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون الضيزى منه ضوزى، فعدلت إلى كسر الياء لتنقلب الواو ياء فتخف الكلمة مع أمن اللبس؛ لأنه ليس في الكلام فعلي صفة. قال: ولا نقول على هذا في فعل من القول ونحوه: قيل، لئلا يلتبس فعل بفعل. فإذا كان كذلك اعتدل الأمران، فادعى الناظم لذلك اعتدال الوجهين، والله اعلم.
وقوله: "كذلك بالوجهين عنهم يلفي"، أي: يوجد بالوجهين، ويعني في السماع.
فصل
من لام فعلي اسما أتى الواو بدل
…
ياء كتقوى، غالبا جاذا البدل
بالعكس جاء لام فعلي وصفا
…
وكون قصوى نادرا الا يخفى
إنما جعل هذا فصلا على حدته لأن الإعلال فيه لغير موجب
قياسي، بل كان القياس في بعضه خلاف ما جاء به السماع، وذلك فعلي الاسم نحو التقوى، فكونهم قلبوا الياء إلى واو على خلاف القياس؛ إذ عادتهم أن يقلبوا الأثقل إلى الأخف، وهم قد عكسوا الحكم هنا فقلبوا الياء التي هي أخف إلى الواو إلى هي أثقل. وقد رام ابن جني أن يرى في هذا وجها من الاعتلال غير ما قالوا من التفرقة بين الاسم/ والصفة فقال: لما غلبت الياء الواو في أكثر المواضع أرادوا أن يعوضوا الواو من
كثرة دخول الياء عليها فقلبوا الياء، قال: وإنما خصوا اللام دون الفاء والعين لأن اللام أقبل للتغيير لتأخرها وضعفها، وكان ذلك في الاسم دون الصفة لأن الواو أثقل، فأرادوا أن يجعلوا الأثقل في الأضعف؛ إذ الاسم أخف من الصفة، لأن الصفة مقاربة للفعل. قال:"فتأمل هذا فهو أقرب ما يقال في هذا". وما قاله ليس له تلك القوة مع أنه منتزع (من سيبويه).
فلما كان هذا (على: هذا) الوصف فصله عما تقدم، وإن كان الجميع إبدالا جاريا في الاطراد جريانا واحدا.
وتكلم هنا على فعلي وفعلي- بفتح الفاء وضمها- وترك الكلام على فعلي بكسرها وذلك لأمر عليه انبني الإبدال هنا، وهو أنهم أراداوا التفرقة بين الاسم والصفة فأبدلوا في أحدهما ولم يبدلوا في الآخر ليحصل الفرق بن الضربين، ولما كان فعلي وفعلي يقعان اسما وصفة فالاسم من المفتوح الفاء نحو علقي وسلمى ورضوى، والصفة نحو عطشي وسكري، والاسم من مضمومها نحو البهمي والحمى والعمري، والصفة نحو الأنثى والحبلى والشؤمى- جاء بهما في هذا الموضع لأنهما محل التفرقة. وأما فعلى بالكسر فإنما أتى اسما ولم يأت صفة، وما جاء من عزهى وضئرى فشاذ أو مؤول، فلم يتعلق به إذا حكم التفرقة، إذ ليس ثم ما يفرق.
فأما فعلى- بفتح العين- فإنه على قسمين:
أحدهما: أن يكون لامه واوا كالجدوى من جدوته، والجلوى من جلوت، والسلوى من سلوت، والبلوى من بلوت. ومن الصفة شهوى ونشوى. فهذا لم يقع فيه فرق بين الاسم والصفة، ولذلك قال الناظم:"من لام فعلى اسما أتى الواو بدل ياء"، فشرط أن يكون المبدل منه ياء، فخرج إذا ما لامه واو عن ذلك الحكم فلا بدل فيه أصلا وإنما يجئ على أصله كالأمثلة المتقدمة.
