الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السماع لا يخفى على ما تقدم بسطه (والله أعلم).
فصل
/إن يسكن السابق من واو ويا
…
واتصلا، ومن عروض عريا
فيا الواو اقلبن مدغما
…
وشذ معطى غير ما قد رسما
هذا فصل آخر تضمن نوعا من أنواع القلب والإبدال، ويعني أن الواو والياء إذا سكن السابق منهما، وكانا متصلين، وكانا غير عارضين، فإن الواو تقلب ياء، سواء كانت سابقة أم لا، وتدغم الياء في الياء. هذا محصول كلامه على الجملة، إلا أن هذا الحكم قد تعلق بمحله أوصاف لا بد من ذكرها، وعليها ينبني، ومحل الحكم هنا اجتماع الواو والياء، فذكر شروطا تتعلق به، وهي ثلاثة:
أحدهما: أن يكون السابق منهما ساكنا، ولم يعين السابق منهما، ما هو؟ فدل على أن الواو قد تسبق الياء، وبالعكس. فالسابق إذا سكن تمكن جريان الحكم، فإن لم يسكن السابق فكانا معا متحركين، أو كان
الأول هو المتحرك، فلا أثر لهذا الاجتماع، فالمتحركان (نحو) حيوان، فلا تقول فيه: حيان، وكذلك (إذا) بنيت فعلان أو فعلة من طويت أو شويت، فإنك تقول: طويان، وطواة، أصله: طوية، فاعتلت الياء ولم تذغم لأجل تحرك ما قبلها، وكذلك شويان وشواة، ومثله: نواة، ورواة، وغواة، وعواة، لأنها كلها من باب طويت، فهي مما اجتمعت فيه الواو والياء، لكن فقد شرط سكون الأول، وأما سكون الثاني دون الأول فنحو عذيوط، وكديون، وذهيوط، وصيود، وطويل، وحويل، وما أشبه ذلك. فلا يعل هذا أيضا، قال سيبويه: "إنما منعهم أن يقبلوا الواو فيهن ياء- (يعني) فيما ذكر من المثل- أن الحرف الأول متحرك، فلم يكن ليكون إدغام، إلا بسكون الأول؛ ألا ترى أن الحرفين إذا تقارب موضعهما فتحركا أو تحرك الأول وسكن الآخر لم يدغموا نحو قولهم: وتد، ووتد فعل، ولم يجيزوا: وده، على هذا فيجعلوه بمنزلة مد، لأن الحرفين ليسا من موضع تضعيف، فهم في الواو والياء أجدر ألا يفعلوا ذلك، (ولم يجيزوا: يد (بمعنى)، من وتد يتد)، (قال) وإنما أجروا الواو
(والياء) مجرى الحرفين المتقاربين (إنما السكون والتحرك في المتقاربين-)، فإذا لم يكن الأول ساكنا لم يصل إلى الإدغام، لأنه (لا) يسكن حرفان". (قال):"وكانت الواو والياء أجدر ألا يفعل بهما ما ي فعل بمد ومدوا، لبعد ما بين الحرفين. فلما لم يصلوا إلى أن يرفعوا ألسنتهم رفعة واحدة لم يقبلوا، وتركوها على الأصل، كما تركوا المشبه به".
والشرط الثاني أن تكون الواو والياء متصلتين، وذلك قوله:"واتصلا"، والاتصال الذي أراد على وجهين:
أحدهما: اتصال الحرفين في أنفسهما بحيث لا يقع بعدهما فاصل، بل يتجاوزان ويتلاصقان، فإنهما إن لم يتجاوروا فلا أُر لذلك؛ إذ لا يمكن الإدغام، وإذا كانت الحركة فاصلة مانعة من الإدغام- والإعلال لأجله- ككديون ونحوه، فالحرف إذا كان فاصلا أولى، فإنهم قد عللوا عدم إدغام نحو/ كديون بفصل حركة الياء لأنها في التقدير بعد الحرف ولذلك لا يصح إدغام إلا أن يسكن سابق الحرفين.
والثاني: كونهما في كلمة واحدة، فإنهما إذا كانا في كلمتين لم يكن اتصالهما اتصالا يعتد به، فإذا قلت: اخشى واقدا، لم تدغم، إذ الواو في كلمة أخرى، فهي غير لازمة للياء. وكذلك إذا قلت: اخشوا ياسرا، لم تدغم لذلك أيضا. ووجه ذلك أن الثاني من الحرفين عارض
للأول، ومن شرط هذا العمل عدم العروض كما سيأتي، فلم يكن للقلب والإدغام وجه، لكن كون الحرفين في كلمة واحدة على وجهين:
أحدهما: أن تكونا لكلمة مبنية عليهما كسيد وميت وهين وقيوم، أصل ذلك: سيود، وميوت، وقيووم، لأنها من ساد يسود، ومات يموت، وقام يقوم، فالواو والياء هنا مبنية عليهما الكلمة.
والثاني: أن تكون في حكم المبني عليهما وإن لم تكن كذلك، نحو: أو مخرجي هم؟ أصله: مخرجوي، فالياء الأخيرة ياء المتكلم، وهي في الحقيقة كلمة أخرى، لكنها لما تنزلت منزلة الجزء- ولذلك غيرت الإعراب في الكلمة فلم يظهر لأجلها- عاملوها معاملة ما هو من نفس الكلمة، فقلبوا الواو ياء، وأدغموا الياء في الياء فصار: أو مخرجي هم؟ بضم الجيم، فكسروها لتصح الياء فقالوا: مخرجي، وكذلك: جاء مسلمي، وخرج ضاربي، وشبه ذلك.
والشرط الثالث: تعري الحرفين من العروض، وذلك قوله:"ومن عروض عريا"، يريد أن ذلك الحكم يشترط فيه أن يكون ذانك الحرفين متلازمين لا عارضين. ومعنى اللزوم فيهما أن يكونا في الكلمة لازمين لها بحكم الأصل لا يزولان عنها في جميع أحوالهما، فإن كانا معا أو أحدهما عارضا في الكلمة يزول تارة ويثبت أخرى فهذا هو معنى العروض الذي نفي. وعلى هذا يدخل تحت كلامه من هذا ما كان من هذه الحروف في أصل الوضع على ما هو عليه
الآن، وما كان خارجا عن أصله لكن لزم في الاستعمال، فأما الأول فهو سيد وميت، كما تقدم، وأما الثاني فمثاله قولك:(آول) إيالا، فإيالا مصدر أصله: إنوالا، فالهمزة الساكنة التي هي فاء لزمها الإبدال، فصار: إيوالا، فالياء ههنا لازمة في الاستعمال لأجل لزوم الهمزة الأولى، لأنها همزة إفعال، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداها بالسكون، واتصلا، وعريا عن العروض، إذ ليست الياء هنا ثابتة في حال دون حال، فوجب أن تدغم، فتقول: إيالا. وقد حملت هذه القراءة التي هي: {إن إلينا إيابهم} - وهي قراءة أبي جعفر- على أن يكون وزن الكلمة "إفعال". وأصله: إنواب، مصدر: آوب يؤوب، أي: إن إلينا إيابنا إياهم. وقد حملها ابن جني على وجهين آخرين ليسا من هذا النمط، ذكرهما في المحتسب. ومن هذا أيضا أن تبنى من أويت مثل اغدودن، فتقول على مذهب سيبويه: إيووى، فمصدره هو مما نحن فيه، تقول إذا ابتدأت: ايياء، وأصله: إنوواء، فقلبت الهمزة الثانية ياء لأجل/ همزة الوصل قبلها، فصار في التقدير: إيوواء ثم قبلت الواو بعدها ياء، وأدغمت الأولى منهما، لأن الإبدال هنا لازم للزوم همزة الوصل له، فصار: أيواء. فهذا تمثيل ما كان البدل فيه لازما. ثم إنهم
أعلوه أيضًا إعلا آخر من الأًصل الأول، لأنه (حين) صار اللفظ إيواء قلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها، مع كونها كالمفردة إذ هي زائدة من سألتمونيها والمدغمة فيها عين، لأن الوزن على الأصل إفعوعال، بخلاف اجلواذ وما أشبه، فصار التقدير: ايبواء، ثم قلبت الواو الأخيرة ياء وأدغمت فيها لسبق الأولى بالسكون فصار: ايياء. ففي هذا المصدر من هذا الفصل موضعان، أحدهما الفاء مع العين الأولى، والثاني الياء المبدلة من الواو الزائدة مع العين الثانية، هذا كله على قول سيبويه؛ إذ يقول في الفعل إيووى: فيجمع بين الواوات، خلافا لأبي الحسن. قالوا وهذا الاسم من الغرائب، إذ ليس فيه أصل واحد إلا قد أعل، أعلت فاؤه ولامه وعينه، فهو أدخل في الشذوذ من باء، وتاء، وياء، وماء، مما تتوالى عليه إعلالان في كلمة.
ومن هذا البدل اللازم أيضا احوياء، مصدر احواويت، أصله احويواء، والياء فيه بدل من الألف في الفعل عن اللزوم، لأن المصدر خلاف الفعل كما تقدم، فانقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وهذا مذهب سيبويه.
فأما إن كان وجود الواو والياء عارضا- كما قال- فلا يحصل ذلك الحكم، إذ عدم العروض شرط. ويتصور عروض الأول منهما، وعروض الثاني، فعروض الأول كقولهم: سوير، وبويع، أصله: ساير وبايع، فالواو الأولى عارضة لأنها في بنية المفعول وهي عارضة، والأصل بنية الفاعل، قال سيبويه: "وسألت الخليل- رحمه الله عن سوير وبويع، ما منعهم (من) أن يقلبوا
الواو ياء؟ فقال: لأن هذه الواو ليست بلازمة ولا بأصل، وإنما صارت للضمة حين قلت فوعل، ألا ترى أنك تقول: ساير ويساير، فلا يكون فيها الواو". ومثل هذا تفوعل إذا قلت: تبويع، فلا تدغم، لأن الواو غير لازمة، وإنما هي ألف تبايع. وكذلك رؤية إذا خففت همزته فقلت: روية، أو قلت في رؤيا: رويا، أو في نوي، لا تقول: رية ولا ريا ولا ني، لأن الواو عارضة والهمزة هي الأصل، فكان كواو سوير. وحكى سيبويه: رية وريا. فأما الأخفش فحمل هذا على قلب الهمزة واو محضة، على حذ أخطيت في أخطأت، وعلى هذا لا يعترض به على القاعدة، وأما سيبويه وغيره فجعلوه من التخفيف القياسي، ولكنهم جعلوا الواو بمنزلة الواو التي ليست ببدل من شيء، ولم يراعوا عروضها بل اعتدوا به، وهذا قليل لا يعتد به مثل الناظم في بناء قاعدة، مع أنه لا يطرد، فلا يقال عليه في مثل سوير: سير، فيعتد بالعارض. قال سيبويه:"ولا تكون- يعني هذه اللغة في سوير تبويع- لأن الواو بدل من/ الألف، فأرادوا أن يمدوا كما مدوا الألف. وألا يكون فوعل وتفوعل بمنزلة فعل وتفعل". يريد أنهم راعوا اللبس فلم يعتدوا بالعارض لأجله، فالمانع في الاعتداء بالعارض في سوير ونحوه أمران: قصدهم المد كما مدوا الأصل، والخوف من الالتباس ببناء آخر. والدليل على هذا قولهم: قوول وتقوول، فلم يدغموا
مع أنه التقى مثلان، فالإدغام في المثلين أسهل بكثير من إدغام المتقاربين، لكنهم تركوا ذلك للوجهين المذكورين، وكذلك: ديوان، الياء فيه عارضة لأنها بدل من واو ترجع في التحقير والتكسير، فشبهت بواو روية، ولو كانت الياء أصلها لأدغمت كما تدغم فيعال وفيعول نحو قيام وقيوم.
وأما عروض الثاني من الحرفين فيكون في المنفصل نحو: اخشى واقدا، واخشوا ياسرا، وما أشبه ذلك.
فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فكلام الناظم نص في ثبوت حكم قلب الواو ياء ثم الإدغام بقوله: فياء الواو اقلبن مدغما. والواو: مفعول أول لاقلبن، وياء هو المفعول الثاني. ويريد: سواء أتقدمت الواو. أم تأخرت فإنما تغلب الأثقل للأخف ومثال ذلك، سيد وميت وهين، أصله: سيود وميوت وهيون، لأنه من ساد يسود، ومات يموت وهان يهون. ولا يصح أن يكون على فوعل ولا فعول ولا فعل لعدم وجود هذه الأبنية، ولأنه كان يجب أن يقال: سود وموت وهون، ومن هذا أيضا: ديار وقيام وقيوم، أصله: ديوار من دار يدور، وقيوام وقيووم، من قام يقوم، ولو بنيت فيعل من القول لقلت: قيل، أو فوعل من البيع لقلت: بيع. كذلك لي وطي وشي، مصدر لوليت وطويت وشويت، أصله: لوى وطوى وشوى. ومن ذلك أيضا قولهم في مفعول من قضيت ورميت وحميت وطويت وشبه ذلك: مقضي، أصله مقضوي، فاتفق فيها ما اتفق في غيرها من انقلاب الواو ياء وإدغامها في الياء، وكذلك: مرمي ومحمي ومطوي ومشوي. وتقول في فعيل من عدوت وغزوت: دعي وغزي. وفي فعول من بغي يبغي: بغي، ومنه قوله تعالى:{وما كانت أمك بغيا} ، أصله: بغوي، على فعول،
ولذلك لم تلحقه التاء، وهو مؤنث، والأمثلة كثيرة، إلا أن هذا الكلام معترض من ستة أوجه:
أحدها: أنه شرط السكون في أول الحرفين ولم يقيده، فاقتضى أن الحكم معه ثابت على كل حال، وليس كذلك، لأن سكون الأول، على وجهين، أحدهما أن يكون سكونا أصليا ليس بطارئ ولا عارض كالمثل التقدمة، والثاني أن يكون عارضا، فأما الأول فلا إشكال معه، وأما الثاني فالحكم معه لا يثبت كما إذا قلت في قوي وروي: قوى وروى، فإن القلب هنا لا يصح بل يبقى على حاله، لأن ذلك السكون في تقدير الحركة لعروضه فلا تقول إلا قوى وروى، وفي غوي الفصيل: غوى، وفي هوي: هوى، وأشباه/ ذلك، فكان من حقه أن يقيد السكون بالأصالة كما فعل في التسهيل حين قيده بكونه أصليا.
والثاني: أنه شرط الاتصال بين الحرفين، وهذا الشرط غير محتاج إليه، لأنه إن أراد الاحتراز من الفصل بينهما بحرف فهذا معلوم؛ إذ لا يمكن أن يدغم حرف في حرف وبينهما ثالث، هذا لا يسع ولا يمكن، فالاحتراز منه عي، وإن أراد الاتصال في كلمة واحدة تحرزا من وقوعهما في كلمتين فهذا داخل تحت شرط العروض، لأن ثاني الحرفين إذا كان في كلمة أخرى فعروضه ظاهر؛ إذ لا يلزم أن يؤتى بذلك الحرف مع هذا في كل موضع، وإذا كان الإمام يعلل تركهم الإدغام في اقتتل بأن التاء
الثانية ليست بلازمة للأولى؛ إذ يجئ في موضعها حرف آخر إذا قلت: اكتسب واحترف مع اختلاف المواد على المثال فأن يكون هذا عارضا وهو في كلمة أخرى أحق وأحرى، وكذلك ما تقدم من الأمثلة في عروض الحروف، فقد ظهر أن هذا الشرط فارغ من الفائدة.
والثالث: أن العروض الذي ذكر على وجهين، وذلك أنه يقال في الحرف إنه عارض، بمعنى أنه عارض قياسا، وبمعنى أنه عارض استعمالا، أما هذا الثاني فهو الذي يصح عليه كلام الناظم، لأن الحرف يكون في حال دون حال في استعمال دون آخر، كما تقول ذلك في ياء ديوان: هو مستعمل هنا غير مستعمل في التحقير والتكسير إذا قلت: دويوين ودواوين، وكما تقول في واو سوير: إنها عارضة هنا للضمة وإنما هي ألف في ساير، فهذه الواو والياء تسميان عارضتين استعمالا، وبهما وقع التمثيل، وذلك هو الذي أراد النحويون، وأما العروض القياسي فلا يصح عليه كلامه، فإن إفعالا المصدر من آول يؤول إذا قلت فيه: إيالا، أصله إئوالا ثم قيل: إيوالا، فليست الياء فيه بأصل وإنما هي عارضة، ألا ترى أن أصلها الهمزة التي هي فاء والياء الآن قد يصدق عليها أنها عارضة، لكنها تلزم استعمالا، ولمراعاة الاستعمال فيها قلبت لها الواو وأدغمت فيها، وإذا كان كذلك فمن أين يظهر من كلامه أن هذا من قبيل اللازم لا من قبيل العارض، فإذا لم يتبين ذلك بعد اقتضى أنك (إنما) تقول هنا: إيوالا، ولا تدغم، وذلك خلاف ما قاله النحويون.
والرابع: أن ياء التصغير في بنية المصغر إما أن تعدها من قبيل الحروف العارضة أو قبيل اللازمة، فإن عددتها من قبيل الحروف العارضة-
لأن بنية التصغير عارضة على بناء المكبر كما كانت بنية ما لم يسم فاعله عارضة على بنية الفاعل في الفعل- لازمه ألا تدغم ياء التصغير في واو تقع بعدها البتة، فلا تقول في صبور: صبير، ولا في شكور: شُكَيِّر، ولا في خروف، خريف، ولا في عتود عتيد، ولا في سدوس: سديس، ولا ما أشبه ذلك. وإنما يجب على هذا أن تقول: صبيور، وشكيدر، وخريوف، وعتيود، وسديوس، وكذا/ سائر الباب. وهذا غير صحيح باتفاق، وإن عددتها من قبيل اللازمة لزمك أن تدغمها البتة ما كان نحو جمهور في جهور، وأسيود في أسود، وجديول في جدول، لكن هذا فصيح- أعني الإظهار وعدم الإدغام- فإذا على كل تقدير لا يصح له هذا الحكم مع ياء التصغير.
والخامس: أن من هذه الحروف ما يكون لازما ومع ذلك فلا يحكم له بحكم اللازم بل بحكم العارض، وذلك مثل حوقل من البيع فإنك تدغم في بنية الفاعل لحصول الشروط، فإذا جئت إلى بناء المفعول لم تدغم بل تقول: بويع. ولا يصح القلب والإدغام، وإن كانت الواو غير مبدلة من شيء، وإنما هي الموجودة في بنيت الفاعل وكذلك افعوعل من البيع تقول فيه: ابييع، فإذا بنية للمفعول: قلت: ابيويع، فلم تقلب الواو ياء، وهي كانت الموجودة في فعل الفاعل، قال ابن جنى: "لأنها لما صارت- يعني الواو- في فوعل: مدة لسكونها وانضمام ما قبلها أشبهت الواو في فوعل المنقلبة
عن الألف في فاعل". قال: "ولئلا يلبس أيضا فوعل بفعل". قال: "وكذلك لو بنيت فعول من البيع قلت: بيع، وأصلها بيوع. فإن قلت فيها فعل قلت: بووع، ولا تدغم، لأن الواو الأولى إنما انقلبت عن الياء التي هي عين الفعل فجرت مجرى واو بوطر المنقلبة عن ياء بيطر الجارية مجرى المدة في قوول من قاول، فلم تدغم". فهذا النوع ظاهر الدخول تحت عقد الناظم؛ إذ اجتمعت فيه شروطه التي ذكر، ثم إنه ليس بداخل في الحكم عند غيره من النحويين سيبويه وغيره، فلم يتحرر عقده وكان منحلا بعد.
والسادس: على فرض أنه كمل له منه المقصود بقي له من المسألة جزء لم يذكره وهو كسر ما قبلها بعد حصول الإدغام إذا كان مضموما، فإن ما قبلهما تارة يكون مفتوحا أو مكسورا فلا يحتاج إلى زيادة نحو ايياء في مصدر ايووي، وبيع في فيعل من البيع، وتارة يكون مضموما فيطلبان بكسره كما في مقضي وبغي وما أشبه ذلك. وأيضا ليس كسر ما قبلهما بجار على وتيرة واحدة، فقد يجب الكسر كمضي وبغي، وقد لا يجب نحو لي في جمع ألوى، فالمسألة إذا في كلامه لم تتم بعد فلم يتحصل منها منطوق به. ومثل هذا من الاعتراضات يلزمه كما كان لازما له لو قال مثلا في مبيوع ونحوه: تنقل ضمة الياء إلى الباء. وسكت عن غير هذا من (سائر) الأحكام التي تعتور على الكلمة حتى تصير إلى مبيع، فهذا فيه ما ترى.
فأما الاعتراض الأول فالظاهر لزومه ولا يقال بموجبه فتقلب الواو في قوى فتقول: قئ إلا على مذهب بعض النحويين قياسا على قول من قال في رويا ريا، وفي روية: رية. وهذا لا يمشي على مذهب الناظم هنا، لأن ذلك قليل وخلاف المعتمد في الباب، وإنما قال بالقياس في قي تفريعا على ذلك القليل، والجميع مطرح عنده الناظم. وإنما يبقى أن يقال: إن قوى لما كان سكونه عارضا وهو في تقدير الحركة لم يعتبر ما هو عليه الآن فكأنه متحرك بعد لا ساكن في / الحقيقة. وهذا الجواب ضعيف، والأولى في الجواب أن يقال: إن الضمير في "عريا" عائد كما تقدم على الواو والياء، إلا أنه لم يرد التعري من العروض فيهما أنفسها خاصة، إذ لم يقل: بشرط ألا يكونا عارضين، وإنما اشترط أن يخلو من تعلق العروض بهما؛ إذ هو معنى قوله:"ومن عروض عريا"، والعروض الذي يلحقهما على وجهين، أحدهما: أن يلحقهما في أنفسهما كروية تخفيف رؤية، فإن الواو الأولى عارضة وأصلها الهمز فلا اعتداد بها، وهذا صحيح. والثاني: أن يتعلق بهما في أحوالهما لا في أنفسهما، وقد ذكر لهما حالين، أحدهما، سكون الأول وهو قوله:"إن يسكن السابق من واو ويا"، فتعلق العروض بالسكون مانع من جريان الحكم، فإذا قلت في قوي: قوى، وفي فعلان من طويت: طويان، ثم أسكنت، لم تقلب ولم تدغم، لأن السكون عارض فلا اعتداد به. والحال الثاني: اتصالهما بعضهما ببعض، وتعلق العروض به أيضا مانع، فإن قولك: احشوا ياسرا، لا يجب فيه
الإدغام لعروض اتصال الياء. وكل هذا يشمله لفظ الناظم، لأن العروض في هذه الأشياء متعلق بالواو والياء، وهو قد قال: ومن عروض عريا، فالجميع مراد له، فزال الإشكال، والحمد لله.
وأما الإشكال الثاني فإن قوله: "ومن عروض عريا" من تمام شرط الاتصال، والمعنى: إن اتصلا اتصالا أصليا، ولو قال هذا لم يكن عليه اعتراض، وإنما كان يلزم الإشكال على تقدير استقلال العروض بالشرطية، وهذا ظاهر، والله أعلم.
وأما الثالث فإنه إنما أراد العروض الاستعمالي، وفيه تكلم، وعليه يبنى، على عادته في التمسك بالظواهر، وأما العروض القياس فهو شيء لم ينطق به ولا ظهر في موضع من المواضع، وإنما ظهر لزوم الياء فهو الذي اعتمد، وإياه أراد، والله أعلم.
وأما الرابع (فنقول): إن ياء التصغير من قبيل ما هو لازم لا عارض، لأن بنية المكبر (بنية) أخرى، وأما ما جاء من نحو أسيود وجديول فهو عند سيبويه أضعف الوجهين، والقياس والأولى القلب والإدغام على القاعدة القياسية الاستعمالية، ألا تراه قال:"واعلم أن من العرب من يظهر الواو في جميع ما ذكرناه"، قال:"وهو أبعد الوجهين، يدعها على حالها قبل أن تحقر". فيجعله- كما ترى- أبعد الوجهين عن القياس، وجعله لغة لبعض العرب، فهو
في عداد الأوجه الضعيفة التي لا يعتبرها في هذا النظم. وأيضا فليس هذا الإظهار عاما في جميع المصغرات وإنما هو مختص بما كانت الواو فيه ظاهرة صحيحة في المكبر كجدول وأسود (ومعاوية) ونحو ذلك لافيما اعتل أو كان ساكنا نحو سيد وقيوم ومقام وعتود، وأيضا فهو مختص بما كانت الواو فيه عينا أو في موضع العين لا لاما، فإنها إن كانت لا ما وكانت محركة ومصححة فلا بد من القلب والإدغام كدلو ورضوى وعشواء، فإنما تقول/: دلي، ورضيا، وعشياء، وكذلك ما أشبهه.
فالحاصل أن الذي يكون فيه عدم القلب من المصغرات قليل في قليل في لغة قليلين من العرب، فبحق ما تركه الناظم! وهو حسن.
وأما الخامس فإن فوعل من البيع وما أشبهه إذا بني للمفعول الواو فيه محكوم لها بحكم العارض، والياء بعدها في الحكم عارضة، أما كون الواو محكوما لها بحكم العارض فإن فوعل في البناء للمفعول محمول على فاعل، ولذلك صارت الواو مدة كما صارت في فاعل حملا للمعتل على الصحيح، إذ كنت تقول: بوطر في بيطر، كأنك قلت: باطر، وتقول: صومعت، فتقول فيه: صومعت، فتجريها مجرى صامع لو تكلمت به، وكذلك فيعلت من باع، فلما كان حال الواو في فوعل وما أشبهه هكذا صارت الواو لما لحقها من المد بالتشبيه بفاعل في حكم المبدل من ألف
فاعل، فعوملت معاملتها، أما بنية الفاعل فلا إشكال في ثبوت حكم القلب والإدغام فيها، وإنما عرض الشبه لبنية المفعول، (وأما كون الياء بعدها عارضة فإن هذه الواو قد تأتي في بنية المفعول) وليس بعدها ياء تدغم فيها، ألا ترى أن فوعل قد يأتي بعد الواو فيه غير الياء إذا قلت بوطر وحوقل وما أِبه ذلك، فلما كانت كذلك اعتبر فيها حال السقوط عن البناء، قال سيبويه:"وتقول في افعوعلت من سرت: اسييرت، تقلب الواو ياء لأنها ساكنة بعدها ياء، فإذا قلت (فعلت قلت): اسيويرت، لأن هذه الواو قد تقع وليس بعدها ياء كقولك اعذودن، فهي بمنزلة واو فوعلت وألف فاعلت". قال: "ولذلك هي من قلت، لأن هذه الواو تقع وليس بعدها واو". قال: "فيجريان في فعل مجرى غير المعتل، كما أجريت الأول مجرى غير المعتل، فأجريت اسيوير على مثال اعذوذن في هذا المكان، واشهوب في هذا المكان، ولم تقلب الواو ياءاً لأن قصتها قصة سوير". هذا كلامه قد ظهر منه الحكم على ما بعد الواو بالعروض. وقد أجاز الفارسي في احوياء مصدر احواويت أن يجاء به على الأصل فيقال: احويواء، علل ذلك ابن أبي الربيع بأن ياء افعيلال لا يلزم أن تقع بعدها واو، لأنك تقول: احميرار، واشهياب، فجرى ذلك مجرى المنفصلين، ونظره باقتتال، وسيأتي ذكر ذلك الإدغام. فإذا ثبت هذا لم يكن على الناظم اعتراض في هذا النظم ولا في التسهيل.
وأما السادس فإن كسر ما قبل الواو إذا انقلبت إلى الياء قد تقدم له فيه كلام لعله يغني ههنا، وذلك أنه قال في باب الإضافة إلى ياء المتكلم:
وتدغم اليا فيه والواو وإن
…
ما قبل واو ضم فاكسره يهن
فنص على كسر ما قبل الواو إذا قلبت ياء وحتم الحكم بذلك هنالك، وهي مسألة من هذا الفصل فلابد أن يجري الحكم في الجميع، فاجتزأ بذكره هناك عن ذكره هنا، فما كان من نحو مرضي وبغي داخل بالمعنى تحت الحكم بالكسر، ولاسيما وقد نص هنالك على العلة بقوله:"فاكسره يهن"، أي: يسهل، فأشار إلى أن سبب الكسر التخفيف، وأن بقاء الضمة يحدث ثقلا/ (فيجرى ذلك هنا)، لكن فيما كان مثل مسلمي، وهو ما كانت الضمة فيه قريبة من الطرف ولم تكن على فاء الكلمة، فإذا ما كانت الضمة فيه على فاء الكلمة خارج عن ذلك اللزوم لأجل قوة الضمة ببعدها عن الطرف، فإن اعتبرت قوتها تركتها على حالها فقلت: لي في جمع ألوى، وإن اعتبرت ثقل اللفظ قلت: لي، فكسرت، وكذلك ما أشبهه، فيمكن أن يكون الناظم قصد هذا، والله أعلم.
وقوله: "مدغما" حال من فاعل "اقلبن"، أي: اقلب الواو ياء في حال كونك مدغما. إلا أن هذه الحال لا يصح إذا أخذت على حقيقتها، وذلك
(أنه) يقول: اقلب في حال الإدغام، أي في زمان الإدغام، والحال مقدرة بالظرف، والقلب في زمان الإدغام محال؛ إذ الإدغام إنما هو من إدغام المثلين في الحقيقة، وإن كان كأنه معدود من إدغام المتقاربين لتقاربهما في الصفات من المد واللين وغير ذلك، ولا تكون الواو مثل للياء إلا بعد قلبها ياء، فإذا لا يكون الإدغام إلا بعد قلبها ياء، وإذا كان كذلك أشكل قوله:"اقلبن مدغما"، لأن القلب ليس في حال الإدغام، بل بعده.
والجواب: أن الحال هنا مقدرة، أي: اقلبن مقدرا للإدغام، أي: إن القلب لا يكون إلا على هذا التقدير. وكذا هو في حقيقة الأمر، لأن الإعلال هنا لا موجب له إلا ثقل اجتماع الواو والياء، فأرادوا أن يزيلوا ذلك، فلم يتأت لهم إدغام أحدهما في الآخر؛ إذ لا يصح ذلك فيهما من غير قلب أحدهما إلى الآخر، فقلبوا الواو ياء لأجل أن يدغموا أحدهما في الآخر، فالحال هنا هي الحال المقدرة، وعليه جاء معنى الكلام، ومثل هذه الحال قوله تعالى:{وفجرنا الأرض عيونا} ، أي: فجرنا مقدرين هذه الحال لها، وهي كونها عيونا، إذ لم تكن عيونا في حال التفجير، وإنما حصل كونها عيونا بعد حصول التفجير، أو بعد فرضه موجودا، وكذلك مسألتنا.
ثم نبه على شذوذ ما شذ عن القاعدة فقال: "وشد معطي غير ما قد سما"؛ غير: منصوب بمعطى على المفعول الثاني، ومعطى على حذف الموصوف للعلم به، أي: شذ لفظ معطى كذا، يعني أن كل كلمة اجتمعت فيها الشروط المذكورة ولم يحصل فيها ذلك الحكم من قلب الواو ياء وإدغام الياء في الياء،
فهي شاذة محفوظة لا يقاس عليها، فمن ذلك حيوة، اسم رجل، وضيون للهر الذكر، وعوى الكلب عوية. قال ابن الناظم: الشاذ من هذا النوع على ثلاثة أضرب، الأول: ما شد فيه الإبدال لأنه لم يستوف شروطه كقراءة من قرأ: {إن كنتم للريا تعبرون} . الثاني: ما شذ فيه التصحيح كقولهم للسنور: ضيون، وعوى الكلب عوية، ويوم أيوم. والثالث: ما شذ فيه إبدال الياء واو وإدغام الواو في الواو، نحو: عوى الكلب عوة، ونهو عن المنكر". انتهى، وهو حسن.
ويدخل تحت هذا الإطلاق قولهم في التصغير: أسيود، وجديول/، وجهيور، وما أشبه ذلك مما تقدم؛ إذ هو مما اجتمعت فيه الشروط فلم يحصل فيه قلب ولا إدغام، لكن مثل هذا الايقال فيه شاذ، كيف والنحويون يقيسونه وإن كان قليلا. ووجه ما قالوه من هذا أن الواو جرت مجرى الصحيح بتحركها ووقوعها في موضع الحرف الصحيح، فعاملوها معاملته، وأيضا فتشبيها لياء التحقير بألف التكسير؛ إذ كانوا إنما يفعلون هذا فيما يكسر على مفاعل، فثبتت فيه الواو ظاهرة غير معتلة، والله أعلم.
