الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإدغام
/أول مثلين محركين في
…
كلمة آدغم لا كمثل صفف
وذلل وكلل ولبب
…
ولا كجسس ولا كاخصص أبي
ولا كهيلل، وشذ في ألل
…
ونحوه فك بنقل فقبل
معنى الإدغام في اللغة: الإدخال. يقال: أدغمت اللجام في فم الدابة: إذا ادخلته في فيها، ومنه: أدغم الطعام بمعنى ابتلعه، لأنه إدخال في الحلق، ومنه إدغام الحرف في الحرف، لأنه إدخال الأول في الثاني. قال السيرافي: سيبويه يقول: الإدغام افتعال، والكوفيون يقولون:(الإدغام) إفعال. قال: والأول أحب إلى لقوله:
إذا [فزعوا] ادغمن في اللجم
قال ابن الضائع: (يعني) لاستعماله. قال: "وقد حكى الزبيدي: أدغمت الفرس اللجام". انتهى، وحكى مثله الجوهري.
ومعناه في اصطلاح النحويين: أن يلتقي حرفان من جنس واحد، فتسكن الأول منهما وتدغمه في الثاني، أي: تدخله فيه، فيصيرا احرفا واحدا مشددا. وذلك أن النطق بحرفين من جنس واحد مما يثقل على اللسان، لأنه يرتفع بأحد الحرفين، ثم يرتفع ارتفاعا ثانيا بعد استقرار الأول، فيصير في موضع واحد عملان من غير فصل بينهما، فيثقل ذلك على اللسان، ولذلك شبهه الخليل بمشي المقيد، لأنه كأنه يتحرك في موضع واحد. وهذا محسوس، بخلاف ما إذا عمل عملين في موضعين فليس فيه من الثقل ما في هذا. فأرادوا أن يرتفع اللسان بهما معا ارتفاعة واحدة، فلم يمكنهم ذلك إلا بأن يسكنوا الأول منهما، فأسكنوه، ثم أدغموه في الثاني، فصارا حرفا واحدا مشددا، فقالوا في فرر: فر، وفي ظلل: ظل، وفي سرر: سر، وفي أمدد: أمد، وما أشبه ذلك.
واعلم أن الإدغام على قسمين:
أحدهما: إدغام مثل في مثله، نحو ما تقدم من المثل.
والثاني: إدغام مقارب في مقاربه نحو: بعدت، وعدان في عتدان، ونحو ذلك.
وهذه القسمة بالنظر إلى الأصل، وإلا فلا إدغام إلا إدغام مثل في مثل. وهذا نظير قولهم: إن البدل ثلاثة أقسام: بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال. وبالحقيقة ليس إلا بدل شيء من
شيء وهما لعين واحدة، فإذا قلت: أكلت الرغيف نصفه، فلا يخلو أن يراد بالرغيف النصف أو غيره، فإن أريد النصف فنصفه البدل بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، ولا يجوز أن يريد به أكثر من النصف، ولا أيضا أقل منه، لأنه يكون نصفه نقضا لذلك وتكذيبا، أو يرجع إلى بدل الغلط، وهو منفي عن الكلام الفصيح كما تقدم. وكذلك بدل الاشتمال، فليس تقسيمهم ذلك إلا بالنظر إلى الوضع الأصلي. فالتقسيم في البأبين صحيح بالنظر إلى الأصل، وأما الآن فلا يدغم المقارب في مقاربه إلا بعد إبداله حرفا من جنس المدغم فيه بلابد./ فأما إدغام المتقاربين فلم يتعرض إليه هنا، وذلك لأن الغالب فيه أن يكون جائزا لا لازما، وإذا كان جائزا فالتكلم بالأصل صحيح، فلم يكن المتكلم بالأصل لاحنا، فليس بمهم في قصده. وأما إدغام المثلين فعلى قسمين:
أحدهما: أن يكون الأول منهما ساكنا في الاستعمال. وهذا لم يحتج إلى ذكره للعلم بوجوب الإدغام فيه؛ إذ لا يمكن النطق بهما مع الفك إلا بتكلف كثير. فلا تقول في رد: ردد، لعدم الإمكان فيه.
والثاني: أن يكون الأول متحركا، فهو على قسمين:
أحدهما: أن يكون المثلان من كلمتين. وهذا القسم لا يجب فيه إدغام، نحو: جعل لك، وهرب بكر، وقاسم مالك. فالنطق به على الأصل صحيح، فلم يكن ذكره من المهم.
والثاني: أن يكونا من كلمة واحدة. فهذا القسم هو الذي يختلف الحكم فيه، فلا يمتنع الإظهار فيه بإطلاق، (ولا يجوز فيه بإطلاق)، فلأجل ذلك خص هذا القسم بالذكر وحده، لأنه الضروري من سائر الأقسام.
وحاصل ذلك أن المثلين في كلمة على ثلاثة أقسام: قسم يجب فيه الإدغام، وقسم يجب فيه الإظهار، وقسم يجوز فيه الوجهان. والناظم- رحمه الله حصل ذلك، فأطلق القول بوجوب الإدغام إلا فيما يستثني، فقال:"أول مثلين محركين في كلمة ادغم"، أول: مفعول بأدغم، أي: أدغم أول مثلين .. إلى آخره. يعني أنه يجب إدغام أول الحرفين في ثانيهما إذا اجتمع فيهما ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون الحرفان مثلين، وذلك قوله:"أول مثلين"، وهو على حذف الموصوف، أي: أول حرفين مثلين، تحرزا من أن يكونا غير مثلين بل متقاربين، فإنه لا يجب فيهما الإدغام نحو: خذتالدا، واجبه حاتما، ونحو ذلك، فتظهر إن شئت ويجوز الإدغام فتقول: ختالدا، واجبحاتما، وما أشبه ذلك.
والثاني: أن يكونا محركين معا، المدغم والمدغم فيه، تحرزا من أن يسكن الأول، أو الثاني، أو يسكنا معا، فأما إن سكن الأول فقد تقدم وجوب الإدغام، وأنه مدرك حسا، فلم يحتج إل ذكره وأخرجه، لأنه كالمذكور حكمه، نحو: رد، وشد، وسر، وكذلك: زر رافدا، وكن نائما. وأما إن سكن الثاني فالفك واجب نحو: رددت، ورددن. وسينه عليه بعد هذا. وأما إن سكنا معا فإن المسألة
تصير من باب التقاء الساكنين، وتخرج عن هذا الباب، فلم يكن ذكره هنا لائقا.
والثالث: أن يكون الحرفان في كلمة واحدة، فإن كانا في كلمتين لم يجر فيهما حكم وجوب الإدغام كالمتقاربين بالنسبة إلى الشرط الآخر، فالمفهوم فيهما معا الجواز وهو مفهوم صحيح، لأنك تقول: جعل لك، وجعل لك، وهرب بكر، وهرب بكر، وما أشبه ذلك. والمفهوم في الموضعين جملي، لأنه ليس كل مقارب يدغم في مقاربة، ولا كل متقاربين يجوز إظهارهما، ولا كل مثل يجوز أن يدغم في مثله إذا كانا من كلمتين؛ ألا ترى أن الواو والياء لا يدغمان في مقاربهما، ولا مقاربهما فيهما، (لما فيهما) من المد. وأيضا حروف المد صنف على حدة لا يجوز أن تقلب إلى الحروف الصحاح/، ولا الصحاح إليها، والنون تدغم في حروف "لم يرو" إذا سكنت ولا يجوز الإظهار، وخرجت النون عن الحروف الصحاح فأدغمت في الواو والياء لشبهها بالغنة بحرف اللين. والألف والهمزة لا يجوز في واحدة منهما إدغامها في مثلها، أما الألف فلأن حقيقتها المد، والإدغام رفع اللسان عن الحرفين رفعة واحدة، وذلك لا يتصور مع المد، ألا ترى أنه يزول في نحو مغزو وولى، فلو مددت لم يجز الإدغام. وأما الهمزة فللزوم تخفيف إحداهما عند الاجتماع. فقد ظهر أن الحكم بجواز الإدغام في المسألتين غير مطرد، لكن إذا نظر الباب كله في المسألتين وجد جواز الإدغام هو الأغلب فيهما، فلأجل هذا حملت كلام الناظم القصد إلى حقيقة المفهوم، ولم أحمله على اطراحه، فالأحسن أن يكون حكمهما
مذكورًا - وإن كان على الجملة- من أن يكون لم يعرج عليهما البتة. وقد يمكن أن يكون المفهوم هنا معطلا في الشروط الثلاثة فلا يستفاد الحكم من كلامه إلا فيما نص عليه دون غيره، وهذا أسلم له من الاعتراض، والأول أجرى على عادته من اعتماد دلالة المفهوم.
ولما ذكر هذه القاعدة العامة في الإدغام أخذ يذكر ما ينتفي عنه هذا الحكم المذكور فقال: "لا كمثل صفف" وكذا وكذا، فأتى بمثل على أبنية وأحوال مخصوصة منفيا عنها وجوب الإدغام، يعني أن هذه الأشياء، وما كان على بنائها أو حالها لا تدغم وجوبا وجملة ما أتى به منها عشرة أنواع:
أحدها: ما كان من الأسماء خارجا عن وزن الفعل أو الجريان عليه، وذلك ثلاثة أبنية، أحدها: صفف وما كان نحوه، ومراده ما كان على هذا الوزن وهو وزن فعل كصرد، فمثل هذا لا يدغم، فتقول: سرر، ودرر، وحلل، وحمم، وقنن، وجدد، وما أشبه ذلك. ولا يجوز أن تقول: سر، ولا در في درر، وأما در فهو فعل لا فعل. والصفف: جمع صفة، والصفة من الرحل والسرج: التي تضم العرقوتين والبدادين من أعلاهما وأسفلهما. هذا تفسير ابن سيده، والجمع صفف، وهو القياس، ويجمع أيضا على صفاف سماعا. وصفة البنيان أيضا: طرته، والصفة: الظلة كالسقيفة. والثاني: ذلل وما كان نحوه مما هو على وزنه، وهو وزن فعل كطنب، فمثل هذا لا يدغم أيضا نحو: سرر، وجدد، والذلل: جمع ذلول، والذلول: هي الدابة اللينة غير الصعبة، يقال:
دابة ذلول بينة الذل- بالكسر- من دواب ذلل، ومنه قوله تعالى:{فاسلكي سبل ربك ذللا} ، أي: سهلة غير صعبة.
وأما قولهم: نخلة عميمة، ونخل عم .. وأصله عمم، كسفينة وسفن، لكنهم لم يقولوا: عمم- فإنه ليس إدغامه من عمم، وإنما أدغم من تخفيفه، لأن فعلا في جمع فعيلة يجوز تسكين عينه تخفيفا، وإذا خفف وجب الإدغام لسكون أول المثلين.
فإن قيل: فكان ينبغي أن يأتي فيه عمم على الأصل؟
فالجواب: أنه لا ينكر أن تقتصر/ العرب في مثل هذا على أحد الوجهين لما فيه من خفة الإدغام.
والثالث: كلل وما كان وزنه أيضا مما هو على فعل كعنب، وذلك: عدد، وقدد، وسلل، ومرر، وعلل، وما كان نحو ذلك، فكله غير مدغم أيضا. والكلل: جمع كلة؛ وهي الستر الرقيق يخاط كالبيت يتوقى فيه من البق. هذا قال الجوهري.
والنوع الثاني: (ما كان على وزن فعل كقوله): لبب، وما كان نحوه مما هو على فعل كجبل لا يدغم أيضا، فتقول: سبب، وطلل، وشرر، ومدد، وعدد، وسنن، وما كان نحو ذلك. واللب واللبة: المنحر، وهو موضع القلادة من الصدر، من كل شيء. واللبب أيضا: ما يشد على صدر الدابة أو الناقة يمنع
الرحل من الاستئخار، ويقال: فلان في لبب رخى: إذا كان في حال واسعة. وقال الأحمر: اللبب: ما استرق من الرمل، لأن معظمه العقنفل، فإذا نقص قيل: كثيب، فإذا نقص قيل: عوكل، فإذا نقص قيل: سقط، فإذا نقص قيل: عداب، فإذا نقص قيل: لبب، قال ذو الرمة:
براقة الجيد واللبات واضحة
…
كأنها ظبية أفضى بها لبب
واعلم أن الأوزان الثلاثية على قسمين، أحدهما: أن تشترك فيها الأسماء والأفعال. والثاني: أن تختص بالأسماء ولا مشاركة للأفعال فيها، وقسم ثالث ليس بمراد هنا، وهو المختص بالأفعال، لأنه مدغم مطلق ما لم يعرض مانع. فاما قسم الاشتراك فقد ظهر- من حيث لم يستثنيها الناظم من الحكم بالإدغام- أنها مدغمة، وهي: فعل، وفعل، وفعل، وفعل.
(أما فعل) فقد استثناه، وأما فعل فتقول فيه من اللب: لب، ولا تقول: لبب. وأما فعل فكذلك إذا بنيته من اللب تقول: لب. (و) من هذا قولهم: رجل صب، وهو فعل بدليل قولهم: صببت- يا هذا- تصب صبابة، مثل قنعت قناعة، فكما أن اسم الفاعل من هذا قنع، فكذلك صب فعل. وقالوا: طب وطبيب، فطب فعل، لأن فعلا وفعيلا يكثران بمعنى واحد كفرح وفريح، ومذل ومذيل.