والثاني: أن يكون لامه ياء، فهذا الذي يجري فيه هذا الحكم إلا أنه أثبت ذلك إذا كان ما هي فيه اسما، فأعطى ذلك التقسيم المذكور، فإذا كان اسما أبدلت الواو من يائه نحو التقوى من وقى يقي، والشروى من شريت، لأن شروى الشيء مثله، والشيء إنما يشرى بمثله، والرعوى من رعيب، وكذلك ما أشبهه. وأما إذا كان صفة فلا تبدل نحو خزيا وصديا، وكذلك يا في نحو قول امرئ القيس:
إذا قلت: هاتي نوليني، تما يلت
…
على هضيم الكشح ريا المخلخل
أصله: رويا، لأنه من رويت من الماء، فانقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، على حكم لي ونحوه. ولو كان اسما غير صفة لوجب أن يكون روى كالعوى من عويت: إذا لويت، أصله: العويا، قلبت اللام واوا لما تقدم، قاله سيبويه.
وقوله: "من لام فعلى اسما" الجار متعلق ببدل، لأنه بمعنى مبدل، وبدل: منصوب على الحال من الواو، وياء: مضاف إليه بدل، أي: أتى في كلام العرب هذا المعنى.
ثم قال: "غالبا جاذا البدل/ غالبا: حال من البدل، يعني أن هذا البدل الآتي في فعلي هو الغالب في السماع، ودل هذا على أن ثم سماعا آخر مغلوبا، وهو كذلك فإنهم حكوا: طغيا، للصغير من بقر الوحش، جاء على الأصل، لقولهم: طغت البقرة طغيا: إذا صاحت. وحكي الأصعمي: طغيا، بضم الطاء، ولا شذوذ فيه على هذا. ومن ذلك قولهم: سعيا، اسم موضع، قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
أبلغ بني كاهل عني مغلغلة
…
والقوم من دونهم سعيا ومركوب
وهو من السعي، وقد تأوله الفارسي على أن يكون الموضع سمي بوصف كصديا، فبقى على ما استقر له قبل النقل كما بقى "يزيد" على إلاله حين نقل إلى العلمية، ثم اختار الشذوذ لأنه علم والأعلام كثيرا ما تغير. وشذ أيضا غضيا لمائة من الإبل، قال الشاعر، أنشده ابن الأعرابي:
ومستخلف من بعد غضيا صريمة
…
فأحر به لطول فقر وأحريا
وريا للرائحة الطيبة. فهذا كله من ذلك المقلوب النادر الذي نبه عليه.
ثم قال ذاكرا للبناء الثاني: "بالعكس جالام فعلي وصفا"، يعني أن فعلي على قسمين أيضا، اسم وصفه، فأما الصفة فجاءت لامها بالعكس مما جاءت عليه لام فعلي الاسم، وحقيقة العكس هو تحويل مفردي القضية على وجه يصدق، وقد قال في فعلي الاسم: أتى الواو بدل ياء، فإذا عكست هذا قلت: أتى الياء بدل واو، فيريد أن فعلي بضم الفاء إذا كانت صفة فإن لامها على قسمين:
أحدهما: أن تكون ياء، فهذا يبقى على أصله كما كان، كما قالوا: طغيا، وهو ما حكاه الأصعمي وقد تقدم آنفا، وكذلك ما أشبهه.
والثاني: أن تكون واوا، فهذا هو الذي تقلب واوه ياء فرقا بين الاسم والصفة كما تقدم، وكان هذا عند الناظم كالمعاوضة بين الاسم والصفة، فلما كان القلب في فعلي في الاسم ولم يكن في الصفة كان هنا دون الاسم لضرب من المعاوضة. وأما الاسم فمفهومه أن البدل لا يكون فيه، فإن كان فهو شاذ كالحذيا من حذوته، أي: أعطيته. وقالو: هو ابن عمي دنيا. بضم الدال غير منون، كأنه مصدر كالرجعى، ولا يكون صفة بألف التأنيث لجريانه على المذكر وعلى المجموع، كقول النابغة:
بنو عمه دنيا وعمرو بن عامر
…
أولئك قوم بأسهم غير كاذب
ولقولهم في معناه: هو ابن عمي دنيا ودنية
وكلا المثالين من بنات الواو، ويدل على هذا الثاني الاشتقاق من دنا يدنو.