من واو أو ياء بتحريك أصل
…
ألف ابدل بعد فتح متصل
إن حرك التالي وإن سكن كف
…
إعلال غير اللام وهي لا يكف
إعلالها بساكن غير ألف
…
أو ياء التشديد فيها قد ألف
هذا هو إبدال الألف من غيرها من حروف العلة الياء أو الواو، وحذف العاطف والأصل أن يقول: ومن واو أو ياء. وهذا الجار متعلق بأبدل، وبتحريك: متعلق باسم فاعل محذوف صفة لما قبله، وأصل: جملة في موضع الصفة لتحريك، وألفا: منصوب على المعفولية بأبدل. ويعد: متعلق باسم فاعل حال من الياء والواو وإن كانا نكرتين، أو بأبدل، والتقدير: أبدل ألفا من ياء أو واو كائنتين بتحريك أصل حالة كونهما بعد فتح متصل. ومعنى ذلك على الجملة أن الواو والياء تبدلان ألفا إذا تحركا حركة أصلية وانفتح ما قبلهما متصلا بهما، وكان التالي- أي: الواقع بعدهما مما يليهما- متحركا أيضا وقد اشتمل هذا العقد على خمسة أوصاف بوجودها يحصل الحكم ما لم يأت مانع من خارج:
أحدها: أن تتحرك الواو والياء، وذلك قوله:"بتحريك"، وهذه الحركة لم يعينها، فدل على أنها يصح أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة، فالضمة نحو: طال، أصله: طول، وهو ضد قصر. والفتحة نحو: قام وهام، أصله: قوم وهيم. والكسرة: هاب وخاف، أصله: هيب وخوف. فإن سكنت الواو والياء فمفهوم الشرط أنها لا تقلب ألفا قياسا، وذلك نحو: سقيت ورميت، ودعوت وغزوت، واستسقيت، وما أشبه ذلك، قال سيبويه: "وأما قولهم: غزوت ورميت، وغزوت ورمين، فإنما جئن على الأصل لأنه موضع لا تحرك فيه اللام، وإنما
أصلها في هذا الموضع السكون، وإنما تقلب ألفا إذا كانت متحركة في الأصل". انتهى. فإن جاء من ذلك شيء فمحفوظ غير مقيس، فمما جاء من ذلك قولهم في ييأس: ياءس، وفي يوجل: ياجل، أرادوا التخفيف وإن كانت ساكنة لأن الألف أخف من الواو والياء لاسيما لما جاءتا مع الياء، فرأوا أن جمع الياء والألف أسهل من جمع الياءين أو الواو والياء، وقد حملهم طلب الخفة أن قالوا في طيئي: طائي. وقد تقدم تنبيه الناظم عليه فأبدل الألف من الياء الساكنة، وكذلك حاري في الحيرة، قال/ الشاعر:
فهي أحوى من الربعي خاذله
…
والعين بالإثمد الحاري كحول
وحكى أبو زيد عن بعضهم في تصغير دابة: دوابة، يريد: دويبة، فأبدل من ياء التصغير ألفا، وقال الراجز، أنشده ابن جني:
تبت إليك فتقبل تابتي
…
وصمت- ربي- فتقبل صامتي
أراد توبتي وصومتي. وقال مالك بن أسماء بن خارجة:
ومن حديث يزيدني مقة
…
مالحديث المأموق من ثمن
يريد: الموموق. وفي الحديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم "ارجعن مازورات غير مأجورت". وجهه الكوفيون أن أبدل الألف من الواو لازدواج الكلام. وقال سيبويه في آية وراية وطاية وثاية [آية: إنها فعلة، بإسكان العين، فأبدلت الألف منها وهي ياء، وهو مذهب الفراء. ومذهب الخليل حملها على القياس وأن أصلها التحريك، فانقلبت ألفا لتحريكها وانفتاح ما قبلها على الأصل، لكن فيه شذوذ إعلال العين وتصحيح اللام، وهو خلاف القياس، على ما يأتي بعيد هذا، إن شاء الله تعالى. قال ابن جني: "وأخذ هذا بعض البغداديين من سيبويه فقال في قولهم: أرض داوية (إنه): أراد دوية، فأبدل من الواو الساكنة التي هي عين دو ألفا، قال ذو الرمة:
دوية ودجى ليل كأنهما
…
يم تراطن في حافاته الروم
ثم حكى عن الفارسي رده.
ومنه: حاحيت وعاعيت، قال المازني:
"وأخبرني أبو زيد النحوي قال: سألت خليلا عن الذين قالوا: مررت بأخواك، وضربت أخواك، فقال: هؤلاء قوم على قياس الذين قالوا (في) ييأس: ياءس، أبدلو الياء ألفا لانفتاح ما قبلها". وانظر في تفسير هذا الكلام في المنصف لابن جني. قال المازني: "ومثله قول العرب من أهل الحجاز: ياتزنون، وهم ياتعدون، فروا من يوتزنون ويوتعدون".
قال الكسائي سألت أبا الجراح فقلت له: من يقول من أحياء العرب: هو ياجل، وياجل، وياءس، ويابس؟ فقال لي: يمه؟ - وهو يستفهمني، أراد: يا، ماذا؟ فأفهمته- فقال: تقوله عامر وقوم من قيس. يريد: يوجل، ويوحل، وييأس، وييبس، من الوجل والوحل والإياس واليبس. فهذا وما أشبهه مما جاء على غير قياس.
الوصف الثاني: أن تكون حركة الواو والياء أصلية لا عارضة، وذلك قوله:"بتحريك أصل" يعني أن الواو جاءت متحركة في أصلها، وكذلك الياء، لا أن تكون الحركة عرضت لها، وذلك كما إذا خففت: شيء وفيء وضوء ونوء، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء والواو فقلت: شي وقي وضو ونو، لم
تقلبهما ألفًا وإن تحركا، لأن الحركة حركة الهمزة لا حركة الواو والياء. وكذلك إذا خففت "جيئل" فنقلت الحركة وقلت: جيل، لم تقل: جال، أو بنيت من ضهيأ مثل قمطر فقلت: ضهيئ، ثم خففت بالحذف والنقل فقلت: ضهي، لم تقل: ضها، وإن تحركت، وكذلك لو بينت من قرأ مثل إدرون فقلت: إقروء، ثم خففته ونقلت/ (لقلت): إقرو، ولم تقلب الواو ألفا.
وكذلك ما أشبه هذا، فالحركة وإن كانت على الواو والياء محرزة للهمزة فكأنها موجودة وحركتها عليها، وقال ابن جني:"سألت أبا علي فقلت له: من أجرى غير اللازم مجرى اللازم فقال في تخفيف الأحمر: لحمر أيجوز على هذا أن يقلب الواو والياء في جوب وجيل ألفا فيقول: جاب وجال؟ فقال: لا وأومأ إلى أن حكم القلب أقوى من حكم الاعتداء بالحركة في نحو لحمر، أي فلا يبلغ في الجواز ذلك لشناعته كما ذكر".
الوصف الثالث: (أن ينفتح ما قبلهما، وذلك لأن الألف لا تثبت إلا بعد الفتحة، فإن تحرك بالضم نحو: دول وسور، أو بالكسر نحو: حول وسير، أو سكن نحو دأو وظبي، لم تنقلب الواو ولا الياء ألفا. وكذلك ما كان
نحو: عثير، وجهور، وكنهور، وقندأو، وسندأو، وشبه ذلك. أما إذا كان ما قبلها ساكنا فإن العرب تجريها إذ ذاك مجرى الصحيح، إذ لا يجتمع فيه ياء وكسرة، ولا واو وضمة، وقويتا إذ كان ما قبلهما ضعيفا لسكونه، قال سيبويه:"ومن ثم قالوا: مغزو وعتو". يعني ولم يقبلوا، وأما إذا تحرك ما قبلها بالضم أو بالكسر فإن اللام بذلك تعتل في الاسم اعتلالا آخر، وذلك كله إذا كان المعتل لاما أو في موضع اللام. وأما إذا كان المعتل الواو أو الياء في وضع العين فإنهما إذ سكن ما قبلهما كما تقدم في اللام، وإذا تحرك بالضم أو بالكسر لم يصح انقلابها ألف- كما تقدم، فلم يبق إلا أن يكون ما قبلهما مفتوحا وأيضا الاعتلال ههنا إنما هو بالحمل على الفعل، وإذا انفتح ما قبلهما كانت الكلمة بذلك على وزن الفعل، فثبت الإعلال في نحو دار ومال، ورجل مال، وضاف. وكذلك تقول في نحو عضد من القول: قال. وأما إذا لم ينفتح ما قبلهما فإن الكلمة تخرج بذلك عن وزن الفعل فتقول: سور وعوض، ونحو ذلك. ولذلك قالوا إذا بنيت من القول والبيع مثل إبل قلت: قول وبيع، فصححت كما تصحح حولا وطورًا.
فإن قلت: فإن في الفعل مثل فعل نحو: نعم وبئس، فهلا أعللت فقلت: قيل.
قيل: هذا لا يلزم، لأن هذه الكسرة لما كانت من أجل الحرف الحلقي لم تلزم فلم يعتد بها وصارت الفاء كأنها على فتحتها، كما لم يعتدوا بالفتحة في نحو يطأ ويسع، بل كانت بمنزلة الكسرة، فحذفوا الواو، كما حذفوها من يزن ونحوه ولم يثبتوها كما أثبتوها في يوجل.
فأما وجه القلب في اللام مع الفتح فإن اللام لما اعتلت حين انكسر ما قبلها أو انضم أرادوا أيكون ذلك أيضا إذا انفتح ما قبلها لتجري اللام على حكم واحد في الاعتلال. وإلى هذا النحو من التعليل أشار سيبويه. وأما العين فإنما اعتلت لأن الحركات أبدا في هذه الحروف مستثقلة لاسيما الضمة والكسرة، فثقل عليهم في هذا فعل وفعل إذا قلت مثلا: طول وخوف وهيب، فسكونهما ألفا فقالوا: طال وخاف، ثم أعلوا أيضا فعل كذلك لتوالى الفتح ولتكون كأختيها فقالوا: قام وباع وآب، وحملوا على / ذلك الاسم فقالوا: مال ودار وساق، أصله: مول ودور وسوق، إذ هي من الواو (لقولهم): أموال، ودار يدور، والسوق. وقالوا: رجل خاف ومال، أصله: خوف ومول، وكذلك ما أشبهه. وأما فعل في الأسماء من المعتل فقال ابن جني:"لا أعلمه جاء اسما فيما عينه معتلة لا صحيحا ولا معتلا". ثم ذكر أنك لو بنيت من قام مثل عضد لقلت: قام، وأصله: قوم، فقلبت الواو ألفا إذ تحركت وانفتح ما قبلها، كما قالوا: طال، وأصله طول.
فإن قيل: قد تقدم أن الواو والياء تنقلبان ألفا لتحركهما من غير أن يكون ما قبلهما ساكنا. وذلك قياس مطرد فيما إذا وقع قبلهما الألف الزائدة في اللام والعين معا؛ ألا ترى أن الخليل وغيره يقولون في كساء وارد: أصله كساو ورداي، لكن وقعت الألف قبلهما زائدة وهي تشبه الفتحة فانقلبت ألفا، ثم اجتمع ألفان، فلما أرادوا تحريك (الألف) الثانية انقلبت همزة، وكذلك قالوا في همزة قائم وبائع، حرفا بحرف، فقد وجد الإعلال فيهما ولا حركة قبلهما، وذلك ينقض هذا.
فالجواب: أن ما تقدم إنما هو أمر تقديري لا وجود لا في الخارج، فلم يعتبره (وقد تقدم أن الناظم لم يعتبر) ذلك العمل ولا بني عليه، وإنما بني هنالك على أن الواو والياء انقلبتا همزة لوقوعهما طرفا بعد ألف زائدة في كساء ورداء، وأنهما كذلك انقلبتا همزة في فاعل ونحوه، لا أنهما انقلبتا ألفا ثم همزة، وإذا كان العمل عنده كذلك فلا يعترض عليه بما ذكره غيره. هذا مع أن الألف وحدها اختصت بهذا لشبهها بالفتحة، لأن الفتحة بعضها، وبذلك عللوا هنالك القلب ألفا. فعقد الناظم (هنا) صحيح (وهناك صحيح) على ما مضى ذكره، وأيضا فقد أتى فقد أتى بشرط مخرج نحو كساء وقائم أن يكون من هذا الباب، وهو الوصف الرابع:
أن تكون الفتحة متصلة، وذلك قوله:"بعد فتح متصل"، ومعنى اتصالها وجهان:
أحدهما: أن يكون تحرز به من الفصل بينهما، أعني بين الواو والياء وبين الفتحة بحرف من الحروف كظبية وغزوة، فلا أثر لحركة الظاء والغين في الياء والواو للفصل بينهما، ولأنه قد مر أن من أسباب القلب هنا توالي الحركات، وإذا سكن ما قبلهما فقد جزء العلة، وقد دخل هنا الفصل بالألف الزائدة، فليست إذا الهمزة في قائم وبائع ولا في كساء ورداء بمنقلبة عن الألف، على اعتبار هذا الشرط كما تقدم له من اطراح هذا العمل. قيل: وله وجه من النظر، وذلك أن هذا العمل لا يتعين ولم يظهر له ثمرة في الكلام، وإنما هو زيادة عمل صناعي فقط، وتقريب العمل ما أمكن هو الأولى. وأيضا فإن من قواعد سيبويه- على ما قرب ابن جني- الحمل على الظاهر وإن أمكن أن يكون المراد غيره، وقد أمكن هنا أن يكون القلب حصل في الواو والياء لا في الألف، فلا يعدل عنه إلا بدليل، وأيضا قلب الألف همزة طلبا لتحريكها أمر قليل في الكلام الشاذ في الاستعمال، قلما يأتي/ إلا في الشعر، ولذلك لم يقبله كبار النحاة في القياس، والقلب في كساء، وقائم ونحوه كثيرا جدا وقياس مطرد، فلو كان من ذلك الأصل لكان قليلا ونادرا أو شاذا، فكونه لم يكن كذلك دليل على أنه ليس على ذلك التقدير، وهذا من باب الاستدلال بالأحكام، وهي من قواعد سيبويه وغيره، فلأجل هذا من الدلالة يقوم الناظم: لابد من اتصال الفتحة. وهذا- والله أعلم- هو الذي أراد هنا وفي التسهيل، لا
أنه قصد الفصل بالحرف الصحيح كغزوة وظبية، وإنما دخل مثل هذا بحكم الانجرار، على أن غيره قد احترز مما احترز هو منه، فقالوا في نحو: قاولت وبايعت، وتقاولنا وتبايعنا، وحولت وتحولت: لا يعل مثل هذا وإن تقدمته الفتحة. قال ابن جني تفسيرا لما قاله المازني من ذلك: "إنما صحت هذه الأفعال كلها لسكون ما قبل الياء والواو والمتحركتين، فلو قلبت الياء والواو في قاولت وبايعت كما قلبتها في قال وباع لوجب حذف إحدى الألفين ولزال البناء، أو قلت الأخيرة من الواو والياء في زنيت وشوقت لتحرك ما قبلهما وزال البناء، فتجنبوا ذلك لكثرة التغيير.
وكذلك تفعلت وتفاعلنا، لأن التاء إنما دخلت على فعلت وفاعلنا، ولما صحت هذه الأفعال صحت مصادرها أيضا كالتقاول والقوال، وشبه ذلك.
والوجه الثاني: أن يريد بالاتصال اتصال الفتحة بالواو والياء في كلمة واحدة تحرزا من أن تكونا في كلمتين، فإنه لا يؤثر كقولك: ذهب يزيد وقطع وريده، وخرج وليد وانطلق يريد كذا، فإن مثل هذا الاعتبار به كما لم يعتبر في القاعدة الأولى وهي قاعدة سيد وميت، وذلك لأن الكلمة الثانية ذات الواو
والياء ليس بواجب أن تأتي قبلها فتحة، بل قد تكون وقد لا تكون، فكيف تتقلب ألفا لأمر يتخلف وينكسر ولا يلزم؟ وهذا ظاهر.
الوصف الخامس: أن يكون ما بعد الواو متحركا، وذلك قوله:"إن حرك التالي". يعني أن هذا الحكم ثابت على الإطلاق بشرط أن يكون التالي لهما متحركا لا ساكنا، وهذا الشرط له ضميمتان مفهومتان من الكلام:
إحداهما: أنه إنما يتأتى فيما يكون بعده حرف في كلمته كقام ونام وارم، وكذلك مصطفون وما أشبه ذلك، وإلا فإذا لم يكن بعده حرف في كلمته فلا متحرك ولا ساكن، وإن جاء من كلمة أخرى فغير معتبر أصلا، فإذا قلت: رمى زيد، أو رمى ابنك، أو رمى، ووقفت عليه- فالحكم واحد إلا ما يعرض من التقاء الساكنين قط، فأما الإعلال فحاصل على كل تقدير.
والثانية: أنه شرط في إطلاق القول بالإعلال المذكور أنه إذا تحرك ما بعد الواو والياء فانقلابهما ألفا ثابت على الإطلاق، بخلاف ما إذا سكن ما بعدهما فإن في ذلك تفصيلا ذكره، ويدلك على هذا المعنى قوله:"وإن سكن كف إعلال غير اللام" .. إلى آخر المسألة، فإنه ذكر أن سكون ما بعدهما لا يثبت معه الإعلال على الإطلاق، بل يثبت في بعض المواضع ولا يثبت في بعض، فدل هذا/ من كلامه على أن التحريك شرط في إطلاق
القول بالإعلال. والتفصيل الذي ذكر فيما إذا وقع بعدهما ساكن هو أنه لا يخلو أن تكون الواو والياء غير لام أو لاما، فإن كانت غير لام- وذلك العين ما يقع في موقعه مما لا تتم به الكلمة- فكيف ذلك الساكن الإعلال، فتبقى الواو والياء على أصلهما، وذلك نحو: غيابة، وغواية، وعياياء، وجواد، وطويل، وقوول، وبيان، وما أشبه ذلك، فإنك لو أعللت مثل هذا لالتبس البناء المخصوص بغيره، وذلك لأنك إذا قلت في غيابة وغواية: غاابة، وغااية، اجتمع ألفان، فلابد من حذف إحداهما لالتقاء الساكنين، فيصير غيابة غابة، وغواية من: قبل غاية، وكذلك عياياء عاياء، وجواد جاد، وطويل طيل، وقوول قول، وبيان بان، فتلتبس بما وافقهما من الأبنية، فلا يحصل فرق، فكرهوا ذلك، وقد دل على هذا الحكم قوله:"وإن سكن كف إعلال غير اللام". يعني إن سكت ما بعد الواو والياء كف إعلال غير اللام، وغير اللام هي العين وما إليها.
وإنما قال: "غير اللام"، ولم يعين العين، لأنه (قد) يقع قبل اللام ما يعل وليس بعين، وذلك الفاء إذا وقعت بالقلب في موضع العين كجاه، فإن أصله وجه، ثم صار بالقلب جوه، (ثم) حركوا الواو بالفتح إذ بنوه على صفة أخرى
فقالوا: جوه، فوجب فيه ما وجب في العين نفسها في نحو: قام وهام، من انقلابها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. لكن قد يعترض على هذا المأخذ بقولهم: أيس، مقلوب يئس، فإنهم لما قلبوه كان حقه على هذا أن يعل فيقال: آس، كما يقال: خاف وهاب. والأولى أن يكون أراد بغير اللام العين فقط، ولا يحتاج إلى هذا الاعتذار، ويكون ما جاء من جاه ونحوه نادرا لا يعتد به.
وإن كانت الواو أو الياء لاما فإن الساكن الذي يقع بعدهما قسمان.
أحدهما: أن يكون ألفا أو ياء مشددة. والثاني: أن يكون غير ذينك.
فإن كان الأول فإنهما يمنعان إعلال اللام مطلقا، وذلك قوله:"وهي لا يكف إعلالها بساكن غير ألف أو ياء" صفتها كذا. وضمير "هي" عائد على الواو أو الياء، وأعاد ضمير المفرد لأن العطف فيهما بأو، ولو قال: وهما لا يكف إعلالهما، لصح، لأن معنى أو التنويع أو التختير، فيعني أن الساكن لا يكف إعلالهما إلا إذا كان أحد هذين الحرفين. فأما الألف فنحو: غزوا ورميا، فإنه لو أعل فقيل: ماا وغزاا لانحذفت الألف للسكانين، فالتبس فعل الاثنين بفعل الواحد، فلم يمكن أن يعتل لأجل ذلك. وكذلك نحو: كروان، وعدوان، ونفيان، وغليان، وما أشبه ذلك.
وعلة ذلك ما تقدم من مراعاة اللبس، إذ لو أعلو فقالوا: كران، وعدان، ونفان، وغلان، لالتبس فعلان بفعال، فاجتنبوا ذلك لاحتمال التصحيح.
ويدخل في هذا: فتيان، وعصوان، وفتيات، وما كان مثله. وأما نحو فتتين وعصوين، فلا تدخل له تحت ضابطه، ولعله اتكل على ذلك على ما مر في التثنية، ويكون وجهه ما تقدم آنفا من الالتباس على تقدير الإعلال/ والحذف. وقد يحذف ذلك الساكن فيعامل معاملة الموجود لأنه في تقدير الوجود وفي بنيته، فيترك الإعلال لأجله، كما إذا رخمت"كروان" و"نفيان" مسمى (بهما) على لغة من نوى المحذوف، فإنك تقول: يا كرو، ويانفى، فلا تقلب الياء والواو ألفا، لأن الساكن بعدهما وهو الألف في حكم الموجود فالساكن إذا في كلامه يشمل هذا، فقوله:"بساكن" يعني لفظا أو تقديرا.
وأما الياء المشددة فنحو الياء النسبية في رحوي وعصوي وقنوي وحبلوي وتحوي. ولا يختص بالنسب، فإن الحكم كذلك وإن لم تكن للنسب، كما إذا بنيت من رميت مثل حمصيصة فإنك تقول: رموية، أصله: رميية، فاجتمع فيها من الياءات ما كان يجتمع في رحيي لو أتي
به في النسب على الأصل، فغيرت الياء المكسورة بقلبها واو فقلت: رموية، ولا تقلبها ألفا فإن ذلك يؤدي إلى حذفها فيختل البناء.
فإن قلت: اتركها ألفا ولا يلزم من ذلك التقاء الساكنين المحذور، لأنهم قد قالوا: شابة ودابة، فجمعوا بين ساكنين، لأن قبل المشدد ألفا فحصل شرط ثبوتهما.
فالجواب: أن شرط الألف الواقعة قبل المشدد أن تكون زائدة غير منقلبة عن شيء، ألا ترى أنها في دابة ألف فاعلة، و (في) دواب ألف فواعل، بخلاف مسألتنا، فإن الألف فيها منقلبة عن الياء التي هي أصل بإزاء الصاد الأولى من حمصيصة، فلم يمكن إلا أن تحذف، وإذا حذفت حصل المحظور.
وأيضا فيلزم أن تقع ياء النسب بعد مفتوح لو قلت في رحوي: رحي. وهذا ما لا يقال. ومثل هذا لو بنيت مثل حمصيصة من الغزو لقلت: غزوية، فلم تقلب الواو ألفا لما تقدم.
وأما إن كان الساكن غير الألف والياء المشددة فالإعلال غير ممتنع، والسكان لا يكف الإعلال ولا يمنع جريانه، وذلك نص قوله:"وهي لا يكف إعلالها بساكن" .. إلى آخره. فأخبر أن ما عدا الألف والياء المشددة من السواكن غير
مانع، فتقول في رمي إذا أسندته إلى مؤنث: رمت، أصله: رميت، فاعتلت اللام بالانقلاب ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها- وإن وقع بعدها ساكن وهو التاء- ثم اجتمع ساكنان: الألف والتاء، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار رمت. وكذلك: رموا، أصله: رميوا، فانقلبت الياء ألفا، فصار: رماوا، ثم رموا. وكذلك: مصطفون والأعلون، الأصل: مصطفيون والأعليون، ثم صار: مصطفاون والأعلاون، وكذلك: مصطفين والأعلين في النصب والجر، الحكم في ذلك واحد.
ولما أطلق القول في هذا الحكم ولم يستثن شيئا دل على أن ذلك يكون في الجمع وفي المفرد إذا أدى إليه التصريف، فإذا بنيت من الهمزة مثل عنكبوت قلت: آأوت، أصله: آأيوت، ثم فعل في الياء ما تقدم من الانقلاب لوجود الشروط فصار: آأوت. وكذلك مثله من الغزو: غزووت، ومن الرمي: رميوت، أصله: غزوووت ورمييوت.
وخالف في هذا بعضهم فذهب إلى / أن الإعلال المذكور مختص بالجمع، وأما المفرد فلا، وإنما يبقى على صحته، فتقول على هذا: آأيوت، وغزوووت، ورمييوت. وكذلك على هذا في فعلوت من الغزو: غزووت، ومن الرمي: رميوت، وعلى مذهب الجمهور: رموت وغزوت على الأصل المتقدم. وإنما ادعى ذلك الجمهور ولم يجعلوه مثل النزوان والغليان لوجهين:
أحدهما: أن الحذف مع الألف يوقع في الإلباس كما تقدم، بخلاف هذا فإن اللبس فيه مأمون.
والثاني: أن الفتحة خفيفة فسهل التصحيح فيها، بخلاف غزووت ورميوت ونحوهما لانتفاء (الفتحة و) وجود ما هو ثقيل.
فإن قيل: فكان يلزم من هذا الإعلال في رموية المتقدم.
فقد تقدم وجه التصحيح وأنه يوقع في الاختلال، وأيضا فالنسب قد تقرر فيه ذلك الحكم، وما كان مصيره إلى نحوه من المعتل كرموية عومل معاملته للشبه الذي بينهما.
وبعد فإذا اجتمعت هذه الشروط اقتضى كلامه صحة الإبدال مطلقا، كانت الواو والياء أصلين، أو منقلبتين عن أصلي، أو زائد.
فمثال كونهما أصلين: سار، وهاب، وطاع، ورمي وسعى، ودنا وطال، وما أشبه ذلك.
ومثال كونهما منقلبين عن شيء أصلي قولهم: أعطى، واستقصى، وأغزى، وملهى، ومغزي. أصل هذا كله: أعطو، واستقصو، وأغزو، وملهو، ومغزو، فلما وقعت الواو رابعة فصاعدا قلبت ياء فصارت في التقدير: أعطى، واستقصى، وملهى، ومغزى، فوقعت الياء المتحركة وقبلها فتحة، فانقلبت ألفا.
وكذا لو بنيت من قرأ مثل دحرج لقلت: قرأي، أصله قرأأ، ثم قلبت الهمزة ياء لاجتماع الهمزتين، فصار: قرأي، ثم صار قرأي للعلة المذكورة، فالألف في قرأي بدل من الياء لا من الهمزة قال ابن جني: "ويدلك على أنه لا بد من هذا
التقدير فيها لتكون الألف بدلا من الياء المبدلة من الهمزة قول النحويين في مثل فعل من قرأت: قرأي، أفلا ترى كيف أبدلوها ياء. وكذلك قولهم في مثل فرزدق من قرأت: قرأيأ، وأيضا فيدلك على صحة ذلك أنك متى أسكنت (اللام) فزالت اللفظة رجعت اللام إلى أصلها وهو الياء، كقولهم في افعللت من قرأت وهرأت: اقرأيت وهارأيت.
ومن مثل الواو المنقلبة قولهم في رحوي إذا رخم على ما لم ينو: يارحا، فالألف بدل من الواو المبدلة من الياء، لأنك لما حذفت الياءين بقي التقدير: يارحو، فصارت الواو في هذه اللغة حرف إعراب، فوجب الانقلاب ألفا، لأنها اجتلبت لها ضمة الراء في ياحار، فحصلت الشروط على ما ينبغي، فالألف إذا ليست بدلا من الياء الظاهرة في رحيان. وكذلك حكم فتوى وهدوى وشورى.
ومن غريب هذا أنك إذ اقلت في تلك اللغة في ملهوي: يا ملهي، فالألف هنا بدل من ياء، بدل من واو، بدل من ألف، بدل من ياء، بدل من الواو التي هي لام الفعل، فتأمل ذلك فلا بد منه.
ومثال كونهما منقلبتين/ عن زائد قولك: يازما، ترخيم زميل، على لغة من لم ينو. ومثلة ألف سلقى وجعبى، فالألف بدل من ياء الإلحاق
في سلقيت وجعبيت. وكذلك إذا سميت بعنوق جمع عناق ثم رخمته على من لم ينو أبدلت واوه ياء كأجر وأدل، فتقول: يا عني، فإن سميت به ونسيت إليه قلت: عنوي، لأنك صيرته إلى عني كهدى، ثم تقلب ألفه واوا للياء النسبية، فإن رخمت هذا كله حذفت ياء النسب، وأبدلت من الواو وألفا للعلة المذكورة فقلت: ياعنا، فالألف الآن في عنا إنما هي بدل من الواو الزائدة في عنوي، والواو في عنوي بدل من الألف في عني، والألف في عني بدل من الياء في عني، والياء في عني بدل من الواو في عنو الذي هو ترخيم عنوق.
ثم بعد هذا اعلم أن هذه (الشروط) الخمسة ترجع في التحصيل إلى أربعة، على أن يكون قوله:"بتحريك أصل" شرطا واحدا، كأنه إنما شرط أن تكون الواو أو الياء متحركة في الأصل خاصة، ويكون هذا الشرط شاملا لما كان فيه حرف العلة متحركا في الحال كما تقدم من المثل، ولما كان في الأصل متحركا وإن لم يكن كذلك في الحال، وذلك نحو: مقام، ويقام، أصله: مقوم ويقوم، فقلبت الواو ألفا لتحركها أصلا وانفتاح ما قبلها لفظا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذا المأخذ مفهوم من كلامه لأنه قال:"من واو أو ياء بتحريك أصل" فقوله "بتحريك" في موضع الصفة للواو والياء، والتقدير: من واو أو ياء ملتبستين بتحريك أصل: والتباسها بالتحريك الأصيل لا يعطى وجود التحريك في الحال، وبيان هذا المأخذ سيأتي بحول الله تعالى.
ثم إن عقد الناظم معترض من أوجه خمسة:
أحدها: أن الواو والياء إن كانتا عينا وكانتا بدلا من هزة فإن هذا القلب لا يكون فيها، بخلاف اللام فإنها على خلاف ذلك، فقد تقدم في فعل من قرأت أنك تقول: قرأي، فأبدلت الألف من الياء وإن كانت بدلا من همزة، لأن البدل فيها لازم، فلم يراعوا أصلها، وأما إذا كانت الواو محضة لا رائحة للهمزة فيها، وهذا مما استثناه في التسهيل فقال:"وتعل العين بالإعلال المذكور إن لم يسكن ما بعدها أو يعل، أو تكن هي- يعني العين- بدلا (من) حرف لا يعل". فحرز من أن يكون بدلا من حرف لا يعل هذا الإعلال، والهمزة من ذلك القبيل، وقد قال الأخفش في مثل عضر فوط من الآءة: أوأيوء. فأقر الياء المضمومة وقبلها فتحة ولم يقبلها ألفا ثم يحذفها كما قال في مثل عنكبوت من الرمي: رميوت كمصطفين. فقد حصل أنه لا بد من استثناء الواو والياء المنقلبتين عن الهمزة، ولم يستثنه الناظم، فأوهم جريان حكم القلب فيهما، وليس كذلك.
والثاني: أنه قد اقتضى أن ما بعد الياء والواو إن حرك فلا بد من الإعلال، كان حرف صحة أو حرف علة، وليس كذلك، بل إن كان حرف علة لم يلحقه الإعلال في بعض تصرفاته/، فإن الواو والياء يصحان نحو: قوي وغوي وهوي وحيي وعيي، وكذلك فعلان من القوة إذا قلت: قووان، على رأي سيبويه، وكطويان في فعلان من طويت. أما مثل قووان وطويان فقد أخرجه بقوله بعد:
وعين ما آخره قد زيدما
…
يخص الاسم واجب أن يسلما
فيبقى الاعتراض بمثل هوي وحيي ونحوهما، إذ ليس في كلامه ما يخرجه عن حكم الإعلال، وهو مصحح بلا بد، وقد استثنى في التسهيل هذا، وهو واجب أن يستثنيه، فقال:"إن لم يسكن ما بعدها أو يعتل". على أن قوله: "أو يعتل" فيه نظر.
ووجه تصحيح هذا أنهم (لو) قالوا في حيي: حاي، وفي هوي: هاي، وفي قوي: قاي، لوجب أن تصح اللام أيضا في المضارع فكنت تتقول: يحاي ويهاي. (ويقاي) وفي ذلك ظهور ضمة الإعراب في ياء آخر فعل، وذلك ثقل بين ينضم إلى ثقل الفعل، بخلاف الاسم لخفته فإنك
تقول فيه: رمي وغزو، وإذا كان كذلك فكلام الناظم يقتضي أن مثل هذا يعل، وذلك اقتضاء (غير) صحيح.
والثالث: أن بعض السواكن سوى الألف والياء المشددة قد تقع بعد اللام فتمنعها الإعلال، وهو قد أطلق القول بأنه لا يكفها من السواكن إلا ذانك دون غيرهما، وقد وجدنا النونين للتأكيد يمنعانهما من القلب إذا قلت: ارضين، واخشين، وهل ترضين؟ وهل تخشين؟ قال جبلة بن الحارث العذري، أنشده سيبويه:
استقدر الله خيرا وارضين به
…
فبينما العسر إذ جاءت مياسير
ولا يصح أن يقال: إن الحركة عارضة في الياء بدليل رد العين في مثل قولن الحق، وبيعن ثوبك، وخافن زيدا، ولو كانت عارضة لم ترجع كما لم ترجع في قل الحق، وبع الثوب، وخف الله.
والرابع: أن إعلال قد وجد مع الياء المشددة وعمل عليه، وذلك مع ياء النسب، فقد تقدم أن ياءي النسب إنما تدخلان على الاسم مع تقديره منطوقا به، ألا ترى أنهم يقولون: إن الواو في روحي بدل من الألف في رحي، بل يقولون في شجوي وعموي: إن الواو منقلبة عن الألف في شجا المقدر، وألف
شجا لم توجد ولا نطق بها، ولكنهم قدروا الاسم حين كان على فعل أن يصير إلى فعل لأجل أن تلحق ياء النسب ولا كسر قبلها إلا ما يليها. وقد شرح هذا هنالك، وانبنى على ذلك مسائل وفروع تقتضي أن لا بد من تقدير الاسم كامل الصيغة لا يبقى له إلا دخول الياءين فقط. وإذا ثبت هذا فنحن في شجوي ونحوه قد أعلمنا القاعدة من قلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم قلبنا الألف واوا، لا أنا قلبنا الياء واوا، إذ لا موجب لذلك (إلا) بهذا التدريج، فهذا ضد ما قرره هنا. ولا يقال: إن الألف هنا لم تظهر قط فلذلك لم يعتبرها لأنا نقول: كذلك الألف في مصطفون لم تظهر قط، فإن ادعيت صحة القلب في مصطفون لزمك أن تدعيه في /شجوى، وإن ادعيت عدم القلب في شجوى لزمك مثله في مصطفون، فلا فرق بينهما في الطب بالإعلال أو بالتصحيح.