وقد شذوا فقالوا: رجل ضفف الحال، وقوم ضففو الحال. والوجه أن يقال: ضف الحال وضفو الحال، وهو الأشهر في الاستعمال، وهو فعل بدليل الضفف في المصدر. وحكى ابن جني أيضا عن أبي علي أن أبا زيد حكى عنهم: طعام قضض: إذا كان فيه الحصى. وأما فعل فلو بنيت مثل دئل من اللب لقلت: لب، فتدغم. ولم يسمع فعل، ولا فعل من المضاعف جاء على أصله. وإنما فرقوا بين القبيلين فأدغموا ما وافق الفعل دون الآخر، لأنهم جعلوا إعلال التضعيف الذي هو الإدغام كإعلال حرف اللين عينا، فكما أن ما جاء من الأسماء على مثال الفعل أعل كباب وخاف لأنه كقال وخاف، كذلك فعلوا في التضعيف، وكما لم يعل نحو بيض وعوض ولومة ونحوها مما ليس على وزن الفعل كذلك لم يدغموا ذللا ولا كللا ولا صففا، لأنها ليست/ على مثال الفعل، لأن الإعلال في الأسماء بالحمل على الإعلال في الأفعال، والإعلال فيها أصل، لأن التصريف لها بحكم الأصل. وبقى وجه تصحيح فعل كلبب مع أن وزنه من المشترك، فكان الوجه أن يدغم، لأنهم قد أعلوا بابا ودارا ونحوهما. والذي ذكروا في وجه ذلك أن الفتحة لما خفت عليهم لم يكرهوا ظهور التضعيف، كما كرهوه مع غيرها. وأيضا إذا صححوا نحو القود والخونة والحوكة- وإن كان شاذا- فتصحيح نحو طلل وشرر أولى، لأن الإعلال في حروف العلة ألزم منه في حروف الصحة. هذا ما في الثلاثي
من الأسماء، وأما الأفعال ثلاثية كانت أو غير ثلاثية فقد دخلت له في حكم الإدغام، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
والنوع الثالث: ما كان مثل جسس وما أشبهه مما فيه مانع من الإدغام كمانع جسس وهو الإدغام الموجود، فإن الكلمة ذات ثلاثة أمثال، فسبق إدغام الأول في الثاني لأنه ساكن بحق الأصل فصار جسس هكذا، فلو رمت إدغام السين الثانية في الثالثة لوجب زوال إدغام الأول في الثاني، إذ لا يدغم حرفان في ثالث أبدا، فصار إلى نحو مما كان عليه قبل هذا العمل؛ إذ لابد فيه على أي وجه حملته في الإدغام من بقاء مثلين غير مدغمين فلم يكن للعمل فائدة، فكان تركه على حالته الأولى أولى. ومثله: ردد يردد، وخلل يخلل، وهو مردد ومردد، ،مخلل ومخلل، وكذلك ما أشبهه، ولا يمكن إدغام الحرفين معا في الثالث فيصير ردد إلى رد، وجسس إلى جس، لأنه إخلال بالكلمة ووقوع في اللبس إن حذف أحد المدغمين، وإن أبقى التقى ساكنان على غير شرطهما. وذلك كله ممنوع. وقد حكي عن أبي عمرو الإدغام في (مس سقر) و (تم ميقات)، وما أشبهه من المنفصل، فقد يقال: إذا فعل ذلك في المنفصل فالمتصل أقرب، لأن الإدغام (فيه ألزم، إلا أن يجاب بأن الإدغام في المنفصل) ليس على ظاهره، والإلزام المحذور المذكور، وإنما هو على نية الوقف
على الكلمة الأولى، ويجوز التقاء الساكنين في الوقف لعروضه، ومثل هذا لا يتأتى في المتصل، فلا يصح فيه الإدغام البتة. أو يكون- وهو الأولى- على أن ما حكى من الإدغام إخفاء في الحقيقة لا إدغام، وعلى هذا يجوز في المتصل والمنفصل، ولا يكون داخلا على الناظم على كلا الوجهين.
والجسس: جمع جاس أو جاسة، من قولك: جسه بيده، أي: مسه.
والنوع الرابع: اخصص أبي، وما كان نحوه، ومراده بهذا المثال أن الثاني من المثلين إذا كان متحركا بحركة عارضة فإنه غير موجب للإدغام، وذلك أنه قدم أن المثلين لابد أن يكونا متحركين، فلابد إذا من تحرك الثاني، لكن إن كانت حركته عارضة لم يعتد بها في حصول الإدغام، بل يعد كأنه باق على أصله من السكون، وإذا كان ساكنا لم يسغ الإدغام، فكذلك إذا كان في تقدير السكون. لكن هذا الذي ذكر من منع الإدغام ليس على إطلاقه، بل لابد من مقدمة تبينه، وذلك أن الفعل/ المضاعف المجزوم وفي معناه الموقوف- وبه مثل الناظم- للعرب فيه لغتان، فلغة بني تميم الإدغام مطلقا، فيحركون الثاني لأنه وإن كان ساكنا فإنه مما يتحرك على الجملة وليس مما تمتنع فيه الحركة. وهذه
اللغة لم يتعرض إليها الناظم؛ إذ ليس المثال إلا مظهرا فيه التضعيف. واللغة الثانية لأهل الحجاز، وهي الإظهار، ومنه قوله تعالى:{واغضض من صوتك} ، (وذلك من جهة أن الإدغام يقتضي تسكين الأول من المثلين ونقل حركته إلى ما قبله، وقد كان الثاني منهما ساكنا للجزم أو الوقف، فيؤدي الإدغام إلى التقاء الساكنين على غير شرط اجتماعهما، فلما كان ذلك كذلك امتنعوا من الإدغام) وعلى هذه اللغة جاء تمثيل الناظم، وهذا السكون قد يتحرك بحركة عارضة، وذلك إذا لقيه ساكن بعده من كلمة أخرى فيتحرك نحو اخصص الرجل، واردد (ابن فلان، وقد تنقل إليه حركة همزة تقع بعده فيتحرك نحو: اخصص أبي- وهو مثال الناظم- ولم يردد أبلك، واردد) احمر، وما أشبه ذلك. فيقول القائل هنا: إذا كانوا يمتنعون من الإدغام لأجل سكون الثاني فما هو متحرك فليدغموا. فأخبرك الناظم بأن هذا التحريك غير معتبر لكونه عارضا يزول بزوال الكلمة الثانية فلم يعتدوا به من حيث كان في تقدير الزوال، (و) الأصل السكون، فاعتبروه كما لو كان موجودا.
هذا ما أراده الناظم بهذا المثال، لكن لم يبين أن هذا مخصوص بأهل الحجاز، وإنما بين أن هذا التحريك في مثل هذا المثال المقول لا يسوغ الإدغام. وقد ذكر إثر هذا جواز الوجهين في مثل: اخصص ونحوه.
ومن الغريب في هذه الحركة العارضة أنها موجبة للإدغام عند بني تميم وإن لم توجد، غير موجبة له عند أهل الحجاز وإن وجدت، وذلك من حيث
اعتبرها بنو تميم فساغ لهم الإدغام، إذ لو اعتبروا حال الكلمة لم يجز لهم لأجل الساكنين، ولم يعتبرها الحجازيون لعروضها فلم يسغ لهم الإدغام، فهذه حركة طارئة يقدر وجودها فتوجب حكما، وإذا وجدت منعته، لكن بلحظين مختلفين. ولأجل ما تقرر جب أن يضبط قوله:"واخصص أبي" مسهل الهمزة مع نقل حركتها إلى الصاد، إذ لا يصح تنزيل المسألة على غير ذلك، فلا تأتي بالهمزة على أصلها أصلا، وهذا ظاهر.
والنوع الخامس: هيلل وما كان مثله مما قصد به قصده، وذلك أن تكون الكلمة التي فيها المثلان قد ألحقت بكلمة أخرى فوجب فيها من أجل ذلك مقابلة (المتحرك) بالمتحرك والساكن بالساكن، على ما هو مقرر في فصل الإلحاق من الكتب المبسوطة، فيجب إذا إن كان المثلان في مقابلة متحركين أن يكونا متحركين، كما أنهما إذا كانا في مقابلة ساكن ومتحرك أن يكونا كذلك، فهيلل فعل ماض بمعنى هلل، إذا قال: لا إله إلا الله، وهو ملحق بدحرج، فقابلت اللامان منه الراء والجيم، فوجب الإظهار، ولو لم يكن ملحقا به لأدغمت، كما قلت: أعد، وأجد، وأسر، إذ لم يقصدوا هنا الإلحاق، إذ لا يلحق بالهمزة وحدها، ولا بالميم أيضا وحدها في الأسماء إلا مع مساعد، فلما قصدوا حافظوا على الوزن فأظهروا التضعيف وإن ثقل عليهم، لأن في إدغامهم مع قصد الإلحاق نقض الغرض، فقالوا: جلبب، وهو ملحق بدحرج كهيلل، وكذلك:
اسحنكك/ ملحق باحر نجم، ولذلك لا يجوز أبدا أفعل مفكوكا، لأن الهمزة لا يلحق بها كما تقدم. ولذلك لا يفك فعل ونحوه، لأن المثلين فيه أصلان ولا زيادة فيه، ولذلك أيضا ادغم احمر واصفر واقشعر واحمار، غذ ليس لها أصل تلحق به. ولما كان قصده التنبيه على ما فك لأجل الإلحاق لم يقتصر على مثاله المخصوص، لظهور العلة، فدخل له في مقتضاه الأسماء التي حصل فيها الفك للإلحاق نحو: قردد ومهدد ويأجج لإلحاقها بجعفر، وعفنجج وخفيدد لإلحاقهما بسفرجل، وقعدد لإلحاقه ببرثن، وسؤدد وعندد وسردد لإلحاقها بحخدب وجندب على مذهب الأخفش والناظم، أو بعنصل على مذهب سيبويه، وقد تقدم، وكذلك ما أشبه هذا. ومما يبين أن الإظهار لم يكن إلا لهذا المعنى أنك لا تجده إلا على زنة الأصول، وكل ما ورد من ذلك في الفعل فتصريفه على نحو تصريف الملحق به لا يخالفه في جميع تصاريفه، والاسم في ذلك حكمه حكم الفعل، فتقول في الفعل: جلبب يجلبب جلببة فهو مجلبب، كما تقول: دحرج يدحرج دحرجة وهو مدحرج، فتأتي به في المضارع والمصدر وغيرهما على حد ما تأتي (به) في الآخر. وكذلك تقول في قردد: قرادد وقريدد، كما تقول: جعافر وجعيفر، فتجمعه على فعالل كما تجمع الرباعي. وتظهر التضعيف ليكون كالملحق به، ولا تدغم فتقول: قراد، ولا قريد. فهذا كل مما يدل على ذلك القصد.
فإن قيل: قد زعم سيبويه أن معدا ميمه أصلية، فهو إذا فعلل، فنقلت حركته وأدغم، فلم لم يظهر كقردد؟
فالجواب: أن سيبويه قد زعم أن معدا ليس فعللا في الأصل ثم أدغم، وإنما هو فعل أصل بناء، كما أن خدبا فعل.
فإن قيل: ولعل خدبا فعلل في الأصل، ثم أدغم.
قيل: قد زعم سيبويه أنه لم يأت في الكام فعلل كقردد.
ثم قال: "وشذ في ألل ونحوه فك بنقل"، يعني أن ألل وما كان مثله من الفعل بابه أن يدغم، وما جاء على غير ذلك فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وهذا المثال من الثلاثي لأنه الذي جاء فيه الإظهار، وألل على فعل، كان أصله أن يقال:(أل): ألل السقاء: إذا تغيرت رائحته، وأللت أسنانه أيضا: فسدت، وأللت الأذن: إذا رقت. ومثل ذلك قولهم: "لححت عينه: إذا التصقت، وصككت الدابة، وضبب البلد: كثرت ضبابه، ومششت الدابة، وقطط شعره". ومن ذلك في الاضطرار قول قعنب بن أم صاحب، أنشده سيبويه:
مهلاً أعاذل قد جربت من خلقي
…
أني أجود لأقوام وإن ضننوا
وقد أجاز ابن السراج فك المدغم في الشعر مطلقا نحو: ردد في رد، وما أشبه ذلك. (و) لم أر هذا الشذوذ جاء في فعل ولا فعل، على أن فعل في المضاعف نادر، حكى ابن جني منه لفظين: لببت يا هذا، عن يونس، وشررت في الشر، عن قطرب. ومن الناس من يعد الضرورة قسما مسوغا للفك/، فيعده من أنواع ما خرج عن حكم الإدغام، وهو على طريقة ابن السراج ومن ذهب مذهبه، ويعد ما جاء في الكلام من الشاذ منبهة على الأصل، فيجعلون هذين نوعين، فإذا اعتبرنا ما اعتبروا عددنا ما نبه عليه المؤلف من الشذوذ نوعا سادسا. ولكنه ذكره هنا مختصا بالفعل لأنه به مثل، ولا فرق بين الفعل والاسم في هذا، فقد عدوا الشذوذ في الاسم منه، وأنشدوا عليه لرؤبة، وأنشده سيبويه، ثبت ذلك في الرقية:
الحمد لله العلي الأجلل
…
أنت مليك الناس ربا فاقبل
وأنشد ابن السراج:
قد علمت ذاك بنات ألببه
يريد: بنات أعقل هذا الحي، أي: ألبه، وغير ذلك من الأمور التي مضت وسيأتي جملة منها إن شاء الله.
ويشمل كلام الناظم في الشطوط القسمين، وما جاء منبهة على الأصل، وهو الآتي في النثر، وما جاء في الشعر ضرورة، لأنه شاذ كله عما ثبت في القياس.
وقوله: "بنقل" في موضع الصفة لفك، (أو) في موضع الحال منه أي: ملتبس بنقل، أو حالة كونه ملتبسا بنقل. وأراد بذلك أنه موقوف على النقل لا أنه قياس.