وقوله: "غالبا" مما يتعلق بهذا النوع من الإبدال أيضا، يريد أن هذا البدل في الصفات أيضا هو الغالب، استظهارا على النادر الذي حكي ابن جني من قولهم: خذ الحلوى وأعطه المرى، لأنه في الظاهر صفة، وهو من الحلاوة. وعلى ذلك تأول سيبويه القصوى على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
هذا ما أعطاه الحال من تفسير هذا الكلام؛ إذ لابد أولا من إعطاء حق الكلام. وهذا المعنى المفسر قد نص عليه أيضا في التسهيل إذ قال: "تبدل الياء من الواو عند غير تميم لاما لفعلي صفة محضة أو جارية مجرى الأسماء إلا ما شذ كالحلوى". ثم فسر الصفة المحضة-[و] الجارية مجرى الأسماء بما سبق.
وأفادنا هذا الكلام/ أن الوصف في قوله "بالعكس جاء لام فعلي وصفا" أنه يريد في كلا وجهيه من الوصف المحض والجاري مجرى الأسماء.
إذا تقرر هذا فاعلم أن الناظم خالف النحويين في هذه المسألة في جميع أطرافها، وبيان ذلك ينحصر في طرفين:
أحدهما في محل الإبدال وفاقا وخلافا، وفعلي عندهم فيه على ثلاثة أقسام:
الأول: أن تكون صفة محضة جارية على موصوفها لم تستعمل استعمال الأسماء، كأنثى وحبلى في الصحيح، فهذا القسم لا خلاف بينهم في تركه على أصله لأنه أخلف، وقد تقدم هذا، نقل الإجماع في هذا ابن أبي الربيع.
والثاني: أن تكون صفة استعملت استعمال الأسماء فوليت العوامل وتنوسى جريانها على الموصوف استعمالا كالدنيا لهذه الدار. فهذا القسم تقلب فيه الواو ياء، ولا أعلم في هذا خلافا، بل سمعت شيخنا الأستاذ القاضي- رحمه الله يذكر إجماع النحويين على هذا.
والثالث: أن تكون اسما لا أصل له في الصفات، فهذا هو الذي اختلفوا فيه، فمنهم من يجعل حكمه القلب كالصفة التي استعملت استعمال الأسماء، ومنهم من جعل حكمه عدم القلب كالصفة المحضة، قال بعض الأشياخ: وأكثرهم على وجوب قلبه، إذ يطلقون ذلك للاسم، وعلى هذا الخلاف ينبني في حزوى في قول ذي الرمة:
أدارًا بحزوى هجت للعين عبرة
…
فماء الهوى يرفض أو يترقرق
أهو شاذ أو على القياس؟
هذا ما قالوا، وما خرج عن هذه الأقسام فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. فأما الأول فخالف الناظم فيه الناس فجعل القياس فيه القلب، وإن جاء على خلافه شيء فشاذ ولذلك قيد هنا بالوصفية إذ قال:"بالعكس جالام فعلي وصفا".
والصواب على مذهب الناس غيره أن لو قال: "بالعكس جالام فعلي اسما".
وأما الثاني فهو وإن وافق الناس فيه في اللفظ فهو مخالف لهم في المعنى؛ إذ القلب عنده (ليس) لكونه اسما- كما قالوا- بل لكونه صفة كما تقدم من اصطلاحه، فهو داخل تحت تقييده بالوصف، فليس بموافق (لهم) في الحقيقة، فهذه مخالفة للجميع في القسمين.