والخامس: أنه نقصه شرط من الشروط المعتبرة في هذا الحكم وهو أن يكون اتصال الفتحة بالواو أو بالياء اتصالا أصليا لا عارضا، فإنه إن كان عارضا لم يعتبر به، وهذا الاتصال الأصلي المحترز به، فسر شيوخنا به كلامه في التسهيل، وهو أنه تحرز به من مثل نحو وشبهه في نحو، فإن الحركة هنا ليست بأصلية، وإنما هي لأجل حرف الحلق كنهر ونحر. وتحرز أيضا به من عروض الاتصال بسبب حذف يلحق
الكلمة فلا اعتداد به، كما إذا بنيت من (جدول) مثل علبط وهدبد المحذوف الألف، فإنك قائل: جدول، بخلاف يرى، فإن فتحة الراء الآن متصلة بالياء التي هي لام اتصالا أصليا؛ إذ الأصل يرأى، ثم قلت تلك الفتحة نفسها إلى الراء. ومن مثل ذلك ما إذا بنيت مثل عرتن من الغزو أو الرمي فإنك تقول: غزو ورمي، أصله: غزوو ورميي فدخل في باب أجر وأظب، وصحت اللام الأولى، لأن الفتحة مفصولة منها في التقدير بالحرف المحذوف، لأن الأصل في المماثل عرنتن، وكذلك موازن علبط من الغزو أو الرمي تقول فيه: غزو ورمي، رفعا وجرا، وغزويا ورمييا، نصبا. ولا تعل اللام الأولى لفصلها من الفتحة بالألف في الأصل، وهي مقدرة بعد الحذف.
هذا تفسير بعض الأشياخ. وفسره لنا شيخنا القاضي الحسني- رحمه الله بأن مراده بالاتصال الأصلي التحرز من نحو: احواوي، افعل من الحوة، فصحت واوه التي هي اللام الأولى لأن اتصالها بالفتحة (التي) قبلها غير أصلي.
قال: فإن افعل أصله افعال، فكان أصل هذا احواوي. قال: وهذا القيد صار مغنيا عن أن يقيده بأن آخره معتل كالنوى والطوى. قال: وهذا مثال حسن.
وقد أورد عليه في هذا التفسير إشكال، وهو أنه بنى فيه على رأي من رأى أن افعل مقصور من افعال، وهو وإن كان مذهب صاحب الكتاب إذ قال
في مسألة "لم أبله": "كما حذفوا ألف احمر وألف علبط وواو غد".
وليس مذهبا (له) في التسهيل، بل ظاهره خلاف (هذا) المذهب، لأنه قال في باب أبنية الأفعال ومعانيها:"ومنها للألوان افعل". ثم قال: "وقد تلي عينه ألف".
قال الراد: فهذا جلي في أن الألف ليست هي الأصل. قال: فالحق أنه فائت له في القيود مع نظائره مثل: رميو، وحيو، وقوو، في موازن جحمرش من الرمي، وحييت، وقوة. وقد صرح بصحتها في مواضعها، وكلامه في هذا الفصل يقتضي إعلالها. قال: وإنما ارعوي واحووي في اللامين نظير هوى وبابه في اللام والعين، فلو أعل الأول فيهما وصحح الآخر لوجب في المضارع مالا نظير له من ظهور الإعراب في آخر الفعل المعتل، إذ كنت تقول: هاي يهاي، وارعاي يرعاي، واحواو يحواو، فعكسوا لذلك، ليجري على الباب المطرد.
هذا ما قالاه، وعلى كل تقدير فهذا كله مما فات/ الناظم التنبيه عليه،
ولا يلزم إن فسرنا هنا بما فسر به شيخنا الحسني ما ألزمه في التسهيل، لأن له في هذا لانظم مذاهب تخالف مذاهب التسهيل، فلعله رجع عن ذلك عند نظم هذه الأرجوزة، وإذا احتمل هذا لم يندفع هذا التفسير.
والجواب عن الأول أنا نقول بموجبه، ونلتزم أن الواو والياء المبدلتين من الهمزتين سائغ فيهما القلب المذكور، أما اللام فقد تقدم ما قاله ابن جني في فعلل من قرأت، وما استدل به على ذلك، وقد نص عليه المازني، وما نقله عن الأخفش ذكره عنه ابن جني في فصل العويص من المنصف، لكنه ذكر في الفصل نفسه قبل ذلك بنحو ثلاث مسائل أنك لو بنيت من الآءة مثل عنكبوت لقلت:"أوأوت بمنزلة عوعوت، وكان الأصل: أوأءوت، فقلبت الهمزة الأخيرة ياء فصارت: أوأيوت، فأسكنت الياء استثقالا للضمة عليها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، كما تقول في مثله من رميت: رميوت". قال: "فإن قيل: إن الياء في أوأيوت أصلها
الهمز فهلا استخففت الحركة عليها كما تستخف على الهمزة؟ قيل: لا، لأن هذا قلب وليس على جهة التخفيف القياس الذي أنت فيه بالخيار إن شئت خففت وإن شئت حققت"، قال: "ولو كان هذا الذي ذكرته لازما لقالوا في جاء: جائي وجائي، ولم يستثقلوا الضمة ولا الكسرة على الياء لأن أصلها الهمز. وليس الأمر كذلك، بل (جاء) يجري مجرى قاض، فلذلك جرت لام فعللوت الثانية مجرى ما أصله الياء". هذا ما ذكره هنالك، وهو بلا شك مخالف لما ذكره أبو الحسن، لكن هذا في الأخذ به أولى مما ذكره هنالك، لأن ما ذكره هنالك إنما أتى به في معرض التقوية لمسألته ثمة، وقد يقوى الإنسان ما يذهب إليه نظره بالمذاهب المختلفة، وذلك مشهور عند أهل النظر، فلذلك لم يتعرض لمخالفته، كيف وهو يعتضد به! بخلاف ما ذكر هنا فإنه إنما أتى مسألته من بابها. وأيضا فقد صرح بذلك في "سر الصناعة" أيضا، واستدل على صحته، كما أنه بسط هنا شيئا من الاستدلال ولم يستدل هنالك على صحة مذهب الأخفش، فالظاهر أن الواو والياء المبدلتين من الهمزة إبدلا محضا لازما كما في اجتماع الهمزتين حكمها حكم الأصليتين. وأما العين فالظاهر أنها كذلك أيضا، وفيما قيل من بناء فعل من الآءة: إنه أوأ، نظر؛ بل أقول: آء، لأن الهمزة الثانية قد قلبت واو محضة فصارت كماءة، من غير فرق ظاهر، ولا حجة في عدم القلب في أيمة، لأن الياء ليس أصلها التحريك، بخلاف هذه. وقد ظهر منه
في التسهيل أنه إنما تحرز هنالك بقوله: "أو تكن هي بدلا من حرف لا يعل". من ياء شيرة المبدلة من جيم شجرة، فهو وما ارتكب من ذلك، إن صحيحا فصحيح، وإن فاسدا ففاسد، والله أعلم.
/ والجواب عن الثاني: أنه قد يدخل له نحو غوي تحت احترازه المذكور بعد هذا في قوله:
وإن لحرفين ذا الاعلال استحق
…
صحح أول .....
فالياء في غوي ونحوه لا بد من إعلالها لما ذكر، وإذا اعتلت وجب تصحيح الواو قبلها، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
والجواب عن الثالث: أن حكم الآخر مع نون التوكيد قد تقدم في باب أنه يصح، والعلة في عدم قلب يائه ألفا أن النون هنا كألف الاثنين، فكما أن ألف الاثنين لا تنقلب معها الياء ألفا نحو: اخشيا وارضيا، فكذلك النون، ولم يجز أن يعلوا إذ لا بد من حذفها لالتقاء الساكنين، وذلك مناقض لما قصدوا من ردها وبناء الكلمة على النون، وكذلك حكم المضارع إذا قلت: هل تخشين؟ وهل ترضين؟ والله أعلم.
والجواب عن الرابع: أن الناظم لم يبن في النسب على أن الواو
والياء في شجوي وغيره إلا على إسقاط هذه الواسطة وجعل القلب في مثل هذا من الياء إلى الواو، من غير واسطة على ما ظهر من كلامه هناك. لكن قد يقال له: فكذلك مصطفون، ما تنكر أن يدعي مدع أنه لم يحصل فيه قلب الياء ألفا، بل لما ظهرت الضمة على الواو في مصطفوون استثقلوها (عليها) فحذفوها، ثم اجتمع واوان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، ولا يكون ثم قلب البتة. ويجاب عن هذه بأن الألف في مصطفون قد ظهرت في المفرد، لأن جمع السلامة مبني على مفرده حقيقة بخلاف باب شجوي، وأيضا فإنه لو كان كذلك لوجب حين تسكين الواو أن تنقل حركتها إلى ما قبلها فيقال: مصطفون، وفي النصب والجر: مصطفين، كالعادون والعادين، والقاضون والقاضين، فأن لم يفعلوا ذلك والتزموا الفتح دليل على أن المحذوف هو الألف لا الواو ولا الياء. وهذا بخلاف شجوي في شج، وحيوي في حي، فإنه لا دليل فيه على أن المنقلبة هي الألف دون الياء المتقدمة الرتبة على الألف. فقد ظهر الفر بين الموضعين، وبانت صحة كلامه.
والجواب عن الخامس: أن الناظم لم يهمل التنبيه على هذه الأشياء المذكورة، فإنه شرط الاتصال، وقد تقدم أن الاتصال المقدر الانفصال في حكم الانفصال، فإنما أراد الاتصال الحقيقي، ومثل علبط أو عرتن من الغزو ليس كذلك، فكذلك احووي على قول سيبويه. وأما نحو فقد خرج بقوله: "بتحريك
أصل". وأما قوو وحيو ونحوهما فسيأتي وجه خروجهما وتنبيه الناظم على أمثلالهما بعد عند قوله: "إن لحرفين ذا الإعلال استحق". فلا اعتراض عليه.
ثم أخذ يذكر بعض ما اجتمعت فيه الشروط لكن منع من الإعلال مانع، وذكر من الموانع أربعة، أحدها: الحمل في الصحة على ما لا بد من صحته، وذلك قوله:
وصح عين فعل وفعلا
…
ذا أفعل كأغيد وأحولا
يعني أن العرب صححت عين فعل وفعل الموصوفين ولم تقلبهما. ولم يجعله نادرا ولا شاذا، فدل أنه/ قياس، (فما عينه) واو أو ياء فباق على أصله من التصحيح من فعل المصدر، وفعل الفعل، اللذين يكون اسم فاعلهما (على) أفعل، وهو معنى قوله:"ذا أفعل"، أي: صاحب هذا البناء. وذلك أن فعل لا يكون مصدره على فعل واسم فاعله على أفعل في الغالب إلا ويكون معناه معنى افعل، وذلك في الخلق والألوان والعيوب وما جرى مجراها، كقولك: حول حولا وهو أحول، وعور عورا وهو أعور، وصيد
صيدا وهو أصيد، وغيد وهو أغيد، وقد تقدم (بيان) ذلك في (باب) المصادر. فكان الأصل هنا أن يقال في حول: حال، وفي غيد: غاد، (وفي حول: حال، وفي غيد: غاد) لأن الواو الياء قد تحركا؛ وانفتح ما قبلهما واجتمعت فيهما شروط القلب، إلا أن حملت هذا الباب محمل ما هو في معناه، وذلك أن معنى حول هو معنى أحول، كذلك صيد واصيد، وعور واعور، وغيد واغيد، لأن فعل لا يعتل، بل تقول فيه: ابيضضت واسوددت، ونحو ذلك، وسيأتي وجهه، فصححوا أيضا ما هو في معناه، من باب الحمل على المرادف، ولم يبين الناظم وجه التصحيح هنا، وإنما ذكر ضابطه فقط، وذلك صحيح، وعادة الناس أن يقولوا: صححوا فعل لأنه في معنى لا بد من صحته. فإذا ما جاء مما ظاهره أنه في معنى افعل وذا أفعل ثم اعتل بالقلب فشاذ أو مؤول، كقول ابن أحمر:
تسائل بابن أحمر من وآه
…
أعارت عينه أم لم تعارا؟
كان الأولى أن يقول: أعورت عينه أم لم تعور؟ وزعم السيرافي أنه أعله لأنه لم يذهب فيه مذهب آفعل.
ودل مفهوم كلامه (على) أن فعل وفعل إذا لم يكن ذا أفعل- يريد قياسا- فلا تصح فيه العين، وكذلك كل مصدر معتل العين (على فعل) من غير ما ذكر يصحح، إذ ليس اسم فاعله على أفعل، وإذا لم يكن كذلك لم يكن في معنى ما لا بد من صحته، فلم يكن مانع من الإعلال، كقولك: غار على أهله يغار غيرة وغارا، وخال الفرس يخال خيلاء وخلا، فالفعل هنا على فعل، والمصدر على فعل، وقد اعتلا معا؛ إذ ليس في معنى ما لا بد من صحته، قال سيبويه:"وأما قولهم: عور يعور، وحول يحول، وصيد يصيد، فإنما جاءوا بهن على الأصل، لأنه في معنى ما لا بد أن يخرج على الأصل نحو: اعوررت، واحوللت، وابيضضت، واسوددت، فلما كن في معنى ما لا بد له من أن يخرج على الأصل لسكون ما قبله تحركن"، قال:"فلو لم تكن في هذا المعنى اعتلت، ولكنها بنيت على الأصل؛ إذ كان الأمر على هذا".
وكان الأولى للناظم أن يقول: ذوي أفعل. لأنهما اثنان: فعل، وفعل، لكنهما لما كانا كالشيء الواحد لأن أحدهما جار على الآخر (و) مأخوذ
منه وملازم غير مفارق له من حيث هما فعل، ومصدره، عاملها معاملة الشيء الوحد، فكانا كقول الله:"فأتيا فرعون فقولا: إنا رسول رب العالمين" لما كانا في حكم واحد جعلهما كالواحد، وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ
…
ود مالم يعاص كان جنونا
أو لقول آخر:
وكأن في العينين حب قرنفل
…
أو سنبلا كحلت به فانهلت
/ وإن كان ليس مثله من جميع الوجوه.
واعلم أن الناظم ضبط هنا محل التصحيح بكونه ذا أفعل، ولم يضبط (بما ضبطه) به غيره من أنه راجع إلى معنى ما يجب فيه التصحيح، وهو الذي جري عليه سيبويه وغيره، حذرا- والله أعلم- من توهم كون افعل أصلا لفعل في هذا النوع، وليس كذلك. وكثير من النحويين يقول: إن أفعال الأدواء والعاهات أصلها افعل وافعال،
وعليه جرى ابن عصفور، وهو شيء دل كلام سيبويه على خلافه، حيث ذكر اختصاص باب الأدواء بفعل في الأكثر، وباب الألوان بافعل وذكر الفارسي- على ما نقله عنه ابن سيده في المخصص- أن عور ليس تصحيحه لأن أصله أعور وإنما صح لأنه بمعنان، وهو ظاهر، ولذلك لا تقول في سود: إنه صح لأن أصله إسود، بل لأن معناه معناه، فحمل عليه. فلم يضبط الناظم هذا الموضع إلا ببناء اسم الفاعل علي أفعل قياسا، وترك ما فيه إبهام ما. ثم مثل ما أراد بقوله:"كأغيد وأحولا" وحصل بهذا التمثيل فائدتان:
إحداهما: أن هذا الحكم من التصحيح غير مختص بما كان عينه واوا دون ما عينه ياء، بل هو جار في النوعين ليس على حكم "تجاوروا" الآتي إثر هذا، فرفع هذا التوهم بأن أتى بمثالين أحدهما مما عينه ياء، وقدمه اعتناء به لهذا المعنى، ومثله: أصيد وأخيف، تقول من ذلك: صيد صيدا، وخيف خيفا.
والأغيد: الوسنان المائل العنق. والغيد أيضا: الميلان من النعمة. والغادة: الناعمة، وقد غيدت فهي غيداء، والغادة: الناعمة، وقد غيدت فهي غيداء، قال ابن القوطية: وغيد غيدا: لان من نعمة أو سنة.
…
والثاني: مما عينه واو، وهو أحول، ومثله أعور وأحور وأخوص ونحو ذلك، تقول من ذلك: عور عورا، وحور حورا، وخوص خوصا.
والأحول: (هو) الذي أقبل لحظ عينه على مؤخرها. ولهذا المعنى شبه أبو النجم الشمس عند الغروب بعين الأحول، فقال:
والشمس في الأفق كعين الأحول
والفائدة الثانية: أنه أتى بمثال مما اشترك فيه افعل مع فعل في الاستعمال، وذلك أحول، لأنك تقول: حول زيد واحول، كما تقول: عور واعور، وسود واسود. ومثال آخر مما لم يشترك فيه افعل مع فعل في الاستعمال وإن كان على ذلك المعنى، وذلك أغيد، لأنك لا تقول: اغيد، وإنما استعمل فيه غيد، فكأن الناظم يقول لك: الأمر سواء في هذا، فإن فعل وافعل قد اشتركا في أفعل على الجملة، والمعنى على افعل فيجري مجراه إذ كان باب أغيد راجعا إلى معنى الخلق والعيوب، وهم قد قالوا: ثول واثول، وعور واعور، فكذلك يجري غيد والغيد على افعل لأنهما باب واحد (و) على معنى واحد، إلى هذا المعنى أشار سيبويه في التعليل، ولما كان الجميع فعل وافعل مشتركين في أفعل جعل الناظم ضابط هذه أفعل فقال:"ذا أفعل".
ثم أتى بموضع ثان وهو من الحمل في الصحة على ما لا بد من صحة فقال:
وإن يبن تفاعل من افتعل
…
والعين واو سلمت ولم تعل
تفاعل: فاعل "يبن"، وهو على حذف المضاف، تقديره:(وإن) معنى يبن تفاعل، لأن لفظ التفاعل لا يبين من لفظ/ افتعل، وإنما أراد أن افتعل لا يخلو أن يكون معناه معنى تفاعل أو لا، فإن لم يكن معناه معنى تفاعل جرى على ما تقدم من وجوب الإعلال نحو: اقتادوا، وارتادوا، واعتادوا، لأنه ليس معناه تقاودوا، ولا تراودوا، ولا تعاودوا، كما كان اختاروا، وابتاعوا، واكتالوا ليس على معنى تفاعلوا، فجرى على أصل الباب، ولهذا قال الخليل: لو بنيت افتعلوا من قولك إزداجوا على غير معنى تفاعلوا لأعللت فقلت: ازداجوا، كما قلت: اختاروا وابتاعوا.
وإن كان بمعنى تفاعلوا فلا يخلو أن تكون العين ياء أو واو، فإن كانت ياء فيقتضى كلام الناظم أنه لا يصح كما صح تفاعلوا، فقولهم: استافوا بمعنى تسايفوا- أي: تضاربوا بالسيوف- واجب الإعلال، وإن كان في معنى ما لا بد من صحته، ووجه ذلك أن ترك قلب الياء ألفا أثقل عليهم من ترك قلب الواو ألفا لبعد ما بين الألف والواو وقرب ما بينها وبين
الياء، وكلما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى الآخر، وإذا تباعدا كان عدم الانقلاب أولى. وهذا ما علل (به) ابن جني في الخصائص مع وجه آخر سأذكره إثر هذا بحول الله تعالى. ومع هذا فإن اليائي العين في هذا الموضع قليل. والذي كثر هنا الواوي (العين)، (وهو الثاني من التقسيم، وهو الذي حصل فيه شرط الناظم في قوله: "والعين واو" (فهذا) إذا كان في معنى تفاعل لم تعل العين) وإن وجد سبب الإعلال، لأنهم حملوه على ما لا بد من صحته، فقولهم: اجتوروا في معنى تجاوروا، واعتودوا في معنى تعاودوا، واحتوشوا في معنى تحاوشوا، واهتوشوا في معنى تهاوشوا-، لو قيل- جاءت على الأصل كما وجب ذلك فيما هي في معناه، وسواء في هذا ما استعمل منه تفاعل كاجتوروا، إذ جاء فيه تجاوروا، وما لم يستعمل فيه كاحتوشوا واهتوشوا؛ إذ لا يقال فيهما: تهاوشوا ولا تحاوشوا؛ لأن الجميع مشترك في هذا المعنى؛ قال سيبويه: "وأما قولهم: اجتوروا واعتونوا وازدوجوا واعتوروا فزعم الخليل. رحمه الله تعالى- أن الواو إنما تثبت لأن هذه الحروف في معنى تفاعلوا؛ ألا ترى أنك تقول: تعاونوا وتجاوروا وتزاوجوا، فالمعنى في هذا
وتفاعلوا سواء، فلما كان معناها معنى ما تلزمه الواو على الأصل، أثبتوا الواو، كما قالوا: عور؛ إذ كان في معنى فعل يصح على الأصل. قال: وكذلك احتوشوا واهتوشوا- وإن لم يقولوا تفاعلوا- فيستعملوه، لأنه قد يشترك في هذا المعنى ما يصح، كما قالوا: صيد لأنه قد يشركه ما يصح والمعنى واحد". وقد تقدم وجه تصحيح تفاعل ونحوه.
فإن قيل: ظاهر هذا لاكلام أن افتعلوا والعين ياء يعتل وإن كان في معنى تفاعلوا، والأولى أن لو جمع بين ما عينه واو وما عينه ياء في هذا المعنى، لأن الموجب الموجود في اجتوروا موجودا في استيفوا بمعنى تسايفوا، وما علل به ابن جني فإنما ينهض تعليلا بعد السماع، لأن الواو والياء في القلب ألفا سواء، وإذا كان كذلك لم يكن مانع من القياس على ذوات الواو، فكنت تقول: ابتيعوا، إذا أردت تبايعوا، واختيروا، إذا أردت معنى تخايروا، وما/ أشبه ذلك، ويكون ما جاء من استافوا ليس (على) معنى تسايفوا. وعلى هذا حمله ابن جني في الخصائص، قال: وإنما معنى استافوا: تناولوا سيوفهم، كقولك: امتشنوا سيوفهم، (وامتخطوا سيوفهم، أي: تناولوها وجردوها ثم يعلم أنهم من بعد تضاربوا، بما دل عليهم قولهم: استافوا)، فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب عن المسبب، كقوله:
ذر الآكلين الماء ظلما فما أرى
…
ينالون خيرا بعد أكلهم الماء
يريد قوما كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه. فاكتفى بذكر الماء الذي هو سبب المأكول من ذكر المأكول". قال: "فأما تفسير أهل اللغة أن استاف القوم في معنى تسايفوا فتفسير على المعنى، كعادتهم في أمثال ذلك، ألا تراهم قالوا في قول الله تعالى:{من ماء دافق} ، إنه بمعنى مدفوق، فهذا- لعمري- معناه، غير أن طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق، كما حكاه الأصمعي عنهم من قولهم: ناقة ضارب، أي: ضربت، وتفسيره: أنها ذات ضرب. ثم ذكر لهذا نظائر نحو: {لا عاصم اليوم} ، قبل معناه لا معصوم، ونحو (عيشة راضية)، أي مرضية، وقوله:
أناشر، لا زالت يمينك آشره
أي: مأشورة. فعلى هذه الطريقة تستوي الواو والياء في الصحة في افتعل بمعنى تفاعل، وهو قد يظهر من كلام النحويين؛ إذ لم يفرقوا بين القبيلين، بل أطلقوا القول، لكن وقع تمثيلهم بما عينه واو، وذلك لا يدل على الاختصاص، وقد قال المازني: ومما يجئ على أصله لأن معناه ما لا يعتل، كما جاء عور وحول لأنه في معنى اعور واحول: اجتوروا وازدوجوا واهتوشوا، لأن معناه تجاوروا وتهاوشوا وتزاوجوا"، قال: "ولولا ذلك لا عتل؛ (قال): ألا تراهم قالوا: اختاروا واجتازوا وابتاعوا، حين لم يكن في معنى تفاعلوا". فهذه عبارة كالصريحة في أنه لو جاء مما عينه ياء في معنى ما لا بد من صحته لصح. وعلى هذا المعنى (أيضا) جرى ابن جني في التفسير؛ إذ حتم بأن سبب إعلال اختاروا ونحوه أنه يجئ في معنى تفاعلوا، وإذا كان كذلك أشكل هذا التقييد الذي قي به الناظم إذ هو مخالف لما قاله غيره.
فالجواب أن يقال: لعمري أن القياس لصحيح، غير أنا نقول: كان الأصل في اجتوروا وبابه الأعلال كسائر الباب، وإنما دعانا إلى أن نخرج به
عن بابه اطراده، فلما اطرد لم يكن (لنا) بد من اتباعهم فيه وإن كان خارجا عن القياس، ويكون وجه القياس فيه ما قال الخليل، ولا يلزم عند ذلك أن يقال في كل شيء، ألا ترى لو لم يطرد اجتوروا واحتوشوا لم نفس على ما جاء منه، لأنه خارج عن القياس الأصلي المطرد في باب اختار وانقاد وأشباههما، كما لم نقس على ما جاء من نحو خونه وحوكة لما كان نادرا. وإذا ثبت هذا فنقول: هذا الاطرد إنما جاء فيما عينه واو فقلنا به، وأما اليائي العين فلم يطرد فيه هذا، بل زعموا أنه لم يجئ منه على معنى تفاعل إلا استافوا، وهو بعد معل، فلو جاء صحيحا لقلنا: إن هذا موقف على محله؛ إذ لم يطرد في بابه، لأنه جاء على أصل القاعدة المطردة في كل ياء تحركت وقبلها فتحة، فلما جاء معتلا كان ذلك برهانا على صحة ما اعتقدنا من عدم اطراده ووقفه على السماع/، ويكون وجه التفرقة بين ذوات الواو وذوات الياء ما تقدم من قرب الياء (من الألف) وبعد الواو منها.
هذا أقصى ما وجدته في الاحتجاج عن المؤلف، لا سيما وهو في نحوه متبع للسماع، ظاهري المذهب فيه، كما تقدم في مواضع، إلا أن لمخالفه أن يقول: لما وجدناهم اعتبروا باطراد الحمل على المرادف فيما عينه واو فهمنا أنه عندهم معتبر على الجملة، إذ لو لم يكن معتبرا عندهم على الجملة، لم يطرد في موضع من المواضع، ولا يلزم من عدم
اطراده في الياء أن يكونوا قصدوا ذلك، لأن ما عينه واو أكثر مما عينه ياء، فإنما ندر أو عدم السماع في ذوات الياء لقلتها لا لقلة قصدهم إلى الحمل، والاستقراء، دليل (وهو) من باب الاستدلال بالأحكام.
وقوله: "سلمت"، الضمير عائد على العين، أي: سلمت العين ولم تعل. وقوله: "ولم تعل"، تكرار، لكن له موقعا، وهو رفع توهم من يتوهم فيها جواز الإعلال، فأكد الكلام رفعا لهذا الإبهام.
ثم استثنى موضعا ثالثا مما يجب تصحيحه وإن اجتمعت الشروط لمانع منع من الإعلال فقال:
وإن لحرفين ذا الإعلال استحق
…
صحح أول وعكس قد يحق
يعني أن الكلمة إذا كانت ذات حرفين من حروف العلة، وكل واحد منهما قد وجب فيه الإعلال قياسا لأنه متحرك وقبله فتحة، فلا يصح أن يعتلا معا ولا أن يصح الآخر ويعتل الأول إلا في القليل، وإنما الوجه أن يصح الأول ويعتل الآخر نحو قولك: الهوى والطوى والنوى، وغوى الرجل وروى، وعوى الكلب، وهوى، وما أشبه ذلك، فالوجه في هذا كله إعلال الآخر كما قال، وذلك (أنه) لا يخلو أن يعتل أولهما فقط، أو ثانيهما فقط، أو يعتلا معا، أو يصحا
معا، أما تصحيحهما معا فلا يصح للقاعدة المتقدمة، وأما إعلالهما معا فلا يصح أيضا للقاعدة المستمرة أنه لا يجمع على الكلمة الواحدة إعلال العين واللام، وما جاء من ذلك فقليل لا يقاس عليه، ولذلك لما قرر الفارسي هذا الحكم في الباء والتاء والثاء والراء، وأنهما مما اجتمع فيه أعلال العين واللام قال له الفتى البورائي إنكارا لما قرر: أفيجتمع على الكلمة إعلال العين واللام؟ فقال له: "قد جاء من ذلك أحرف صالحة فيكون هذا منها". فسلم له الفارسي مقتضى القاعدة وعدل إلى التنظير بما جاء في السماع. وقد نقل المبرد الاتفاق على أنه لا يجتمع على الكلمة إعلالان، وقد تقدم ذكر ذلك. والذي أشار إليه الفارسي هو قولهم: ماء، ألفه منقلبة عن واو، وهمزته منقلبة عن هاء، لقولهم: أمواه وموية، وماهت الركية. وشاة، فيمن قال: شويهة، وتشوهت شاة: إذا صدتها، حكاه ابن جني عن أبي زيد، فهو مما عينه واو فانقلبت، ولامه هاء فحذفت. ومن قال: شوي، فهو من باب طويت، فهي على هذا كباء وتاء، قال النابغة:
ولا أعرفني بعد ما قد نهيتكم
…
أجادل يوما في شوي وجامل
ومن ذلك: جايجي، وسايسو، وأشياء/ من هذا لاتنقاس. وقد أشار الناظم إلى هذه القاعدة في الجملة/ إذ حتم الإعلال لأحد المعتلين دون الآخر، فدل على أن اجتماعهما عنده محظور، كما دلت قاعدته على (أن)، تصحيحهما معا محظور.
وأما إعلال الثاني وتصحيح الأول فهو الذي اعتمد عليه بقوله: وإن لحرفين ذا الاعلال استحق صحح أول. وقد تقدم تمثيله. ووجه ذلك أن اللام أحق بالإعلال من العين؛ لأن اللام أضعف من العين، ولأن إعلال الاسم إنما هو بالحمل على الفعل، وأنت لا يصح لك إعلال العين (دون اللام)، لأنك لو قلت في غوي وهوي وروي ونحوه: غاي وهاي وراي، للزم أن يقال في المضارع: يغي ويهي ويري، فتقلب الواو التي هي عين ياء وتدعمها في الياء، وتدخل اللام الضم لأنها تجري مجرى الصحيح، فكان يلزم هنالك من التغيير والتبديل ما بعضه مكروه، فرفضوا ما أدى إليه. هذا تعليل ابن جني في (مثل) هذه المسألة ومن ههنا تعلم وجه ما فعلوا في قوي وحيي وروي ونحوه حين لم يقولوا: قاي وحاي وراي، فيعلوا العين، لأنهم إذا فعلوا ذلك في الماضي لزم في المضارع إعلال العين أيضا، والمضارع على يفعل،
فلا بد (فيه) من إعلال اللام لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيلزم أحد أمور ثلاثة؛ إما أن يعلوا العين واللام معا، وذلك لا يجوز. وإما أن يعلوا العين دون اللام لموافقة الماضي، فيكون المضارع على يقاي ويحاي ويرآي، فتظهر الضمة في الرفع، وذلك مرفوض عندهم. وإما أن يعلوا اللام دون العين فيخالفوا بين الماضي والمضارع، وهو لا يصح فرفضوا ما أدى إلى هذا بأن أعلوا لام المضارع وتركوا العين في الماضي صحيحة فصار قوي يقوي مثل صدي يصدى، وعني بحاجته يعنى بها. فأنت ترى تركها لإعلال العين في الماضي حفظا على إعلال اللام وحدها، فقد دخلت هذه المسألة تحت إشارة كلام الناظم حين اقتضى أن العين تصحح لإعلال اللام. وأما الأسماء ففعل ذلك بها أيضا بالحمل على الفعل، فقالوا: نوي، وشوي، وهوي، وما أشبه ذلك. ومن هنا يعرف ما جاء من قولهم: احوووى، فأعلوا الأخيرة ولم يعلوا ما قبلها. وكذلك: ارعوى. ولعل وجه قولهم: حيو وقوو، ونحوهما، من هنا يبدو، لأن اللام الأخيرة تعتل بالحذف، وهي معرضة له وإن ثبتت، فلو قبلوا، الواو التي هي مقابلة الراء في جحمرش، لكانوا قد تركوا اللام وأعلوا ما قبلها، فكان على خلاف ما قال الناظم، فثبت أن ذلك الشرط المورد لا يلزمه. وأما عكس هذا- وهو الذي أشار إليه بقوله-:"وعكس قد يحق"، وحقيقة عكس الأول هو تصحيح الثاني
دون الأول، لأن قوله:(صحح)(أول) في تقدير: دون الثاني، فعكس هذا: صحح ثان دون الأول، فهو على خلاف القاعدة، فكان الأصيل ألا يوجد لما تقدم آنفا، لكنه وجد قليلا، ودل على ذلك قوله:"وقد يحق"، وهو من حق الشيء يحق، أي: ثبت، واحققته أنا، أي: أثبته، أي: قد ثبت في / كلام العرب، والمضارع هنا في معنى الماضي، أي: قد ثبت قليلا، إذ لا يريد أنه الآن في حين الثبوت، (أو أنه سيثبت) بعد، ومثل هذا قوله تعالى:(قد نعلم إنه ليحزن)، (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، {ولقد نعلم أنهم يقولون}
…
الآية. وإنما معناه: قد علمنا وأنشد سيبويه:
قد أترك القرن مصفرا أنامله
…
كأن أثوابه مجت بفرصاد
ومثال على ما جاء من ذلك في الأسماء- فإنه لم يأت في الأفعال، لما يلزم من المحذور المذكور- قولهم: غاية، وثاية، وطاية، وراية،
أصلها: غوية، وثوية، وطوية، وروية، فكان الأصل أن يقال: غواة، وثواة، ورواة، وطواة، فيعلو اللام دون العين، لكنهم أعلوا العين دون اللام، والذي شجعهم على ذلك أن هذه الأشياء جاءت في الاستعمال على ما لا يكون له فعل، فلم يقولوا منه: فعل يفعل، لأنهم قد اعتزموا إعلال العين، فلو قالوا فيها فعلت، لزمهم إعلال اللام أيضا، وقد كانت عينها معتلة فكرهوا أن يشتقوا لها فعلا، لما يلزمهم من الإعلال، فرفضوا ذلك.