فإن قلت: قوله "بنقل" حشو، لأن قوله:"وشذ" مجزئ عنه، إذ عادته أنه حيث يقول: وشذ، فمعناه أنه موقوف على السماع. وأيضا فقوله:"فقبل" حشو أيضا؛ إذ معلوم أن ما كان بابه النقل مقبول على ما هو عليه إلا أنه لا يقاس عليه، وليس من عادته الإتيان من الكلام بما لا فائدة فيه.
والجواب: أنه يمكن أن يكون قصد بهذا اللفظ تنكيتا على مسألة وذلك أن الشاذ في الاصطلاح على ثلاثة أقسام: شاذ في القياس دون الاستعمال، وشاذ في الاستعمال دون القياس، وشاذ فيهما معا. فأما الشاذ في القياس دون الاستعمال فمثله ابن جني بقولهم: أخوص الرمث، واستصوبت الأمر، واستحوذ، وأغيلت المرأة، ونحو ذلك؛ إذ هو كثير في السماع مطرد
فيه، وأما في القياس فخارج عنه، إذ القياس الإعلال. وأما الشاذ في الاستعمال دون القياس فمثله بالماضي من يذر ويدع، واسم الفاعل من أبقل المكان، إذ المستعمل باقل، ومبقل شاذ، وكذلك ودع شاذ في الاستعمال. وأما الشاذ فيهما فمثله بتتميم مفعول مما عينه واو نحو: ثوب مصوون، ومسك مدووف، وفرس مقوود، ورجل معوود. فأما الأول فمتبع فيه العرب مطلقا، وكذلك الثالث. وأما الثاني فهي متبعة فيه في المنطوق به خاصة دون ما سكت عنه، فلك أن تقول (أنت): وزن ووعد لو لم تسمعهما. ولا تمتنع منها، ولا من غيرهما قياسا على ما تركته العرب. وإذا كان كذلك فقد يكون الناظم أراد هنا أنه شذ في الاستعمال لا في القياس، لأن المستعمل منه شيء يسير والقياس قابل له. وبيان ذلك أنا نظرنا ما سمع من ذلك فوجدنا ذلك الاستعمال فيه إنما هو فعل- بكسر العين- دون فعل وفعل، ثم إنا وجدنا غالب ما استعمل منه في فعل إنما هو فيما كان من باب الخلق والعيوب/، ألا ترى إلى قولهم: لححت عينه: إذا التصقت بالرمص، وهو عيب فيها، وقالوا: صككت الدابة: إذا قرع أحد عرقوبيها الآخر وضاقا، وذلك عيب أيضا. وضبب البعير: إذا وجعه فرسنه، وألل السقاء: إذا تغيرت ريحه، وأللت الأذن: إذا رقت، وذلك أيضا راجع إلى الخلق والعيوب. وقالوا: مششت الدابة مششا، وهو شيء يشخص في وظيفها حتى يكون له حجم وليس له صلابة العظم الصحيح، وهو عيب ظاهر، وقطط شعره قططا، وهو أشد الجعودة، وهو من الخلق والعيوب أيضا. وهذا غاية ما ٍرأيت من هذا القبيل منقولا، وجميعه- كما
ترى- راجع إلى باب الخلق والعيوب، ولم أجد ما هو بعيد الدخول فيه إلا قولهم: ضبب البلد: إذا كثرت ضبابه، ولا يبعد أن يعد مثل هذا كالعيب للأرض. وإذا كان كذلك فقد تقدم لنا أن ما كان من الخلق والألوان على فعل مما عينه معتلة فإنه يصحح ولا يعل نحو: عور، وحول، وهيف، وعين، وخوص، وخيف، حملا له على مرادفه الذي هو افعل، فكذلك كان القياس في المضاعف لأنهم مما يجرون المضاعف مجرى المعتل، فيصححون حيث يصح المعتل، ويدغمون حيث يعتل. هذا هو الغالب كما هو مقرر عندهم، فحيث وجد شيء من المضاعف على فعل وهو من باب الخلق والألوان فك، لكنهم لم يفعلوا ذلك بل أدغموا ما كان كذلك ولم يظهروه إلا قليلا، فقالوا: غم الرجل يغم غما: إذا كثر شعر وجهه وقفاه. وغم الفرس غمما: كثر شعر ناصيته. وجمت الشاة. جمما: لم يكن لها قرون. وجش الصوت يجش جششا: صارت فيه كالبحة. ولست أسنانه كسسا: تقدمت السفلى العليا. وسكت الأذن تسك سككا: صغر قوفها وضاق صماخها. وشق الفرس شققا: إذا مال في جريه إلى جانب، وشلت يمينه تشل شللا: بطلت، وشج يشج شججا: إذا بقى في جبهته أثر الشجة. وصم يصم صمما: إذا ذهب سمعه. وضز يضز ضززا: إذا لحق حنكه الأعلى بالأسفل. ولص الرجل لصصا: إذا اجتمعت منكباه حتى يكادا يضربان أذنيه. وكذلك إذا تقاربت أضراسه. ورح الحافر والقدم رححا: إذا انبسطا، وهو في الحافر محمود إلا أن ينبسط جدا فمذموم. ودن البعير دننا: إذا قرب صدره من الأرض فهو أدن، وهو من أعظم العيوب. ومن هذا كثير. فأنت ترى
اتساع الإدغام في هذا الباب مع أن القياس فيه أن لو كان مفكوكا كله كما كان الباب في المعتل العين التصحيح. فهذا- والله أعلم- هو الذي قصد الناظم التنكيت عليه، كأنه قال: وشذ في فعل- مما هو من قبيل ألل- الفك استعمالا حالة كونه منقولا، أي: شذ (في) النقل وإن كان في القياس غير شاذ. ولأجل هذا أتى بألل الراجع في المعنى إلى العيوب، وعلى هذا يكون لقوله:"فقبل" فائدة، وهي أن ما شذ في الاستعمال دون القياس قد يظن فيه أنه يعمل فيه القياس، وليس كذلك، لأن كلامها جاء مخالفا له، فالذي كان الأصل هذا الباب أن يأتي المضاعف مفكوكا لا مدغما، وإن أتى مدغما فيكون شاذا، فانعكس هذا الأصل عندها/، فصار الأصل شاذا، وغيره هو المطرد، فلابد لنا من اتباعها حيث سارت، وترك القياس، وتلقى ما جرت عليه بالقبول. فقد ظهر بهذا التقرير أن كلامه لا حشو فيه.
وحيى افكك وادغم دون حذر
…
كذاك نحو تتجلى واستتر
أما قوله: "وحيى افكك وادغم" فهو النوع السابع من الأنواع المستثناة، وأشار بهذا المثال إلى ما كان التضعيف واجتماع المثلين فيه لا يلزم في جميع تصاريف الكلمة، وذلك أنك تقول في المضارع: يحيا، فلا يجتمع المثلان، لانقلاب الثانية ألفا، فلما كان كذلك لم يراعوا الاجتماع تلك المراعاة، فلم يلزموا الإدغام كما لزم في رد وشد وصب وعض وما
أشبه ذلك، لما كان التضعيف فيه لازما في التصاريف كلها، فكان ما يزول في بعض التصاريف أخف عليهم مما هو لازم، لأنه صار كالعارض الذي لا يعتد به، قال سيبويه:"اعلم أن آخر المضاعف من بنات الياء يجري مجرى ما ليس فيه تضعيف من بنات الياء، ولا يجعل بمنزلة المضاعف من غير الياء، لأنها إذا كانت وحدها لاما لم تكن بمنزلة اللام من غير الياء، فكذلك إذا كانت مضاعفة، وذلك نحو: يحيا ويعيا، ويحيى، (ويعيى)، أجريت ذلك مجرى يخشى ويخشى". هذه هي العلة في خروج هذا القبيل عن لزوم الإدغام، وعلى هذا التعليل يدخل له تحت هذه الإشارة كل ما كانت الياءان فيه لا تلزمان في التصاريف، فجرى فيه الحكم المذكور. فقوله:"وحيى افكك وادغم" يريد أن ما كان من هذا النحو يجوز فيه الوجهان، لكنه لم يرجح بين الوجهين، وقال سيبويه:"والإدغام أكثر، والأخرى عربية كثيرة". فوجه الإظهار ما تقدم من معاملة التضعيف حين لم يلزم معاملة العارض، وأما الإدغام فعلى قياس الصحيح. ومن السماع في الوجهين قوله تعالى:{ويحيا من حيى عن بينة} ، قرأ بالإظهار نافع والبزى وأبو بكر، والباقون بالإدغام. ومن الإدغام في الشعر ما أنشده سيبويه من قول الشاعر:
عيوا بأمرهم كما
…
عيت ببيضتها الحمامة
وأنشد في الإظهار:
وكنا حسبناهم فوارس كهمس
…
حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا
أصله: حييوا، فأعل حتى صار مثل رضوا.
وكلام الناظم في المسألة مجمل يتفسر بتفصيل يبين المقصود فنقول: إن المضاعف الثاني من المضاعفين في حيى ونحوه إما أن يكون ساكنا أو متحركا، فإن كان ساكنا لم يجز إدغامه بوجه مثل: حييت وعييت، لأن من شرط الإدغام تحرك الثاني أو تقدير تحركه، فإن كان سكونه لا يقبل الحركة لم يدغم، وهذا عام في الإدغام كله، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، ومثاله قد نبه على هذا، إذ كان المضاعف الثاني منه متحركا ولم يكن ساكنا.
وإن كان الثاني متحركا فلا يخلو أن تكون الحركة حركة إعراب أو حركة بناء، فإن كانت حركة إعراب لم يجز الإدغام أيضا، لأن تلك الحركة غير لازمة، كالمضارع في حال النصب إذا قلت: يحيى، كقوله/ تعالى:
{أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} لأنه في حال الرفع ساكن، وفي حال الجزم محذوف، فجاءت في حال النصب عارضة فلم يعتد بها. وكذلك إذا قلت: رأيت محييا، لأنه في الرفع والخفض ساكن فلا تقول: أن يحى، ولا محيا. وقد نبه على هذا أيضا تمثيله؛ إذ حركة حيى حركة بناء لا حركة إعراب، وقد شذ من هذا قول الشاعر أنشده في التذكرة:
وكأنها بين النساء سبيكة
…
تمشي بسدة بابها فتعى
وفيها: وقال: فلان يريد أن يحى أرضه، يدغم ولا يدغم. ووجه الكلام ألا يدغم، يبقى على سكون الياء في الرفع. قال: ولو بنيت الرفع على النصب فاستجزت فيه الإدغام في الواحد وفي الجمع لجاز ذلك فقلت: هو يحى ويعى، فترفع الياء، قال: وتحتج بأن تقول: كرهت أن يكون حرف في نصبه بياء واحدة مشددة، وفي رفعه بياءين الأخيرة منهما ساكنة. ويقويك على ذلك أنهم قد قالوا في الواحد: مد ورد، بناء على الأثنين والجمع، وأنشد البيت، قال: وتقول على هذا في المجزوم: لم يعى، فتنصب مثل: لم يفر، وإن شئت قلت: لم يعى، مثل: لم يفر. قال: والذي تختاره العرب في الجزم: لم يعى. قال: وسمع
الكسائي العرب تقول: إبل معاي، يا هذا، وهو رفع، بني على تغير معي. قال: فإن قلت: فمن أراد أن يؤلف فعل ويفعل على الإدغام ويكره أن يكون حي مدغمة ويحيى غير مدغمة، هل يجوز (له) أن يقول: هو يحى؟ قلت: ما أبعد ذلك، وما أحفظه مسموعا عن العرب! وإن ثنيت فقلت: يحييان ويعييان كان الإدغام فيها سهلا، والوجه ألا تدغم. انتهى ما وجدته، وهو مشعر بجواز الإدغام وإن كانت الحركة حركة إعراب، وإنما أجازه من أجازه قياسا ولا سماع فيه إلا ما ذكر من الشذوذ، فلا يعتبر.
وإن كانت الحركة حركة بناء فلا يخلو أن تكون متطرفة أو غير متطرفة، فإن كانت متطرفة جاز. الإظهار والإدغام كما تقدم نحو: حيى، وأحيى، وحيى. وفي الإدغام: حى، وأحى، وحى. وهذان الوجهان صريحان من عقده وتمثيله. وإن كانت الحركة غير متطرفة فلا تخلو أن يقع بعدها ما لا يعتد (به) في بناء الكلمة أو ما يعتد (به)، فإن وقع بعدها ما لا يعتد له في بناء الكلمة عليه فلا حكم له، وكأنه لم يقع، وحكم الكلمة بعد دخوله كحكمها قبل ذلك، مثاله علامة التثنية والجمع كقولك: محييان وحييان. فهذا وأمثاله لا يجوز الإدغام فيه إذ كان المفرد غير مدغم، وكذلك لو سميت امرأة بحيا فجمعها بالتاء فقلت: حييات، لوجب الإظهار، وكذلك محييات في جمع محيية؛ إذ كانت محيية تأنيث محي لا يدغم أيضا لأن التاء عارضة للبناء، والمذكر لا يدغم لأن المضاعف
الثاني ساكن، وإذا تحرك (تحرك) بحركة إعراب حالة النصب، فصارت الحركة عارضة فيه، (و) قد تقدم آنفا إجازة من أجاز الإدغام في هذا، والأصح خلافه. وهذا كله ظاهر من تمثيل الناظم وجوب إظهاره على ما تقدم من اشتراط تحرك الثاني. وإن وقع/ بعدها ما يعتد به جاز الوجهان، وذلك إذا بنيت الكلمة على تاء التأنيث كأحيية، لأن أفعلة لا يوجد بغير تاء، وتقول- إن شئت-: أحية. وكذلك ألفا التأنيث تقول: عيى وأعيياء، وحيى وأحيياء. وإن شئت أعياء وأحياء. وقال الخليل: أقول في مثل فعلان من حييت، حييان (وتسكن) وتدغم إن شئت. ووجه الفرق بينهما ظاهر، وهو أن حركة المضاعف الثاني إذا صارت وسطا للحاق ما يعتد به صارت الحركة البنائية لازمة في ذلك الموضع، كما كانت الحركة في حيى الذي مثل به الناظم لازمة في ذلك الموضع، بخلاف الحركة في محييان فإنها عارضة بعروض علامة، التثنية والجمع.