وأما الثالث فظاهر أنه فيه مخالف للأكثر.
والطرف الثاني: في الاصطلاح المتفق عليه، وذلك أن الصفة عندهم هي الجارية على الموصوف، فمتى لم تجر على الموصوف فهي عندهم في حكم الاسم لا في حكم الصفة، لأن الاعتبار بالأحكام، ألا ترى أن من الكلم ما الظاهر فيه الدخول تحت الحروف، ومع ذلك حكم لها بأنها أسماء أو أفعال لما
جرت عليها أحكام الأسماء أو الأفعال، كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام، وليس، ونعم وبئس، ونحو ذلك، فكذلك مسألتنا، فأفعل التفضيل حين كان لازما لمن لفظا أو تقديرا كان جاريا على الموصوف، فأطلق عليه لفظ الصفة، فلما خرج عن ذلك فاستعمل بالألف خرج عن لزوم الجريان على الموصوف إلى ولاية العوامل، فلا جرم أنهم أطلقوا (عليه) لفظ الاسم، وإذا كان كذلك/ فالمؤلف قد خرج البتة عن هذا الاصطلاح فجعل الصفة المستعلمة استعمال الأسماء (على قسمين، أحدهما: ما كان كالعليا والدنيا تأنيث الأعلى والأدنى، فهذان عنده وما كان نحوهما من الصفات المحضة، والآخر ما كان نحو الدنيا الذي يطلق على هذه الدار فهذا من الصفات التي استعملت استعمال الأسماء) فهذا ما نص عليه في التسهيل، ولا شك أن مذهبه هنا مبني على ذلك، والناس كلهم على أن (القسمين) قسم واحد، ولا فرق بين القسمين، ولذلك احتاجوا إلى تأويل القصوى والحلوى بأنه اعتبر في القصوى الأصل، قال سيبويه:"استعملوا على الأصل- يعنى صفة- لأنها قد تكون صفة بالألف واللام". وتأول ابن جني الحلوى والمرى على تقدير الجريان كأنها صفة قامت مقام موصوفها، فلذلك لم تغير على القاعدة في ذلك.
وهذه إحدى الغرائب من ابن مالك، حيث خرج في هذه المسألة عن حكم غيره وقال ما لم يقله أحد، وأنت ترى ما في مخالفة الإجماع من لزوم الخطأ للمخالف؛ إذ الناس مجمعون على خطأ من خالف الإجماع، وعلى تخطئة من خطأهم.
فإن قيل: إن إجماع النحويين ليس بحجة كما أشار إليه ابن جني إذ قال: "اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص أو المقيس على المنصوص، فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه"، قال:"وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النص عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم (من قوله): أمتي لا تجتمع على ضلالة، وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة، قال: فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره". هذا قوله، وإذا كان إجماع النحويين ليس بحجة فمن خالفه كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره، إذ لم يخالف في كتاب ولا سنة ولا (في) مقيس عليهما أو مستنبط منهما، فكذلك يكون ابن مالك خالف الناس لما سنح له في ذلك من قياس أو استقراء.