وهذا التمثيل على رأي الخليل؛ إذ جعل الألف منقلبة عن حرف متحرك، وقد تقدم أن رأي سيبويه خلاف هذا. ولكن الذي يجري على مذهب سيبويه وغيره قولهم: زاي، في حرف الهجاء، وقولهم: واو، كذلك، فإن الألف عندهم منقلبة عن حرف متحرك.
فإن قيل: إن على الناظم هنا دركا من جهة أنه قال هنا: "وعكس قد يحق"، فنبه على مجيئه في الكلام قليلا، مع أنه غير مقيس في موضع من المواضع، وترك التنبيه على ما جاء مما اعتل فيه العين واللام، مع أنه مقيس في موضعين، أحدهما: حروف الهجاء والثاني: باب التسمية، فإنك إذا سميت بما أو لا أو يا، أو ها من هؤلاء، أو ما أشبه ذلك فإنك تعل فيه العين واللام ضرورة، فتقول: لاء وياء وهاء، وليس لك ما نع من ذلك اتفاقا، بخلاف الأول فإنك لا تقيس في موضع من المواضع، فكان الأولى به أن ينبه على هذا دون الأول أو ينبه عليها معا. فالجواب: أن كلا الموضعين ليس من الضروري الذكر في هذا
النظم، فكونه أتى ببعض المسائل تبرعا منه لا يلزمه أن يأتي بسائر الأشياء ولا بما هو أمثل إذا تقاربا في القلة؛ إذ باب التسمية إنما هو بمنزلة أبواب الامتحان في التصريف.
ثم ذكر موضعا رابعا مما اجتمعت (فيه شروط القلب)، ثم منع من ذلك مانع فقال:
وعين ما آخره قد زيد ما
…
يخص الاسم واجب أن تسلما
آخره: منصوب على الظرف متعلق بزيد. و"ما"- في قوله: "ما يخص الاسم"- مرفوع زيد، و"ما" فيه واقعة على الزيادة اللاحقة للاسم، والجملة صلة ما، وعائدها الضمير في يحص. و"ما" الأولى واقعة على الاسم المتكلم في عينه، دل على أنه اسم قوله:"آخره قد زيد ما يخص الاسم"؛ إذ لا يمكن أن يزاد ما يخص الاسم في الفعل، وإنما يحلق ما هو مختص به. وعائدها الهاء في "آخره"، و"ما" الثانية وما تعلق بها في صلة ما الأولى. و"واجب" خبر "عين" أولا.
ويعني أن ما كان من الأسماء الم عتلة العين قد لحقه في آخره زيادة تختص بالاسم ولا تكون في الفعل أصلا يجب أن تسلم عينه ولا تعتل بالقلب المذكور وإن وجد موجبه. وإنما قال: "ما آخره قد زيد" لبيان أن خواص الاسم إذا لحقته من أوله فلا أثر لها في التصحيح، فالألف واللام إذا لحقت من
أول الاسم- وكان مما يعتل- اعتل، أو مما يصح كقولك: مال والمال، ونار والنار، وساق والساق، وأشباه ذلك. وإنما هو مختص بما يلحق الآخر، وذلك أن المقصود في هذا أن يكون الاسم على بناء لا يكون عليه الفعل، فإنه إذا كان على بناء يكون عليه الفعل، أي: يشاكل بناء الفعل، وجب إعلاله، فمال ونار ودار على بناء يشاكل بناء الفعل فيعتل باعتلاله، والألف واللام غير معتبرة لأن الاسم غير مبني عليها، وكذلك ما يلحق الآخر مما ليس في الكلمة جزءا منها، فيخرج عن هذا لحاق الإضافة والتنوين لأنها منفصلان عنه، بخلاف نحو ألف التأنيث والألف والنون فإن الكلمة مبنية عليها، فلحاقها للاسم يخرجه عن مشاكلة الفعل فلا يعتل كاعتلال الفعل. وهذا كله بيان لقول الناظم على الجملة:"وعين ما آخره قد زيد ما يخص الاسم"؛ إذ لم يخص زيادة من زيادة فظاهره يقتضي كل زيادة في آخر الاسم متصلة بالنية أو منفصلة عنها، وذلك غير مستقيم، وإنما يريد ما كان جزءا من الكلمة. والذي يخص الاسم مما هذه سبيله ثلاث علامات، إحداها: الألف والنون. والثانية ألف التأنيث المقصورة. والثالثة: ألف الممدودة. فأما الألف النون فقولك: الجولان والدوران والحيدان والهيمان، فإن الألف والنون هنا قد أخرجنا دورا وجولا وحيدا عن شبه الفعل فلم يعتل، لأن القاعدة أن الاسم هنا إنما يعتل عند
مشاكلته للفعل؛ ألا ترى أن الاسم إذا خالفت بنيته بنية الفعل صح كقولك: الحول والعوض ونحوهما، فكذلك إذا خالفه بزيادة زيدت فيه، ولا يقال: إن رميا وغزوا قد شابهه الهيمان والدوران، فكان حقه أن يعل. لأن ألف الاثنين كلمة أخرى ليست من حقيقة الفعل في شيء؛ ألا ترى أنها فاعل الفعل، والفاعل جزء الجملة لا جزء الفعل، وإنما الفعل رمى وغزا، فافترق من الدوران ونحوه، فقد خرج الدوران والهيمان عن مشابهة الصنفين من الفعل المجرد عن العلامة واللاحق له العلامة، وما جاء على خلاف هذا الحكم فنادر محفوظ نحو: ماهان وحاذان وداران. قال ابن جني: "جعلوا الألف والنون فيها بمنزلة هاء التأنيث في دارة وقارة ولابة، فكما اعتلت هذه الأسماء ونحوها ولم يمنع من القلب هاء التأنيث كذلك قلبت في ماهان وداران ونحوهما". قال: فإن قيل: من أين أشبهت الألف والنون وهاء التأنيث؟ فأجاب بأنها أشبهتها من وجوه، منها المساواة في الترخيم نحو: ياطح، ويامرو، في مروان. ومنها/ أنك تحقر الصدر من الاسم الذي هما فيه نحو زعيفران وطليحة قال: فمن هذا وغيره جرت مجراها. وقد تقدم ما في هذه الأسماء من احتمال فاعال.
وأما ألف التأنيث المقصورة فنحو حيدى وصورى، وكما إذا بنيت فعلى من البيع أو الكيل قلت: بيعي وكيلي، وما أشبه ذلك، ووجه ذلك نحو ما تقدم لأن ألف التأنيث لا تلحق الفعل أبدا، فخرج بها الاسم عن مشاكلة الفعل كالدوران، ولم يعتدوا بما "فيه" من صورة الفعل المسند للاثنين نحو قاما وباعا فيعل كإعلاله، لما تقدم في الألف والنون، وفرق ثان هنا- ويجري في الأول- وهو أن ألف قاما ونحوه طرأت بعد أن لم تكن، فالمشاكلة إن فرضناها عارضة بعروض لحاقها، والأصل المباينة والمخالفة بين صورى وقوم أصل قام، فيستصحب الأصل، والعوارض في القياس غير معتد بها. وهذا هو الذي اعتبر من ذهب إلى ما ذهب إليه الناظم في ظاهر كلامه.
وذهب الأخفش- وتبعه المؤلف في التسهيل، وهو الناقل لمذهب أبي الحسن- (إلى) أن هذه الألف غير مخرجة للاسم عن شبه الفعل، لأن صورة صورى صورة قوما الفعل، فكما يعتل الفعل هنا فتقول: قاما، فكذلك يعتل الاسم هنا لحصول المشاكلة، فما جاء من صورى وحيدى فيجعله شاذا، فإذا بنى من البيع (أو) القول أو الكيل أو الصوم مثل حيدى قال: باعى، وقالى، وكالى، وصاما، فأعل كما اعتل قاما، وصاما، وباعا، ونحوه. والأقوى ما اعتمدته الجماعة.
وينظر ههنا ما الذي يحمله كلام الناظم من هذين المذهبين، فإنه محتمل أن يريد بالذي يخص الاسم ما يخرج به عن مشاكلة الفعل لفظا فقط، فيكون
(مذهبه) مذهب أبي الحسن؛ فإن ألف التأنيث لا يخرج بها الاسم عن المشاكلة، اللفظية؛ إذ الألف في آخر الاسم كالألف في آخر الفعل، فقد حصل ما يوجب الإعلال دون ما ينفيه. ويحتمل أن يري ما يخص الاسم في نفسه بحيث يكون غير لاحق للفعل، وإن كان في الفعل ما هو على صورته، وهذا أظهر في كلامه لأنه قال: قد زيد آخره ما يخص الاسم فلم يعتبر مجرد المشاكلة فإنها تحصل في الجملة لا في الآخر بخصوصه.، وإنما اعتبر كون اللاحق خاصا بالاسم، ولا مرية أن اللاحق آخر الاسم هو ألف التأنيث، وألف التأنيث لا تلحق الفعل أبدا، فلم تحصل إذا المشاكلة على هذا التقدير. وهذا هو مذهب الجماعة، وقد تقدم ترجيحه.
وأما الألف الممدودة فيظهر- وإن لم أعرفه منصوصا- أن حكمها أيضا حكم الألف والنون، لا أقول حكم الألف المقصورة، لأن شبه الألف والنون بألفي التأنيث مقرر معلوم، وكثيرا ما يشبه سيبويه أحدهما بالآخر، حتى إنهم قالوا في صنعاء: صنعاني، وفي بهراء: بهراني، فأبدلوا من الهمزة النون، ومثل هذا لا يحتاج إلى شاهد، وهي من اللواحق المختصة بالاسم التي يبنى عليها من آخره، ومثاله ما إذا/ بنيت قرماء من القول فقلت: قوماء، أو من البيع فقلت: بيعاء، وأشباه ذلك الحكم التصحيح، لأن الاسم قد خرج بذلك من شبه الفعل البتة، ولا
يكون في هذا خلاف، كما لم يكن في الألف والنون إذا لحقت خلاف في التصحيح.
فإن قيل: فهل تكون هاء التأنيث من هذا القبيل، فيدخل تحت كلام الناظم؟
فالجواب: أن لان لأن هاء التأنيث كالمنفصلة؛ ألا ترى أنها- وإن وقع الإعراب عليها- معدودة كالجزء الثاني من المركبين، فلذلك قلت: تارة، ودارة، وقارة. (وعادة) وعالة، ونحو ذلك، وأيضا فليست التاء على الجملة مما يختص بالاسم؛ ألا ترى أنها تلحق الفعل أيضا فتقول: قامت وصامت.
فإن قيل: هذه غير تلك، لأن هذه في آخر الاسم تبدل هاء، بخلاف التي في الفعل.
قيل: هذا لا يضر في الشبه، فإنهما قد اجتمعا في اللفظ والدلالة أيضا على التأنيث، وإلى هذا فإنها تصير هاء إذا سميت بالفعل الماضي الذي اتصلت (به) وكان خاليا من الضمير، فتقول في "ضربت" مسمى به: ضربه، كما تقول: شجره". فهذا كله مما يقوى أن الهاء ليست كغيرها مما تقدم.
فإن قيل: فزيادتا التثنية وجمعي التصحيح هل لها في هذا الحكم أم لا؟ فإن الذي يظهر أن العلامتين هنا مختصتان بالاسم؛ إذ لا تلحقان الفعل البتة، لأن الفعل لا يثنى ولا يجمع، وإذا كان كذلك فقد دخلتا له في قوله: "قد زيد
آخره ما يخص الاسم، فاقتضى أن كل اسم ذي عين فيها موجب للإعلال المتقدم تصح عينه إذا لحقته علامتا التثنية أو الجمع. لكن هذا غير صحيح، لأنك إنما تقول في دار: داران ودارين، وفي رجل مال أو خاف: رجلان مالان وخافان، ورجال مالون وخافون. فإذا عبارته غير سليمة عن الاعتراض، هذا إلى ما فيها من الإجمال المتقدم ذكره.
فالجواب: أن الإجمال في كلامه قد فرغ منه، وإنما الكلام في هذا الإيراد وهو غير لزم على كلامه من وجهين:
أحدهما: أن علامتي التثنية والجمع السالم ليس الاسم بمبني عليهما، وإنما هما (كهاء التأنيث) غير معدودتين في (حروف الكلمة وإن عوملتا معاملة الجزء منه؛ ألا ترى أنهما تلحقان الاسم بعد كمال) بنيته، وبعد أن كان خاليا منهما، فإنك تتكلم بالمفرد وتستعمله على حياله، فإذا أردت تثنية أو جمعه ألحقت العلامتين، فقد صار الاسم قبل اللحاق ثابتا له حكمه الذي يقتضيه التصريف. بخلاف الألف والنون وغيرهما مما تقدم، فإن الاسم قد بني عليهما فلا وجود له إلا بهما، فكان ذلك معتبرا في امتناع الإعلال.
والثاني: أن الناظم قد قدم حكم التثنية والجمع وما يتغير لأجلهما وما لا يتغير، تحصل ذلك من منطوق لفظه ومفهومه، على ما تقدم شرحه، فإذا كان قد قرر فيه ما يلحقه من التغيير ولم يذكر من هذا المعنى شيئا، دل على أنه بعد
لحاق العلامتين كما كان قبل لحاقهما، فليستا بداخلتين له ههنا؛ إذ تقدم له حكمها.
ووجه ثالث، وهو أن علامتي/ التثنية والجمع قد يدعي فيهما أنهما غير مختصين بالاسم، وذلك أن الاسم كما تلحقه علامة الاثنين والجميع، كذلك الفعل تلحقه علامة الاثنين والجميع، فداران مثل قاما، ومالون مثل قاموا، فكل واحد قد لحقه ألف الاثنين وواو الجماعة، فأين الاختصاص؟
فإن قيل: الفرق بينهما ظاهر؛ فإن ألف قاما وواو قاموا ضميران اسمان وألف مالان وواو مالون علامتان حرفان لا اسمان، وإذا وضح الفرق بينهما كان ما ذهبت إليه من هذا كمذهب أبي الحسن في معاملة ألف صورى معاملة ألف قاما، وأنت قد نفيته عن أن يكون مذهبا للناظم، وأيضا فإن الاسم يزيد على الفعل بالنون، وتنقلب ألفه ياء بخلاف الفعل.
فالجواب: أن ما تقرر من الفراق ليس بفرق في الحقيقة، إلا نحوا مما بين تاء قامت وتاء قائمة؛ لأن كل واحدة من الألفين علامة على الاثنين، كما أن كل واحدة من التاءين علامة على التأنيث، ودليل تمكن هذا أنك إذا جردت الألفين عن الاسمية على قول من قال: قاما الزيدان، وقاموا الزيدون، ثم سميت بالفعل، صارت الألف كألف المثنى، والواو
كواو المجموع من كل وجه، وألحقت النون فقلت: قامان وقامون، كما قلت: مالان ومالون. وهذا واضح في كونهما- أعني الألفين- في الاسم والفعل متقاربين ومعناهما واحدا.
وهنا تم للناظم مراده من هذا المسألة، وتبينت بجميع أطرافها والحد لله.
وقد ظهر أن ما صحح على غير ما تقدم من الوجوه فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه، نحو: الخونة والحوكة، وروح جمع رائح وغيب، وحول، وهيؤ، وعفوة. قال ابن جني:"لم يأت في مثل بائع: بيعة، ولا في مثل سائر: سيرة كما جاء الخونة والحوكة، وعلته قرب الألف من الياء وبعدها من الواو، فكان تصحيح نحو الخونة أسهل عليهم من تصحيح نحو البيعة، لأن الياء لما قربت من الألف أسرع الانقلاب إليها؛ ألا تراهم يقولون: استافوا، فيعلونه، وإن كان بمعنى تسايفوا، فلم يقولوا: استيفوا، لما فيه من جفاء ترك قلب الياء ألفا في موضع قويت فيه داعية القلب".
وقبل با آقلب ميما النون إذا
…
كان مسكنا، كمن بث انبذا
هذا هو الميم من حروف البدل المتقدمة، ولم يذكر في بدلها من غيرها إلا وجها واحدا في حرف واحد، وهو النون، وذلك (أن) الميم تبدل من أربعة أحرف، وهو الواو واللام والباء والنون. فأما إبدالها من الواو أو اللام أو الباء فشاذ نادر، فلذلك ترك ذكره، وذلك قولهم: فم. فأصول الكلمة الفاء والواو والهاء، لقولهم: أفواه، وفويه، وفاه بكذا، قال:
فلا لغو ولا تأثيم فيها
…
وما فاهوا به أبدا مقيم
وقال ابن جني: يروى أن النمر بن تولب قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من امبر امصيام في امسفر". يريد: ليس من البر الصيام في السفر، فأبدل لام/ المعرفة ميما، قال: ويقال: إن النمر بن تولب لم يرو عن النبي- صلى الله عليه وسلم غير هذا
الحديث، إلا أنه شاذ لا يسوغ القياس عليه". وروى الفارسي بإسناده إلى يعقوب: يقال: رأيته من كثب ومن كثم"، أي: من قرب. فوجه البدل أنه يقال: أكث بلك الأمر، أي: قرب. ولم يقولوا: أكثم. ومنه أيضا قول الشاعر، أنشده ابن جني:
فبادرت شربها عجلى مثابرة
…
حتى استقت، دون محنى جيدها، نغما
قال ابن الأعرابي: أراد نغبا. قال ابن جني: وهو عندي كما قال.
وأما إبدالها من النون- وهو الذي أخذ الناظم في ذكره- فإن إبدالها (منها) على قسمين:
أحدهما: ما كان موقوفا على السماع لقلته، ومنه قول رؤبة:
يا هال، ذات المنطق التمتام
…
وكف المخضب البنام
أراد: البنان، فأبدل النون ميما حرصا على موافقة الروي. وقال ابن جني: قرأت على أبي علي بإسناده إلى يعقوب قال: (قال) الأحمر: يقال:
طانه الله على الخير، وطامه: أي جبله، وهو يطينه، وأنشد:
ألا تلك نفس طين فيها حياؤها
قال ابن جني: "والقول فيه أن الميم في طامه بدل من النون في طانه، لأنا لم نسمع لطام تصرفا في غير هذا الموضع". ومن هذا وشبهه تحرز الناظم بقوله: "إذا كان مسكنا"؛ لأنه إذا كان النون متحركا لم يقس فيه البدل.
والقسم الثاني: ما كان من هذا البدل قياسا، وهو الذي أخذ في ذكره فقال:"وقبل بااقلب ميما النون"، يعني أنك تقلب النون ميما قياسا بشرطين:
أحدهما: أن تكون قبل باء، وهي أخت الميم في المخرج؛ فإنها إذا كانت كذلك قلبت، فإن وقعت قبل (غير) الباء لم تقلب ميما على مقتضى مفهوم كلامه. ويريد: لم تقلب القلب في غير إدغام، وهو الذي أراد هنا، فإنها تقلب ميما في الإدغام لا من هذا الباب؛ إذ الكلام هنا في الإبدال لغير إدغام، وأما الإبدال لأجل الإدغام فيكون إذا وقع بعدها (الميم) نحو: من ماء، وعن ماجد، وزيد ماجد، " تقول فيها: مماء، وعماجد، وزيد ماجد، وامحى، وهمرش-، في أحد الوجهين- ما لم يقع (بالإدغام).
ليس نحو: زنماء، وقنواء، والدنيا. والميم أحد الأحرف الخمسة التي تدغم فيها النون، وهي هجاء "لم يرو"، والإدغام فيها مع بقاء الغنة ومع ذهابها، غير أن النون مع الميم لا تحتاج إلى غنة، لأن صوت الميم كصوتها فاستغنى بالغنة التي فيها، قال سيبويه:"حتى إنك تسمع النون كالميم والميم كالنون، حتى تتبين". وهذا ليس من بابه، فلذلك خص الإبدال هنا مع الباء.
والشرط الثاني: أن تكون النون ساكنة لا متحركة، وذلك قوله:"إذا كان مسكنا"، وضمير "كان" عائد على النون على اعتبار التذكير، تحرزا من أن يكون متحركا، فإنه إذا كان متحركا لم يبدل ميما وإن وقع قبل الباء نحو: عنب/ ونساء شنب، وشنب، وقد نبت الزرع، وما أشبه ذلك،
فإن سكنت وجب القلب ميما نحو: عمبر في عنبر، وشمباء، في شنباء، وممبك في من بك، وأمبت الله الزرع، في أنبت، وممبر، في منبر، وما أشبه ذلك.
قالوا: وإنما قلبت هنا حين سكنت قبل الباء لأن الباء أخت الميم، وقد أدغمت النون في الميم في نحو: من معك؟ ومن محمد، فلما كانت النون تدغم مع الميم التي هي اخت الباء أرادوا إعلالها أيضا مع الباء إذ قد أدغموا في آختها الميم، ولما كانت الميم التي هي أقرب إلى الياء من النون لم تدغم في الباء نحو: أقم بكرا، لا تقول أقبكرا، ولا في قم بالله، قبالله، كان النون التي هي من الباء أبعد منها من الميم أجدر بألا يجوز إدغامها في الباء، فلما لم يتواصلوا إلى إدغام النون في الباء أعلوها دون إعلال الإدغام، فقربوها من الباء، وقلبوها إلى لفظ أقرب الحروف من الباء وهو الميم، فقالوا: عمبر، قال السيرافي: "ابتداء صوت النون من الخيشوم، ولها حالان: حال ابتداء وحال انتهاء، وبالانتهاء ينفرد مخرجها، فإذا ابتدأت إخراجها وحركتها كانت من الفم لا غير، وكذلك إذا وقفت عليها ساكنة هي من الفم، وإذا وصلتها بما تخفى معه تفردت بالخيشوم، وصوت الخيشوم مشترك بين النون والميم في المبدأ، وإنما يتغير في المقطع، فاعتماد المتكلم على إخراج الباء يمنع من استمرار الصوت بغنة الخيشوم، واحتاج المتكلم إلى أحد أمرين في المقطع، إما أن يجعله من مخرج النون من الفم، وذلك ممكن وفيه مشقة، وإما أن يجعله من موضع
الميم- وهو مخرج الباء- وهو أسهل، قال: ولا تدغم النون في الباء لبعد مخرجيهما إن كانت من الفم أو من الخيشوم، مع أنها لا توافقها في الغنة- قال: فإن قيل: فهل يجوز أن تجعل الباء ميما وتدغم، كما يجوز في: أقم بالبصرة (أقم البصرة)؟ قيل: لا، لما يقع من اللبس، ألا تراهم قد بينوا في قنية وزنمة وأخرجوا من الفم لئلا يدغموا فتلتبس بالتضعيف".
ومثل الناظم بمثالين: من بث، وانبذ. ومعنى الكلام من بث أسرارك فانبذه ولا تصحبه وإياك وإياه. ونبه بالمثالين على أن الحكم مستمر في النون مع الباء، كانت منفصلة عنها كمن بث، أو متصلة بكلمتها نحو: انبذ ويقال: نبذت الشيء أنبذه- بالكسر-: إذا ألقيته من يدك، ونبذته كذلك، شدد للكثرة.
فصل
لساكن صح انقل التحريك من
…
ذي لين آت عين فعل كأبن
ما لم يكن فعل تعجب ولا
…
كابيض أو أهوى بلام عللا
هذا الفصل يذكر فيه ما اعتلت عينه من الأسماء والأفعال وقبله ساكن؛ إذ قرع فرغ من الكلام على ما قبله متحرك، وابتدأ بذكر الأفعال، ويعني أن الفعل إذا كانت عينه ذات لين، أي: حرف/ لين، وقبل ذلك اللين ساكن، فإنك تنقل حركة حرف اللين إلى ذلك الساكن. وذو اللين هو الحرف الواقع علينا، وقال:"عين فعل"، لأنه إذا وقع عين اسم فسيذكره بعد هذا. وذو اللين الذي أراد هو الياء والواو، وأما الألف فلا تكون (هنا)؛ إذا لا تقع أصلا في كلمة متصرفة ولا تتحرك إن كانت (زائدة). ومثال هذا في الماضي: أجاد، وأبان، وأقال، وأخاف، واستراب، واستعاد. وأصل ذلك: أجود، وأبين، واستريب، واستعود، بدليل رجوعهم إلى ذلك في بعض المواضع في ضرورة أو غيرها، كقوله، أنشده سيبويه:
صددت فأطولت الصدود وقلما
…
وصال على طول الصدود يدوم
وقولهم: استنوق الجمل، و (استحوذ عليهم الشيطان)، لكنهم أرادوا إعلال هذه الأمثلة إذ كانت معتلة (في الثلاثي) ليجرى الفعل في تصرفاته كلها على وجه واحد، فنقلوا حركة الواو والياء إلى الساكن الذي قبلهما، فصار أجود، وأبين، واستريب، واستعود، فقلبوهما ألفا لتحركهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما في اللفظ، فصار: أجاد، وأبان، واستراب، واستعاد، كما ترى، قالوا: ولولا اعتلاهما في الثلاثي لما وجب إعلالهما (الآن)، لأن الياء والواو إذا سكن ما قبلهما جريا مجرى الصحيح. وأما المضارع فنحو مضارع ما تقدم: يجيد، ويبين، وبستريب، ويستعيد. والعلة واحدة، فنقلوا حركة الواو والياء إلى السكان قبلهما فصار: يجود، ويبين، ويستريبن ويستعود، فقلبوا الواو الساكنة ياء لكسر ما قبلها، فقالوا: يجيد، ويستعيد. وهكذا مضارع الثلاثي نحو: يقوم ويبين، أصلهما: يقوم، ويبين، ففعلوا كما تقدم، فصار هكذا، لكن هذا محمول على ماضيه نفسه، لأنه ثلاثي جار عليه. وأما الأمر فكالمضارع إلا أن لام الفعل إذا كان ساكنا حذف حرف العلة لالتقاء الساكنين، ومن هذا ما مثل به الناظم وهو: أبن، أصله: أبين، من أبان يبين بمعنى بين. غير أن الناظم اشترط في ثبوت هذا الحكم أربعة شروط:
أحدها: أن يكون الساكن الذي قبل حرف العلة صحيحا، فلذلك قال:"لساكن صح"، أي: انقل تحريك ذي اللين لحرف ساكن صحيح، تحرزا من الحرف المعتل فإنه إن كان الحرف معتلا إما واوا أو ياء أو ألفا بقيت الحركة في محلها ولم تنقل، فالألف كقولك في أفعل من آم يئيم: آيم، ومن آل، لأنه لما اعتلت الفاء وهي همزة قلبت ألفا (وصحت العين)، وقد سمع من كلام العرب: آيدته، في أفعلته من الأيد، وأيدته فعلته، قال ابن جني:"وآيدته قليلة مكروهة، لأنك إن صححت فهو ثقيل، وإن أعللت جمعت بين إعلالين، فعدل عن أفعلته إلى فعلته في غالب الأمر". وكذلك تقول: قاول يقاول، وبايع يبايع، فههنا لا يصح النقل أيضا؛ إذ الألف لا تقبل الحركة. والواو والياء كقولك في فعل من آم وآل: أيم وأول، ولا تقول: أيام، ولا: أوال. وكقولك: بويع وسوير. وقول وبيع إذا بنيت منها/ على فعل أو فوعل، أو فيعل فقلت: قيل، وما أشبه ذلك.
وكان وجه ما فعلوا من هذا أنه لم يمكنهم غيره، لأن الألف إن كانت مبدلة من همزة فنقلت (إليها) وذلك لا يكون إلا مع إبدالها واوا أو ياء لزمك الجمع بين إعلالين، إعلال العين، كما قال ابن جني في آيدته، وإن كانت الألف زائدة لم يصح تحريكها، وإن قلبت وحركت
لزمك إفساد (البناء). وأما الواو والياء فإن كانتا تضعيف عين لم يصح النقل؛ إذ العين لا تختلف، وقد مر بيان هذا، ولذلك جمعوا بين الهمزتين في سأل ونحوه، فلو قلت في فعل من آل: أوال، لزم اختلاف العين.
وإن كانا زائدتين للإلحاق لزم مخالفة الملحق للملحق به، فكان التصحيح أولى.
فإن قيل: هل يدخل له في غير الصحيح الهمزة فتكون عنده في حكم المعتل الذي لا ينقل إليه أم لا تدخل فتكون عنده في حكم الصحيح الذي ينقل إليه؟ وعلى كل تقدير يلزم إشكال، أما إن قلنا: إنها داخلة في حكم المعتل فيقتضي أن الهمزة لا ينقل إليها ما لا ينقل إلى الحروف المعتلة، فنقول: يؤود من آودن ويؤول من آول، وما أشبه ذلك، وهذا موافق لما ذكره في التسهيل حيث استثنى الهمزة فقال:"إن لم يكن حرف لين أو همزة"، فإن الهمزة (عنده) لا ينقل إليها، وإنما تقول:(آود) يؤود، (ويؤيد) من الأيد، وكذلك اسم الفاعل منهما، والمصدر، واسم المفعول، على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وعلى هذا جرى ابن جني، وأنشد على ذل قول الشاعر:
ينبى تجاليدي وأقتادها
…
ناو كرأس الفدن المؤيد
وقول طرفة بن العبد:
يقول وقد تر الوظيف وساقها
…
ألست ترى أن قد أتيت بمؤيذ
فقد أتي في الأول بمفعل من الأيد مصححا، وفي الثاني بمفعل منها- وهي الداهية- مصححا كذلك، واسم الفاعل والمفعول في حم الفعل إذا صح أحدهما صح الآخر، وإذا اعتل اعتل، فالشاهد على أحدهما شاهد على الآخر. لكن هذا الحكم على الإطلاق غير صحيح؛ إذ يجب إعلال مضارع الثلاثي المعل وما تصرف منه نحو: آل يئول، وآب يئوب مآلا ومآبا، وآد يئود، وآم يئيم، وآن يئين، وما أشبه ذلك، والأصل: يأود ويأيم، فنقلت حركة الياء والواو إلى الهمزة على قاعدة الساكن الصحيح، فجرى في وجوب الإعلال على الماضي، وعلى هذا يكون قولهم: الحرب مأيمة، شاذا، كمقودة ومثوبة وكذلك أيضا الحكم في حرف اللين الواقع قبل العين من الثلاثي، لو بنيت فعل من الويح (والويل) لقلت: واحد يويح، ووال يويل، لكن العرب قد رفضت في الاستعمال (أفعال) الويح والويس والويل والويب، لأن يويح الذي يوجبه
القياس في المضارع أثقل من "يوعد" لو أخرجوه عن أصله. وهذا الاعتراض لازم أيضا في كتاب التسهيل، ولا محيص له عنه هناك، فكذلك يكون هنا على هذا التقدير.
وإن قلنا: إن الساكن إذا كان همزة لا تدخل في الحكم المعتل، بل ي من الحروف/ الصحاح في هذا الحكم فتقول في يؤيد: يئيد، وفي يؤول: يئيل، كما تقول آم يئيم، وآد يئود- كان مخالفا لما قال الناس في غير الثلاثي، ابن جني ومن قال بقوله، ومنهم المؤلف في التسهيل. فعلى كل تقدير يلزم التفصيل وأن يقال بالفرق بين الثلاثي وغيره، فتكون الهمزة في الثلاثي حكمها حكم الحرف الصحيح، وفي غيرها حكمها حكم حرف العلة، وحينئذ يلزم على كلام الناظم الإشكال كما لزمه ذلك في التسهيل.
فالجواب أن ظاهر الإطلاق في الحروف الصحاح أنها ما عدا الألف والواو والياء فالهمزة على هذا التقدير من جملة الحروف الصحاح، وإذا كانت كذلك فقد صح النقل إليها، فإنما تقول: آد يئود، وآب يئوب.
وكذلك تقول في غير الثلاثي نحو: استآد يستئيد، وقد جاء في السماع،
قال الجعدي:
ثلاثة أهلين أفنيتهم
…
وكان الإله هو المستآسا
ولو صحح لقال: هو المستأوس. وهذا صحيح لا إشكال فيه، وأما
ما قاله ابن جني فأصله للفارسي وهو مختص بما فاؤه تلى همزة كآيدته، روى ابن مجاهد، عن أبي عمرو أنه قرأ:(وآيدناه) على أفعلناه، والذي كثر فيه: أيدت. قال الفارسي. إنما كثر فيه أيدتك: فعلتك، لما يعرض في آيدتك من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين.