فالحاصل من هذا أن الإظهار والإدغام هنا جائزان بثلاثة شروط، وهي: أن يكون ثاني المثلين متحركا، وأن تكون حركته بنائية، وأن تكون غير عارضة في الكلمة.
ثم قال: "كذاك نحو تتجلى". وهذا هو النوع الثامن من الأنواع المستثناة، وذلك إذا كان المثلان أول فعل نحو: تتجلى. ومثل هذا لا يكون أحد المثلين فيه إلا زائدا، لأن مثل ددن لم يأت في الفعل البتة. وهذا المثال الذي مثل به يشمل من حيث معناه الماضي والمضارع إذا كان
أولهما تاءان، فالماضي يقع ذلك فيه في تفاعل وتفعل إذا كانت الفاء تاء نحو: تتابع وتتارك، وتتبع. والمضارع يقع فيه إذا كان أول الماضي تاء ولحقت المضارع تاء الخطاب أو التأنيث، نحو: تتصارب وتتقارب، وتتكلم وتتجرأ، وما أشبه ذلك. فمثل هذا يجوز الوجهان فيه كما قال، (حيث) أشار إلى ما يجوزان فيه بقوله:"كذاك نحو تتجلى". أما الإظهار فكما تقدم في التمثيل، ويجتمع المثلان، ولا محذور فيه ولا كراهية، لأنه يشبه اجتماعهما من كلمتين، إذ الاجتماع هنا غير لازم، ألا ترى أن تاء المضارعة قد تزول ويؤتى بغيرها من حروف المضارعة، فدخولها عارض على الكلمة التي أولها تاء. وأيضا فإن تاء المضارعة لا يلزم أن (تدخل على ماض في أوله تاء، لأنها قد تدخل على ما فاؤه غير تاء، كقاتل وضارب، وسلم، وما أشبه ذلك، فصارت التاء التي بعدها عارضة لها أيضا من هذا الوجه، وكذلك تاء تفاعل وتفعل داخلة على فاعل وفعل وعارضة لهما لكونها إنما تدخل لمعنى ثم يعدم بانعدامه كحرف المضارعة. وأيضا تاء المطاوعة أو غيرها لا يلزم) أن يأتي بعدها تاء، فصارت كل واحدة منهما عارضة للأخرى، فصار المثلان في الجميع كأنهما من كلمتين، وإذا كانا من كلمتين جاز الإظهار، فكذلك ههنا يجوز الإظهار وأما الإدغام فجائز أيضا، فتقول في الماضي: اتابع، واتارك، واتبع، فتسكن الأول وتأتي لأجله بهمزة الوصل؛ إذ لا يبتدأ بساكن. وتقول في مضارعه: يتابع، ويتارك، ويتبع. وكذلك الأمر واسم الفاعل والمفعول. والإظهار في الجميع جائز. فهذا ما أجاز الناظم، إلا أنه أشار إلى شرط
(بالتمثيل بالفعل)، وهو كون ما المثلان فيه فعلا، تحرزا من أن يكون اسما، فإن الاسم لا يدغم، فتقول: ببر، ويين، وددن، ونحو ذلك. أما ما الثاني فيه ساكن فظاهر من هذه الجهة، ومن جهة ذلك السكون إذ قد شرط تحرك الثاني. وأما ددن ونحوه فلأنه لو أدغم لسكن الأول ولا يبتدأ بساكن، ولا يجوز أن تلحق ألف الوصل لأن مواضع لحاقها معلومة معدودة، وليس هذا منها.
ثم إن هذا الكلام فيه نظر من وجهين.
أحدهما: أن الفعل المضارع يظهر فيه تعذر الإدغام/ من جهة أن المضارع إذا لحقته تاء المضارعة فاجتمعت مع التاء الأخرى لابد من تسكين التاء الأولى لأجل الإدغام، فإذا فرضنا سكونها فإما أن يبقى المضارع على حالة فيلزم الابتداء بالساكن، وذلك لا يكون، وإما أن تدخل همزة الوصل ليبتدأ بها، وهمزة الوصل لا تلحق المضارع أبدا، إذ لم يأت في كلامهم المضارع أصل بناء، فلذلك لا يدغم البتة، بل يبقى على حاله، فتقول: تتضارب وتتقاتل، ونحو ذلك. نعم، يجوز حذف إحدى التاءين على ما سينبه عليه الناظم إثر هذا. فعلى الجملة لا يصح إذا دخول المضارع في هذا الحكم، لكنه قد مثل به، وأحال به على جواز الإدغام، لقوله:"كذاك نحو تتجلى واستتر". فظهر أن كلامه غير صحيح.
والثاني: أن تمثيله بالفعل لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون اتفاقيا ولا يريده بخصوصه، بل يريد أن كل ما اجتمع أوله المثلان جائز
فيه الوجهان. وهذا غير صحيح، إذ يدخل عليه جواز الإدغام (فيما كان كذلك من الأسماء غير الجارية على أفعال كددن ونحوه. وقد تقدم أن مثل ذلك لا يدغم) وإما أن يكون إتيانه به قصدا منه، ويكون ذلك شرطا في جواز الوجهين كما تقدم، لكنه يقتضي أن الاسم كيف كان لا يثبت له ذلك الحكم. وهذا الاقتضاء غير مستقيم، لأن ما جرى على الفعل من الأسماء على قسمين، أحدهما: اسم الفاعل، والمفعول، واسم المصدر، والزمان، والمكان. فهذا جار على الفعل في ذلك الحكم، فتقول: متارك ومتبع، ومتارك ومتبع، كما تقول: يتارك ويتبع، فتدغم. وتقول: متتارك ومتبع، ومتتارك ومتتابع، كما تقول: يتتارك ويتبع. والثاني: المصدر المشتق منه هذه الأشياء نحو التتارك والتتبع، فهذا لا يجوز فيه الإدغام، بل يلزم الإظهار. والمانع من ذلك عندهم أن ألف الوصل أصلها ألا تلحق من الأسماء إلا الأسماء الجارية على أفعالها نحو الاستخراج، والاقتدار، والتفاعل والتفعل ليسا بجاريين على أفعالهما تفاعل وتفعل، ولو أرادوا الجاري لقالوا: تفيعالا وتفعالا، لأن الجاري على فعله هو المكسور أوله المزيد قبل آخره ألف. وأما ابن واسم فإنما لحقتها وأخواتهما ألف الوصل عوضا من المحذوف. وإذا لم تلحق المصدر ألف الوصل لم يكن إلى الإدغام سبيل، لما يلزم من الابتداء بالساكن. فقد تلخص أن كلام الناظم غير مخلص.
ونظر ثالث، وهو أن تتجلى لا يخلو أن يعتبر وزنه المخصوص، أو لا يعتبر وإنما يعتبر اجتماع التاءين في أوله، فإن اعتبر وزنه المخصوص خرج عن حكمه تتفاعل ولم يدخل له تحت إشارته إلا ما كان نحو تتفعل. وأيضا لا يدخل له الماضي إذا اجتمع في أوله مثلان وذلك كله غير صحيح. وإن لم يعتبر إلا
التضعيف في أوله لزم أن يدغم نحو: تتابع وتتارك المحذوفي الفاء من تتتارك وتتتابع إذ قد اجتمع مثلان في فعل مضارع، فصار مثل تتجلى، فاقتضى الإدغام، وذلك لا يجوز، إذ لا يبتدأ بساكن، ولا يسوغ الإتيان بهمزة الوصل، لأنه لا نظير له في المضارع. وإذا ثبت هذا فكلام الناظم في غاية الإشكال.
والجواب عن الأول: أن عدم لحاق همزة الوصل الفعل المضارع لا يمنع الإدغام إذا كان ثم ما يقوم مقامها، وذلك أن في المضارع وجهين، أحدهما: حذف إحدى التاءين، وسيأتي للناظم. والأخر: الإدغام إذا كان قبل المثلين مدة تقوم/ مقام الحركة من كلمة أخرى أو حركة، وذلك كقراءة البزى:(فلا تناجوا)، (ولا تنازعوا)، (ولا تبرجن)، (ولا تناصرون)، فإنه هنا يدغم ويعتد بالاتصال العارض، فتصير الكلمتان عنده كدابة وشابة. وكذلك:(لتعارفوا) و (تكاد تميز) و (فتفرق بكم عن سبيله)، (فإذا هي تلقف)، قال سيبويه:"وأما قوله تعالى جده: {فلا تناجوا}، فإن شئت أسكنت الأول للمد، وإن شئت أخفيت وكان بزنته متحركا". قال: "وزعموا أن أهل مكة لا يبينون التاءين". وقد أشار الناظم إلى نفي هذا الإشكال
المورد، وعدم الالتفات إليه، بقصده إلى التمثيل بالمضارع، وإلا فكان يمثل بالماضي ويحصل المقصود، لكنه عدل إلى ذلك تنبيها على أن المضارع يدخله الوجهان وإن توهم نفى ذلك، وإذا كان كذلك ووجد ما يقوم مقام همزة، الوصل لم يمتنع الإدغام بامتناعها.
والجواب عن الثاني: أن اسم الفاعل والمفعول وغيرهما قد علم جريانها مجرى الفعل المضارع في غالب الأحكام، وتكرر هذا المعنى في أبواب كثيرة، والأمر هنا كذلك، فلم يفتقر إلى بيانه لوضوح الأمر فيه. وأما المصدر فهو عند صاحب تلك الطريقة غير جار على الفعل، وإذا لم يكن جاريا عليه فقد فارق اسم الفاعل وغيره، وصار كددن ونحوه، فلا يجوز عنده فيه الإدغام، لما يلزم من لحاق ألف الوصل في غير موضعها كما ذكر قبل، ذكر هذه الطريقة ابن عبيدة في اختصار البسيط لابن أبي الربيع. وغالب الظن أن ابن أبي الربيع نص على ذلك في البسيط، ولم أره، لكني رأيته ذكر بعينه في الكافي شرح الإيضاح، ووجه المنع بما ذكر ابن عبيدة. والذي نص عليه سيبويه يقتضي أن احكم في التفاعل والتفعل جار بجواز الوجهين كالفعل من غير فرق، ولم يراع ما ذكر من عدم الجريان، ألا تراه قال: ومما يدغم إذا كان الحرفان من مخرج واحد وإذا تقارب المخرجان قولهم: يطوعون في يتطوعون، ويذكرون في يتذكرون". ثم قال:"وتقول في المصدر: ازينا، وادارؤا". ثم بنى على
قاعدة المتقاربين حكم المثلين، على خلاف ما فعله ابن عبيدة حيث منع من ذلك، ونص على ذلك السيرافي أيضا، ولم يحك فيه خلافا عن أحد، فالظاهر أن المسألة خلافية وما قيل من عدم الجريان ليس كذلك، لأنه على الجملة مصدر، والمصادر تجري في هذا الحكم مجرى أفعالها ويطلق عليها أنها جارية عليها، ألا ترى إلى قولهم: هذا المصدر جار على فعله، وهذا غير جار عليه، ونحو ذلك. والجريان أعم من الجريان الذي يطلق لاسم الفاعل في بابه، وإذ ذاك لا يبقى على الناظم اعتراض، لأن عبارته تقتضي دخول المصدر وإذ ذاك نقول: إن كل واحد من القسمين المفروضين في السؤال صحيح، أما على اشتراط/ كون الكلمة فعلا فظاهر، لأن المصدر من الأسماء الجارية على أفعالها في الأحكام كجريان اسم الفاعل والمفعول، أو نحو ذلك، أعني في هذه الأحكام التصريفية، بخلاف نحو ددن. وأما على عدم اشتراط ذلك وأن المثال إنما أتى به اتفاقيا فكذلك، لأن باب ددن في غاية الندور، وعدم الاعتماد به شهير في أحكام التأليفات، ومن عادته (عدم) الالتفات إلى أمثال هذه الأشياء، والغالب في الأسماء التي يقع المثلان في أولها أن تكون جارية على الأفعال فيحكم لها بحكم الأفعال.
والجواب عن الثالث: أنه لم يرد الوزن المخصوص بعينه لكن أراد ما هو مثله في أحواله، ومنها ألا يكون التاءان قد حذفت معهما تاء ثالثة، لأن تتجلى كذلك. وظهر أنه شرط ثان تحرزا من نحو تتابع الذي أصله
تتتابع، فإنك لا تقول فيه: اتابع، لأن الأولى تسكن فيلزم الابتداء بالساكن، ولا يجوز الإتيان بهمزة الوصل، لأنها لا تلحق المضارع كما تقدم.
فإن قلت: إن هذا ليس بعلة للمنع، فإنك قد تأتي بمد أو تحريك قبلها، فلم لا يجوز الإدغام كما جاز في نحو:(لا تناجوا) ونحو: (تكاد تميز) و (لتعارفوا) و (فتفرق بكم عن سبيله)، فتقول على هذا" أنت تابع، في: أنت تتابع، وهي تابع، في: هي تتابع. وكذلك: لا تابع يا هذا، وما أشبه ذلك.