فإنا نقول: الذي يقطع به ولا يشك فيه أن الإجماع في كل فن شرعي أصله المنقول حجة، لأن الإجماع معصوم على الجملة، قامت بذلك الدلائل الشرعية على ما تقرر في الأصول. وسبيل ابن جني في المسألة سبيل النظام
وبعض الخوارج والشيعة، وحسبك بهذا انحطاطا عن مراتب العلماء، وبيان هذه المسألة في الأصول، والذي بني جني عليه هذه المسألة شيء رآه في قولهم:(هذا) جحرضب خرب، حاصله أنه إحداث تأويل لم يذكره أحد من النحويين، ومخالفته سائغة على الأصح من قولي الأصوليين، وعليه الأكثر، ومع هذا فإنه اخطأ فيه حين قصد مخالفة الإجماع في أمر توهم أن مثله لا يخالف فيه هكذا كان يذكر لنا شيخنا الأستاذ- رحمه الله أنه لم يوفق في تأويله للصواب، بل حل به شؤم المخالفة، وأحسب أنه كان يذكر (ذلك) أيضا عن شيوخه- فإذا ثبت هذا فإن كان ابن مالك قد اتبع رأي ابن جني في جواز مخالفة الإجماع وقصد ذلك أو لم يقصده، (فهو) مخطئ بلا بد، إذ ليست مخالفته في إحداث دليل ولا تأويل، وإنما مخالفته في حكم يلزم فيه مخالفة كلام العرب على ما نقله الجميع، نعم يقرب الأمر في مخالفة الاصطلاح لا في غيره.
ويمكن أن يجاب عن ابن مالك هنا فيقال:
أما الطرف الأول فإنه غير/ مخالف فيه الحقيقة، وبيان ذلك (أن) القسم الأول منه، وهو الصفة المحضة، شيء لا يوجد في السماع ولا حكاه أحد- فيما علمت- من البصريين، أعني من المعتل اللام إلا ما كان من فعلي الأفعل، وكلام سيبويه عليه إنما هو على فرض وجوده، ولم يحك منه شيئا، بل في كلامه ما شعر أنه لم يحفظه، ألا تراه قال: "فإذا قلت فعلي من هذا الباب جاء على الأصل إذا كان صفة، وهو أجدر أن يجيء على
الأصل إذ قالوا: القصورى، فأجروه على الأصل وهو اسم، كما أجريت فعلى من بنات الياء صفة على الأصل". قال السيرافي في الشرح: ذكر سيبويه أن الصفة من باب فعلي من ذوات الواو على الأصل، ولم أجده ذكر صفة على فعلي مما لامه واو إلا ما استعمل بالألف واللام كالدنيا والعليا، وهذه عند سيبويه بمنزلة الأسماء، قال: وإنما ذكر أن فعلي من ذوات الواو إذا كانت صفة على أصلها، وإن كان لا يحفظ في كلامهم شيء من ذلك على فعلي، لأن القياس (أن) يحمل على أصله حتى يتبين أنه خارج عن أصله شاذ عن بابه". هذا ما قال، وأنت تراه قد صرح بعدم السماع فيه على بحثه وبحث أمثاله ممن في طبقته أو قبله أو بعده إلى الآن، فلم يحك من ذلك شيء يعرف في المنقول، وقد عرف من حال المؤلف اتباعه للسماع واتكاله على الاستقراء الذي هو أصل الأصول في هذه الصناعة، فاطرح الكلام على هذا القسم رأسا؛ إذ لم ير له لم فائدة حين لم يتكلم بما يقتضيه. وبدل على هذا من كلامه في التسهيل تفسيره للصفة المحضة إذ قال: "والصفة المحضة كالعليا والدنيا تأنيث الأدنى"، ولو كان هذا القسم معتبرا لأشار إليه فقال: "والصفة المحضة هي الجارية على النكرة والمعرفة، وفعل الأفعل"، أو ما يعطي هذا المعنى.
وأما القسم الثاني وهو الصفة الجارية مجرى الأسماء. فهي التي سماها هو محضة، وحكم عليها بعين ما حكم به الناس عليها، فإنما (الخلاف) في التسمية الاصطلاحية لا في الحكم.
وأما الثالث: فقد وقع فيه الخلاف كما تقدم، ومسائل الخلاف يسوغ فيها الاجتهاد والأخذ بما أداه إليه اجتهاد من القولين، أو من ثالث إن رآه على أحد المذهبين.