وأنشد:
كرأس الفدن المؤيد
قال ابن جني: معناه: لو جاء آيدتك على ما يجب في مثله من إعلال عين أفعلت؛ إذ كانت حرف علة كأقمت، لتوالي فيه إعلالان، لأن الأصل: أأيدت، كما أن أصل آمن: أأمن، فانقلبت الهمزة الثانية ألفا لاجتماع همزتين في كلمة واحدة الأولى منهما مفتوحة والثانية ساكنة، فهي كآمن وآدم، وكان يجب أيضا أن تلقى حركة العين على الفاء وتحذف العين، فكان يجب على هذا أن تقلب الفاء واوا، لأنها (قد) تحركت وانفتح ما قبلها، ولا بد من بدلها لوقوع الهمزة الأولى قبلها كما قلت في تكسير آدم: أوادم، فكان يلزم على هذا أن يقال: أودته، كأقمته وأردته، فتحذف العين كما ترى، وتقلب الألف التي هي (في) الأصل همزة واوا، فتعتل الفاء والعين جميعا، وإذا أدى القياس إلى
هذا رفض، وكثر فيه فعلت: أيدت، ليؤمن ذنك الإعلالان. قال: فلما استعمل شيء منه جاء قليلا شاذا- أعني آيدت- قال: وإذا كانوا أخرجوا عين أفعلت وهو حرف علة على الصحة نحو قوله:
صددت فأطولت الصدود
وقولهم: أغيلت المرأة، وأغيمت السماء، ونحو ذلك، ولو خرج على منهاج إعلال مثله لم يخف فيه توالي إعلالين، كان خروج آيدت على الصحة لما كان يعقب إعلال عينه من اجتماع إعلالها مع إعلال الفاء قبلها- أولى وأجدر.
هذا ما قاله في تفسير كلام الفارسي، وهو ظاهر في خروج أفعلت مما فاؤه همزة عن قاعدة النقل إلى التصحيح، ومؤذن بأن ماعدا ذلك (مما) لا يلزم فيه إعلالان باق على تلك القاعدة وإن كانت الفاء همزة، فبحق ما قال بعض الشيوخ/ في قول المؤلف في التسهيل:"ولا همزة": إنه ناقص، وإن تمام العبارة:"لا همزة تلي همزة"، فيكون باب الاستئواد من الخارج عن القاعدة ومن الموقوف على السماع، وإذا كان كذلك لم يبق على الناظم اعتراض إلا فيما فاؤه همزة تلي همزة.
الشرط الثاني: ألا يكون الفعل المعتل العين فعل تعجب، وذلك قوله:"ما لم يكن فعل تعجب"، يريد أن هذا الحكم من الإعلال إنما يستمر في غير فعل التعجب، فأما فعل التعجب فلا يعتل، وإنما حكمه التصحيح عل مقتضى هذا المفهوم، فتقول: أقوم بزيد! وما أقومه! وأبين به! وما أبينه! ولا تقل: أقم بزيد، ولا ما أقامه.
ووجه ذلك الحمل على أفعل التي للتفضيل؛ إذ أفعل فيما أفعله موازن له لفظا وموافق له معنى، فاتبع الفعل الاسم فيما هو أصل في الاسم وهو التصحيح. وقد يحمل الأصل على الفرع فيما هو أصل في الفرع فرع في الأصل، كما أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع في العمل، وأجرى المضارع مجرى اسم الفاعل في الإعراب، وكما أجرى الحسن على الضارب الرجل في النصب، وأجرى الضارب الرجل على الحسن الوجه في الجر. ثم جمل أفعل المتعجب به على أخيه فقيل: أبين بالحق! وأنور به! كما قيل: ما أبينه وأنوره! هذا معنى ما علل به ابن جني وغيره، وأصله لسيبويه، قال:"ويتم في قولك: ما أقوله وأبيعه! لأن معناه معنى أفعل منك وأفعل الناس، لأنك تفضل على من لم يجاوز أن لزمه قائل وبائع، كما فضلت الأول على غيره وعلى الناس، وهو بعد نحو الاسم لا يتصرف تصرفه ولا يقوى قوته، فأرادوا أن يفرقوا بين هذا وبين الفعل المتصرف نحو أقام وأقال". قال: "وكذلك أفعل به، لأن معناه معنى ما أفعله
(وذلك قوله) أقول به وأبيع به".
الشرط الثالث: ألا يكون مضاعف اللام، وذلك قوله:"ولا كابيض"، فإنه إذا كان كذلك لم تنقل حركة العين إلى ما قبله، فتقول: ابيض واسود، وابيضضت واسوددت، وكذلك: احول واعول وما أشبهه مما يجئ على افعل. ووجه هذا التصحيح أنهم لو أسكنوا الباء والواو ونقلت حركتها قبلهما لوجب أن تنحذف همزة الوصل فيصير: ساد وباض، فيجتمع ساكنان، فينتقل إلى سد وبض.
فإن قيل: لا تسقط في راد وحاد.
فالجواب (أن). في ساد ثلاثة تغييرات بخلاف راد، لأن أصله الأول: اسودد، فألقينا حركة الواو على السين، فسقطت همزة الوصل، فهذا تغير. وانقلبت أيضا الواو ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها في اللفظ، فهذا تغيير ثان. وسكنت الدال فأدغمت فهذه تغييرات كثيرة مجحفة بالكلمة، فامتنعوا مما يؤدي إليها. وأيضا لو فعلوا ذلك لالتبس بفاعل، وهذا كله مانع، فوجب التصحيح. هذا معنى تعليل السيرافي، وعلل ابن جني بنحو منه. ولما ذكر لنا/ شيخنا القاضي- رحمه الله التعليل الذي ذكر السيرافي من أنه يؤدي إلى التقاء الساكنين والحذف قال له بعض أصحابنا: إن حذف الألف لا يلزم، لأن شروط التقاء الساكنين متوفرة فيه. فقال له: على كل حال، فالإدغام والتقاء الساكنين على الكلمة كثير، مع أن من شرط التقاء الساكنين أن تكون الألف
زائدة، وههنا ليست كذلك لأن أصلها الياء في ابيض، فلم تتوفر الشروط، وهذا حسن.
الشرط (الرابع) ألا تكون اللام معتلة أيضا، وذلك قوله:"أو أهوى بلام عللا"، يريد أن هذا الحكم لا يثبت إذا كانت اللام معتلة أيضا كأهوى، (فإن أهوى) أفعل، فالأصل أن تقول: أهاي، كما تقول: أقام، لكن منع من ذلك إعلال اللام، فإنما تأتي به على الأصل فتقول: أهوى يهوي، ويهوى، (ويهوي): وأوى يأوي، وآوى يؤوي، واستهوى يستهوي، وما أشبه ذلك. ووجه هذا ما تقدم من أنه إذا استحق الإعلال حرفان فإنم الذي يصحح هوة الأول، وأنه لو اعتل الأول لزم منه إما إعلال الثاني، وذلك لا يجوز، وإما تصحيحه فيقتضى ظهور الضمة في الياء على ما تقدم بسطه، وذلك (أيضا) لا يجوز، فامتنعوا مما يؤدي إلى ذلك.
فإذا اجتمعت هذه الشروط فحينئذ يستتب الإعلال كما تقدم تمثيله، وما خرج عن هذا الحكم فشاذ نحو قوله: أنشده سيبويه:
صددت فأطولت الصدود وقلما
…
وصال على طول الصدود يدوم
وقالوا: استحوذ عليه، وأغيلت المرأة، واستروح، واتصوب، واستجود واستفيل، وأجودت، وأديبت، وأغيمت، وفي حكم هذه الأشياء ما جرى
مجراها من مصدر كالإغيال، والإجواد، والاستجواد، وما جرى من الصفات نحو: هي مغيلة، والولد مغيل، قال امرؤ القيس:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا
…
فأهليتها عن ذي تمام مغيل
وكذلك ما أشبهه.
هذا ولا يقاس هذا كله عند الناظم، وقد وقع الخلاف هنا في موضعين:
أحدهما: أن أبا زيد قاس على ما سمع من هذا مطلقا في الأفعال والمصادرات والصفات وغيرها، كان الثلاثي المعل مستعملا أولا.
والثاني: أنه اختار في التسهيل القياس فيما لم يكن له ثلاثي معل، والسماع فيما كان له ثلاثي، فنحو: استنوق الجمل، واستفيل الجمل، واستنيست الشاة، قياس عنده، فيجوز أن تقول: استطود فلان، صار كالطود، واستحوت الضفدع، صار حوتا، وما أشبه ذلك، بخلاف استحوذ ونحوه فإنه سماع، لأن له ثلاثيا، وهو حاذ يحوذ. ووجه هذا الاختيار أن إعلال الزائد من الأفعال إنما بالحمل على الثلاثي؛ إذ هو الأصل، فوافقته فروعه وجرت المصادر بعد في الإعلال على أفعالها، فإذا أهمل الثلاثي لم يكن للزائد في الإعلال أصل تحمل عليه، فبقي على الأصل
وهو التصحيح/. وغير المؤلف يرى شذوذ التصحيح أيضا في هذا القسم، لكنه أسهل من باب استحوذ، لوجود حاذ يحوذ، وإذا كان التصحيح في مثل مدين ومكوزة ومريم- من الأعلام التي لا مناسبة بينهما وبين الفعل إلا الموافقة في عدد الحروف (والحركات) والسكنات شاذا غير مقيس بموافقة المؤلف على ذلك، فأحرى الفعل نفسه وما تصرف منه. والمؤلف في هذا الاختيار محجوج بموافقته على شذوذ باب مدين. وأما ابن جني فنص على أن هذا من الشاذ، وأنك لو قلت مثل استفعل من الطود أو الحوت أو الخوط لقلت: استطاد، واستحات واستخاط، فيعله على القياس، ونص على أن مثل استيفل في الشذوذ أسهل من مثل استحوذ، ولم يحك في شذوذ البابين خلافا.
وأما مذهب أبي زيد فمخالف للجماعة أيضا، وهذا وإن كثر فهو مما اطرد في الاستعمال لا في القياس، والقاعدة أن المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس يؤقف ما استعمل منه على محله، وما سواه يحمل على القياس، ذكر ذلك ابن جني في الخصائص وغيرها، وهي عندي قاعدة أصولية. فالظاهر ما ذهب إليه الناظم هنا.
وإنما قال: "بلام عللا"، وكان يجزيه أن يقول:"أو أهوى"؛ إذ المثال مشعر بإعلال اللام، لأنه لا يتعين به مطلوبه؛ ألا ترى أنه مثال على
أفعل، فلعل متوهما يظن أن هذا مختص بما هو على وزنه دون غيره فيفهم منه فهما غير صحيح، فحرر ما أتى بالمثال لأجله فقال:"بلام عللا"، أي: إن إعلال اللام هو المانع من إعلال العين، فيدخل بمقتضى هذا التعليل: استفعل يستفعل، وأفعل يفعل، وما أشبههما، وكذلك: يفعل ويفعل، من ذوات الواو والياء.
واعلم أن الناظم- رحمه الله قد نقصه من هذه المسألة أمران لا بد منهما وبذكرهما تتم وتطرد وتنعكس في حزئياتها:
أحدهما: اشتراط شرط خامس، وهو ألا يكون الفعل الذي قبل عينه ساكن من فعل الذي بمعنى افعل ولا مصرفا منه، فإنه إذا كذلك صح ولم يعتل.
وكلامه يقتضي أنه يعتل، وذلك غير صحيح، فإنك تقول: عور زيد (يعور)، واعور يا زيد، وحول يحول، وصيد يصيد، ولو بنيت أفعل يفعل من هذا لقلت: أعو الله عينه، وأصيد الله بعيره. وكذلك لو بنيت من هذا استفعل لقلت: استعور، واستحول، واستصيد. أو افتعل لقلت: اصطيدا، واعتور.
ويجري المضارع من هذه كلها على الماضي (في) التصحيح، لأن المضارع الثلاثي منها جار على الماضي، والمزيد جار على المجرد في التصحيح والإعلال على القاعدة.
وإذا كان كذلك وجب أن يكون المزيد هنا صحيحا لامعلا. وأما الذي من الافتعال بمعنى التفاعل فليس من هذا الفصل، (وإنما هو من الفصل) قبل هذا. وقد نبه على هذا الشرط في كتاب التسهيل فقال لما قرر المسألة: "إن كانت الواو والياء عين فعل لا لتعجب، ولا موافق فعل الذي بمعنى افعل، ولا مصرف منهما
…
" إلى/ آخره، فأخرج عن الفصل ما يجب إخراجه عنه، ولم يفعل ذلك هنا، فكان كلامه فيه معترضا.
ولا يقال: إن هذا الحكم قد تقدم له الإشارة إليه قبل إذ قال:
وصح عين فعل وفعلا
…
ذا أفعل .......
لأنا نقول: إنما تقدم له ذلك في الماضي خاصة، ألا تراه قال: وصح عين كذا وكذا، فقيده بما تحركت فيه العين وانفتح ما قبلها، وإذا كان كذلك لم يكن فيه دلالة على ما سكن ما قبله.
والثاني: أنه أتى ببعض أحكام المسألة ولم ينته بها إلى غايتها، بل وقف دون ذلك؛ ألا تراه لم يذكر إلا نقل الحركة فقط، وليس هذا بكاف ولا مخلص، لأنك إذا نقلت حركة العين إلى الفاء فقلت مثلا في أقوم: أقوم، بقيت الواو ساكنة بعد النقل، فلا يدري الناظر بعد ذلك ما يكون الحكم، هل تبقى كذلك فتستعمل على تلك الحال أم لا؟ بل الظاهر والأسبق إلى الوهم أنها تبقى كذلك؛ إذ يقول القائل: لو كان بعد هذا
عمل آخر لم يتركه، وكذلك إذا قال في يقوم: يقوم، فبقيت الواو ساكنة لم يدر ما يفعل بعد ذلك؟ فقد صار الحكم الضروري في هذه المواضع من قلب الواو (ألفا حتى يصير أقام، وقلب الواو) ياء حتى يصير يقيم، وما كان نحو ذلك محالا به على غير معلوم، وهذا قادح في التعليم، ولقد أتم في التسهيل المسألة إذ قال بعد تقرير ما قرر هنا:"وأبدل من العين مجانس الحركة إن لم يجانسها". يعني أن العين إن جانس الحركة المنقولة إلى الفاء بقيت على حالها وإن لم تجانس قلبت العين إلى الحرف المجانس، فأما المجانس فهو أن يكون العين واوا وحركتها ضمة، أو ياء وحركتها كسرة، مثال ذلك: يبيع، أصله يبيع، فقلت الحركة إلى الياء فصار ببيع، فجانست الياء الكسرة فلم تحتج إلى عمل. وكذلك معيشة ومبيعة إذا بنيت مفعلة من العيش والبيع، ومقولة ومعونة إذا بنيت مفعلة من القول والعون؛ إذا كان الأصل مقولة، فنقلت الضمة إلى القاف، فجانستها الواو فاستقرت على حالها. وأما غير المجانس فهو أن تكون حركة العين فتحة مطلقا، أو تكون ضمة وهي ياء، أو كسرة وهي واو، مثال ذلك: يقام ويباع، أصله: يقوم ويبيع، فنقلت الفتحة إلى الساكن قبلها فبقى يقوم ويبيع. وهذا لا يقال، فأبدلت الواو والياء ألفا، وهي المجانسة للفتحة، وكذلك يقيم ويستقيم، وكما إذا بنيت مفعلة من البيع أو من العيش، على ما ذهب هو إليه من مذهب أبي الحسن فقلت: مبوعة ومعوشة، أما
على مذهب سيبويه فهو يحتاج إلى استثناء الياء المجاورة للطرف بعد الضمة، فإن الضمة ترد كسرة، كما تقدم في تقرير المذهبين فالحاصل أن الناظم لم يخلص هذه المسألة ولا حررها.
فأما السؤال الأول فلم يحضرني الآن عنه جواب سوى أنه لما كان في معنى افعل، وهو قد نص على أن الحكم لا يدخله اقتضى أيضا أنه لا يدخل ما هو في معناه، لأن حقيقة الأمر في تسليم/ حول توهم أنه على احول، وإذا كان كذلك فلابد من تسليمه تسليم افعل، وقد يمكن أن يجاب عن الثاني بأنه إنما ترك باقي العمل إحالة على ما مضى له قبل هذا. أما الواو مع الكسرة والياء مع الضمة فقد تقدم له أنهما إذا سكنا وقبلهما من غير جنسهما فإنهما يقلبان إلى الحرف المجانس للحركة المعينة. أما نحو مفعلة من العيش إذا صار إلى معيشة فقد دخل له في مسألة موقن من حيث وجدنا ياء ساكنة قبلها ضمة، وأما نحو مفعلة من القول فلأنه لما صار إلى مقولة دخل له تحت كلامه المنبه عليه فيما قبل، فليس تركه لما ترك ترك بإهمال له، وأما الياء والواو مع الفتحة فإن الفتحة إذا نقلت عنهما إلى الساكن صارت صورته صورة ما تقدم حكمه، لأند قد قدم أن كل واو أو ياء بتحريك أصل وقبلهما فتحة وجب قلبها ألفا، وقد وجدنا هذا كذلك، لأن الواو والياء تحركتا في الأصل وانفتح ما قبلهما
لفظاً، فاقتضى الانقلاب ألفا، فوجب أن تقول في مفعلة من القول أو البيع: مقالة ومباعة.
فإن قيل: هذا التنزيل غير مستقيم، لأنه إنما قدم أن تكون الواو أو الياء متحركة لا ساكنة؛ ألا تراه قال:"بتحريك"، فاشترط التحريك، وهذا غير متحرك قطعا، ويلزمك على هذا أن تدخل في هذا القانون كل واو أو ياء ما قبلهما مفتوح متحرك أو سكن، فيكون ياجل وياتعد وبابه من جملة المقيس، وهذا كل لا ينهض.
فالجواب: أن التنزيل مستقيم والسؤال غير وارد، أما أولا فلأن الناظم إنما قال:"بتحريك أصل"، يريد أنه لابد أن يكون ذلك التحريك بحق الأصل، ولم يشترط أنه موجود بلا بد، بل قال: بتحريك صفته كذا، كأنه قال: يشترط أن يكون متحركا في الأصل، فإذا لا يلزم أن يكون متحركا في الحال، بل قد يكون كذل وقد لا يكون، ولا شك أن عين يقام حين صار إلى يقوم متحركة في الأصل، وأيضا يصدق عليها أن العين هنا متحركة في الأصل؛ وقد تقدم في مسألة "سيد" أن الساكن الذي في حكم المتحرك متحرك لا ساكن، فكذلك قلت: قوى، في تخفيف قوى، ولم تدغم، وتقدم أنه لا يدخل على الناظم إدغامه لأنه متحرك، فكذلك نقول هنا: إن الواو متحركة وإن عرض الآن سكونها. ولهذا يقول النحويون في مثل هذا: تحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها
في اللفظ، فقلبت ألفا. فيردون الحكم إلى المسألة الأولى، فلفظه إذا هنالك يقبل هذا العمل.
أما ثانيا فلأن انقلاب الألف عن الياء والواو إذا تحركا وانفتح ما قبلهما لا يكون إلا بعد حذف حركتهما، لأنهما لا ينقلبان إلى حرف ساكن وهما متحركان، فحقيقة الترتيب في هذا العمل أن تقول: أصل قام قوم، تحركت الواو وانفتح ما قبلهما، فحذفت لتوالي الحركات ولثقل الحركات على حروف العلى على الجملة/ فسكنت، وكان الأصل أن تنقل حركتها إلى الفاء ولا تحذف رأسا، كما فعلوا ذلك في المضارع، لكنهم خافوا الالتباس بفعل المفعول لو قالوا: قوم، فتركوا ذلك حيث يلتبس على الجملة وذلك في الثلاثي ونقلوا حيث لا يتلبس وذلك إذا أسند إلى ضمير المتكلم نحو قلت، وفي باع: بعت. وهذا المعنى مبسوط في موضعه، ثم انقلبت الواو (والياء) ألفا لتحركهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما في اللفظ. فالحاصل أن لابد من إسكان حرف العلة قبل الانقلاب، للعلة المذكورة، أو لأن الانقلاب فيها لا يصح إلا بعد حذفها؛ لأن ما انقلبت إليه غير قابل للحركة. وهذا الترتيب الذي ذكرته هو الذي يقوله النحويون، سيبويه وغيره، قال السيرافي في نحو قام وباع: "يقلب ثانيه
ألفًا لتحركه وانفتاح ما قبله، لأنهم استثقلوا ذلك مع كثرتها في كلامهم، مع أنها لو سلما في الماضي للزمهما في المستقبل (ما يثقل) من الكسرة أو الضم في يقول أو يبيع، مع أن الفعل ثقيل كثير الدور في الكلام؛ ألا ترى أن الواو المضمومة تقلب همزة، فسكونهما في المستقبل وألقوا حركتهما على ما قبلهما". قال:"وقلبوها في الماضي بعد تسكينها، دلالة على أنها قد كانت متحركة (قال: ) وأيضا لو تركت ساكنة لأشبهت بيع وقول المصدرين". فأنت تراه قد قرر أن التسكين هو السابق، وكأنه بالحمل على المستقبل؛ إذ سكنوا فيه، ثم علل وجه الانقلاب ألفا بعد التسكين، وأن ذل لوجهين، الدلالة على أن الأصل متحرك، وخوف الالتباس، وأن ذلك لوجهين، الدلالة على أن الأصل متحرك، وخوف الالتباس. وهكذا يقول غيره، وإذا كان كذلك فلابد من التسكين. ثم إن "مقام" ونحوه على هذا الترتيب حذوك النعل بالنعل. فالمسألتان إذا من باب واحد، غير أن هؤلاء المتأخرين (لا) يذكرون في ترتيب الإعلال مرتبة التسكين في نحو (قام) ويذكرونها في (يقام) ونحوه، فيشكل على من لم يتمرن فيما قال سيبويه والأئمة بعده من وجه
الإعلال، وجعل البابين- أعني باب قام وباب يقام- في وجه الإعلال على حد سواء. في سواء. فإذا تقرر هذا فقول الناظم هنالك:"بتحريك أصل"، لابد من جملة (على أن مراده التحريك) في الأصل، حملا له على ما قاله غيره من الأئمة المقتدي بهم في هذا الشأن، وإذا ذاك تصير مسألة يقام ويستدام من ذلك الباب، وإذا كان كذلك فنعما فعل في عدم ذكره لباقي الحكم، لأنه كان يكون تكرارا من غير فائدة زائدة، وقد مضى فيما تقدم الإشارة إلى تعليل الإعلال في المسألتين، مسألة قام ومسألة يقام ويقوم ويقيم، ولكن بسط ذلك على أقرب ما يكون أن الأصل الإعلال للماضي نحو قام وباع أصله قوم وبيع، ثم نقل إلى قوم وبيع، بدليل أنهم إذا أسندوهما إلى ضمير الرفع قالوا: قمت وبعت، فنقلوا حركة العين إلى الفاء، ولو كان باقيا على أصله لقالوا: قلت: (و) بعت- بفتح الفاء- لكنهم لم يفعلوا ذلك فدل على أنهم نقلوه/، والأصل فعل، إذ لو كان (الأصل) فعل لم يتعد البتة.
فإن قيل: ولعل الضمة والكسرة إنما أتى بهما ليفرق بين ذوات الواو وذوات الياء كما قال ابن الطراوة.
قيل: لا يمكن؛ إذ لو كان كذلك لقالوا في خفت: خفت، بالضم، ليفرقوا بينه وبين هبت، فأن لم يفعلوا ذلك دليل على أنهما ليستا للفرق.
فإن قيل: لم لم ينقلوا (أيضا) في المزيد نحو: انقاد؟ \
قيل: لان انفعل أو افتعل لا نظير له، بخلاف فعل، فمن هنا قالوا: انقدت، فتركوا القاف مفتوحة، لأنهم نقلوا إليها حركة العين، وهي غير محولة- فإن قيل: فما فائدة النقل من فعل إلى فعل؟
فإن المازني أجانب بأنهم أرادوا أن يغيروا حركة الفاء، ولو جعلوها محولة من فعلت لكانت الفاء إذا ألقى عليها حركة العين كهيئتها (لو) لم تحول عليها. قال:"قال: "وكانت فعلت أولى لأن الضمة من الواو" قال: "وقصة بعت في التحويل من فعلت إلى فعلت كقصة قلت من فعلت إلى فعلت". قال: "وكانت فعلت أولى لأن الكسرة من الياء".
فإن قيل: لم عزموا على تغيير حركة الفاء إذا انقلوا إليها الحركة؟
قيل: ليدل على تصرف الفعل وليفارق ما ليس بمتصرف كليس إذا قلت: لست، قاله ابن جنى.
فإذا الحاصل أن قام وباع أصله الثاني قوم وبيع: "وقد استقرأه ابن جنى من كلام المازني، وهو ظاهر فيه، قال: "وسألت أبا على عن هذا فقال:
نعم، ينقلون فعل كما ينقلون فعلت". يعني النقل من فعل إلى فعل، لا نقل الحركة. ثم اعتذروا عن عدم نقل حركة العين إلى الفاء وهو لم يسند إلى الضمير، بأنهم لو نقلوها إليها لانضمت في قام وانكسرت في باع وبعدها العين ساكنة، فكان يلزم أن يقول: قد قوم زيد، وقد بيع زيد الطعام، إذا كان البائع زيد، وكذلك كان يلزمه أن يقول في طال طول، وفي خاف خيف، فكرهوا أن يلتبس فعل الفاعل بفعل المفعول، قال المازني: "وبعد العرب لا يبالي الالتباس فيقول: قد كيد زيد يفعل، وما زيد زيد يفعل .. ، يريدون كاد وزال"، قال: "وأخبرني الأصمعي أنه سمع من ينشد:
وكيد ضباع القف يأكلن جثني
…
وكيد خراش يوم ذلك ييتم
وأما طال فأصله طول، فلم يحتج إلى نقل حركة العين؛ إذا هي مضمومة، فإذا أسند إلى الضمير نقلت فقيل: طلت. وكذلك هاب وخاف أصلهما: هيب وخوف، فإذا أسندا قيل: خفت وهبت. ثم إنهم فعلوا ذلك في المزيد أيضا نحو: انقاد واختار، بانين على حكم النقل المذكور. وكذلك قالوا في أقوم: أقوم، ثم أقام.
فالحاصل أن نقل حركة العين إلى الفاء في الماضي متقررة إلا حيث يقع به اللبس فيترك.
فإن قيل: فعلا لم ينقلوا في كلت طعامي، لأجل اللبس بكلت المبني للمفعول؟
فقال المازني: "إنهم مما يلزمون الإشمام فرقا". قال: "ويفعل هذا من العرب من يقول: /بيع الطعام، ولا يشم حين أمن الالتباس، فيوافق غيره ممن يشم مطلقا إذا خافوا الالتباس".
وكل ذلك من الانقلاب ألفا ليس إلا لتحرك العين في الأصل وانفتاح ما قبلها في الحال، وعلته ما ذكر السيرافي، ثم حملوا المضارع من ذلك كله على الماضي، فاعلوا المضارع بإسكان عينه ونقل حركتها إلى الفاء، كما فعلوا في الماضي لمجرد الموافقة قال ابن جني: ولولا إعلال الماضي لم يجب إعلال المضارع؛ ألا ترى أن أصل يقول ويبيع يقول ويبيع، وأصل يخاف ويهاب: يخوف ويهيب، وأصل يطول: يطول، وهذه الصيغ لا توجب إعلاله لجريان الواو والياء إذا سكن ما قبلهما مجرى الصحيح
…
فإنما أعلوه إتباعا للماضي لئلا يكون أحدهما صحيحاً
والآخر معتلا، فنقلوا الضمة والكسرة إلى ما قبلهما وأسكنوهما فصار يقول ويبيع ويطول". قال:"فأما يخاف ويهاب فأصلهما يخوف ويهيب، فنقلوا الحركات إلى الفاء فصار يخوف ويهيب، ثم قلبوا الواو والياء ألفين لتحركهما (في الأصل) وانفتاح ما قبلهما الآن، ولأنهما اعتلتا ضرورة في هاب وخاف"، قال:"هذا هو الذي عليه حذاق أهل التصريف". قال: "فأما من ذهب إلى أن يقول ويبيع ونحوهما إنما استثقلت الحركة في الواو والياء فيهما فنقلتا إلى ما قبلهما فسكنتا- فغير معبوء بقوله، لأنهما إذا سكن ما قبلهما جرتا مجرى الصحيح". قال: "وحدثني بعض أصحابنا أن أبا عمر الجرمي- رحمه الله دخل بغداد، وكان بعض كبار الكوفيين يغشاه ويكثر عليه المسائل، وهو يجيبه، فقال له بعض أصحابه: إن هذا الرجل قد ألح عليك بكثرة المسائل، فلم لا تسأله؟ فلما جاءه قال له: يا أبا فلان، ما الأصل في قم؟ فقال له: أقوم. فقال له: فما الذي عملوا به؟ فقال له: استثقلوا الضمة على الواو فأسكنوها. فقال (له): أخطأت؛ لأن القاف قبلها ساكنة. فلم يعد إليه الرجل بعدها".
هذه نبذة يجتزأ بها في التعليل، وتبسط جهة الدعوى، وتبين صحة كلام الناظم، وأن ذلك الاعتراض عنه ساقط، وبالله التوفيق.
ثم قال:
ومثل فعل في ذا الاعلال اسم
…
ضاهي مضارعا وفيه وسم
لما أتم الكلام على حكم الفعل في هذا الإعلال- وقدمه لأنه الأصل، والاسم في الإعلال محمول عليه- أخذ في ذكر ما حمل عليه، وأراد أن الاسم يجرى مجرى الفعل في هذا الإعلال المذكور إذا اجتمع فيه وصفان، أحدهما: أن يضاهى الفعل المضارع، أي: يشابهه. والثاني: أن يكون فيه سمة تفرق بينه وبين الفعل. وقد حصلت هذه الجملة للأسماء ثلاثة أقسام، أحدها: ما اجتمع فيه الشرطان. والثاني: ما ضاهى المضارع ولم تكن له سمة فارقة. والثالث: ما لم يضاه مضارعا (البتة). وبتمام بيانها يتبين بحول الله تعالى مراد الناظم.
فأما القسم الأول، فهو الذي ذكره بالتصريح/ وأنه يعتل بهذا الاعتلال المذكور، وهو ما اجتمع فيه الشرطان، الأول: المضاهاة (للمضارع) - ومعنى مضاهاته له: موافقته له في الحركات والسكنات وعدد الحروف، وتوافق أعيان الحركات وأعيان الحروف المزيدة، وجملة ذلك الموافقة في الوزن- هذه (هي) المضاهاة. وأما الوسم فهو عبارة عما يتبين به الاسم عن الفعل، وذلك بمخالفة ما تكون في أول الاسم خاصة، وذلك على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تختلف حركة المزيد أولا مع الموافقة في عين المزيد.
والثاني: عكس هذا، وهو أن تختلف الزيادة، فتكون في المضارع أحد حروف أنيت، وفي الاسم الميم، مع الموافقة في عين الحركة.
والثالث: أن يقع الاختلاف بالأمرين معا.
هذا معنى ما شرط من الوجهين، لكنه لم يبينهما، وإنما أشار إليهما إشارة، وأحال بالبيان على الشيخ، وقليلا ما يفعل مثل هذا؛ إذا عادته في اختصاره الشرح والبيان، ولا عتب عليه في مثل هذا. فإذا اجتمع الشرطان تسلط حكم الإعلال، فمثال ما وافق المضارع فيما عدا حركة الحروف المزيد أولا بناؤك من القول مثل تتفل، تقول: تقول. ومن البيع قول: تبيع- في قول سيبويه- وتبوع في قول أبي الحسن، الذي أختاره الناظم، والأصل: تقول وتبيع، فهذا ونحوه كتقوم الفعل في عين الزيادة وفي عدد الحروف والحركات، لكن خالفه في تعيين الحركة؛ إذ ليس في وزن المضارع تفعل، بضم التاء، فحصلت السمة مع الاتفاق في الوزن، فوجب الإعلال لما خالف لفظ الاسم لفظ الفعل في الوزن، لحصول الفرق بينهما باختلاف الحركة، قال سيبويه في إعلال تقول وتبيع: "لأنه على مثال الفعل ولا يكون فعلا). ومن ذلك أن تبنى مثل تحلى من البيع والقول، تقول: تبيع وتقيل، لأنه مخالف لمثل تبيع من الفعل في عين الحركة، إذ ليس في الأفعال تفعل.
ومثال ما وافقه في الوزن دون الزيادة: مقام، ومعيشة، ومعونة، ومثوبة، ومقيم، ومقام، الاصل: مقوم كأخوف، ومعيش كأبيع، ومعون ومثوب كأقوم، ومقوم كأقوم، ومقوم كأقوم. فقد وازنت هذه الأسماء ونحوها هذه الأفعال إلا في الزيادة أولا؛ إذ هي في المضارع أحد حروف أنيت، وفي هذه الأسماء ميم، وهي لا تزاد (في) صدر المضارع (أصلا).
ومثال ما خالف بالوجهين معا بتعين الزيادة والحركة معا قولك: مستقيم، ومستبين، ومستعين، (فهذه) ونحوها على وزان أستقوم، لكن خالفت بأن كانت الزيادة في الاسم ميما مضمومة، وفي الفعل همزة مفتوحة.