فالجواب: أن الإدغام في مثل هذا على خلاف الأصل والقياس، لأنه بناء على الاعتداد بالعارض، والأصل ألا يعتد به، وإذا كانوا قد تركوا الإدغام في أحد الوجهين اعتبارا بعروض أحد المثلين في مسألتنا ونحوها، مع أن التاء قد صارت جزءا من الكلمة نحو: تتابع وتتالى، فما ظنك بالاعتداد بما هو من كلمة أخرى، لكنه سمع ذلك مع عدم الحذف، ولم يسمع مع الحذف فلا نقول به ولا نجيزه. وأيضا الإدغام يشبه الحذف إذ يصير به الحرفان كحرف واحد، فهو إذا اجتمع مع الحذف إخلال بالكلمة، فاجتنبوه. وأيضا لما امتنع فيه الحذف بعد الحذف فارق تتناجون ونحوه، فلما التزم فيه التاءان في جميع أحواله لم تلتفت تلك الحالة؛ إذ كان غير متعين في كثير من أحوال الفعل. وأيضا الإدغام ليس بأصل بل الأصل الحذف، فإذا امتنع الأصل امتنع الفرع. (و) بهذين استدل ابن الضائع.
والنوع التاسع: ما كان نحو استتر مما هو على افتعل وعينه تاء، وذلك قوله:"كذلك نحو تتجلى واستتر". يريد أن الوجهين جائزان فيه وهما الإظهار والإدغام، فالإظهار نحو: استتر، واقتتل، واختتن، وافتتن، وما أشبه ذلك. ويدخل تحت هذا الإطلاق كل ما جرى ذلك المجرى من المضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول وغيرها من الجاري على الفعل، فتقول: يقتتل، واقتتل اقتتالا، وهو مقتتل، ومقتتل بسيفه، وما أشبه ذلك، لأن علة الإدغام موجودة في الجميع. ووجه ذلك أن تاء افتعل زائدة وليس بلازم لها أن يكون عين الفعل من جنسها، فصار كون العين من جنسها عارضا، فلذلك جاز الإظهار، وبهذا المعنى فارق اقتتل باب احمر واحمار كان التضعيف والتقاء المثلين فيه لازما، بخلاف اقتل فإنه قد تقع بعد تاء افتعل العين والفاء وجميع حروف المعجم نحو: انتعل/ واختفى، وافتقر، واحتلم، واغتفر، واكتال، وما أشبه ذلك. وهذا معنى تعليل سيبويه. وأما الإدغام فجائز لأنه الأصل، إلا أن من أدغم من العرب يختلفون على وجهين:
أحدهما: نقل حركة التاء الأولى إلى الساكن وهو السين في مثال الناظم، ثم تدغم فتقول: ستر، فتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها، فيصير على وزن قطع. وعلى هذا تقول في المضارع: يستر، وفي اسم الفاعل: مستر، وفي اسم المفعول: مستر، وفي المصدر: ستارا على وزن كذاباً.
والثاني: ترك نقل حركة التاء بل تحذفها، فإذا التقى ساكنان السين والتاء كسر السين لالتقاء الساكنين، فتقول: ستر، وفي المضارع: يستر، وفي الفاعل: مستر، وفي المفعول: مستر، والمصدر: ستارا، كالأول في اللفظ والتقدير مختلف، فحركة السين في الأول حركة التاء المنقولة، وهي في الثاني حركة التقاء الساكنين. وهذان الوجهان هما الأصل في هذا العمل.
وثم وجه ثالث وهو كسر التاء إتباعا لكسرة السين فتقول: ستر، وفي المضارع: يستر، وفي اسم الفاعل: مستر- كالذي قلبه- ولا يتصور هذا في اسم المفعول ولا المصدر.
وعلى الوجه الأول قوله تعالى: {وجاء المعذرون من الأعراب} ، أصله: المعتذرون، وقوله تعالى:{تأخذهم وهم يخصمون} في قراءة ابن كثير وورش وهشام، وقرئ في غير السبع:{بألف من الملائكة مردفين} .
وعلى الوجه الثاني، والثالث جاء في قوله تعالى:{وهم يخصمون} في قراءة عاصم والكسائي وابن ذكوان. وفي غير السبع: (مردفين).
وعلى الوجه الثالث جاءت قراءة الحسن: (إلا من خطف الخطفة).
وبعد هذه الأوجه العامة جاءت أوجه أخر لا حاجة إلى ذكرها إذ لم يذكر الناظم منها شيئا، بل أهمل الوجه في الإدغام كما ترى، ففسر بما يمكن أن يقصد ذكره في هذا النظم. ولو أشار إلى شيء من هذه الوجوه لكان الاستيفاء لائقا بالشرح، فتركته حين تركة.
وقول الناظم: "وحيى افكك وادغم دون حذر"، جاء بادغم على افتعل، وهو الذي اختار السيرافي اتباعا لقول الشاعر:
إذا [فزعوا] ادغمن في اللجم
وقوله: "دون حذر"، يقال: حذرت الشيء أحذره حذرا، أي: تحرزت منه، وأيضا خفته. ومن الأول قوله تعالى:{وإنا لجميع حذرون} . ومن الثاني قول الشاعر، أنشده سيبويه:
حذر أمورا لا تضير وآمن
…
ما ليس منجيه من الأقدار
وأراد بهذا أن الوجهين جائزان مطلقا دون تحرز ولا خوف من الوقوع في ممنوع، وذلك أن هذه الأشياء التي ذكر ظاهر فيها موجب الإدغام، وهو اجتماع المثلين الثقيلين على اللسان، فكان الأصل وجوب الإدغام، فالناظر يحذر هنا أن يجوز الإظهار لهذا، فنبهه على أن الإظهار ليس مما يحذر ولا يستبعد، لأن له وجها من القياس وعاضدا من/ السماع، فلا تستنكره.
ثم استدرك في اجتماع التاءين في أول الكلمة حكما ثالثا لما تقدم من الوجهين فقال:
وما بتاءين ابتدى قد يقتصر
…
فيه على تاكتبين العبر
يعني أن ما ابتدئ من الكلم بتاءين اثنتين قد يقتصر فيه على تاء واحدة وتحذف الأخرى فتقول في تتذكر: تذكر، وفي تتكرم: تكرم، ومنه تمثيله: تبين العبر، أي: تتبين العبر. والعبر: جمع عبرة، من الاعتبار والاستبصار، أصله من عبرت: إذا مررت بالطريق. والمعبر: المركب الذي يعبر فيه. والمعبر أيضا: ما يعبر عليه من قنطرة ونحوها. ومن ذلك قولهم: عابر سبيل. وإنما سميت العبرة عبرة لأنها يعبر عليها، أي: يجوزها النظر من ظاهر الأمر فيها إلى الباطن.
وإنما حذفوا إحدى التاءين (فرارا من كراهية التضعيف، إذ لم يمكن أن يلحقوا الفعل المضارع ألف الوصل- كما تقدم- ليدغموا إحدى التاءين) في الأخرى، وكانت الحركة أو المدة المنفصلة يبعد الاعتداد بها حتى يوصل إلى الإدغام، ففروا إلى الحذف حين أرادوا التخفيف. وفي القرآن الكريم من هذا كثيرا كقوله تعالى:{ولقد كنتم تمنون الموت} ، {فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} ، {ما لكم لا تناصرون} ، {ولا تنابزوا بالألقاب} ، {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} . إلا أن الناظم لم يبين ما المحذوفة من التاءين، وذلك لأن المسألة مختلف فيها، فتركها في محل الاجتهاد، لم يعين وجها من الوجهين المذكورين. والنحويون اختلفوا في المحذوف على قولين.
أحدهما: أن المحذوفة هي الثانية، وذلك لأن الأولى حرف معنى فهي أولى بالبقاء، والثانية لا تدل على معنى فهي أولى بالحذف. وهذا مذهب البصريين.
والثاني: أن المحذوفة هي الأولى، وهو مذهب بعض الكوفيين حكاه السيرافي، وكأنه يختار ذلك لكونها زائدة على الكلمة، والثانية من أصل البناء، وإن لم تكن أصلا فهي أولى بالإثبات. وحكى أيضا عنهم قولا ثالثا بجواز الوجهين، والأولى ما ذهب إليه البصريون.
فإن قيل: قد زعمتم أن المحذوف من التاءين هي الثانية، وعللتم ذلك بأن الأولى لمعنى، وكذلك الثانية أيضا لمعنى، لأن تفعل وتفاعل تاؤهما لمعنى.
فالجواب: أن سيبويه قد علل ذلك فقال: "وكانت الثانية أولى بالحذف لأنها هي التي تسكن وتدغم في قوله تعالى: {فادارأتم فيها}، {وازينت}.قال: "هي التي يفعل بها ذلك في تذكرون، فكما اعتلت هنا كذلك تحذف هناك".
واعلم أن الناظم لم يبين كل البيان شرط الحذف في هذه المسألة إلا أن يفهم له ذلك من التمثيل، وذلك ثلاثة شروط:
أحدها: أن تكون التاءان معا مفتوحتين كما مثل، لأن أصله: تتبين، فإن انضمت الأولى لم يجز، لأن حذف إحداهما إنما جاز لأن لفظها مع لفظ الباقية سواء، فلا تقول في نحو تتحمل: تحمل، ولا في تتبين: تبين، لاختلاف الحركتين، ولما يؤدي إليه الحذف من الإلباس بفعل لا تاءين فيه. وإذا امتنع مع
تحرك الثانية كان مع سكونها أحرى بالمنع نحو: تتبع، وكذلك إذا انكسرت الثانية نحو: تتر، تتد، مضارع: وتر ووتد. وأيضا امتنع لما يلزمه من الحذف بعد الحذف.
والثاني: أن يكون ذلك مختصا/ بالمضارع، فلا يقع في أمر ولا ماض ولا غير ذلك، فلا تقول في تتالى: تالى، ولا في تتال يا زيد: تال يا زيد، ولا ما كان نحو ذلك؛ لأنه لو حذفت إحدى التاءين مع الماضي لالتبس بغيره إذا قلت في تتابع تابع، وفي تتالى: تالى. بخلاف المضارع فإن العوامل الداخلة عليه ترفع ذلك الإشكال إذا قلت: أنت تتابع، وأعجبني أن تتابع، ولم تتابع. والماضي ليس له ما يخرجه عن الالتباس.
فإن قبل: والأمر أيضا في ارتفاع اللبس كالمضارع، ألا ترى أن ما قبل آخره مفتوح نحو: تتابع يا زيد، وتتال يا عمرو فكان من الواجب على قياس هذا أن يقال: تابع يا زيد، وتال يا عمرو.
فالجواب: أن هذا وارد على هذه العلة التي ذكرها بعض المتأخرين، فالأولى ما تقدمت الإشارة إليه في تعليل الحذف، وهو أن الماضي والأمر قد أمكن فيهما الإدغام والإتيان بألف الوصل لسكون التاء الأولى، فهو الذي أزال الاستثقال. وأما المضارع فلم يمكن أن تلحقه ألف الوصل، فامتنع الإدغام لذلك، إلا أن يعتدوا بعارض الحركة أو المد
في كلمة أخرى فعوضوا في امتناع الإدغام الحذف، فهذه العلة الصحيحة، وأما الأولى فمنتقضة.
وهذا الشرط أيضا أحرزه تمثيل الناظم بالمضارع.
والثالث من الشروط: أن تكون التاءان غير محذوف منهما ثالثة، تحرزا من نحو: أنت تتابع، أصله: تتتابع، فحذفت إحداهما هذا الحذف المذكور، فلا يجوز بعد ذلك حذف آخر، لأن الحذف بعد الحذف إخلال بالكلمة. وأيضا إذا أردت أن تحذف إحداهما فإما أن تحذف الأولى أو الثانية، أما الأولى فهي حرف معنى فلا يجوز أن تحذف للإخلال بذلك المعنى، وأما الثانية فهي من أصل الكلمة فلا تحذف، إذ لم يحذفوا ههنا إلا ما كان زائدا على الحروف الأصول كما تقدم في الأمثلة:
وهذا الشرط أيضا مأخوذ من تمثيله بتبين، لأن الأصل فيه أن يكون بتاءين خاصة، وأيضا قد قال:
وما بتاء ابتدى قد يقتصر
…
فيه على تا
…
فذكر ما كان مبتدأ بتاءين، فخرج ما ابتدئ بثلاث تاءات، إلا أنه يقال: هذا الكلام مشكل، لأنه إما أن يريد بقوله:"وما بتاءين ابتدى" إخراج ما كان بثلاث تاءات، وإما أن يريد إدخاله تحت الحكم من حيث كان ما ابتدئ بثلاث مبتدأ باثنين، فيصدق على ذي الثلاث أنه ذو اثنين، فإن أراد الأول اقتضى أنه لا يحذف ذو الثلاث فلا يقال في تتتابع: أنت تتابع، ولا ما كان نحو ذلك مما أوله ثلاث تاءات وذلك غير صحيح، بل الحذف فه أسوغ، لأنهم إذا كانوا يحذفون في التاءين فمن باب أولى أن يحذفوا في الثلاث، لأن ثلاثة الأمثال
أثقل من المثلين، ولا خلاف في جواز الحذف هنا. وإن أراد الثاني- وهو الذي ينبغي أن يقال- اقتضى حذف التاءين معا لقوله:"قد يقتصر فيه على تا"، يريد على تاء واحدة. وهذا أيضا غير صحيح، لأن حذف حرفين إخلال كما تقدم، فكان حق العبارة أن يذكر فيها ما يحذف لا أن يذكر ما يبقى بعد الحذف. وهذا الاعتراض ظاهر اللزوم، ولم أجد عنه جوابا، فلو قال عوض هذين الشرطين:
وحذف ثاني ما بتاءين ابتدى
…
/أجز كنحو لن تحرى موعدى
لسلم من ذلك الاعتراض، ومن اعترض ثان، وهو أنه قال: قد يقتصر فيه على كذا، فأتى بقد المقتضية عنده للتقليل، فاقتضى أن الحذف قليل في الكلام غير كثير في الاستعمال، وليس كذلك، بل (هو) كثير جدا لا يقصر عن كثرة المجيء على الأصل، والناس خيروا في الوجهين، قال سيبويه:"فإن التقت التاءان في تتكلمون وتتترسون فأنت بالخيار، إن شئت أثبتهما، وإن شئت حذفت إحداهما". والوجهان شهيران في القرآن وفي كلام العرب، فكيف يقول: "قد يقتصر. وهذا أيضا يبعد الجواب عنه.