فإن قلت: فقد جرى في هذا المذهب على غير الحكمة، إذ جعل الصفات هي محل التغيير والأسماء باقية على أصلها، وهو خلاف المعتاد، ألا ترى أنهم عللوا اختصاص الاسم بقلب يائه واوا لأنه أخف فاحتمل الثقل، بخلاف الصفة لثقلها؟
فالجواب: أن هذا غير مخالف لهم في طلب الخفة للصفة، إذ الصفة إذا (حولت) واوها ياء خفت بلابد؛ وهو أولى أن يكون فيها لثقل الواو، وأما الأسم فلخفته أحتمل البقاء على الأصل من الواو وإن كانت ثقيلة.
وأما فعلي فالأمر فيها بعكس هنا، لأن القلب فيها من الياء التي هي (أخف إلى الواو التي هي) أثقل، فكان من طلب الخفة في الصفة أن تبقى على حالها لا أن تقلب إلى الأثقل. ويدل على هذا/ مذهب سيبويه في فعلي المعتل العين بالياء، حيث قلب في الصفة الضمة كسرة لتصح الياء لأنها أخف والصفة ثقيلة، وكان الأمر عنده في الاسم على خلاف ذلك، فقلب
الياء واوًا لاحتمال الاسم من الثقل ما لا تحتمله الصفة. وهذا في غاية الوضوح. وإن سلمنا أنه مخالف لهم فقد قال ابن السراج: إنما يغير النعت لأنه جار على الفعل، والأسماء غير جارية على الفعل. يعني أن أصله التغيير والتصريف للأفعال، وما جرى على الأفعال فهو محكوم له بحكم الأفعال، بخلاف الأسماء فإنها ليست كذلك، فهي أولى بالتصحيح من الصفات. ثم قال: وإنما قلبوا الواو ياء في فعلي لاستثقال الضمة والواو، قال ابن خروف: ويلزم على قوله أن يكون ذلك في الصفة لا في الاسم. فهذا الكلام من ابن السراج موافق لأصل مذهب ابن مالك مؤيد له في الجملة، وقد ألزمه ابن خروف القول بمقتضاه وسلمه، فظهر أن ابن مالك لم يخالف إجماعا في حكم البتة.
وأما الطرف الثاني، وهو الاصطلاح، فإنه لم يخالف فيه الجميع، فإن كون فعلي الأفعل لا يمسى صفة هو اصطلاح البصريين، وظاهر الكوفيين على خلافه، قال ابن السكيت في "المقصور والممدود" له:"ومنه ما كان من النعوت مثل الدنيا والعليا، فإنه يأتي بضم أوله، وبالياء". فجعله- كما ترى- قسما من أقسام النعوت- ولعل للكوفيين ما هو أصرح من هذا، وأيضا مذاهب الكوفيين لا ندريها ولا وقفنا منها على شيء معتبر، ولعل لهم مذاهب تخالف مذاهبنا التي اعتدناها ولم نعرف غيرها، فنتوهم أن القول فيها إجماع، وليس
كذلك، وابن مالك أشد إطلاعا منا (عليها) - أيها المتأخرون- وأيضا فلو لم يكن لغيره فيه اصطلاح لكان جائزا له أن يضعه هو، إذا كان لا يؤدي إلى مخالفة حكم، وإذا نظرنا من جهة القياس فإن فعلي الأفعل أولى أن تكون صفات منها (أن تكون) أسماء؛ أما أولا فإنها تجرى بعد على موصوفاتها جريان الصفة المحضة على موصوفها؛ ألا تراك تقول: هذه قسمة ضيزي، ومشية حيكي، كما تقول: هذه المنزلة الدنيا، والمنزلة العليا، وقال تعالى:{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} ، وكذلك سائر المثل في فعلي الأفعل.