واعلم أنه يتعلق بكلام الناظم في المضارع هنا مسائل:
إحداها: أنه أحال على المضارع في المضاهاة المذكورة، ويريد في الوزن الشائع والقياس المستمر فيه، ولم يبين ذلك، (ولكنه) معلوم من مشهور الاستعمال، فعلى هذا لا يعتبر ما كان فيه من وزن غير شائع ولا كثير الاستعمال، فإذا ما جاء من قولهم: أنت تحب/، أصله: تحبب، غير مراعى، فذلك قلنا في مثل تحلئ من البيع والقول: تبيع وتقيل،
فأعللنا، لأن مثل هذا الوزن في الفعل نادر، وإنما كسروا التاء إتباعا كما كسروا ميم منتن ومغيرة، فمثل هذا لا يراعى لندوره وقتله، فتعل إذا ما جاء على وزنه الآن وإن وافق في عين الزيادة؛ إذ هو محول عن بنائه الأصلي. وهذا بخلاف ما إذا بنيت منهما مثل تفعل، بكسر التاء، فإنك تصحح ولابد، فتقول: تبيع وتقول، لأنه لم يخالف المضارع ولا فيه وسم يخرجه عن وزنه عند من يقول: أنت تعلم وتذهب. وهي لغة شهيرة قاله ابن جنى. وكذلك أيضا لا يراعى ما جاء في المضارع من نحو: أنظور، في قول الشاعر:
وأنني حيثما يثنى الهوي بصري
…
من حيث ماسلكوا أدنو فأنظور
فلا يجرى هذا الحكم في نحو مفعول كمقول ومبيع، وليس الإعلال فيه من هذا، وإنما هو من باب آخر وهو الجريان على الفعل لا مضاهاته.
والمسألة الثانية: أن الناظم لم يقيد المضارع التي تحصل مضاهاته بكون مبنيا للفاعل أو مبنيا للمفعول، فيقتضى أن ما كان من الأسماء يضاهى يفعل على شرط وجود السمة فإنه يعل، فإذا وافقه في الوزن دون تعيين الزيادة أو وافقه في الزيادة دون تعيين حركتها جرى على ما تقدم فتقول: مخاف، لأنه يضاهي يخاف، وكذلك: مقال في بيعه، ومحال على كذا، لأنه مثل يقال ويحال، والعلة في هذا واحدة، لأن خوف الالتباس قد أمن منه فيجب الاعتلال، ولا يقال: إن بنية المفعول عارضة فلا يعتبر فيها ما يعتبر في بنية الفاعل، وإنما تعتبر بنية الفاعل خاصة- لأنا نقول: هي وإن كانت عارضة قد عرض بعروضها من الأسماء أبنية جارية عليه تعد بنية الفعل أصلا بالنسبة إليها، فإذا كانت كذلك فلابد من دخولها تحت هذا الضابط، فعلى هذا إذا بنيت مفعلا من القول والبيع قلت: مقال ومباع، ومن الخوف: مخاف، أصلها: مقول على وزن يقول، ومبيع على وزن يبيع، ومخوف على وزن يخوف، فاعتل للفرق بالميم. وكذلك مستبان ومستعان- اسمي مفعول، واسمي مصدر، أو زمان، أو مكان- وما أشبه ذلك، نص عليه المازني وغيره.
المسألة الثالثة: أن المضاهاة المذكورة هنا- وإن لم يبينها على ما يجب- ظاهره في أنها ليست بالجريان على الفعل (وإنما هي ما تقدم ذكره، وهو الذي ذهب إليه عامة البصريين ما عدا المبرد، فإنه إنما اعتبر الجريان على الفعل)
في وجوب الإعلال، فما جرى على الفعل أعل كإعلال الفعل، وما لم يجر على الفعل فقياسه التصحيح، فالذي هو جار على الفعل كاسم الفاعل والمفعول، واسم المصدر والزمان والمكان، فإذا لو بنينا مثل تفعل من القول لقلنا على مذهبه: تقول، ولم يعل. قال السيرافي: قال: لأنه ليس بمصدر جار على فعله. وكذلك لو بنينا اسما على مفعل من تركيب "باب" لقلنا على مذهبه: مبوب، ولم ينبغ أن/ يعل. قال السيرافي: وعنده (أن) ما كان من المصادر جاء على الأصل فهو (غير) محمول على الفعل كمزيد ومكوزة، لم يجيئا على الفعل فصحا. وقد احتج الفارسي عليه بإعلال باب ودار ونحوه؛ ألا ترى أن موجبه كونه على وزن الفعل فقط، وكذلك هذا.
فإن قيل: ليس مفعل من أوزان الفعل.
قيل: هو على وزنه إلا الزيادة، وهي شبيهة بزيادة الفعل، وإذا وافقه في الزيادة لم يعتل، إذ لم يعلوا: أثؤبا وأدرؤوا، كأنهم فرقوا بينهما إذا اتفقا في الزيادة، فإذا اختلفا أعلوا الاسم حملا على الفعل، وصححوا الاسم إذا وافقه في الزيادة فرقا بينهما. فهذا يدل من كلامهم على أن المخالفة في الزيادة مع مجيئه على وزنه موجب للإعلال كما تقدم. فما ذهب إليه الناظم والجمهور هو الظاهر.
المسألة الرابعة: أنه خص لهذه المضاهاة الفعل المضارع دون
الماضي والأمر، أما الماضي فإن كان مزيدا فيه فهو مستغنى عن ذكره؛ إذ المضارع يقوم مقامه، وإن كان غير مزيد فيه فعند الفارسي- وأشار إليه السيرافي- أن الثلاثي كباب ودار موافق لقام وباع، وليس الفعل بأحق من الاسم، فهو في الثلاثي أصل فإذا كان البناء مشتركا حصل الإعلال لكل واحد منهما، ولم يحتج إلى الفرق بينهما لأنه لا يتوهم في المعتل أنه فعل فقط، ولأن التنوين والجر يدخله، فيحصل (الفرق) به بين الاسم والفعل، بخلاف ما في أوله زيادة فإنما هو للفعل لا للاسم؛ إذ الاسم داخل عليه، فأعل الفعل كما يجب له، ثم دخل عليه الاسم، فأريد لذلك الفرق بينهما، فصحح الاسم إن لم يكن الميم في أوله؛ إذ ليس فيه جر ولا تنوين يحصل به الفرق. إلى هذا النحو أشارا معا، وكلام الفارسي أتم، وشرحه ابن جنى في المنصف.
وأما فعل الأمر فهو الذي كان من حقه أن يحيل عليه، لأنه معتبر أيضا كالمضارع ويتبين لك ذلك بأنا لو اعتبرنا المضارع فقط لدخل علينا في حكم الإعلال ما يجب تصحيحه عند النحويين؛ فإنك إذا بينت مثل أبلم أو إتمد من البيع والقول لوجب الإعلال، فتقول في مثل أبلم: أبوع، على مذهب الأخفش-
وهو رأيه- وأبيع على قول سيبويه، وأن تقول من القول: أقول على كلا المذهبين. وفي مثل إتمد: إبيع وإقيل. وذلك لأن هذه الأوزان قد وافقت المضارع ذي الهمزة في الوزن ما عدا تعيين الحركة كما تقدم، فمثال إتمد قد وافق أضرب فيما عدا حركة الهمزة، فقد ضاهى المضارع وفيه وسم، فاقتضى أن لابد من الإعلال. وذلك غير صحيح، بل التصحيح هو الذي لابد منه لموافقتها لفعل الأمر الذي على أفعل أو افعل الموافقة الكاملة من غير وسم يفرق بينهما، قال سيبويه:"وإن أردت مثال إتمد قلت: إبيع وإقول، لئلا يكون كإفعل منهما فعلا، وإفعل قبل أن يدركهما الحذف للسكون" قال: "وإن أردت منهما مثال أبلم قلت: أبيع وأقول، لئلا يكونا كأفعل منهما في الفعل قبل أن يحذف ساكنا عن الأصل".
هذا ما يدخل عليه، وهو ظاهر الدخول، وقد اعترض عليه في التسهيل بهذا المعنى بعض شيوخ الأندلس. نعم، يدخل له على موافقة غيره ما كان مثل مدهن أو منخر- بكسر الميم- من البيع أو القول، ويكون حكمه الإعلال، فتقول: مبوع- على رأيه- ومبيع على رأي سيبويه، ومقول. وفي مثل منخر: نبيع ومقيل، لأنه قد وافق المضارع في الوزن وخالفه في عين الزيادة وعين الحركة، فصار في ذلك كمستقيم ومستبين، فلا اعتراض عليه بهذا، وإنما يعترض
عليه بالأول، إلا أن يقال: إن عامة الاستعمال في الكلام إنما هو على اعتبار المضارع؛ ألا ترى أن، ما كان موازنا للأمر فيصح لأجل صحة الموازنة غالبه مفروض ولا يوجد منه في الكلام إلا ما يندر إن وجد، فقد يمكن أن يكون عذرا عنه هنا، أو يقال: إن مذهبه مخالفة الناس في الاقتصار على اعتبار المضارع وعدم اعتبار فعل الأمر فهذا ممكن أيضا، لكنه بعيد جدا، والله أعلم.
ثم إن عليه دركا آخر، وهو أنه لم يبين أن علامة التأنيث ملغاة في هذه المضاهاة، وسواء في ذلك التاء والألف، فالتاء نحو ما تقدم من معونة ومعيشة ومثوبة ومقيمة وما أشبه ذلك، فهذا لابد (فيه) من الإعلال لتوفر الشرطين، فإن لم يوجد فيه الوسم صح بلا بد كأخونة جمع خوان، وأجوبة، وأسورة، وأهوية. والألف الممدود كما إذا بنيت من البيع مثل مرعزاء فقلت: مبيعاء، فتعل كما تعل الفعل لموافقته في الوزن دون الزيادة. وكذلك إذا بنيت مثله من القول تقول: مقيلاء، وكذلك ما أشبهه. وتقول: أبيناء، وأقوياء، وأغوياء، فلا يعل لموافقة الصدر للفعل من غير سمة. فظهر أن هذا مما يجب التنبيه عليه لاسيما ألف التأنيث لبناء الكلمة عليها، فقد يتوهم خروج ما هي فيه عن هذا الحكم جملة، وليس كذلك، بل فيه وفي الخالي منها.
ويمكن أن يكون الناظم سلك في هذا مسلكا غير هذا، وذلك أن التاء منفصلة من الكلمة فلم يعتد بها كما تقدم في موضع آخر، فيجرى ما هي فيه
اعتبار فقدها. وأما الألف فيقول: إنها أخرجت الاسم عن موازنة الفعل جملة فصار الاسم بها على غير أوزان الأفعال نحو مفعال كمشوار ومقوال، وعوار، وما أشبه ذلك مما خرج عن مشاكلة الفعل فصح، كما قالوا في جولان وحيدي ونحوهما من أنه إنما صح لخروجه بالزيادة عن أوزان الأفعال، ويشعر بهذا المنزع أن سيبويه لما بوب على ما خرج عن مشاكلة الفعل وانه يصحح فمثل بفعل وفعال ومفعال، وما أشبه ذلك. ثم قال: ومن ذلك أهوناء وأبنياء وأعيياء. فهذا مما يشعر بأن التصحيح فيه ليس على عدم اعتبار العلامة، وأن الصدر على موازنة الفعل، بل على أنها لبناء الاسم عليها خرجت عن شبه الفعل فصحت كما يصح ما لم يكن/ على وزان الفعل. هذا وإن كان السيرافي في الشرح والفارسي في التذكرة إنما حملاه على اعتبار تمام الموازنة في الصدر، فإن الأظهر من سياق سيبويه أنه ليس كذلك؛ ألا ترى أنه لما تكلم على ما يعل من المشاكل للفعل وما لا يعتل ذكر هنالك ما خلص إلى مشاكلة الفعل وأنه يلزم التصحيح، فلو كان أهوناء عنده من ذلك لذكره كما ذكر فيما يعتل منها ما كان فيه التاء نحو معونة ومعيشة، فكونه لم يذكره إلا فيما خرج عن الوزن المختص بالفعل جملة دال على أنه عنده منه. وقد وجه الفارسي (في التذكرة) قولهم أبيناء، المعل- الذي قال فيه سيبويه:
ليس بالمطرد- بان الذين أعلوا كأنهم إنما فعلوا ذلك لأن الهمزة أخرجته عن شبه الفعل، ألا ترى أن الهمزة لا تلحق الفعل، كما أخرجته الميم من مقال ومباع ونحوه، وكما أخرج الألف والنون في جولان الاسم عن شبه باب ودار، وكما أخرجته الألف في صوري وحيدي عن شبه الفعل. قال: ولم تكن الألف والنون، والألف في صوري، والهمزة في أبيناء مثل الهاء من حيث لم تكن الهاء إلا في تقدير الانفصال بمنزلة الاسم الثاني من الاسمين المضموم أحدهما إلى الآخر. هذا ما قال، فإذا كان قد اعتبار الألف (هنا) من أصل البنية كما اعتبروا الألف والنون كذلك، فليقل إنها أخرجته عن زنة الفعل كما أخرجت الألف والنون، والألف في جولان وصوري، وإلا فالفرق بينهما يضعف، وما ذكر من أنها جعلت في التفرقة كالميم في مقال فهذا لم نر العرب اعتبرت في التفرقة إلا اختلاف أول البناء، إما في حركته، أو في حرفه، أو فيهما، ولم نرهم اعتبروا غير ذلك في هذا الصنف من المزيد فقد يمكن أن يكون الناظم ذهب إلى هذا، ويكون أيضا الألف والنون في هذه المسألة كالألف الممدودة، فقد قالوا: أرونان، وهو عند الفارسي في التذكرة أفعلان من الرون، فصححوا كما ترى لأجل أن الألف والنون أخرجته عن أوزان الأفعال، فهذا قد يذهب إليه ذاهب، وإذا تقرر هذا لم يكن في كلام الناظم إشكال.
وأما القسم الثاني وهو ما ضاهى المضارع ولم يكن له سمة فارقة بينه وبين الفعل فمفهوم الصفة في كلامه أنه لا يعل ذلك الإعلال بل يصح لأنه ذو زيادة كزيادة الفعل وعلى وزنه من غير مخالفة فلابد من تصحيحه، وذلك قولك: هو أقول منك، وأبيع منك، وأحوج، وأضيع، وكذلك: أبيض، وأسود، وأعور، وأحول.
وكما إذا بنيت من قال يقول اسما على يفعل أو يفعل أو يفعل، أو من باع يبيع، قلت يقول، ويقول، (ويقول) ويبيع، ويبيع، (ويبيع). وكذلك نحو: أخونة، وأعينة وأدور، وأعين، وأنيب. وكذلك مثال توصية من البيع أو القول، تقول: تبيعة (وتقولة). وقد تقدم (عدم) الاعتداد بالتاء. وقالوا: أبين وإبين، في اسم بلد، وأنشد سيبويه لتميم بن مقبل:
بتنا بتدورة يضئ وجوهنا
…
دسم السليط على فتيل ذبال
/وقالوا: التتوية للتوبة. (و) قال:
لكل دهر (قد) لبست أثؤبا
ووجه ذلك كله قد تقدم، وما جاء مما هو على هذا الوصف فأعل (فهو) في الحقيقة منقول من الفعل المعل كيزيد، اسم رجل، أصله مضارع زاد، فصار كباع يبيع، ثم نقل بعد أن لزمه الاعتلال، قال ابن جنى:"وكذلك لو نقلت يبيع يعني فسميت به- لتركته معلا كيزيد" قال: فأما لو ارتجلت اسما على يفعل من باع وزاد لقلت: يبيع ويزيد، فصححتهما ولم تعلهما". قال: "وقد سموا تزيد، بالتاء، قال أبو ذؤيب:
يعثرن في حد الظبات كأنما .. كسنت برود بني تزيد الأذرع"
كما أن ما جاء غير معل من الأول فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه، نحو: هذا شيء مطيبة للنفس، والشراب مبولة. وحكى أبو زيد:
وقع الصيد في مصيدتنا. وقالوا: كثرة الأكل منومة. وقالوا: مزيد، وهو علم.
وقرأ قتادة وابن بريدة أبو السمال: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة} على مفعلة مصححا هكذا. وحكى سيبويه: إن الفكاهة لمقودة إلى الأذى. وقالوا: مكوزة. وليس هذا بأشد من قولهم في الفعل: استحوذ، وأغيلت، وأجود، وأطيب، ونحو ذلك، بل هو في الاسم أقرب، لأن أصله التصحيح (على الجملة). وقد شذ من هذا القسم شيء فأعل، وذلك تحية، أصله تحيية، وهو على وزن تضرب من غير سمة فارقة، فكان حقه أن يجرى فيه ما يجرى في نظائره من الاظهار والإدغام فيقولوا: تحية، وتحيية، كما قالوا: أعيية وأعية، وأحيية وأحية، قال سيبويه:"والإدغام أكثر، والأخرى عربية" لكنهم ألزمها الإدغام فدل على أنه من قبيل الإعلال لا من قبيل الإدغام، فنقلت الحركة من العين إلى الفاء عن طريق الإعلال، فلما سكنت العين-وهي الياء الأولى- أدغمت في الياء، ولم يكن نقل الحركة على هذا لأجل الإدغام، بل كأن الإدغام كان بعد سبق النقل على جهة الإعلال، وقد أجاز المازني في تحية الإظهار حملا على القياس، فلا إشكال على مذهبه.
وأما القسم الثالث وهو ما لم يضاه مضارعا أصلا فضلا عن أن يكون بينهما سمة فارقة، فمفهوم كلام الناظم أيضا التصحيح، إذ لم يكن فيه شيء من ذينك الشرطين، وذلك فعل وفعال نحو: حول وعوار، وفعال نحو: صوام وقوام، ومفعال نحو: مقوال ومشوار، وتفعال نحو: التجوال والتقوال، وأفعال نحو: أقوال وأحوال وأميال وأعيان، وإفعال نحو: إسوار وفعول نحو: قوول وبيوع، وفعول نحو: شيوخ، وفعال نحو: نوار وجواب وهيام، وفعيل نحو: طويل، وفعال نحو: طوال وهيام، وفعال نحو: عيان وخوان وخيار، وفاعول نحو: طاووس وناووس وسايور، وأفعلا نحو: أهوناء وأعيلاء وأبيناء على ما تقرر، ونحو ذلك. هذه ونحوها تصح ولا تعتل، وهي تنقسم ثلاثة أقسام، منها ما صح لسكون ما قبله نحو: حول وأهوناء. ومنها ما صح لسكون ما بعده نحو: قوول وشيوخ ونوار وطوال وخوان. ومنها ما صح لسكون ما قبله وما بعده- قال ابن جنى/: "وهو أبلغ في معناه- نحو: صوام وقوام،
وأميال وأقوال، وما أشبه ذلك، فلو أسكنت هذه الحروف لا لتقى ساكنان فوجب الحذف أو الحركة وزال المثال، فترك ذلك لذلك".
ولما كان من الأمثلة المنصوص على إعلالها لحصول شرطي الإعلال فيها ما خرج عن حكم الإعلال فصح ولم يستعمل معتلا، وذلك مفعل، أراد أن ينبه عليه بخصوصه فقال:
ومفعل صحح كالمفعال
…
وألف الإفعال واستفعال
أزل لذا الإعلال والتاا لزم عوض
…
وحذفها بالنقل ربما عرض
وذلك أن مفعلا مقتضى القاعدة فيه الإعلال وأن تقول في مثل مخيط ومحور ومقول: مخاط، ومحار، ومقال، لموافقته المضارع في الوزن على لغة "أنت تفعل" دون الزيادة، أو لموافقته فعل الأمر في الوزن أيضا دون الزيادة، وقد قال سيبويه "ويتم في أفعل وأفعل؛ لأنهما اسمان، فرقوا بينهما وبين افعل وافعل (من الفعل). قال: "ولو أردت مثل إصبع من قلت وبعت لأتممت، لتفرق بين الاسم والفعل". فإذا كان حقه الإعلال لكنهم صححوه باعتبار أمر آخر نبه عليه الناظم فقال:"ومفعل صحح كالمفعال"،
يعني أن هذا المثال على مفعل- بكسر الميم وفتح العين، من غير ألف- صحح، أي: صححته العرب كما صححت المفعال بالألف، أما المفعال فظاهر وجه تصحيحه، وأما مفعل فغير ظاهر لبادى الرأي، لكن لما شبهه به أشعر هذا بعض إشعار بأن له إليه نسبة في هذا التصحيح، وذلك الحمل عليه، كأنه مقصور من مفعال، فعومل معاملته في التصحيح اعتبارا بذلك، لأنه بمعناه ومرادف له. وإلى هذا المعنى نزع الخليل في التعليل، قال سيبويه:"وسألته- رحمه الله يعني الخليل- عن مفعل، لأي شيء أتم ولم يجر مجرى افعل؟ فقال: لأن مفعلا إنما هو من مفعال؛ ألا ترى أنهما في الصفة سواء، تقول مطعن ومفساد، فتريد في المفساد من المعنى ما أردت في المطعن. وتقول: المخصف والمفتاح، فتريد بالمخصف من المعنى ما أردت في المفتاح. وقد يعتوران الشيء الواحد نحو مفتح ومفتاح، ومنسج ومنساج، ومقول ومقوال". قال سيبويه: "وإنما أتممت- فيما زعم الخليل، رحمه الله أنها مقصورة من مفعال أبدا، فمن ثم قالوا: مقول ومكيل". فإلى هذا المعنى أشار الناظم بقوله: كالمفعال، وإلا فالمفعال معلوم أنه لم يجر على المضارع ولم يشاكله ولا غيره فكيف يعتل؟
وقال: صحح. فأحال على السماع ولم يحله على القياس فيقل: صحح، أو يصحح، تنبيها على أن القياس كان مؤديا لإعلاله لوجود شرطيه فيه لولا السماع، وأنه حمل على أنه فرع عما لا يقبل الإعلال لفقدان الشرطين، كما قال:
وصح عين فعل وفعلا
…
أي: صح في السماع، ولولاه/ لكان القياس قابلا لإعلاله اعتبارا بتوفر شروط الإعلال.
ثم قال: "وألف الإفعال واستفعال أزل لذا الإعلال". أخذ الآن يذكر أسماء كان حقها أن تجرى على الحكم المتقدم من الإعلال بنقل الحركة إلى الساكن قبلها كما كان ذلك في أفعالها، فجرت كذلك، إلا أنه عرض فيها حذف زائد على مجرد ذلك الإعلال، لأن الإفعال مصدر أفعل، والاستفعال مصدر استفعل، وكلاهما مما عينه حرف علة يعتل بنقل الحركة وانقلاب حرف العلة، فذكر أن هذا الإعلال المذكور حاصل في هذين المصدرين، لأنهما في ذلك جاريان مجرى فعليهما كسائر المصادر، لكنك تحذف لهذا الإعلال الألف وتأتي بالتاء عوضا من ذلك المحذوف، أما حذف الألف فلأنك إذا نقلت الحركة إلى الفاء من العين سكنت فانقلبت ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها في اللفظ، كما فعلت بأقام واستقام، فكان مصدرهما في هذا إلى: أقاام واستقاام، هكذا بألفي، فاجتمع ساكنان، فلابد من حذف إحداهما، فيمكن أن تحذف الأولى التي هي عين في الأصل وتترك الثانية التي سيقت لمعنى، ويمكن أن تحذف الثانية- وهي الزائدة- لأنها زائدة، والزائد أولى بالحذف من الأصل، إلا أن الناظم حتم هنا بحذف الألف الزائدة لقوله:"وألف الإفعال واستفعال أزل"، بعين الألف ولم يقل: وعين كذا أزل. وما ذهب إليه هنا جار على مذهب الخليل وسيبويه، فعندهما أن الزائد هو المحذوف. وأما أبو الحسن فزعم أن العين هي المحذوفة والألف الزائدة
باقية غير ذاهبة. وهذان المذهبان مع المذهبين في اسم المفعول متساويان في النقل والاحتجاج والترجيح، وعادة النحويين أن يذكروا ذلك في اسم المفعول ويحيلوا النظر هنا على ذلك الموضع، وذكره الناظم إثر هذا، ولكن نقدم إلى هنا ما لا يكون مختصا بمفعول في الظاهر بل يكون مشتركا فيهما أو أقرب إلى هذا الموضع. وقد احتجوا لما ذهب إليه الناظم بأدلة كثيرة أذكر منها ههنا ثلاثة أدلة:
أحدها: أن حذف الزائد أولى من حذف الأصلي وإن كان الزائد لمعنى، والدليل على ذلك أنه متى اجتمع في التصغير أصلي وزائد فالزائد هو المحذوف، كان لمعنى أولا، لأن حذفه لا يخل بأصل التركيب، وحذف الأصلي يخل بأصل التركيب، والمحافظة على الأصول أولى.
وقد أجيب عن هذا بأن الغرب بذلك في التصغير قيام بنائه، ومسألتنا من باب الحذف لالتقاء الساكنين، وهو لا يختص بزائد دون أصلى؛ ألا ترى أن المحذوف من نحو مصطفون، و (أنتم الأعلون)، ونحوهما، لالتقاء الساكنين، ما هو من أصل الكلمة، وكذلك قاض وغاز، وذلك كثير
فإن قيل: إنما حذف الأصلي ههنا لالتقاء الساكنين لأن الزائد حرف صحيح.
فأجاب أبن الضائع (بأنه) قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهو حرف صحيح وأيضا فقد حذف الأصلي وترك الزائد وهو حرف علة كقاضون ومصطفون.
/والثاني: أن التاء لم توجد عوضا عن حرف أصلي، وإنما جاءت عن حرف زائد، ألا ترى أنهم يقولون: زنادقة، فيأتون بالتاء عوضا من ياء زناديق وهي زائدة. وكذلك يقولون: حبيرة، في تصغير حبارى، فيعوض بعضهم التاء وهي عوض من ألف التأنيث، ولم توجد قط التاء عوضا من حرف أصلي، لامن عين ولا من لام، وكذلك (هنا) وجدت التاء في إقامة واستقامة عوضا من محذوف، فإذا قلنا إنها عوض من الزائد كنا قد جرينا على قاعدة ثابتة، وإذا قلنا: إنها عوض من العين كان ذلك دعوة لم تثبت، والمصير إلى ما ثبت أولى من المصير إلى ما لم يثبت، وهذا استدلال ابن أبي الربيع.
قال شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار- رحمه الله: وقد يقدح في هذا الاستدلال أن يقال: قد جاء التعويض من الأصلي في نحو: أرضون. قال وكون العوض غير تاء التأنيث والمعوض منه غير عين لا يضر. يريد أن باب أرضين وسنين وعزين ورقين إنما جمع بالواو والنون عوضا مما حذف منه، وكذلك أرض جمع على أرضين توهما للحذف كما عوضوا مما حذف منه، وكذلك أرض جمع على أرضين توهما للحذف كما عوضوا الهمزة في امرئ من اللام وهي موجودة بعد- لأنهم توهموا حذفها بالتسهيل، فعوضوا منها، فكذلك أرضون، وأبين من هذا أنهم قد عوضوا الهاء نفسها من الأصلي فاء ولاما، فالفاء نحو: عدة،
ولدة، ورقة، واللام نحو: شفة، وشاة، وسنة. وهو كثير، فقد (ثبت) إذا التعويض من القبيلين، وإذا ثبت ذلك لم يكن في التعويض دلالة على أن المحذوف الزائد دون الأصلي.
والثالث: أن الساكنين إذا التقيا في كلمة حرك الثاني منهما كرد وانطلق ونحوهما فكما تحرك الثاني كذلك يحذف الثاني، لأن جميع ذلك تغيير لحق لأجل الساكنين، قاله ابن جني وضعف ابن الضائع هذا الاستدلال، قال: لأن هذا حذف، فحمله على ما حذف لالتقاء الساكنين في كلمة أشبه، ولم يحذف إلا الأول كما تقدم.
وأما مذهب الأخفش فاحتج له بأمور، والذي يليق ذكره بهذا الموضع ثلاثة أدلة:
أحدها: أن العين هي التي لحقها الإعلال في الفعل الماضي والمضارع واسم الفاعل، فهي التي ينبغي أن تعل بالحذف، والحرف الزائد لم يعتل (في الفعل) ولا انقلب عن شيء، فكان تركه وحذف المعتل أولى؛ ألا ترى إلى
قولهم: اتَّقى، أصله: اوتقى، فكما اعتلت الواو بقلبها تاء اعتلت بالحذف فيما أنشده أبو زيد:
تقوه أيها الفتيان إني
…
رأيت الله قد غلب الجدودا
وأنشده أيضا:
قصرت له القبيلة إذ تجهنا
…
وما ضاقت بشدته ذراعى
قال الفارسي: "لما أعل الفاء بالقلب أعلها بالحذف. فكذلك ما نحن فيه.
قال شيخنا الأستاذ رحمه الله: وقد يقدح في هذا الاستدلال بأنها يكفيها من الإعلال ما لحقها من نقل حركتها/ إلى ما قبلها وإسكانها، ولا يلزم مضاعفة الإعلال.
والثاني: أن الأول من الساكنين هو الذي يحذف إذا التقيا في كلمة واحدة نحو قل وخف وبع وقاض، وما أشبه ذلك، فكذلك أن يكون المحذوف هنا هو الأول، قاله ابن جنى.
قال الأستاذ- رحمه الله: وقد يقدح في هذا بأنه إنما حذف الأول هنا لا عتلاله وصحة الثاني، وكذلك التنوين في نحو قاض حرف صحيح، وليس أصله أن يحذف لالتقاء الساكنين وإن كان فيه شبه ما
بحروف العلة. وأيضا فإنه سيق للدلالة على معنى التمكن وفي حذفه نقض الغرض. قال: وأيضا فقد يحذف الثاني من الساكنين إذا كانا حرفي علة كما قال أبو الحسن بن الباذش في قراءة حمزة والكسائي {يا زكريا، إنا نبشرك} ، بالقصر، بدلالة اجتماعهما على إمالة ألف التأنيث واتفاقهما على امتناع إمالة هذه الألف، فدل ذلك على أن المحذوف من الألفين هو الثاني وأن الباقي هو الأول الذي لا أصل فيه الإمالة. قال: فلما جاء حذف الأول منهما في موضع وحذف الثاني في موضع دار الإمكان بين الثاني والأول في مسألتنا فكان مجملا، ولا يصح الاستبدلال بالمجمل لاحتياجه في بيانه إلى غيره.
هذا ما قال الشيخ- رحمه الله وهو مبني على مذهبهما في المحذوف، لا أنه لازم على كل مذهب؛ إذ قد يخالف أبو الحسن في هذا.
والثالث: أن العين قد حذفت في أقم واستقم ونحو ذلك، فكما حذفت في غير هذا الموضع كذلك أيضا يدعى أنها حذفت هنا في الإقامة والاستقامة.
وهذا لا يلزم، فقد يقال: إنما ذلك لكون الساكن الثاني حرفا صحيحا وههنا ليس كذلك. ويكفي هذا المقدار.
والحاصل ههنا أن الأدلة متكافئة، أو تقارب التكافؤ: وإنما ذهب الناظم هنا إلى مذهب غير الأخفش، وقد ارتضى مذهبه في نحو فعل من البيع لما أذكره بعد إن شاء الله تعالى.
حدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبد الله (بن) الفخار- رحمه الله: أن بعض العلماء كان إذا أتى بعقد إجازة ليشهد فيه على المجيز والمجاز، سأل المجاز عن وزن إجازة وعن تصريف اللفظ، فإن أتى بذلك وضع اسمه في عقد الإجازة، فسأل الأصحاب الأستاذ- رحمه الله أن يقيد لهم ذلك باختصار فقال: وزن إجازة في الأصل إفعالة، وأصلها إجوازة، فنقلت حركة الواو إلى الجيم حملا على الفعل لا استثقالا، فحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها في اللفظ، فصارت إجاازة، بألفين، فحذفت الألف الثانية عن سيبويه لأنها زائدة، والزائدة أولى بالحذف من الأصلي، وحذفت الألف الأولى عند الأخفش لأنها لا تدل على معنى، (والثانية تدل على معنى) وهو المد، وقول سيبويه أولى، لأنه قد ثبت عوض التاء من المحذوف نحو زنادقة، والتاء زائدة، وتعويض الزائد من الزائد أولى من تعويض الزائد من الأصلي للتناسب، ووزنها في اللفظ عند سيبويه إفعلة، وعند الأخفش إفالة، لأن العين/ عنده محذوفة. انتهى، وإنما أتيت بكلامه هنا، وإن كان قد تقدم معناه، تبركا بكلام أستاذي وأستاذ أساتيذي- رحمه الله تعالى عليه- وبسطا لبعض أمثلة المسألة، وبالله التوفيق.
ثم قال الناظم: "والتا الزم عوض" التا: منصوبة بالزم، وعوض: كذلك منصوب على الحال من التاء، لكنه أتى به في النصب من غير إلحاق بدل التنوين على لغة:
وآخذ من كل حي عثم
…
يعني أن التاء في الإفعال والاسفعال لازمة عوضا، فتقول: أقام إقامة وأبان إبانة، وأماته الله إماته. وكذلك: أستقام استقامة، واستزاد استزادة وما أشبه ذلك. ومالعوض منه لم يذكره لبيانه، وهو الحرف المحذوف، وهو الألف (على) مذهبه، وذلك لانهم مما يعوضون من المحذوف زائدا كان أو أصليا، فالزائد كمسألته التي في اليد، وكمسألة زنادقة؛ إذا التاء فيه عوض من الياء في زناديق، وكذلك جحاجحة وجحاجيح، وفرازنة وفرازين، والأصلي كمسألة عدة وزنة، حيث عوضوا من الفاء، وسنة وشفة، حيث عوضوا من اللام، وما أشبه ذلك.
وقد وقع للفارسي في التذكرة ما يظهر منه أن التاء هنا ليست بعوض، وإنما دخلت لأن شأن التاء أن تدخل في المصادر كثيرا؛ ألا ترى أنها تدخل في كل مصدر أرد به المرة الواحدة، ودخلت في المقاتلة والدحرجة، وفي عدة وصلة، وكذلك في كينونة وقيد ودة ونحو ذلك. ويدل على قوله إجازة الحذف
فتقول: أقام إقاما وقال تعالى: (وإقام الصلاة)، فلو كانت عوضا لم يجز الحذف لما لم يجز في فرازنة وجحاجحة.