وقوله: "وما بتاءين ابتدى" بتاءين: متعلق بابتدى. وابتدى مسهل الهمزة بالإبدال على من قال في قرأت: قريت. أو التسهيل القياسي،
لكن أجرى الوصل مجرى الوقف فأسكن الياء ضرورة. و "ابتدى" وما إليه صلة ما، وهي مبتدأ خبرها قوله: قد يقتصر. والضمير في "فيه" عائد "ما"، ومدلوله الفعل المضارع.
وفك حيث مدغم فيه سكن
…
لكونه بمضمر الرفع اقترن
نحو: حللت ما حللته وفي
…
جزم وشبه الجزم تخيير قفى
هذا هو النوع العاشر من المواضع المستثناة، وهو ما كان الحرف المدغم فيه ساكنا، فإنه إذا كذلك خرج عن مقتضى اشتراطه الأول، (حيث) قال:"أول مثلين محركين" .. إلى آخره، فخرج إذا عنه ما كان أحدهما فيه ساكنا، وهذا من ذلك، فلا يجب فيه الإدغام، لكن تكلم هنا على الجواز وعدم الجواز، فقسم ما سكن المدغم فيه إلى قسمين:
أحدهما: ما كان سكون الثاني فيه لازما لا يقبل الحركة، وذلك قوله: {وفك حيث مدغم فيه سكن لكذا، والمدغم فيه هو الثاني لأن الأول مدغم. والثاني: مدغم فيه، يعني أن الفك وترك الإدغام واجب إذا سكن المثل الثاني لاقترانه بضمير الرفع، يريد البارز، فإذا كان كذلك قلت: حللت وحللت، وحللت، وحللتما، وحللتم، وحللتن، والهندات حللن. وقد نبه على ذلك بالمثالين في قوله:
{نحو حللت ما حلللته"، إذ يدخل في الأول كل ما فيه التاء من ضمائر الرفع، (وأما الثاني فلا يشاركه غيره إلا نافي الرفع) إذا قلت: حللنا، فإنه يشاركه في النون، ولا تدغم هنا فتقول: حلت، ولا حلنا. وقد حكى سيبويه عن بعض العرب الإدغام في هذا فيقولون: ردت، وردن، ومدن. وهذه لغة ضعيفة. وكذلك حكى بعض الكوفيين في هذا: ردن، فيزيد نونا ساكنة يدغمها في النون، لأن هذه النون لا يكون ما قبلها إلا ساكنا. وحكى بعضهم في ردت: ردات. وهذا كله شاذ لا يعول عليه، فترك الناظم هذا كله لقلته وندوره. ووجه ما نص عليه أنه لما كان الآخر من المثلين لابد له (من) أن يتحرك وحينئذ يدغم فيه، وكان تحرك هذا ممتنعا لوقوعه موقعا لاتصل إليه فيه الحركة امتنع الإدغام، فلا يدغم هذا من يدغم رد/ ونحوه، بل الكل متفقون على الفك إلا من شذ منهم.
والثاني: ما كان سكون الثاني فيه غير لازم، وذلك الفعل الساكن جزما أو وقفا، نحو: لا تمرر بزيد، ولا تردد كذا. فذكر الناظم فيه التخيير في الإدغام والإظهار فقال:"وفي جزم وشبه الجزم تخيير قفى"(و) شبه الحزم هو الوقف، وإنما قال فيه: شبه الجزم، لأن البناء على الوقف مثل الجزم، إن كان الجزم في المضارع بالسكون فالبناء في الأمر على السكون، أو كان الجزم بالحذف فالبناء في الوقف على الحذف، نحو:
اضرب ولا تضرب، وارم ولا ترم، واخش ولا تخش، واضربا ولا تضربا، واضربوا ولا تضربوا. ولأجل هذا زعم الكوفيون أن فعل الأمر مجزوم وأصله المضارع، لكن حذف حرف المضارعة ولام الأمر، وذلك مبسوط في غير هذا. ولما لم يكن ذلك مذهبه نوع الفعل إلى النوعين، إذ هما عنده متباينان، فقد قال في المعرب والمبني:
وفعل أمر ومضى بنيا
…
وأعربوا مضارعا إن عريا
إلى آخره. وقوله: "وشبه الجزم"، أعاد الظاهر وكان الأصل أن يقول: وشبهه، فيأتي بالضمير، وذلك سائغ. وقفى معناه: اتبع، وذلك أن المجزوم والموقوف من المضاعف العين واللام للعرب فيه لغتان:
إحداهما: لغة تميم وهي الإدغام مطلقا، فيحركون الحرف الثاني لأنه يمكن تحريكه وإن كان ساكنا، وذلك إذا نقلت إليه حركة همزة بعده من كلمة أخرى، أو لقى ساكنا بعده، نحو: اخصص أبي واضرب ابنك، أو لحقته علامة تثنية أو النون الخفيفة أو الشديدة نحو: ارددا، وارددن، وما أشبه ذلك. وأيضا التسكين عارض للجزم أو للأمر فلم يعتد به، فالثاني إذا متحرك في الأصل وقابل للحركة في الحال فأدغموا وحركوا الثاني، فقالوا: رد، وفر، وعض، وخص. قالوا: ومن ذلك قوله تعالى: (لا تضار والدة بولدها).
والثانية: لغة أهل الحجاز، قال سيبويه:"وهي اللغة العربية القديمة الجيدة"، وهي الإظهار. فتقول: اردد، وافرر، واخصص، (واغضض). ومنه قوله: تعالى: {واغضض من صوتك} ، و {واضمم إليك جناحك} ، وشبه ذلك، وهو كثير.
ووجه الإظهار سكون الثاني من المثلين، فلم يمكن أن يدغم فيه الأول وهو ساكن فيلتقي ساكنان على غير شرطهما، فامتنعوا من ذلك كما امتنعوا منه في رددت، ورددن ونحوهما.
ولم يذكر الناظم فيما إذا أدغم مثل هذا بأي حركة يتحرك المثل الثاني، وهذا من وظيفة باب التقاء الساكنين. والذي ذكر سيبويه وغيره في ذلك عنهم أربع لغات:
إحداها: الإتباع، فيحرك بمثل أقرب الحركات إليه، وهي الحركة التي قبل المدغم، فيقول: رد، وفر، وعض. إلا مع ضمير المذكر والمؤنث الغائبين فإنهم يحركونه بحركة الضمير فيقولون: ردها، وعضه، ومنه قوله تعالى:{لا يمسه إلا المطهرون} في مذهب من جعله نهيا. فإن وقع بعده ساكن من كلمة أخرى كسر نحو قوله:
/فغض الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فأتبعوا مع الضمير حركته لخفاء الهاء، فكان قولهم: ردها، كقولك: ردا، ورده كقولك: ردوا بهذا شبهه الخليل، وقد تقدم في الإمالة دليل على خفاء الهاء، وكسروا مع السكن على أصل التقاء الساكنين، كما لو قلت على لغة أهل الحجاز: اغضض الطرف.
واللغة الثانية: الفتح مطلقا، فتقول: رد، وعض، وفر، وردها، وعضها ورده، وعضه. وما أشبه ذلك، لأن الفتح خفيف، إلا إذا وقع بعده ساكن فكا لأولين، وهم بنو أسد.
والثالثة: الفتح مطلقا من غير استثناء شيء، زعم يونس أنهم يقولون:
فغض الطرف إنك من نمير
والرابعة: الكسر على أصل التقاء الساكنين، فيقولون: رد، وعض، وفر، وكذلك: رده، وعضه، وردها، وعضها، وكذلك: غض الطرف، من باب أولى.
هذا ما حكى سيبويه والجمهور. وللفارسي نقل فيها مخالف لهذا، وانظر في التسهيل ففيه أيضا مخالفة فتأمله.
وهاتان اللغتان من الإظهار والإدغام فيما عدا أفعل به في التعجب، وهلم على لغة من قال: هلموا، وهلما، وهلمى، وهي على هذه اللغة فعل، ففي أفعل به التزموا الفك، والتزموا الإدغام في هلم، فذكرهما لخروجها عن مقتضى القاعدة فقال:
وفك أفعل في التعجب التزم
…
والتزم الإدغام أيضا في هلم
يعني أن العرب التزمت الفك وترك الإدغام في هذا المثال الذي هو أفعل المختص بباب التعجب إذا كان مضاعفا، فقالوا: أشدد بزيد، وأمرر به، وأعزز به، وما أشبه ذلك. ووجه ذلك أن أفعل في التعجب قد لزم لامه الإسكان فصار من قبيل ما لا يقبل الحركة، لأنه لا تلحقه ألف الاثنين ولا نون التوكيد إلا شذوذا، ولا يليه إلا فاعله المجرور بالباء، فلا تنقل إليه حركة همزة تقع بعده، ولا يلقاه ساكن. وهذه الأشياء هي التي منعت من الإدغام في رددت، ورددن وبابه. وإذا كان الثاني ساكنا لازم الإسكان لم يمكن الإدغام لم يلقى فيه إن أسكن الأول من التقاء الساكنين. وهذا بخلاف أفعل في نحو: ما أشده، وأبره، وأحده، فإنك تدغم (هنا) لتحرك الثاني كأفعل التفضيل. فلما كان أفعل في التعجب قد خرج عن (حكم) فعل الأمر المذكور آنفا في جواز الوجهين نبه عليه لئلا يتوهم أنه ذو وجهين، وأخبر أنه ذو وجه واحد وهو الإظهار على أصل الباب.
ثم استثنى منه أيضا لفظا آخر التزم فيه أحد الوجهين وهو الإدغام فقال: "والتزم الإدغام أيضا في هلم" يعني أن هذا اللفظ الذي هو هلم التزمت العرب فيه الإدغام فلم تظهر، فلا تقول فيه: هلمم، كما تقول: اردد. وإنما يريد هلم التي هي باقية على حكم الأفعال، وذلك أن هلم على وجهين: فعل، واسم فعل، فأما كونها فعلا ففي قول من قال: هلما، وهلمى، وهلموا، ونحو ذلك؟ ودليل كونها فعلا لحاق ضمائر الرفع/ البارزة لها واتصالها بها، كما تقول: ردا، وردوا، وردى. وأما كونها اسم فعل ففي لغة من قال: هلم يا زيد، ويا زيدان، ويا زيدون، ويا هند، ويا هندان، ويا هندات. فلا يختلف آخرها كما لا يختلف إذا قلت: صه يا زيد، ويا زيدان، ويا زيدون. وكذلك سائرها. وهذه لغة القرآنن قال تعالى:{قل هلم شهداءكم الذين يشهدون} .. الآية، وقال تعالى:{والقائلين لإخوانهم: هلم إلينا} . ومعناه في الأول: أحضروا. وفي الثاني: أقبلوا. فأما لزوم الإدغام مع كونها اسما فغير غريب وإن قلنا إن أصلها الفعل، كما قال الخليل: إن أصلها: هالم، ثم جعلا شيئا واحدا، فسموا بها الفعل، وحذفوا الألف لكثرة الاستعمال، لأنه لا يستنكر أن يأتي مدغما على لغة بني تميم، وإن كان أهل الحجاز هم الذين جعلوها اسم فعل. وأما لزومه مع كونها فعلا فلأنه صار لها بقلة تصرفهم فيها حالا ليست لسائر الأفعال، قال سيبويه:"لأنها لم تصرف الفعل ولم تقو قوته"، فلذلك أخرجوا ها عن الحكم بالوجهين إلى التزام الإدغام.
وقوله: والتزم الإدغام في كذا، يريد ما لم تخلفها نون الإناث، فإنه إذا كان كذلك صارت إلى الحكم المذكور قبل هذا من التزام الفك عند لحاق ضمائر الرفع البارزة. وهذا ظاهر.