فإذا قلت: الدنيا والعليا على غير موصوف. فهو على تقدير الموصوف، وإلا فلو لم يكن كذلك لكان قولك: المنزلة العليا، يعرب بدلا لا وصفا، إذ هو عندكم بمنزلة الأسماء، وإنما يكون بمنزلة الأسماء إذا تنرسي الجريان على الموصوفات، وهو هنا غير متناسي، فدل على صحة كونه صفة محضة. وهذا المعنى أودره جني على مذهب البصرين، وأجاب عنه بأن أصل الصفة أن تكون جارية على النكرة لأنها أحوج إليها من المعرفة، لأن وضع المعرفة إنما هو على أن تخص الواحد بعينه فلا يشاركه فيما تريد هنالك غيره، وما كان هذا سبيله فلا حاجة له/ إلى
الوصف، لكن لما كثرت المعارف وازدحمت على اللفظة الواحدة منها معان كثيرة، ودخلها بعد ذلك اللبس، احتاجت إلى الوصف كزيد البصري، وزيد الكوفي، ومحمد الطويل، ومحمد القصير، وليست (كذلك) حال النكرة، لأنها في أول وضعها مشاعة غير موضحة ولا مختصة، فحاجتها إلى الصفة أشد من حاجة المعرفة إليها، فلما حرمت فعلي الأفعل الجريان على النكرة التي هي أولى بالصفة صار جريانها صفة كلا جريان، لأنك (لا) تقول: هذه امرأة صغرى، ولا مررت بدار حسنى، (حتى) تقول: المرأة الصغرى، والدار الحسنى. وليست كذلك فعلي إذا كانت صفة لا أفعل لها، لأن تلك تستعمل صفة معرفة ونكرة، تقول: هذه امرأة حبلى، والمرأة الحبلى، وقسمة ضيزي (والقسمة الضيزي). فلما حرمت فعلي الأفعل جريانها صفة على النكرة التي هي أولى بالصفة من المعرفة لم يعتد جريانها صفة (للمعرفة) جريانها، كحيث لما حررت الإضافة إلى المفرد واقتصرت بها على الإضافة إلى الجملة، صارت إضافتها كلام إضافة، فألحقت بباب قبل وبعد المنقطعتين عن الإضافة في استحقاقهما البناء، فبنيت بناءهما.
هذا محصول ما أجاب به في شرح المقصور والممدود لابن السكيت، وليس بجواب على طريقة ابن مالك، وذلك أنها جرت صفة على موصوفها، فهي صفة عند الجميع لفظا ومعنى، أما لفظا فظاهر، وأما معنى فإنها قد صارت في
عداد ما كان من الصفات على غير معنى من، فالأفضل والفضلى في عداد الأحمر والحمراء، وإنما لم تستعمل على ذلك نكرة لأن العرب قد اعتزمت استعمالها في تلك لحالة على معنى من، فلم يكن ليستعمل في النكرة على غير ذلك المعنى، فإن رأيتها قد أجريت نكرة على (غير) معنى من فتلك هي المستعملة استعمال الأسماء، لأنها صارت عند ذلك غير جارية، ولا في معنى الجاري، كالدنيا إذا أريد بها هذه الدار، فإن الصفة أطلقت على هذه الدار (إطلاقا) من غير اعتبار معنى الصفة فيه، حيث صارت اسما لها كسائر الأسماء الجوامد من غير تقدير موصوف، وقد نكروها فقال الراجز:
في سعي دنيا طالما قدمدت
فنكرها كما ترى، فهذا دليل واضح على عدم اعتبار الوصفية فيها، وهذا- والله أعلم- هو الذي دعا المؤلف إلى دعوى أن الدنيا إذا أريد بها هذه الدار فهي المستعملة استعمال الأسماء، ومثل بها لذلك، وأحال على ما كان مثلها أن يحكم له بحكمها، وقد حكي الأخفش حسني، على فعلي نكرة، وجعل من فعلي الأفعل، استعمل استعمال الأسماء فطرحت منه الألف واللام، حيث صارت بمنزلة الأسماء، فهذا مثل الدنيا التي (ذكر)، ومع هذا فإنها لما كان
أصلها الصفة عوملت الأبطح والأجرع والأدهم ونحوها معاملة أصلا في منع الصرف، مع أن معنى الوصيفة قد تنوسى/ فيها، فإذا قد تبين وجه تفرقة المؤلف بين الدنيا تأنيث الأدنى، والدنيا اسم هذه الدار، فكان الضابط في المستعملة استعمال الأسماء، هو ما كان من فعلى الأفعال قد استعمل نكرة ومعرفة، لكنه قد تنوسى أصله من معنى الوصف، وصار مثل الأسماء المنقولة من الصفات.