وللناظم أن يعتذر بأن الحذف قليل فلم يعتد به فكأن التاء ثابتة، وإذا ثبتت ولم تحذف دل على أنها للعوض من المحذوف؛ ألا ترى أنها لا تلحق إذا لم يحذف شيء نحو: إكراما (وإدخالا، ونحو ذلك).
ثم قال: "وحذفها بالنقل ربما عرض". ضمير "وحذفها" عائد على التاء و "بالنقل" متعلق باسم فاعل (حال) من ضمير "عرض"، وهو الحذف، يعني أن التاء ربما حذفت في هذه المسألة من الإفعال أو الاستفعال، لكن بالنقل بالقياس، فهو من المسموع الذي لا يقاس عليه، ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة). وحكى سيبويه من ذلك: أرى إراء. وحكى غيره أجابه إجابا. ولا أحفظ ذلك على الاستفعال.
وهذه المسألة قد تقدمت له في باب المصادر، أعني مسألة لزوم العوض ف الغالب، فيقول القائل: هذا من التكرار الذي لا فائدة له، ألا ترى أنه قد تقدم له قبل هذا قوله.
واستعذ استعاذة ثم أقم
…
إقامة، وغالبا ذا التا لزم
فذكر أن ما كان معتل العين مما هو على ما أفعل أو استفعل من الأفعال فإن المصدر منه بالتاء غالبا، وكذلك فعل هنا ولم يزد إلا أن التاء عوض خاصة ثم كرر المسألة كلها. فهذا مما يقدح في اختصاره.
ويجاب عن هذا/ بان المسألة أتى بها في الموضعين على قصدين مختلفين، فأما الأول من الموضعين فإنه ذكر فيه مجرد الأبنية التي للمصادر، فعرف أن أفعل يكون مصدره على الإفعال إن كان صحيحا، وإن كان معتل العين فيجئ على مثالين، أحدهما هو الغالب في الاستعمال، و (هو) نحو: أقام إقامة، بالتاء، والآخر هو النادر أن يأتي دون تاء نحو: أقام إقاما. وعلى هذا الترتيب أتى بقوله: "واستعذ استعاذة"، أي: مصدر "استعذ" على هذا المثال، وقد يأتي دون التاء، فهذا تعريف بمجرد أبنية. وأما الثاني فقصده فيه التعريف لما يلحق الإفعال والاستفعال من الإعمال إذا كان معتل العين حتى يصير إلى إفعلة واستفعلة عند سيبويه، أو إلى إفالة (واستفالة) عند الأخفش، وما يلحقه من التعويض، وحال التعويض في اللزوم وعدمه. ولا شك أن هذا قصد غير
ذلك القصد، فلأجل توافق محصول القصدين ظهر لبادئ الرأي أنه تكرار، وفي الحقيقة ليس كذلك.
وما لإفعال من الحذف
…
ومن نقل فمفعول به أيضا قمن
نحو مبيع ومصون وندر
…
تصحيح ذي الواو وفي اليا اشتهر
لما كان "مفعول" مما عينه معتلة ليس بمشاكل للمضارع المشاكلة المذكورة، لكنه جار على فعله الثلاثي في مطلق الإعلال، كما كان "فاعل" كذلك لابد من إعلاله، لم يأت في وجه إعلاله على ما أتى عليه اسم الفاعل والمفعول من غير الثلاثي، بل عرض فيه عارض أخذ يفرده بالذكر؛ إذ لم يدخل له تحت العقد المتقدم، كما أنه ذكر اسم الفاعل من الثلاثي أيضا على حياله، وقد تقدم، إذ لم يكن داخلا تحت ما ذكر هنا، فأخبرك أن ما تقدم للإفعال مصدر أفعل من الإعلال بالحذف والنقل فهذا البناء الذي هو "مفعول" قمن أن يجرى في ذلك الحكم على كماله. ويريد إفعالا المعتل العين: لأنه الذي تقدم له. وإنما قال: "من الحذف ومن نقل" ففسر وجه الإعلال، وقد كان يجزئه أن يقول مثلا: وما لإفعال من الإعلال جرى بمفعول على الكمال، أو ما كان نحو هذا؛ تحرزا من وجه له هنالك لا يجرى هنا، وهو التعويض التاء من المحذوف، فلأجل هذا لم يحل على ما تقدم مطلقا من غير تقييد.
وقوله: "فمفعول به أيضا قمن"، أي: خليق، يريد بالمفعول ما كانت عينه ياء أو واوا، ولذلك مثل بقوله:"نحو مبيع ومصون"، فمبيع مفعول من باع الشيء ببيعه فهو مبيع، ومصون من صانه يصونه فهو مصون، فإذا نظرنا إلى
ما تقدم من الإعلال قلنا في هذا: أصله مبيوع ومصوون، او مصوون فمعل بالحمل على فعله بنقل حركة الواو إلى الصاد، فيلتقي ساكنان الواو التي هي عين والواو الزائدة. وأما مبيوع فتنقل/ الحركة إلى الباء فيلتقى ساكنان أيضا، لكن الأول منهما ياء قبلها ضمة، فلابد من أحد أمرين قبل حذفه أحدهما، إما أن تقلب الضمة كسرة لتصح الياء، وإما أن تقلب الياء واوا للضمة قبلها، لكن هذا الثاني لا يصح، لأنه يصير ما عيينه ياء مثل ما عينه واو، فيلتبس أحدهما بالآخر، فرأى المؤلف- على ما ذكر في التسهيل- أن الأولى قلب الضمة كسرة لتصح الياء، فلما كان كذلك التقى ساكنان، فلابد من حذف أحدهما لالتقاء الساكنين، فرأى الناظم رأى الخليل وسيبويه، وهو حذف الزائد، لأنه أخذ بذلك في مسألة الإفعال والاستفعال، والأمر فيهما واحد، ولهذا أحال الحكم عليهما ولم ير مذهب الأخفش القائل بحذف العين وإبقاء الواو الزائدة وعلى مذهب الناظم لا عمل بعد حذف الواو الزائدة في مبيع كما لا عمل في مصون، وأما (على) مذهب الأخفش فلا بد في مبيع من زيادة إعلال، وهو قلب الواو الزائدة ياء لأجل الكسرة، إذا صارت الباء مكسورة بعدها واو، وإذا تقرر هذا فالاحتجاج للمذهبين قد تقدم منه طرف كاف ولكنه رأيت للفارسي في التذكرة كلاما في الاحتجاج للفريقين حسناً في
سياقه يكفي الإتيان به ههنا، ولا أتقلد نصه للخلل النسخة، وإنما أتقلد الإتيان بمعناه، قال:
فمما يحتج به للخليل أن الساكنين إذا اجتمعا في كلمة حرك الثاني منهما دون الأول، فكما يحرك الثاني منهما كذلك يحذف الثاني منهما، وكما لا يحرك الأول منهما إذا كانا في كلمة كذلك لا يحذف الأول منهما، وليس الساكنان هنا من كلمتين فيحذف الأول كما يحرك الأول منهما.
فيقول أبو الحسن: إن الثاني من الساكنين وإن كان يحرك إذا كانا في كلمة واحدة فإن الثاني لم يجز أن يحذف ههنا كما حرك الثاني، لان الثاني لمعنى، فإذا كان لمعنى لم يحذف؛ ألا ترى أن التاء في تذكر ونحوه لما اجتمعت مع التاء حذفت الثانية ولم تحذف الأولى حيث كان لمعنى، فكذلك الواو هنا لما كان لمعنى لم يحذف ألا ترى أنه لما اجتمع مع ألف فاعل لم تحذف ألف فاعل وأعلت العين بالقلب حيث كان الألف لمعنى، فكذلك الواو حيث كانت لمعنى لم تحذف ألف فاعل وأعلت العين بالحذف كما أعلت بالقلب في فاعل.
فيقول الخليل: ليس واو مفعول هنا كألف فاعل، ألا ترى أن ألف فاعل على حرف. فلو حذفتها لم يبق شيء يدل على المعنى، وأنت إذا حذفت الواو من مفعول بقيت إحدى الزيادتين تدل على مفعول، فإذا كان كذلك لم تشبه واو مفعول ألف فاعل، ولم يمتنع حذفها، من حيث امتنع حذف ألف فاعل والتاء الأولى في تذكرون، لأن كل واحدة منهما لا زيادة معها غيرها، فلو حذفتها لم
يبق شيء يدل عليها، وليس كذلك واو مفعول، ومما تفارق به واو مفعول/ ألف فاعل أنه أقرب إلى الطرف من ألف فاعل، وإذا كان أقرب إلى الطرف منها كان الإعلال عليها أقوى وأغلب مما (لم) يقرب من الطرف؛ ألا ترى أن هذه الواو بعينها لما قربت من الطرف لم يعتد بها ولم تجعل فاصلة بين الضمة قبل آخر الاسم والواو حتى كأن الضمة صارت واقعة قبل الواو التي هي لام بغير فاصل، فقلبوا مسنية كما قلبوا أدل، ولو اعتدوا بها لصححوا الواو كما صححوا في دلو ونحوه، وليس هذا في جمع فيقال: إنه من قبل الجمع، ألا ترى أنا جميعا نعل أوائل للقرب ولا نعل طواويس؟ .
فيقول أبو الحسن: إن الزيادة التي هي لمعنى وإن كان معها زيادة أخرى فإنهما يجريان مجرى الزيادة الواحدة؛ ألا ترى أن الدلالة على المعنى وقعت بمجموعهما جميعا، فإذا وقع بمجموعهما لم يجز أن يحذف أحدهما كما لم يجز أن تحذف الزيادة الواحدة، إذا وقوع الدلالة على المعنى بهما كوقوع الدلالة بالزيادة الواحدة، فلو جاز أن تحذف إحداهما مع وقوع الدلالة بهما لجاء أن تحذف الأخرى، فإذا لم يجز أن يحذفا كذلك لا يجوز أن تحذف إحداهما؛ ألا ترى أن الزيادتين إذا لحقتا (لمعنى) فحذفت إحداهما حذفت الأخرى
معها نحو سكران إذا رخمته، وزعفران- اسم رجل- إذا رخمته، فكذلك الزيادتان في مفعول لو جاز حذف إحداهما لجاز حذف الأخرى، كما أنه إذا حذفت إحداهما في سكران ونحوه تبعته الأخرى:
فيقول الخليل: ليست الزيادة الواحدة المزيدة لمعنى كالزيادتين المزيدتين لمعنى، وإذا جعلنا حكم الزيادة كحكم لأصل في باب الحذف لم يلزمنا أكثر من ذلك؛ ألا ترى أن الحروف التي هي أصول قد يحذف بعضها لدلالة ما يبقى منها عليه، فإذا استجيز ذلك في الأصول كان في الزيادة أجوز، فإن لم يكن أجوز كان مساويا للاصل في هذا، فكما جاز حذف بعض الأصول لدلالة الباقي عليه كذلك يجوز حذف بعض الزيادة، لدلالة الباقي منها عليه ألا ترى أنهم قالوا: اسطاع سطيع، فحذفوا إخدى الزيادتين واستجازوا حذفها كانت الباقية تدل على المحذوفة وهما جميعا زيدا لمعنى، كما أن الميم والواو في مفعول زيدا لمعنى وأما ما ذكرته أنه لو جاز حذف إحداهما لجاز حذف الأخرى كما أنه حيث حذف من مروان ونحوه إحدى الزيادتين حذفت الأخرى، فإن ذلك لا يلزمه لما أريناك في اسطاع، ولمعنى آخر ينفصل به جنسا الزيادتين، وهو أن الزيادتين في مفعول لم تقعا معا، بل وقعتا مفترقتين في تضاعيف الكلمة، ومروان ونحوه وقعا معا طرفا، وإذا وقعتا طرفا كان الحذف أغلب عليهما، إذا كان الطرف موضعا تحذف فيه الأصول في الترخيم والتكسير، ويعل فيه ما يصح في غير الطرف، ألا ترى أن من قال أسيود، لم يقل في جروة ونحوه إلا بالقلب للقرب من الطرف، فإذا كان/ كذلك افترق حكماهما، ألا ترى أنَّ
من حذف ياءي الإضافة (لياء ى الإضافة) لم يحذف الألف من يمان إذا أضاف إليه، وإن كان الألف كإحدى الياءين، وقد زيدا جميعا لمعنى، حيث انفصلت عنها كما انفصلت واو مفعول من ميمه، فالزيادتان في مفعول أشبهه باسطاع يسطيع لاجتماعهما في وقوعهما في الدرج.
فإن قال أبو الحسن: قد وجدت الزيادة غير ول لما وقع موقع الأصل حذف الأصل وبقيت الزيادة، وذلك في قولهم: تقى يتقى، فإذا حذفت الفاء مع الزيادة لما كانت الزيادة لمعنى وأثبتت الزيادة مع أن الفاء أقوى من العين وأبعد من الإعلال، فأن تحذف العين دون الزيادة التي هي لمعنى أجدر.
قيل: لا يلزم أن تحذف العين من مفعول كما حذفت الفاء من قولهم: يتقى لأن تاء يتقى زيادة فلو حذف وأبقيت كما (الفاء) لم يدل عليها شيء، وليس كذلك واو مفعول؛ ألا ترى أنها إذا حذفت بقيت الميم دالة عليها، وليس في يتقى بعد حذف تاء افتعل شيء يدل عليه، إلى هنا انتهى ما قال، وهو كاف في المسألة.
واعلم أن الناظم يلزمه ما ألزمه الأخفش من التناقض في مذهبه، وبيان ذلك أن المازني سأل الأخفش في مبيع حين ادعى أن المحذوف هو العين، قال:
فقلت له: ألا ترى الباء في مبيع بعدها ياء، ولو كانت ولو مفعول كانت مبوع، فقال أنهم لا أسكنوا ياء مبيوع وألقوا حركتها على الباء انضمت الباء وصارت بعدها (ياء) ساكنة، فأبدلت مكان الضمة كسرة للياء التي بعدها، ثم بعد أن ألزمت الباء؛ الكسرة للياء حذفتها فوافقت واو مفعول الباء مكسورة، فانقلبت ياء للكسرة التي قبلها". فهذا قول أبي الحسن على ما نقله المازني.
ثم لما قال الأخفش في معيشة: معوشة، قال المازني:"وقوله في (معيشة): معوشة، ترك لقوله في مبيع ومكيل، وقياسه على مبيع ومكيل: معيشة، لأنه زعم أنه حين ألقى حركة عين مفعول على الفاء انضمت الفاء، ثم أبدل مكان الضمة كسرة لأن بعدها ياء ساكنة"، قال:"وكذلك يلزمه في معيشة (هذا، وإلا رجع إلى قول الخليل في مبيع". قال ابن جنى: "إنما كان قياسه عند أبي عثمان معيشة لأن أصلها معيشة) فيجب نقل الضمة إلى العين، ثم تبدل كسرة لتسلم الياء بعدها كما قال أبو الحسن في مبيع: إن الضمة فيه أبدلت كسرة لتسلم الياء بعدها، فيقول معيشة على قول الخليل قياسا على مبيع، وكذلك قياسه على مبيع في فعل من البيع أن يقول بيع كقول الخليل، لأن مبيعاً
ومعيشة وبيعا كل واحد منها واحد لا جمع". قال "فإن كان يقول: معوشة وبوع، فيلزمه أن يقول في مبيع: مبوع، فيخالف العرب أجمعين. وإذا قال: مبيع، فقياسه معيشة وبيع ولا فرق بين المسألتين، لأن مفعولا واحد ما أن مفعلة وفعلا واحد". هذا هو التناقض الذي ألزموه أبا الحسن في مذهبه في الموضعين، فكذلك الناظم- رحمه الله يلزمه هذا التناقض في مذهبه، لأن الخليل وسيبويه إذا كانا قد قلبا ضمة العين نقلها إلى الياء كسرة لتصح الياء فهما/ على أصلهما في نحو بيع ومعيشة، والناظم ليس على أصله ذلك وإنما يقول: بوع ومعوشة، فكيف يقول هنا بقلب الضمة كسرة في مبيع، بل قياسه أن يقول: مبوع؟ وبهذا ردوا على الأخفش والجواب: أن قلب الضمة كسرة لتصح الياء هنا ليس أيضا على قاعدة سيبويه لأنه (لا) يقلب الضمة كسرة لتصح الياء إلا بشرط أن تكون الياء قريبة من الطرف تليه، وسواء عنده أكان مفردا أم جما نحو بيض وبيع- في فعل من البيع- ولا يعتبر مجرد اللفظ إذا كان مخالفا للأصل، والياء في مسألتنا بعيدة من الطرف اعتبارا بالأرض، كما اعتبر في العواور فلم تهمز الواو، وفي أوائيل إذا مد ضرورة فهمز؛ لأن المسألة تصريفية، والتصريف يراعى فيه الأصل دون مجرد اللفظ. هذا تقرير الأستاذ ابن الفخار شيخنا- رحمه الله للإشكال في مذهب سيبويه. وإذ كان كذلك فقلب الضمة كسرة في مثل هذا ينبغي أن
يكون مشكلاً على المذهبين معا، إذا المسألة صارت كمسألة موقن وموسر، يجب فيها قلب الياء واوا للضمة لا العكس، وإذا لزم ذلك وكان السماع يخالفه لزم رجوع الجميع إلى نحو واحد مما يمكن، والذي يمكن هنا وجهان:
أحدهما: ما نص عليه الأخفش وسيبويه معا من قلب الضمة للياء كما فعلوا في بيض، وإن كانت المسألتان على وجهين مختلفين، فقول سيبويه:"وجعلت الفاء تابعة للياء حين أسكنتها كما جعلتها تابعة في بيض، وكان ذلك أخف عليهم من الواو والضمة فلم يجعلوها تابعة للضمة"، ليس التشبيه فيه على وجه واحد من جهة اختلاف المسألتين بالبعد من الطرف، ولكنه تأنيس، وكذلك كلام أبي الحسن المتقدم هو من هذا النوع، فلا يلزم من قال: مبيع، أن يقول معيشة، ولا من قال معوشة أن يقول: مبوع.
والثاني: يقتضيه القياس وإن لم ينصوا عليه، وهو أن حركة العين حذفت ابتداء حذفا ليعتل بالحمل على فعله، ولم تنقل الحركة إليها من العين، فالتقت ثلاثة سواكن، فكسر الأول وهو الباء في مبيع، وحذفت الواو على مذهب سيبويه، أو الياء على مذهب الأخفش. قال ابن الضائع: ونظير ذلك قولهم: قتل، في اقتتل. وذلك أن الإدغام أبدا إذا حذفت حركة المثل الأول وقبله ساكن نقلت إليه، فكان ينبغي أن يقال هنا: قتل، بفتح القاف وقد قالوا ذلك،
فلما التبس في اللفظ بفعل، حذف بعضهم هذه الحركة وينقلها وكسر لالتقاء الساكنين، ذلك نقول هنا على كلام المذهبين: حذفت حركة العين، وكسرت الباء لالتقاء الساكنين وحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها في مذهب الأخفش؛ إذا القاعدة أنه لا يحذف حرف العلة لالتقاء الساكنين إلا إذا كانت حركة ما قبله منه، ولذلك لم يجز أن تحذف الياء ولا الواو في نحو: اخشو الله، واخشى الله. أو حذفت الواو في مذهب سيبويه فبقيت الياء على ما ينبغي من كسر ما قبلها. وهذه الطريقة ذكرها ابن الضائع، وخرج عليها مذهب/ الأخفش، وقوى مذهبه بها، وهي مما يتخرج عليها المذهبان معا لما يلزم من الأشكال المذكور، وهي طريقة شيخنا الأستاذ- رحمة الله عليه- ويزول الإشكال عن المذهبين، ويتم به ما صار إليه الناظم هنا، والله أعلم.
ثم قال: "وندر/ تصحيح ذي الواو". يعني أن ما كان من مفعول عينه واو لا يكون فيه التصحيح وترك الإعلال إلا نادرا، حكى يعقوب في "الاصلاح" عن الفراء أنه لم يأت مفعول من الواو بالتمام إلا حرفان: مسك مدووف، وثوب مصوون. وإنما كان فيه نادرا جدا لأنه إذا صح اجتمع فيه مع إعلال فعله أنه من الواو، وأنه يجب ضم واوه، وبعدها واو مفعول، فيجتمع واوان وضمة، وذلك ثقيل جدا، بخلاف تصحيح ما عينه ياء نحو: معيوب، فإنه إنما اجتمع فيه واو، وياء، وضمة، وذلك أخف. فإذا كان
الإعلال في ذوات الياء هو القياس، مع أن الياء دون الواو في الثقل، فمفعول من الواو لثقله أحرى ألا يجوز فيه التصحيح. ومن مجئ مدووف في الشعر قوله:
والمسك في عنبره مدووف
ومن ذلك أيضا قولهم: فرس مقوود وقول مقوول، ورجل معوود.
وكلام الناظم طاهر في موافقة الجماعة على أنه ليس بقياس، ومخالفة أبي العباس في قياس التصحيح، قال ابن جنى:"وحكى عن أبي العباس إتمام مفعول من الواو خلافا لاصحابنا كلهم وقال: ليس بأثقل من سرت سووارا، وغرت غوورا، لأن في سوور وغوور واوين وضمتين، وليس في مصوون مع الواوين إلا ضمة واحدة". وقد حكى السيرافي هذا المذهب عن الكسائي، قال: زعم الكسائي أنه سمع ذوات الواو على الأصل: نحو: خاتم مصووغ وأجاز فيه كلهه المجيء على الأصل، قال: ولعل الكسائي سمع هذا من قوم لا يحج سيبويه بمثلهم. وأما قياس أبي العباس فقال الفارسي: "هو خطأ، لأنه يجيز شيئا ينفيه القياس، وهو غير مسموع، فأما سرت سوورا فلو لم يسمع لما قيل، وإن فلو أعلوا في سوور لأسكنوا الواو الأولى وبعدها واو ساكنة فيجب حذف إحداهما، فيصير على وأن فعل، فكرهوا التباس مثال فعول بمفعل، واسم المفعول من فعل وزنه مفعول أبدا نحو: ضرب فهو مضروب، وأمن الالتباس في مصون ومقول فجرى على ما يجب فيه الإعلال". فالظاهر ما عليه الناظم والجماعة.
ثم قال: "وفي ذي اليا اشتهر"، ضمير "اشتهر" عائد على التصحيح المتقدم يعني أن التصحيح في مفعول مما عينه ياء قد اشتهر في السماع وكثر، بخلاف ذي الواو، وإنما اشتهر لخفة الياء مع الواو، على ضد الواو مع الواو. وعلله الفارسي بأن اسم مفعول لما لم يكن كالفعل في كونه على حركات الفعل وسكونه أشبه طويلا وأبيض وأسود وما أشبهه مما لم يجر على الفعل فصح كما صح هذا، ذكر ذلك في التذكرة.
وهذه الشهرة في تميم، وكذلك حكاها في التسهيل لغة لبنى تميم، وإنما حكى ذلك سيبويه غير معزو فقال: / "وبعض العرب يخرجه على الأصل فيقول: مخيوط ومبيوع، فشبهوها بصيود وغيور حيث كان بعدها حرف ساكن، ولم تكن بعد الألف فتهمز". قال: "ولا نعلمهم أتموا في الواوات، لأن الواوات أثقل عليهم من الياءات ومناه تفرون إلى الياء فكرهوا اجتماعهما مع الضمة". والذي عزاها إلى تميم المازني قال: "وبنو تميم فيما زعم علماؤنا يتمون مفعولا من الياء فيقولون مبيوع ومعيوب ومسيور به". قال: "وسمعت الأصمعي يقول: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: قد سمعت في شعر العرب:
وكأنها تفاحة مطيوبة
…
وقال علقمة بن عبدة:
حتى تذكر بيضات وهيجه
…
يوم رذاد عليه الدجن مغيوم
قال: أخبرني أبو زيد أن تميما تقول ذلك".
وأنشد السيرافي لعباس بن مرداس:
قد كان قومك يحسبونك سيدا
…
وإ خال أنك سيد معيون
وقالوا: طعام مزيوت، ورجل مديون. وهو كثير.
ولم يلتزم الناظم القول بالقياس في هذا النوع، بل قال "اشتهر" فيحتمل أن يكون يقفه على السماع لألقيته بالنسبة إلى الإعلال في الباب، ويمكن أن يكون يقيسه لأنه لغة ثابته ولكن ترك التعيين للناظر في المسألة، والله أعلم.
وصحح المفعول من نحو عدا
…
وأعلل أن لم تتحر الأجودا
هذه مواضع مما صحت فيها الأسماء وإن اعتلت أفعالها، وكان الأصل أن تعتل الأسماء الجارية على أفعالها باعتلالها، إلا أنها خرجت عن هذا الحكم فنبه عليها، فمنها ما يصح في الغالب، ومنها بالعكس، ومنها يجوز فيه الوجهان، وهذا الذي ابتدأ به مما يجوز فيه الوجهان، إلا أنه اعتمد على التصحيح أولا لأنه الأشهر والأجود، ثم استدرك بعد ذلك الوجه المرجوح، وإنما أتى بهما على هذا المساق ليقدم الراجح عنده حتى كأنه مستقل وحده، وإنما أتى بهما على هذا المساق ليقدم الراجح عنده حتى كأنه مستقل وحده، ثم أردت بالوجه الآخر، بقوله:"وصحح المفعول من نحو عدا"، يريد أن اسم المفعول- وهو الجاري على الفعل الموصوف- يصحح في الحكم فلا ينقلب حرف العلة فيه إلى غيره غي الأجود، فالمفعول: يريد به اسم المفعول أي: (صحح بناء المفعول الجاري على هذا الفعل وما أشبهه. وقوله: من نحو عدا، متعلق باسم فاعل محذوف حال من المفعول، أي)، صححه حالة كونه من نحو هذا الفعل الذي هو عدا. وإشارته بعدا ونحوه إلى كل فعل جمع الأوصاف التي في عدا، وهي خمسة:
أحدها: كونه ثلاثيا، فإنه إذا كان ثلاثيا فحينئذ يصح، وأما إن كان رباعيا فأكثر فإنه يعتل باعتلال فعله ولا يصح نحو: معطى من أعطى، ومتدانى من تدانى، ومستدنى من استدنى، وما أشبه ذلك، إذ هو في الإعلال هنا جار على فعله لا فرق بينهما لوجود موجب الإعلال، وهو تحرك الياء وانفتاح ما قبلها.
والثاني: أن يكون معتل اللام كعدا، أصله: عدو، فاعتل بقلب واوه ألفا. وتحرز به من أن يكون معتل العين، أو صحيح العين واللام، أما الصحيح فلا كلام فيه إلا أن/ يكون أخره همزة فإنه قد جاء فيه الإعلال نادرا نحو ما حكا ابن الأنباري من قولهم: صحيفة مقرية، يريد: مقروءة، من القراءة. وهذا إنما هو في الحقيقة على لغة من قال في قرأت: قريت. وعلى هذا يجرى مفعول عند من يقول: أخطيت وأبطيت، في أخطأت وأبطأت، إن كان الإبدال عندهم لازما في سائر التصاريف، فلا يكون إذا مما لامه همزة في الحكم، ولا يلزم على هذا من سهل قياسا فقال: مفروة، أن يعل، لأن الهمزة مرادة فكأنها موجودة، وإذا كانت موجودة في الحكم لم يكن فيها إلا التصحيح كالحروف الصحاح. وأما المعتل العين فلابد من اعتلاله، وهو الذي فرغ منه الآن نحو: مبيع ومصون، ومقام، ومستدام ونحو ذلك.
والثالث: أن تكون اللام واوا لا ياء، وهو الذي في "عدا"، لأنه من عدا يعدو عدوا: إذا جرى، أو من عدا يعدو عدوانا: إذا ظلم، أو من عداني عنك كذا: أي شغلني، وعدوته: أي صرفته، وعدت العين عن كذا عدوا كرهته. فكل هذا من الواو لا من الياء، فلو كان من الياء اقتضي لزوم الإعلال نحو: بنيته فهو مبنى، اصله مبنوي، فأعل بما تقدم من قلب الواو ياء وإدغامها في الياء، لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكذلك قضيت حقه فهو مقضى، ورميته فهو مرمى، وسقيته فهو مسقى، وما أشبه ذلك.
والرابع أن يكون على فعل- بفعل العين- كعدا، لاعلى فعل بكسرها، فإن كان فعله على فعل فمفهومه الإعلال، وهذا هو المختار عنده في التسهيل إذ قال "فإن كان مفعول من فعل ترجح الإعلال". فتقول في مفعول رضي: مرضى، وفي شقى بكذا: مشقى به. ووجه ما ذهب إليه في هذا الجريان على الفعل في القلب؛ إذ الياء لازمة لفعل وفعل منه أصلا ومغيرا كرضى زيد ورضى عنه، فلا ظهور في الفعل بحال ولذلك قالوا: يرضيان ويشقيان، ولم يظهروا الواو وإن زال موجب قلبها، بخلاف باب "دعوت"؛ إذ ليست الياء إلا في الفعل المغير، وهو فرع، إذا قلت دعى وعدى. إلا أن هذا الاختيار مخالف لما ذهب إليه سيبويه إذا قال في هذا النحو: إن الوجه الواو، قال:"والأخرى عربية لكثيرة". وقال بعد ذلك: "قالوا: مرضى، وإنما أصله الواو. وقالوا: مرضوا، فجاءوا به على الأصل والقياس. ولم يفرق سيبويه ولا غيره بين ما كان من فعل وما كان من فعل في اختيارهم الواو في الجميع فهذا الاختيار مخالف لهم كما ترى، وإنما اجتمع معهم في إجازة الوجهين خاصة.
والخامس: أن تصح العين من إعلال اللام، بمعنى أن تكون حرفا صحيحا كعدا، فلا تكون ياء ولا واوا، فإنها إن كانت ياء- ولا يكون ذلك إلا مع كون اللام ياء كذلك إذا ليس في الأفعال (مثل) حيوت، نعم ولا في الاسماء، ومثال ذلك حييت وعييت- فهذا قد تخلف عنه شرطان: هذا،
وكون اللام/ واوا، فلابد في المفعول من الإعلال، فتقول: محيى ومعيى، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فوجب القلب والإدغام كما تقدم. وإن كانت واوا فاللام إما أن تكون ياء أو واوا، فإن كانت ياء فلا بد من الإعلال لتخف شرطين: صحة العين، وكون اللام واوا، فتقول من طويت: مطوى، ومن شويت: مشوى ومن، رويت مروى، أصله: مطووى ومشووى ومرووى، فأعل من الأصل المذكور. وإن كانت واوا فلابد من الإعلال أيضا لوجهين أحدهما: أن الفعل منه على فعل- بكسر العين- فتقول: قوى من القوى، وحوى، من الحوة، فيترجح على رأيه قلب لام المفعول ياء كما ترجح عنده في مرضى ومشقى ونحوهما. والثاني أنك إذا قلت من قوى مقوو، ومن حوى: محوو، اجتمعت ثلاث واوات فكرهوا اجتماعها لما فيها من الثقل، فقلبوا الأخيرة ياء لأنها أقرب إلى الإعلال. فصار: مقووى ومحووى، ففعل بها ما فعل بمطوى ونحوه. وأيضا لما صار مقوو لم يعتدوا بالواو الساكنة المتوسطة بين الواوين لسكونها مع زيادتها فهي حاجز ضعيف، فصارت الواو المتطرفه كأنها بعد الضمة، فدخل في باب أجر وأدل، وانقلبت لواو المتوسطة ياء للكسرة قبلها ولدخولها في باب مطوى قال ابن جنى:"من قال: مغزو لم يقل هنا إلا بالقلب كراهة اجتماع ثلاث واوات إذ أجازوا القلب في معدى فهم بالقلب في مقوى أجدر، ولا يجوز غيره". فإذا اجتمعت الشروط كان التصحيح- كما قال- أولى
نحو: دعاه فهو مدعو، وغزاه فهو مغزو، وتلاه فهو متلو، وهو كثير. (و) وجه التصحيح أن حرف العلة إذا سكن ما قبله جرى مجري الصحيح على الجملة كما في دلو وظبي، فإذا اجتمعت الواو منها مع مثلها فأدغمت فيها قويت بالتشديد فتحصنت عن الإعلال.
ثم أتى بالوجه الآخر المرجوح فقال: (وأعلل آن لم تتحر الأجودا). يعني أنه يجوز لك الإعلال إن لم تقصد أجود الوجهين، فإن أجودهما هو التصحيح لم قصد البناء عليه، فمن لم يبن عليه فقد قصد أضعف الوجهين، ومثال ذلك أن تقول في مغزو: مغزى، وفي مدعو: مدعى. ومن ذلك في السماع ما حكاه سيبويه من قولهم: أرض مسنية، أي صار المطر لها كالسانية يقال: المطر يسنو الأرض، وأنشد سيبويه لعبد يغوث بن وقاص الحارثي.
وقد علمت عرسي مليلة أنني
…
أنا الليث معديا عليه وعاديا
وقال الآخر:
ما أنا بالجافي ولا المجفى
…
أصله: معدو ومجفو، لكنهم قلبوا الواو الثانية ياء لما تقدم من التعليل في مقوى من عدم الاعتبار بالساكن حاجزا، وهو تعليل سيبويه، ثم قلبت الأولى ياء كذلك لاجتماعها مع الياء وسبقها بالسكون، وقد ظهر من هذا إجازته
للقياس/ على ما سمع من ذلك، ألا تراه قال:"وأعلل"، فأجاز له الإعلال ولم يقفه على السماع، وكذلك فعل في التسهيل حيث قال: فوجهان، والتصحيح أكثر". وقد اعترضه شيخنا القاضي- رحمه الله بأن مفوم قوله:"والتصحيح أكثر" أن الإعلال كثير أيضا؛ إذ لابد في الفاضي والمفضول من المشاركة في الوصف أو تقدير المشاركة، قال: وليس كذلك، بل الإعلال نادر، وعلى هذا السبيل يرد على الناظم الاعتراض، إذ قوله:"إن لم تتحر الأجود"، يفهم منه أن الإعلال جيد أيضا، وليس كذلك؛ إذ هو قليل على ما ذكره شيخنا رحمه الله.