فهذه هي المواضع المستثناة من لزوم الإدغام المقرر أول الباب، وهي كما تقدم على قسمين، قسم يجوز فيه الوجهان، وقسم لا يجوز فيه إلا الإظهار، فمواضع جوازا لوجهين ثلاثة، واحد قسمي فعل الأمر، والباقي يلزم فيها الإظهار، وما عدا ذلك لزم فيه الإدغام مطلقا، سواء أكان اسما أم فعلا، كان ثلاثيا أو رباعيا، أو على أكثر من ذلك، لا يستثنى من ذلك غير ما استثناه هنا، وقد استوفى ذلك استيفاء حسنا. وإنما ذكر ابن جني من هذه الأنواع ستة فقط، لكن زاد على ما ذكره الناظم: أن يكون الاسم قد لحقه من الزيادة ما يخرج به عن شبه الأفعال وأمثلتها، وذلك قولك في مثل فعلان أو فعلان من الرد: رددان ورددان، فتظهر التضعيف، لأن الألف والنون ليستا من زوائد الأفعال، وصارت الكلمة في مباينتها بناء الفعل بهما بمنزلة حضض وسرر في مباينتهما بناء الأفعال. وهذا في الحقيقة ليس باستدراك، لأن هذا مذهب الأخفش، وأما سيبويه فيدغم بلابد، فيقول: ردان، فيهما، وذلك أن مذهب سيبويه في الألف والنون اعتبار الأسقاط في الإدغام كأن الكلمة منفردة عن
لحاقهما، فما يلزم فيها دون زيادة فهو لازم بعدها. فرددان إنما هو ردد، ورددان إنما هو ردد، ومثل هذا لابد من إدغامه، لأنه على وزن الفعل، فكذلك إذا لحقته الزيادتان. وأما فعلان فتقول على مذهبه: رددان، وكذلك على مذهب أبي الحسن، إلا أن سيبويه يعتبر إسقاط الزيادة والكلمة بعد الإسقاط على فعل، وفعل لا يدغم نحو: طلل وشرر، كما تقدم، فكذلك رددان. وعلى مذهب أبي الحسن لخروج الكلمة/ بالزيادة عن شبه الفعل، وإذا كان كذلك ظهر أن الناظم ذاهب إلى مذهب سيبويه، قال في الكتاب:"وتقول في فعلن من قويت: قووان، وكذلك حييت. فالواو الأولى كواو عور، وقويت الواو الأخيرة كقوتها في نزوان، وصارت بمنزلة غير المعتل". قال: "ولم يستثقلوهما مفتوحتين كما قالوا: لووى وأحووى". (قال): "ولا تدغم لأن هذا الضرب لا يدغم في رددت". وقال في باب آخر: "وتقول في فعلان: رددان، وفعلان: رددان. يجري الصدر في هذا مجراه لو لم تكن بعده زيادة، ألا تراهم قالوا: خششاء". قال: وفعلان: ردان، وفعلان: ردان، أجريتهما على مجراهما وهما على ثلاثة أحرف وليس بعدهما شيء كما فعلت ذلك بفعلان وفعلان". فهذه
نصوص منه على ما ذكرت لك من عدم الاعتداد بالزيادة واعتبار صدر الاسم في الإعلال والإدغام إلا فيما يصح لأجلها من نحو الجولان والنزوان، فلأجل ذلك صح قووان ونحوه. فإذا الألف والنون عنده كالهاء، وأنت لو بنيت من الرد مثل فعلة وفعلة لقلت: ردة، فأدغمت كما تدغم ما لا هاء فيه. وقد احتج سيبويه لقوله بقولهم: خششاء، فلو كانت الزيادة معتدا بها لم يجروا هذا مجرى حضض، قال ابن الضائع: وهو استدلال صحيح، لأن الألف والنون كألف التأنيث الممدودة، وقد ألزم سيبويه في مذهبه التناقض، وللكلام في ذلك مجال واسع، فإن أردته فعليك بابن الضائع.
وهنا نجز ما أراد ذكره في هذه الأرجوزة من مهمات النحو وضرورياته وجملة من توابعها، فأخذ في التنبيه على تمام قصده، والختم بما ينبغي الختم به، فقال:
وما بجمعه عنيت قد كمل
…
نظما على جل المهمات اشتمل
أحصى من الكافية الخلاصة
…
كما اقتضى غنى بلا خصاصة
فأحمد الله مصليا على
…
محمد خير نبي أرسلا
وآله الغر الكرام البررة
…
وصحبه المنتخبين الخيرة
يقال: عنيت بكذا أعني به عناية، وأنا معني به، هكذا مبنيا للمفعول، فهو أحد ما التزم فيه البناء للمفعول في أفصح اللغات. فإذا أمرت قلت: لتعن بحاجتي.
ونظيره: نفست المرأة، وأولعت بالشيء، وسقط في يده. ومن ذلك كثير. وقد حكى عن بعض العرب: عنيت بحاجتك- على فعلت مبنيا للفاعل- فأنا أعنى بها قال ابن درستويه: بمعنى الانفعال والمطاوعة، لأن فعلت من أبنية المطاوعة، فمن كانت هذه لغته جاز له أن يقول في الأمر: لتعن بحاجتي. قال: وهو قليل. فأتى الناظم بما هو الأفصح، والفاعل هو الأمر أو الحاجة، وأصله هنا: وما جمعه عناني، إلا أن مثل هذا إنما يقال مبنيا للمفعول كما ذكر. ومعنى عنيت، أي: جعلت لي به عناية وصار لي حرص عليه، فقوله: وما بجمعه عنيت قد كمل، يعني أن ما اعتنى بجمعه وحرص على تأليفه من علم/ النحو قد كمل وتم على حسب ما قصده.
وقوله: "بجمعه" متعلق بعنيت، ودل بهذا اللفظ أنه جامع لا مخترع، فهو يجمع ما قال غيره وما استنبطه من استقراء كلام العرب سواه، وليس له فيه إلا الجمع والترتيب وتهذيب القوانين.
فإن قلت: هذا يقتضي أنه لا استنباط له في هذا العلم ولا اختراع شيء لم يقله غيره، وليس كذلك، بل فيه مسائل مخترعة واستقراءات مبتدعة، كمسألته في جواز دخول الألف واللام الموصولة على الفعل، ولا أعلم أحدا أجاز ذلك غيره. وكذلك مسألة الدنيا والعليا في باب التصريف، ومسألة إجازة الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الكلام إذا كان مصدرا عاملا في الفاصل، وغير ذلك من المسائل التي انفرد بها. وقد مضى التنبيه عليها، فكيف يقول:"وما بجمعه عنيت"؟ .
فالجواب: أن تلك المسائل ليست من مخترعاته ولا انفرد بالكلام عليها، بل ذكرها النحويون، لكنهم جعلوها من الشذوذات، فاختار الناظم فيها مذهب القياس، واختار غيره عدم القياس، فليس ثم في الحقيقة اختراع. وكذلك مسألة الدنيا والعليا، (لم) يخترع فيها إلا مجرد الاصطلاح، ولا يقال في مثل هذا: إنه ابتداع مسألة أو اختراع قانون.
وأيضا فإن هذه المسألة في كتابه نادرة جدا، واختياراته قليلة، فلم يعتبر بها في جنب ما كان منقولا عن غيره. على أن قوله "بجمعه" يمكن أن يكون أراد به جمعه للمسائل التي قصد ذكرها من النحو، كانت على مذهبه أو مذهب غيره، فلا يبقى في كلامه على هذا إشكال.
وقوله: "نظما" يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون تمييزا منقولا من الفاعل، كقوله تعالى:{واشتعل الرأس شيبا} ، أي: شيب الرأس، وتقدير
كلامه: قد كمل (نظمه). والثاني: أن يكون حالا من ضمير "كمل"، أي: كمل حالة كونه نظما، وهو مصدر في موضع الحال- والضمير في الوجهين المستتر في كمل عائد على ما، وهي موصولة واقعة على العلم المودع في رجزه.
وقوله: "على جل المهمات اشتمل"، في موضع الصفة لنظم، أي: نظما مشتملا على جل المهمات. والجل معناه: معظم الشيء. والمهمات: هي التي تهم الإنسان، أي: تقلقه. وأصله من أهمني الأمر: إذا أحزنني وغمني، فصارت الأشياء التي يقلق الإنسان حالها ويعنيه أمرها كأنها تحزنه حتى يحصلها أو يخلصها تخليصا يستريح إليه. والمهمات في كلام الناظم على حذف الموصوف، والتقدير: على معظم المسائل المهمات في العربية اشتمل. ومعنى اشتمل: احتوى، ومنه سميت الشملة لكساء يشتمل به، يلتف فيه، لأنها تشتمل عليه وتضمه. فيريد أن هذا النظم قد احتوى على معظم المسائل والأبواب المهمة الضرورية.
وإنما قال: على جل: على المهمات اشتمل، لأنه لم يحتو على جميع الضروريات، بل على أكثرها، فقد نقصه الكلام على جملة من فصول (في) الأبواب، ونقصه أيضا بعض الأبواب من الرأس، فأما ما نقصه من الأبواب فكالقسم، والتقاء الساكنين، فإن هذين البابين لم يعرج عليهما، بل أهمل جانبهما جملة.
ومن ذلك باب التسمية، إلا أنه دونهما في الضرورة/. وأما ما أهمل من الفصول والمسائل فكمسألة الفصل من المضمرات، ومسألة الأمثلة الموزون بها من الأعلام. ومسألة الموصولات الحرفية وهي: أن، وأن، (وكي)، ولو المصدريات. ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ، ومسألة التاريخ في باب العدد، ومسألة معاني أبنية الأفعال، ومسألة ما زيدت الميم في أوله من أسماء المصادر والزمان والمكان، والكلام على جملة من الحروف كأي التفسيرية، وحروف التنبيه والجواب، وغيرها، ومدة الإنكار والتذكر، وفصل مخارج الحروف وصفاتها، والإدغام إذا كان في كلمتين، وقسم إدغام المتقاربين، ومسائل من هذا النوع لم يتعرض إليها، فلذلك قال:"على جل المهمات" فحرز الإخبار عما قصد ذكره لئلا يقال له: فأين جميع المهمات وقد نقص منها جملة كبيرة؟ وهو من الاحتراز الحسن.
ثم قال: "أحصى من الكافية الخلاصة"، أصل الإحصاء العد والأحاطة، يقال: أحصيت الدراهم: إذا أحطت علما بأفرادها وعددها- وخلاصة الشيء: ما صفات منه وتخلص عن الشوائب. ويقال: خلص الشيء يخلص خلوصا: إذا صفا. والخلاصة والنقاوة يرجعان إلى معنى واحد. ويريد أن هذا النظم- وإليه يعود ضمير أحصى- قد
حصل لباب الكافية وعيون فوائدها، وأحاط بها. والكافية هو أرجوزته الكبرى المسماة بالكافية الشافية، وهي قد احتوت من الأشطار المزدوجة على آلاف، ولم أقف عليها بعد، لكن رأيت عن بعض الشيوخ مقيدا أنها منثورة في الكتاب المسمى بالفوائد المحوية في المقاصد النحوية، وقد رأيت هذا الكتاب، ورأيت اختيار ابن مالك فيه موفقا في الغالب لما اختاره في هذا النظم.
وقوله: "كما اقتضى غنى بلا خصاصة"، الخصاصة: ضد الغنى. والاقتضاء: طلب القضاء، ومعناه هنا: طلبه للحكم بالغنى. يعني أنه أحصى من الكافية خلاصتها، كما اقتضى لحافظه الغنى الذي لا ينسب صاحبه إلى الفقر. ومراده أن هذه الجملة المنظومة قد اشتملت على حسنين، أحدهما: تحصيل لباب كتابه الأكبر حتى إنه لم يفته منه إلا ما لا يعد خلاصة ولبابا، إذ ليس في طبقة الضروريات. والثاني: أنه مع اشتماله على هذا الاختصار وعدم الإحاطة بالجميع فيه من العلم ما يستغني به الطالب فيكيفه طلب غيره والافتقار إليه. فالغنى المراد هو: الغنى بما فيه من العلم الكافي. والخصاصة (هي): الافتقار إلى غيره، فنفي أن يكون كتابه- على اختصاره- مفتقرا معه إلى غيره، ولعمري إنه لكذلك، لتحصيله ما يجب تحصيله، وما يرجع إلى ما يجب تحصيله. وهذا الكلام تعريف بنظمه وتنزيل له في رتبته التي يعلمها منه، وهكذا ينبغي أن يفعل المؤلف لكتاب ما أن يعرف مقصده فيه ورتبته في الإفادة، حتى يكون ذلك باعثا للناظر فيه على حفظه والاشتغال به، ولا يعد ذلك تزكية منه لفعله، ولا مدحا لنفسه، لأن هذا القصد مذموم فلا يلتمس للأئمة
الأعلام والعلماء المهتدى بهم والمقتدى بكلامهم إلا أحسن المخارج، ولا يظن بهم إلا أحسن المذاهب، وهو الحق والإنصاف/، والدين والأمانة في الاعتقاد في كبرائنا في أي علم من العلوم الشرعيات.
ولما عرف الناظم- رحمه الله بما تضمن كتابه من هذا العلم، وما أعطاه من الفائدة، كان من الذي ينبغي أن أعرف أنا بما قصدته في هذا الشرح، وأبين مرتكبي فيه، وما أودعته من منازع شيوخي- رضي الله عنهم ونفعني وإياهم، وذلك أني لم أقصد فيه قصد الاختصار الذي قصده غيري ممن شرح هذا النظم لأمور أكيدة:
أحدها: أن واضعه لم يضعه للصائم عن هذا العلم جملة، ولو قصد ذلك لم يضعه هذا الوضع؛ إذ كثير منه (مبني) على أخذ الفوائد والقواعد والشروط من التمثيلات والمفهوم والإشارة الغامضة، والمبتدئ لا يليق به هذا التعليم ولا يسهل عليه قصد الإفادة. وإنما يليق بالمتعلم جمل الزجاجي وما أشبهه مما يسهل تصوره ويقرب متناوله. أما إذا كان الطالب قد شدا في النحو بختم كتاب ينفتح له به اصطلاح العلم، وزاول أبوابه، وتنبه لجملة من مقاصده ومسائله- فهو المستفيد بنظم ابن مالك، لأنه يضم له ما انتشر، ويجمع له ما تشتت عليه، ويصير له في النحو قوانين يعتمد عليها ولا يخاف انطماس فهمه عليه، وإذا كان كذلك لم يكن لائقا بشرحه الاختصار المحض والاقتصار على مجرد التمثيل وما يليه.