وأما ثانيا فإن قولهم: إن فعلى الأفعل تجري على العوامل مباشرة لها، فليس ذلك بمانع (لها) من بقائها على الجريان على الموصوف، لأنها لا تباشر العوامل إلا إذا كان موصوفها معلوما، إما بكونها مضافة إليه كما تقول: مررت بفضلى النساء، (وإما بعهد متقدم فيه، كأن يكون بينك وبين مخاطبك عهد في امرأة وأنها أفضل النساء) فتقول له: مررت بالفضلى، ولا تباشر العوامل على غير علم بالموصوف، فلا تقول: مررت بالفضلى، من غير عهد، وإذا كان كذلك فلا فرق بين فضلى القوم وبين فاضلة القوم، ولا بين الفضلى وبين الفاضلة، فكما أن الفاضل والفاضلة ونحوهما من الصفات لا تباشر العوامل إلا على حذف الموصوف، لأنه باقية على أصلها من الوصفية، كذلك لا تباشر الفضلى العوامل إلا على حذف الموصول، فهي إذا باقية على أصلها من الوصفية. أما إذا قلت في مولود مثلا: خرج فلان إلى الدنيا، أو في ميت: خرج عن الدنيا، أو فتنت الدنيا الناس، أو: إن الدنيا حلوة خضرة، فلم تتو ههنا موصوفا،
ولا أحلت عليه، كما أنك لم تحل على شيء إذا قلت: إن المال فتان، وإن الغنى غرار، وما أشبه ذلك إلا معرفة مدلول الاسم خاصة، وأما جمعهم لها جمع الأسماء على الأفاعل كالأفضل والأفاضل فلا يبعد أن تجرى الصفات في هذا مجرى الأسماء، أو تخص بعض الصفات بحكم ليس في بعض آخر. وها منتهى القول في هذه المسألة، وهو أقصى ما وجدته في توجيه ما ذهب إليه هنا وفي التسهيل، وعلى أنه في الفوائد موافق لغيره ولكنه هنا ليس بمخالف كما (رأيت)؛ إذ غايته أنه سلك إلى ما قالوه طريقا غير طريقهم فوصل إليه، وعلى أن ما ادعى عليه من مخالفة الإجماع يحتمل النظر من جهات؛ إذ هو في الحقيقة (غير) لازم له، ولولا التطويل لبسطت ذلك، ولكن الكلام في هذا الفصل قد بلغ في البسط ما يحتاج إليه وفق ذلك، فلنقتصر عليه، وبالله التوفيق.
ثم قال: "وكون قصوى نادرا لا يخفى"، يعني أن قولهم "القصوى" وهو تأنيث الأقصى نادر حين جاء على أصله بالواو، وكان القياس أن يقال فيه:"القصيا"، وقد قيل، ولكن الذي جاء في القرآن هو الأصل، وتأوله سيبويه على اعتبار أصله في الصفة، وكذلك ابن جني في الحلوى، كأنه عنده على حذف الموصوف. وهذا الاعتذار ليس على طريقة الناظم، إذ كونها صفة هو الموجب لقلب يائها، وهو الأصل القياسي عنده، نعم والاستعمالي، فإذا كان كذلك، وكان القياس يقضى بالإعلان المذكور، فكونه مخالفا لذلك ونادرا في