والثاني: أن الناظم لم يقتصر في كثير من هذا الكتاب على مجرد النقل الذي لا يشوبه تعليل، ولا أضرب عن ذكر الخلاف والإشارة إلى الترجيح، بل نبه على التعليل، ورمز إلى الأخذ بالدليل، وأرشد إلى أن لبسط العلل فيه موضعا، وللإدلاء بالحجج وفصل القضايا بين المختلفين فيه مجالا متسعا؛ فلذلك بسطت فيه من المآخذ الحكمية العربية ما يسوغ أن يقع تعليلا لمسائلة، وأوردت فيه من التنبيه على الخلاف في المسائل الموردة فيه ما وسعني إيراده، وملت إلى الانتصار للناظم فيما رآه والاعتذار عنه ما وجدت إلى ذلك طريقا. حتى إذا لم أجد لما ارتكبه مساغا في المنقول ولا في المعقول بينتُ الحق في المسألة، ورددت عليه غير مزدر به ولا منتقص له، علما بأن من كلام الناس المأخوذ والمتروك، إلا ما كان من كلام النبوة.
والثالث: أن فيه من القواعد الكلية والقوانين العاقدة ما ينبغي بسطه ولا يسع اختصاره، فلو قصد قاصد اختصار الكلام عليها أو اكتفى بالنظر الأول فيها كان إخلالا بمقصد الشرح، وإغفالا لما تأكد طلبه وبسطه منه.
والرابع: أن تعويله على الإشارة بالتمثيل، وعقد الضوابط بها، والاتكال على المفهوم، والإتيان بالعبارات الغامضة المعاني ما يدل على أن صاحبه قصد أن يشترك في النظر فيه الشادي والمنتهى، فلذلك حملت العبارة ما تحتمله في باب المفهوم والمنطوق، وخدمتها بالاعتراضات والأجوبة فيما أمكن، وتتبعت قواعده الكلية، وعرضتها على أصول العلم، فما وجدته منها
صحيحا أثبت وجه صحته، وما كان فيه خلل بينته بقدر الإمكان، إلى أن كمل منه بحمد الله ما رأيت، وعسى أن يكون هذا المنزع هو الحكمي/ في التعليم، والرباني في التحصيل، وهو الذي أرجو، فإن وافق ذلك فبفضل الله، وإلا فقد حرصت على ذلك، والله ينفع بالقصد.
وقد سلكت فيه مسلك شيوخي- رضي الله عنهم في البحث وتحقيق المسائل، والتأنيس بالتنظير، والتنقير عن دفائن اللفظ، وبتتبعه بقدر الإمكان، والاعتراض وإيراد الإشكال، والاعتذار عن اللفظ المشروح على حسب ما أعطاه الوقت والحال، وأوجبه تحسين الظن بالمؤلف، وعدم الوقوف وراء اللفظ تقليدا دون أن يتحرر معنى الكلام أو يظهر وجهه، والاحتجاج لمذهب المؤلف وترجيحه لما أمكن له وجه ترجيح، وتنشيط القارئ في بعض المواطن بالحكايات عن أهل العلم في المسائل المتكلم فيها.
هذا ما جمعت مما شهدته وعرفته وأخذته عن أشياخي، فقد كان شيخنا الأستاذ الشهير أبو عبد الله بن الفخار- رحمة الله عليه- في هذه الطريقة إماما غير مدافع، حافظا لمسائلها، وكان من طرق تعليمه البسط والتعليل وفصل القضية بين المختلفين من أهل البصرتين وغيرهم، وضرب المسائل بعضها ببعض، والاتساع في التنظير، والإمتاع في المسألة المنظور فيها، إلى غير ذلك من التحصيلات المحكمة، والنكت المجتلبة المنقولة عن شيوخه والمفترعة له. وكان شيخنا القاضي أبو القاسم
الشريف الحسني- رحمة الله عليه- في هذا العلم رفيع الشأن، عالما بدفائن أئمته، وكان من طريق تعليمه تحصيل مضمن الفصول والأبواب، جامعا لما تشتت منها، مقربا للمبتدئ، يقف القارئ على نكت كتابه المقرر واحدة فواحدة، لا يقنع بالفهم البراني فيه، موردا للإشكال، مجيبا عنه، لا يخرج عن طريق كتابه إلا في الندرة، معتذرا عن غفلاته، مرتضيا ما ارتضاه شيوخه في فهمه محمضا بفوائد المعاني ومسائل البيان ومقطعات الشعر الحسان. وكان شيخنا الأستاذ أبو عبد الله البلنسي- رضي الله عنه في هذا العلم عارفا بطرق أئمته المتأخرين، عالما بمقاصدهم فيه، وكان من طرق تعليمه بيان المقاصد بحسب القارئ من الابتداء والانتهاء، مرشحا لفهمه، مدربا له، وموقظا لفكره لاقتناص الجواب وإيراد السؤال، مطرزا مجلسه بنقل نكت شيوخه، متأدبا معهم إذا ذكر أحدا منهم طرب بذكراهم وأمتع بالثناء عليهم كعادة شيخه أبي عبد الله (بن) الفخار. إلى غير هؤلاء ممن لازمت مجالسهم، واستفدت منهم، وانتفعت بسببهم، أعلى الله درجاتهم في عليين. فهذه الطرائق هي التي ذهبت إليها في الشرح، وبنيت عليها، وبالله التوفيق.
ثم قال الناظم: "فأحمد الله"، هذه الفاء للتسبيب، لما وصف أن هذه الأرجوزة حوت إحصاء خلاصة الكافية من غير افتقار في الضروريات إلى
غيرها ترتب على ذلك وتسبب عنه أن يحمد الله- تعالى- على هذه النعمة التي أنعم عليه بها، حيث أعانه ووفقه إلى أن تمم كتاب علم ينتفع بع من بعده، فيكون أجر الانتفاع/ به باقيا له بعد موته لا ينقطع وإن انقطع عمله، لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم:"إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع يه من بعده، وولد صالح يدعو له". فواجب أن يحمد الله- تعالى- على ذلك.
وأتى بلفظ "أحمد"، ولم يقل: فالحمد لله، إظهارا للعمل في الحمد، وتحققا بالعبودية في ذكره. وقد تقدم معنى الحمد، والصلاة، والنبي.
وقوله: "مصليا" حال من ضمير أحمد. و "محمد": اسم من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشهر أسمائه، وهو الذي سماه به جده عبد المطلب.
وقوله: "خير نبي" بدل من "محمد"، ولا يكون عطف بيان، لأنعطف البيان يشترط فيه موافقته للمعطوف عليه في التعريف أو التنكير، و "خير نبي" نكرة. ومعنى "خير نبي": خير الأنبياء، لكن وضع الاسم النكرة المفرد موضع الجمع المعرف اختصارا. وأعطى هذا الكلام أنه أفضل الأنبياء، وبذلك جاء الحديث الصحيح:
"أنا سيد ولد آدم ولا فخر".
وأرسل: في موضع الصفة لنبي، كأنه قال: خير نبي مرسل، وجعله كذلك ليتضمن أبلغ التفضيل، لأن الأنبياء المرسلين لهم شرف النبوة والرسالة معا، فكان النبي- عليه السلام أفضل من حصلت له المزيتان، ولو اقتصر على قوله:"خير نبي" لم يعط تلك المبالغة.
وجاء قوله: "خير نبي أرسلا" مؤذنا من حيث خص بصفة الرسالة أن الأنبياء على قسمين: مرسلون وغير مرسلين، وقد خرج الآجري في كتاب الأربعين، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي- صلى الله عليه وسلم حديثا فيه طول، من فصوله قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير. قلت: كثير طيب. قال: نعم. قلت: من كان أولهم؟ قال: آدم عليه السلام. قلت: يا رسول الله، أنبي مرسل؟ قال نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسواه قبلا. ثم قال: يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ- وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم- ونوح. وأربعة من العرب: هود، وشعيب، وصالح، ونبيك يا أبا ذر؟ وأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول الرسل آدم، وآخرهم محمد.
وقوله: "وآله الغر الكرام". آله: قد تقدم في الخطبة تفسيره. والغر: جمع أغر، والأغر أصله ذو الغرة، وهو للفرس بياض في جبهته فوق الدرهم. ويقال: رجل أغر، أي: أبيض، من قوم غران، قال امرؤ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقية
…
وأوجههم عند المشاهد غران
وهذا مدح. ولكن الذي قصد الناظم الأغر بمعنى الشريف، يقال للشريف في قومه: أغر، لأنه فيهم كالغرة. وفلان غرة قومه، أي: سيدهم. قالوا: وغرة كل شيء: أوله وأكرمه.
والكرام: جمع كريم، وهو الشريف الفاضل، قال تعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} . وقال تعالى: {قال: أرأيتك هذا الذي كرمت علي} . والكريم: /أيضا: الصفوح، قال تعالى:{فإن ربي غني كريم} . والكريم: الحسن، قال تعالى:{من كل زوج كريم} . وإنما سمي البذول كريما لأنه فاعل فعل الأشراف.
والبررة: جمع بار، كسافر وسفرة، وكاتب وكتبة، وهو من البر، وهو خلاف العقوق، وفلان يبر خالقه، أي: يطيعه ويتبرره أيضا. ومعاني البرور راجعة إلى معنى الموافقة والطاعة.
وهذه الأوصاف حقيق أن يوصف بها آل الرسول- صلى الله عليه وسلم على التفسيرين، فلو قلنا: إن آله هم عشيرته الأقربون، فصحيح، لأنهم كذلك كانوا من شرف الأنساب والسيادة التي بذوا بها غيرهم، مع
الموافقة والطاعة والانقياد إلى طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن قلنا: إن آله من يرجع إليه في الدين، فكذلك أيضا، لأنهم غر محجلون من أثر الوضوء. وأيضا فهم سادة الناس، وأكرم الناس، لأنهم المتقون، قال تعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، ولذلك سوى الإسلام بينهم، فليس للفاضل في النسب الصريح على المفضول فيه مزية إلا بزيادة التقوى وشدة الامتثال للأوامر والنواهي، فليس السوداء على ابن البيضاء فضل، فاستوى في هذا الشرف الفاضل والمفضول، وصار الجميع أفضل الناس.
ثم قال: "وصحبه المنتخبين الخيرة"، الصحب: اسم جمع لصاحب، وليس بجمع له على القياس على مذهب سيبويه والجمهور، ومثله: راكب وركب. والصاحب في اللغة: ذو الصحبة، وهي الاجتماع والمؤالفة، صحبت فلانا صحبة وصحابة، فهو صاحب، ويجمع أيضا على الأصولين مختلف فيه؛ فذهب جماعة منهم ابن حنبل إلى أنه من رأى النبي- صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو ساعة، وإن لم تطل الصحبة ولا روى عنه حديثا ولا اختص به اختصاصا زائدا على مجرد اللقاء والمصاحبة. وذهب قوم إلى أنه من رآه- عليه السلام واختص به اختصاص الصحبة، وطالت مدة صحبته له، وإن لم يرو عنه.
وذهب بعضهم إلى أن هذا الاسم إنما سمي به من طالت صحبته للنبي- عليه السلام أخذ عنه العلم.
قالوا: والخلاف في هذه المسألة راجع إلى إطلاق لفظي في معنى الصحبة، هل تختص بأمر زائد على مجرد الاجتماع والمؤالفة أم لا؟
و"المنتخبين" نعت للصحب، واحدهم منتخب، وهو المختار، ورجل نخبة من قوم نخب- كرطبة ورطب- يقال: جاء في نخب أصحابه، أي: في خيارهم. والانتخاب الاختيار.
وكذلك كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد اختيروا له وانتخبوا من سائر الطوائف، مصطفون لمصطفى، رضي الله عنهم، ورضوا عنه.
والخيرة بمعنى الاختيار، قال الجوهري:"الخيرة مثل العنبة: الاسم من قولك: اختاره الله تعالى، يقال: محمد- صلى الله عليه وسلم خيرة الله من خلقه، وخيرة الله أيضا، بالتسكين"، فكأن الناظم أراد المختارين من الخلق، فوضع اسم المصدر موضع ذلك، وعامله في الإتيان/ به مفردا معاملة المصدر فلم يجمعه. ويحتمل أن يضبط هنا بفتح الخاء على أنه جمع خير، فقد حكى الفراء: قوم خيرة بررة. وقد تقدم أول الكتاب في هذا المعنى حديث اصطفاء الله- تعالى- له أصحابه وعترته، فأغنى عن الإعادة.
***
[ختام الكتاب]
وقد كمل بحمد الله الغرض المقصود، وحصل بفضل الله إنجاز الموعود، وأنا أرجو أن ينفع الله به المفيد والمستفيد، إنه حميد مجيد، وأن يكون هذا المجموع مستقلا بإبداء معاني الخلاصة غنيا عن المزيد، منهضا إلى أوج الاستبصار عن حضيض التقليد. ولذلك وسمته بالمقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية. ولعمري إن مطالعه ليطلع منه على كثير من أسرار علم اللسان، ودفائن سيبويه وغيره من علماء هذا الشأن، التي من قصر إدراكه دونها لم يحل في هذا العلم بطائل، ومن ضاق فهمه عنها فاسم الإمامة عنه زائل، إلى ما تضمنه من حل كثير من عقد كتابه "التسهيل" ومشكلاته، وفك معمياته، وفتح مقفلاته. على أني بكلامه استدللت على كلامه، وبنوره اهتديت في بيداء استبهامه إلى رفع أعلاه. جعلنا الله ممن عمل بما علم، وأدى حق ما أنعم عليه فغنم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطيبين، وصحبه المنتخبين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
***
(قال مؤلفه- تغمده الله برحمته): (وكان الفراغ من تقييده يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الثاني عام أحد وسبعين وسبعمائة).