ولكن الجواب عن ذلك أن ظاهر كلام سيبويه أنه ليس بنادر، كيف وهو يقول "فالوجه في هذا النحو الواو، والأخرى عربية كثيرة". ذكر ذلك في مغزو وعتو (و) على الجواز قياسا ظاهر كلام المازني أيضا، قال:"فإذا كان مثل عتو واحدا فالوجه فيه إثبات الواو". قال: "والقلب جائز نحو: معدى وعتى". على أن ابن الضائع قد جعل هذا غير مطرد، وهو خلاف ظاهر سيبويه وغيره، وإنما النادر الذي لا يطرد هو الواو في الجمع نحو قولهم:"إنكم لتنظرون في نحو كثيرة". وهو في الشذوذ نحو فتو جمع فتى، إذ هو من الياء، قال جذيمة الأبرش:
ربما أوفيت في علم
…
ترفعن ثوبي شمالات
في فتو، أنا رابئهم
…
من كلام غزوة ماتوا
وأنشد في الحماسة للشنفري، وهو ابن أخت تأبط شرا:
وفتو هجروا ثم أسروا
…
ليلهم، حتى إذ انجاب حلوا
وقال أبو دؤاد الأيادي:
في فتو حسن أوجههم
…
من إياد بن نزار بن معد
على أن ابن خروف قد جعل فتوا من الواو لظهور الواو في فعول فقال: "قوله: وفتو دليل على أن فتوا من الواو، وإن كان- يعني سيبويه- قد ذكر في تثنية المنقوص أنه قلب لضم ما قبله كقضو ورده ابن الضائع، فإذا لا اعتراض على المؤلف هنا ولا في التسهيل في هذه المسألة.
كذاك ذا وجهين جا الفعول من
…
ذي الواو لام جمع أو فرد يعن
ذا وجهين: منصوب على الحال العامل فيها "جاء" و "من ذي الواو" متعلق باسم فاعل حال من الفعول، أي: حالة كونه من هذا الجنس. و "لام جمع": منصوب على الحال من الواو، والتقدير: جاء الفعول كائنا من الاسم ذي الواو حالة كونها لام جمع أو لام مفرد. أو يكون "لام جمع" ظرفا العامل فيه "بعن"، (أي: يعن) في هذا الموضع أو حال كذلك، أي: يعن الواو كائنا لام جمع أو مفرد.
وعن الشيء عننا وعنونا: عرض لك ظهر.
ومعنى هذا أن الفعول- بضم الفاء- على وزن القعود جاء فيه وجهان، وهما المذكوران من التصحيح والإعلال، لكن بشرط أن تكون لامه واوا، ولم يشترط/ غير هذا فإن اللام إن كانت ياء فقد تقدم حكمها وأنه لابد من الإعلال نحو: مضى مضيا ورقى رقيا، كذلك فتى إذا جمعته على فعول تقول فيه: فتى. وما جاء من قول جذيمه.
في فتو، أنا رابئهم
…
من كلال غزوة ماتوا
ونحوه، فشاذ، ووجهه ما أشار إليه سيبويه في الفتوة من أنهم غلبوا على الياء حكم الضمة قبلها، والواو الزائدة حاجز غير حصين، فقلبوا الياء واوا، كما فعلوا في: لقضو الرجل. فإن كانت اللام واوا فهو الذي يجوز عنده فيه الوجهان في فعول، وفعول على قسمين كما قال:"لام جمع أو فرد" يعني سواء أكان فعول جمعا أو مفردا، وهي في
الحقيقة ثلاثة أقسام: جمع، واسم غير مصدر، ومصدر، لكنه جمع المصدر وغير المصدر في قوله:"أو فرد" فأما الجمع فنحو عصا وعصي، ودلو ودلى، وعات وعتى، وجاث وجثى. وهي من الواو لقولهم: عصوان، ودلو، وعتا يعتو، وجثايجثو، هذا في الإعلال، والتصحيح نحو ما حكى سيبويه من قول بعض العرب:"إنكم لتنظرون في نحو كثيرة"، و "فتو، على طريفة ابن خروف، والنحو جمع نحو. ووجه الإعلال أن الجمع أثقل من الواحد، فإذا كان الواحد ثقلب فيه الواو إلى الياء في نحو مرضى ومسنى كان الجمع أولى بأن تقلب فيه أيضا، وكذلك شبهوا عصيا ودليا حين ألزمت الواو فيه البدل بأدل وأجر حيث لم يكن بين الضمة والكسرة إلا حرف واحد ساكن. ووجه التصحيح أنه مشبه بصد حيث لم يقلبوا فيه وإن كان مواليا للطرف ومظنة للإعلال، كما شبه الذين قالوا: صيم، بالقلب، بباب عصى. وأيضا جاءوا ونحوه منبهة على الأصل، وليعلم أن ذلك المعل أصله نحو هذا المصحح.
وأما المصدر فنحو يجثو (جثوا) وجثيا، وعنا عتوا وعتيا، قال تعالى:{وعتوا عتوا كبيرا} ، قال:{ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} أما التصحيح فهو الأصل، وأما الإعلال فقال سيبويه:"شبهوها حيث كان قبلها حرف مضموم ولم يكن بينهما إلا حرف ساكن بأدل". وقد تقدم مثل هذا التعليل في مفعول.
وأما الاسم غير المصدر فكما بنيت من عدا مثل سدود فإنك تقول على هذا التقدير: عدو، وعدى. وكذلك إذا بنيت ذلك من غزا أو من حبا تقول غزو، وحبو، وحبى. وكذلك ما أشبهه وجهه ذلك ما تقدم. هذا ما ظهر من كلامه إلا أنه منفود من أوجه ثلاثة.
أحدها: أنه أجاز الوجهين في الجمع، وذلك ما لا يجوز عند غيره من نحاة البصرة فإن جميعهم يقولون في: نحو: إنه شاذ ونادر، قال سيبويه لما أتى بنحو:"وهذا قليل". وكذلك جعله في التسهيل من القليل غير المقيس، وكذلك جعله السيرافي من الشاذ، وكذلك المازني وغيره. ولم أر من قال خلاف هذا منهم.
لا يقال: إن الناظم لم يرتهن في القياس، وإنما قال:"ذا وجهين جا الفعول". وهذا الكلام لا يعطى جريان القياس/ بل هو مجرد نقل، أي: جاء الوجهان عن العرب، ومجيئها عنهم لا يقتضى كثرة من قلة؛ إذ الجميع قد جاء عنهم، فكلامه إذا صحيح.
لأنا نقول: (بل) إطلاقه في مجئ الوجهين عن العرب هذا البناء الذي هو فعول مقتض للكثرة، إذ لا يعادل الكثير بالشاذ فلا يقال فيما جاء من الشائع على وجه ثم شذ فيه وجه آخر: إنه ذو وجهين، أو جاء على وجهين. فيه شائعين، فإذا كان كذلك فمخالفة الناظم في هذا في ادعاء القياس أو في النقل عن العرب عدول عن الصواب مع أنه شديد الاتباع للسماع، ومتحر في نقله، ولم يسمع هنا
على الأصل إلا نادرا جدا بحيث لا يحكون منه إلا ما حكى سيبويه من ذلك الحرف وحده.
والثاني: أن فعولا المصدر على قسمين، أحدهما: ألا تلحقه التاء نحو ما تقدم التمثيل به، وكلام الناظم فيه صحيح. والثاني: أن تلحقه التاء نحو: الأخوة والأبوة والبنوة، فهذا لا يجوز فيه الإ التصحيح، قال المازني "لا يقلبها من يقول: مسنى وعنى، لأنه قد لازم الإعراب غيرها". فسر ذلك ابن جنى بأنه "لما كان حكم مسنى ألا يقلب مع أنه لا هاء: فيه لأنه واحد، فهو إذا جاءت فيها الهاء لا يجوز فيه غير التصحيح، لأنه الإعراب يجرى عليها". قال:"فإن قلت: فقد قالوا: أرض مسنية، وعيشة مرضية، فقلبوا الواو ياء مع أن بعدها هاء، فهلا قيل على هذا في أبوة وأخوة: أبية وأخية، كما قال في مسنوة ومرضوة: مسنية ومرضية؟ قيل: إن الهاد في مسنية ومرضية إنما دخلت على مسنى ومرضى للتأنيث بعد أن لزم المذكر القلب، فبقى بعد مجئ الهاء بحالته، وأبوة وأخوة لم تلحقهما الهاء بعد أن كان يقال بلا هاء: أخي وأبي، فيلزم أن يقال: أبية وأخية، بل هما مصدران جاءا على فعولة بمنزله الحكومة والخصومة". قال: (فالهاء لازمة في أول أحوال بنائهما على هذه الصيغة، والهاء في "مفعولة" داخلة على مفعول، فهي مفارقة". فإن ثبت هذا فالناظم من حيث أطلق الحكم بجواز الوجهين في فعول مقتض لأن يكون ذو الهاء منها ذا وجهين، وليس كذلك، فكلامه على إطلاقه غير مستقيم.
والثالث: أن هذا الحكم إنما يمشى فيما كان صحيح العين كما ذكر في الأمثلة، فأما إذا كانت العين واوا كما إذا بنيت فعولا من القوة فإنك تقول: قوى. ولا يجوز أن تقول: قوو، كما قلت في مفعول منه: مقوى. والعلة في هذا ما تقدم ذكره، وظاهر كلام الناظم دخول مثل هذا في جواز الوجهين، لأنه لم يشترط إلا كون اللام واوا. وهذا مما اعترض به شيخنا القاضي- رحمه الله على التسهيل، إذ أطلق أيضا ثمة جواز الوجهين، مع أن مثل أفعول وأفعولة، وفعول وفعولة يجب فيها وجه والأعلال.
والجواب عن الأول: أنه يمكن أن يكون ذهب في الجمع مذهب الفراء القائل بجواز التصحيح فيقول: عصو/ وعتو وجثو، في جمع عصا وعاث وجاث، قياسا على ما جاء من ذلك أو قياسا علي ما هو في وزنه من المصادر. ولا شك أن السماع موافق لما زعم الجماعة، هذا وإن كان في التسهيل لم يرتض مذهب الفراء، فقد يميل إليه في بعض الأوقات على حسب ما يؤدي إيه اجتهاده.
والجواب عن الثاني والثالث لا أذكره الآن، والظاهر اللزوم.
وشاع نحو نيم في نوم
…
ونحو نيام شذوذه نمى
أتى هنا بجمعين مما عينه واو، وهما فعل وفعال، جاء فيهما الإعلال وكان القياس فيهما التصحيح وأن تقول في نائم: نوم، وفي قائم: قوم، وفي حائل، حول، وفي صائم، صوم. وكذلك ما أشبهه؛ إذ
ليس فيهما موجب الإعلال، فصار كرجل حول، ورجل عوار، وقد تقدم أن مثل هذين البناءين لازم للتصحيح إذا ليسا من أبنية الأفعال ولا مما يشبهها، وقد نص الناس على أن التصحيح هو الوجه والأرجح في هذا، وهو أيضا مفهوم من كلام الناظم لأنه قال:"وشاع نحو نيم في نوم"، فذكر أنه جاء فيه الإعلال كثيرا ولم يلتزم فيه القياس، فدل على أن الباب عنده فيه التصحيح، وما عداه جاء به السماع ولكن للنظر فيه مجال، أيقاس أم لا؟ وأما نيام فقد نص على شذوذه، فهو واضح في أن التصحيح هو الواجب.
وقوله: "وشاع نحو نيم في نوم"، أراد أن القلب في نحو نوم مما عينه واو حتى صار إلى نيم شائع في كلام العرب، ومن ذلك ما مثل به فإنه مسموع وقالوا صائم وصيم، قال الأعشى:
فبات عذوبا للسماء كأنما
…
يوائم رهطا للعروبة صيما
وجائع وجيع، أنشد ابن جنى:
ومعرض تغلى المراجل تحته
…
عجلت طبخه لرهط جيع
وقائل وقيل، وأنشد ابن حبيب:
وبرذونة بل البراذين ثغرها
…
وقد شربت من آخر الصيف أيلا
يروى أيلا، بضم الهمزة، وتأوله الفارسي على أنه جمع آيل، (أي: خائر، أراد اللبن) كحائل وحول.
ووجه القلب أنه لما اعتل الواحد وهو صائم وقائم وجائع ونحوه، وجمع، والجمع أثقل من الواحد، وقربت العين من الطرف فأشبهت اللام في عتى جمع عات، قلبت ياء والمجاور للطرف يجرى مجرى الطرف، وقد تقدم من ذلك بعض مواضع؛ ألا ترى أن العين لما بعدت عن الطرف في فعال وجب التصحيح، فتقول: صوام، وقوام، ونوام ولا يقال: ينام، ألا في شذوذ؛ ولذلك قال الناظم:"ونحو نيام شذوذه نمى" يعني: أن الإعلال بالقلب شاذ ولا يقاس عليه، قالوا. وإذا كان صوم مع قرب واوه من الطرف الوجه فيه التصحيح، كان التصحيح إذا تباعدت الواو من الطرف لا يجوز غيره. والشذوذ الذي نبه عليه في نيام قول ذي الرمة.
/ألا خيلت مي وقد نام صحبتي
…
فما أرق النيام إلا سلامها
وقوله: "ونحو" يدل على أن ثم غير نيام، وذلك صحيح، إذا (قد) حكوا: فلان من صيابة قومه، أي: من صميمهم، قال الفراء: هو في صيابة قومه وصوابة قومه، وقال ذو الرمة:
ومستشحجات بالفراق كأنها
…
مثاكيل من صيابة النوب نوح
وأنشد الجوهري:
من معشر كحلت باللؤم أعينهم
…
قفد الأكف لئام غير صياب
وعلى الناظم في فعل درك، وذلك أن ما ذكر إنما يجرى فيه على فرض كون اللام صحيحة، مثل ما مر من المثل، فأما إن اعتلت اللام فلا، كما إذا جمعت شاو على فعل فإنك تقول: شوى. و (كذلك تقول في) حاو: حوى، و (في) طاو: طوى فتصحح ولا تعل، فتقول: شيا، ولا حيا، ولا طيا، وإن كان ذلك في قول. من قال: صيم ونيم. قال ابن جنى: "لأنك قد أعللت اللام بأن
قلبتها ألفا، فلم يجز إعلال العين واللام جميعا، وهذا مرفوض في كلامهم، لم يجئ منه إلا حرف شاذ نحو شاء وماء". نبه على هذا الاستثناء ابن جنى، وهو صحيح على مقتضى القواعد التصريفية. فو مما فات الناظم هنا، وكذلك فاته في التسهيل أيضا. ولا يقال: إنه يؤخذ له استثناء هذا من قوله قبل هذا:
وإن لحرفين ذا الإعلال استحق
…
صحح أول .. .. .. .. ..
لأنا نقول: إنه خص ذلك بما ذكره من قلب الياء أو الواو ألفا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما، ألا ترى إلى قوله هنالك:"وإن لحرفين ذا الأعلال استحق" فأشار بذا إلى ما تقدم له قريبا، فكأنه مشعر باختصاصه بذلك الموضع، وليس كذلك، فهذا أيضا مما يعترض عليه، إذ كان قادرا (على) أن يأتى بها قاعدة تجمع له أحكام مسائل جمة، هذه منها.
وهنا انتهى كلامه في إبدال حروف العلة الأربعة بعضها من بعض، وهي. حروف اللين والهمزة، وذكر في أثنائها الميم، وقد تقدم ذكر الهاء. ثم أخذ في ذكر ما بقي منها وهي ثلاثة: التاء والطاء، والدال، فابتدأ بالتاء فقال:
فصل
ذو اللين فاتا في افتعال أبدلا
…
وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا
يعني أن حرف اللين أبدل تاء في بنية الافتعال إذا كان حرف اللين فاء الكلمة ويعني في القياس المطرد. وذو اللين: مبتدأ، خبره أبدل. و "تا" مفعول أبدل الثاني، والأول هو المقام المقام الفعل. وفا: اصله فاء، وهو حال من ذي اللين العامل فيها أبدل، والتقدير: ذو اللين أبدل تاء إذا كان فاء كائنة في افتعال. وقد حصل أن التاء تبدل من حرف اللين قياسا بشرطين:
أحدهما: أن يكون حرف اللين فاء الكلمة، تحرزا من أن يكون عينا أو لاما. أما كونه عينا فإنه لم يجئ إبداله أصلا. وأما/ كونه لاما فقد أبدلت التاء منه قليلا، وذلك أخت وبنت، أصله: أخوه وبنوة، فنقلوهما إلى فعل وفعل، ثم أبدلوا من واوهما التاء، وليست التاء فيهما بعلامة تأنيث كما هو مقرر في غير هذا من الكتبت المبسوطة. ومن ذلك هنت، أصله: هذوة، بدليل قولهم:
على هنوات شأنها متتابع
ففعلوا به ما فعلوا بأخت وبنت. وكذلك كلتا، التاء فيها مبدلة من
الواو، أصلها كلوى على مذهب البصريين غير الجرمى، فأبدلت منها التاء، وهذا إبدالها من الواو، وأما إبدالها من الياء ففي قولهم: ذيت وذيت، وكيت وكيت، أصلها: ذية وكية، فحذفوا الهاء وأبدلوا من الياء التي هي لام التاء. وكذلك التاء في ثنتان، لأنه من ثنيت، لأن الاثنين قد ثنى أحدهما إلى صاحبه.
والثاني: أن يكون في بناء الافتعال. ويعني: وما تصرفه منه، لأن ما يلزم في المصدر يلزم في سائر متصرفاته، كالماضي والمضارع والأمر، واسم الفاعل والمفعول، واسم المصدر والزمان والمكان. إلا أنه ترك التنبيه على ذلك اتكالا على فهم المراد. وعلى هذا تكون الفاء التي هي حرف لين تلى تاء الافتعال وتحرز بذلك من الفاء التي ليست في الافتعال فإنها لا تبدل تاء إلا أن يسمع سماعا لا يقبل القياس، فمن ذلك تجاه، وهو فعال من الوجه، وتراث فعال من ورث، وتقية فعيلة من وقيت، ومنه التقوى، أصلها: وقوى، وكذلك التقاة- وليس من هذا المسموع: اتقوا الله، فإنه إبدال في افتعل، فهو من القياس- وتوراة فوعلة من ورى الزند، اصله: وورية، أبدلت الأولى تاء هربا من إبدالها همزة لاجتماعها مع الواو الأخرى. ومثلها تولج عند الخليل، أصله: وولج من الولوج، وأنشد النحويون:
متخذا من عضوات تولجا
ومنه تخمة فعلة من الوخامة، وتكأة فعلة من توكأت، وتكلان فعلان من توكلت، وتيقور فيعقول من الوقار، أنشد سيبويه للعجاج.
فإن يكن أمسى البلى تيقوري
…
وقالوا: رجل تكلة من وكل يكل، واتلجه، أي: اولجه، وضربه حتى أتكأه. وقالوا: التليد والتلاد، من ولد. وتترى فعلى من المواترة، أصلها وترى. وقد كثر السماع في هذا لكنه على غير قياس، لقلتها بالنسبة إلى ما لم تقلب واوه تاء، فلا تقول في وجيه: تجيه، ولا في وزير: تزير، ولا في وافد: تافد، ولا ما كان نحو ذلك.
هذا إبدالها من الواو، وأما إبدالها من الياء فلا أعلم له مثالا. فأما إذا اجتمع الشرطان معا فإبدالها واجب ما قال، والفاء عند ذلك قد تكون واو وقد تكون ياء، ولذلك أطلق الناظم القول في حرف اللين، ولم يتعين واوا من ياء. فأما الواو فمثالها: اتزن واتعد واتصف، من الوزن والوعد والوصف، وأنشد ابن جنى:
فإن تتعدني أتعدك بمثلها
…
وسوف أزيد القافيات القوارصا
/وقال طرفه:
وإن القوافي يتلجن موالجا
…
تضايق عنها أن تولجها الإبر
وقال سحيم:
وما دمية من دمى ميسنا
…
ن معجبة نظرا واتصافا
أراد: ميسان. وهذا كثير جدا.
وأما الياء فمثالها: اتبس، من اليبس. واتسر، من اليسر، وأشباه ذلك.
والعلة في القلب في هذا الموضع أنهم لو لم يقلبوها تاء لوجب أن يقلبوها إذا انكسر ما قبلها ياء فيقولون: ايتزن، ايتعد، ايتلج، وإذا انضم ما قبلها ردت إلى الواو فقالوا: موتزن، وموتعد، وموتلج، وموتسر، وإذا انفتح ما قبلها قلبت ألفا نحو: ياتعد، وياتزن، وياتسر. فلما كانت مع بقائها على أصلها يتلاعب بها إلى غير مستقر، وكذلك الياء، أرادوا أن يقلبوهما إلى حرف جلد لا يتغير وإن تغيرت الأحوال، فأبدلوهما تاء، وكانت أولى لأنها قريبة المخرج من الواو، لأنها من أصول الثنايا والواو من الشفتين، وأدغموا التاء في تاء الافتعال.
ثم قال: "وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا"، يعني أن ما كانت فاؤه همزة وكان في بنية الافتعال فإنه خارج عن هذا الحكم فلا تبدل الهمزة فيه تاء كما تبدل الواو وغيرها من حروف اللين، فلا تقول في افتعل من الأخذ: اتخذ، ولا في افتعل من الأهل: اتعل يتهل، ولا فيه من الأمر: اتمر، ولا نحو ذلك، ولا من الأكل: اتكلم. وانما تقول: (ايتكل)، كما مثل، وفي مضارعه: ياتكل. وكذلك: مؤتكل ومؤتكل، قال الأعشى:
أبلغ يزيد شيبان مألكة
…
أباثبيت، أما تنفك تأتكل
وما جاء مما كان من هذا فشاذ كما (قال) لا يقال عليه نحو قولهم: اتهل من الأهل واتمن واتزر من الأمانة والإزار، وأنشد ابن الأعرابي:
في داره تقسم الأرزاق بينهم
…
كأنما أهله منها الئى اتهلا
ومن ذلك: اتخذ، عند الزجاج، هو افتعل من الأخذ، وجعله من تخذ يتخذ،
كما قال تعالى: {قال: لو شئت لتخذت عليه أجرا} ، كما قرأها ابن كثير وأبو عمر.
وإنما نبه على هذا الشذوذ وكان في غنى عنه، لأن الكوفيين يقيسون هذا- فيما نقل عنهم- فيبدلون الهمزة تاء، ويدغمونها في تاء الافتعال، قياسا على ما سمع من ذلك. ووجهه عندهم هو الوجه الذي لأجله أبدلت من الياء والواو، لأن الهمزة تصير بالتسهيل حرف لين، فتصير في التصرف على غير حالة واحدة، إذا لو قلت ايتخذ ياتخذ وموتخذ، لكان مثل: ايتعد يا تعد وموتعد، فأبدلوا الهمزة حرفا جلدا لا يتغير، وهو التاء. فيقول في افتعل من الأكل: اتكل أو من الأمر: اتمر، أو من الأسر: اتسر، أو من الأمل: اتمل، وما أشبه ذلك.
والأصح ما ذهب إليه الناظم من كون ذلك بالسماع؛ إذ لم يجئ في كلام فصيح، ولا كثر كثرة يعتبر مثلها في القياس. وأما اتخذ فلا يتعين فيه الإبدال من الهمزة لإمكان كونه مبنيا من تخذ يتخذ، وقال الممزق العبدي:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها
…
نسيفا كأفحوص القطاة المطرق
/وفي كلام الناظم بعد نظر من أوجه ثلاثة:
أحدها: أنه أطلق الحكم بالإبدال في الواو والياء إذا اجتمعت الشروط، فاقتضى بظاهره أن ذلك واجب، إذ لم يأت بلفظ يدل على الجواز، وإطلاق الوجوب غير صحيح؛ إذ للعرب في هذا الإبدال وجهان، أحدهما ما ذكر، والآخر البقاء على الأصل فتقول: ايتعد ياتعد وموتعد (وموتعد)، وايتسر يا تسر وموتسر وكذلك سائر الباب، وسمع الكسائي: الطريق ياتسق وياتسع، أي: يتسق ويتسع، فإذا الوجهان جائزان، وهو على خلاف ما ظهر من كلامه.
والثاني: أنه جعل التاء في نحو اتكل بدلا من الهمزة، ألا تراه كيف قال:"وشذ في ذي الهمز" أي: وشذ الإبدال في الهمزة في ذي الهمز. وليس الإبدال كذلك ههنا، بل التاء بدل من حرف اللين المبدل عن الهمزة؛ إذ لا نسبة بين الهمزة والتاء لتباعدهما في المخرج ولذلك لم تبدل التاء من الهمزة في غير هذا الموضع البتة فكيف يقال ببدل التاء من الهمزة؟ وغنما بصحيح ما قاله في التسهيل من أنها قد تبدل من الياء والواو وهما مبدلتان من الهمزة. هذا هو الذي يجرى على القياس، فاتهل أصله: {أتهل، فأبدلت الهمزة ياء لاجتماع ع الهمزتين فصار ايتهل، ثم فعل به ما فعل باتسر. وكذلك متهل أصله: مؤتهل، ثم سهلوا فقالوا: موتهل فصار كموتعد، فجرى على قياسه.
والثالث: أنه أطلق الإبدال في ذي اللين، وذو اللين ثلاثة أحرف: الواو، والياء، والألف، فالواو والياء ظاهر فيهما الإبدال كما ذكر، وأما الألف فخارجة عن هذا؛ إذا لا تبدل التاء من الألف أصلا، وإنما وقع الإبدال من الباقيين.
فإن قيل: ما تنكر من أن تكون التاء في ياتعد وياتسر بدلا من الألف فيكون إطلاقه القول في ذي اللين مرادا، فتدخل الألف في هذا الحكم.
فالجواب: أن الألف إنما أبدلت من الياء والواو على حد ياجل في يوجل تخفيفا، حين عزموا على استعمال الأصل، وأما في حال الإبدال تاء فلم يبدلوا إلا من الواو والياء؛ إذا لا فائدة في توسيط هذه الرتبة في الإبدال ولا دليل عليها، فليست بمرادة لأنها رتبة تخفيف تلزم الاستعمال، والذين يبدلون لم ينطقوا بالأصل فيميلوا إلى التخفيف، وإذا كان كذلك ثبت أن كلام الناظم معترض.
ووجه رابع، وهو أنه مثل بائتكل، وتمثيله به ظاهر في أنه مسموع من العرب أن يقال فيه: اتكلم. وقد أشار ابنه في شرح هذه الأرجوزة إلى أنه لم يسمع ذلك فيه فكان الأحق أن يمثل بما سمع، وقد حكوا من ذلك اتهل، كما تقدم، فكان موافقا لما أرداده في القافية من الإتيان باللام رويا.
والجواب عن الأول: أن الإبدال هو الأشهر والأكثر استعمالا، وهي لغة أهل الحجاز التي نزل بها القرآن، ولذلك قال في التسهيل: تبدل في اللغة الفصحى التاء من كذا وأما البقاء على الأصل دون إبدال فلغة ليست في
الشهرة هنالك/، ولذلك قال سيبويه: وأما ناس من العرب فإنهم جعلوا (هذا) بمنزلة واو"، قال: "فجعلوها تابعة حيث كانت ساكنة كسكونها وكانت معتلة، فقالوا: ايتعد، كما قالوا: قيل. وقالوا: ياتعد كما قالوا: قال، وقالوا: موتعد كما قالوا: قول". وإذا كانت قليلة فقد علمت من عادته في هذا النظم الاعتماد على نقل الشهير والأشهر، والبناء على الكثير والأكثر، وجعل ما عداه في حيز الإغفال، وفي جانب الإهمال فهذا من تلك المواضع المعلومة، فليس بملوم في هذا.
والجواب عن الثاني: أنه لم يجعل التاء بدلا من الهمزة ولا له في ذلك نص ولا ظاهر إطلاق وإنما قال: "وشذ في ذي الهمزة"، يعني أن الإبدال المذكور شاذ فيما فاؤه همزة، ولا شك أن الإبدال المذكور هو إبدال التاء من الواو والياء، فإذا لم يحصل عنده الإبدال من الهمز البتة وإنما كلامه يقتضى ما نص عليه في التسهيل كأنه يقول: ما أصله الهمز شذ فيه إبدال الواو والياء تاء. وهذا بلا شك يعطى أن الواو والياء هي المبدلة تاء، ويشعر أن أصلهما الهمز، فصار معني الكلام معنى قوله: وقد تبدل التاء منهما وأصلهما الهمز. فلم يكن في كلامه إشكال.
والجواب عن الثالث: أنه أطلق القول في ذي اللين علما بأن الألف لا تكون ههنا فتبدل تاء، لأن الألف لا تكون أصلا بنفسها ولاسيما في موضع الفاء، وإنما تكون منقلبة عن واو أو ياء، فاتكل على علم الناظر
في نظمه بهذه القاعدة، فلم يحتج إلى تقريرها، وكان قوله:"ذو اللين" أخصر من أن يقول الواو والياء حكمهما كذا. وهذا ظاهر.
والجواب عن الرابع أن يقال: لعله لم يحفظ اتهل، فأتى بمثال على أصله من الهمزبين به النوع الذي شذ فيه الإبدال كأنه قال: وشذ الإبدال فيما كان فاؤه همزة نحو كذا. فإنما مثل في الحقيقة نوع ما شذ فيه الإبدال، فالمثال على هذا التقدير مطابق.
وقد تقرر له هنا أن التاء تبدل من حرفين في الحقيقة، من الواو والياء، وترك إبدالها من غير ذلك لشذوذه، فقد أبدلت من خمسة أحرف سوى ما أشار إليه من إبدالها من الهمزة، فهي في الحقيقة مبدلة من ستة أحرف:
أحدها: السين، فقالوا: ست، وأصله: سدس، بدليل أسداس، وسديس، والتسديس. ولكنهم قلبوا السين الثانية تاء لتقرب من الدال التي قبلها وهي مع ذلك حرف مهموس، كما أن السين مهموسة، فصار التقدير "سدت"، فلما اجتمعت الدال والتاء وتقاربا في المخرج أبدلوا الدال تاء لاجتماعهما في الهمس، ثم أدغمت التاء في التاء، فصار:"ست". ومن ذلك ما أنشده أحمد بن يحيى:
يا قاتل الله بني السعلاة
…
عمرو بن يربوع شرار النات
غير أعفاء ولا أكيات
…
أراد: الناس، وأكياس، فأبدلوا السين تاء لاتفاقهما في الهمس والزيادة وتقارب المخرج.
والثاني: الصاد، قال بعضهم في لص: لصت، وفي جمعه: لصوت أنشد ابن جنى:
/فتركن نهدا عيلا أبناؤها
…
وبنى كنانة كاللصوت المرد
والثالث بالطاء، قالوا في فسطاط، فستاط، قال ابن جنى:"التاء فيه بدل من الطاء لقولهم في جمعه فساطيط، ولم يقولوا: فساتيط". فالتاء إذا بدل من الطاء لا محالة.
والرابع: الدال، قالوا: ناقة تربوت، وأصلها: دربوت، وهي فعلوت من الدربة، أي: هي مذللة، فالتاء بدل من الدال.
والخامس: الياء، قال رجل من بني عوف بن سعد:
صفقة ذي ذعالت شمل
…
وهو يريد الذعالب. وهذه كلها شواذ.
ثم أخذ يذكر حكم الحرف وهو الطاء، والثالث وهو الدال فقال:
طاتا افتعال رد إثر مطبق
…
في ادان وازدد وادكرد الأبقى
طا: منصوب على المفعول الثاني لرد، والأول قوله: تا افتعال. وتعدى رد لاثنين لأن معناه معنى صير في هذا الموضع. وإثر مطبق: ظرف ويعني أن التاء تبدل طاء إذا اجتمع لها شرطان:
أحدهما: أن تكون التاء هي التاء الزائدة في بناء الافتعال، يريد: وما تصرف منه. وهذا الشرط يشتمل على شرطين، الأول: أن تكون التاء مع الحرف المطبق في كلمة واحدة، وذلك بان يكون المطبق فاء الافتعال لتقع بعده التاء، فلو كانا في كلمتين لبقي كل واحد منهما على أصله، قال المازني:"وإن كانت التاء منفصلة لم يفعل ذلك نحو: قبض تلك، وغلظ تلك" يريد لا تقول قبض طلك، ولا غلظ طلك، كما تقول: اضطرب واظطهر، لأن للمنفصل نحوا ليس للمتصل، إذا المنفصل غير لازم فلم يعتبر؛ إذا لا يلزم أن يجئ بعد الضاد أو الظاء فيه تاء، لأنك تقول: قبض خالدا، وغلظ هذا، وما أشبه ذلك. والثاني: أن تكون التاء تاء الافتعال لا غيرها، فإنها إن كانت غيرها لم تقلب التاء طاء وإن وقعت إثر مطبق، فتقول: فحصت برجلي، وخبطت ونهضت، ولفظت. فلا
تقلب التاء طاء. هذا هو الأعرف، لأن التاء في الحقيقة من كلمة أخرى وإن كانت متصلة بالكلمة وفي عداد الجزء منها، لكنها ليست كالمتصل الأصلي. وإلى معنى الاتصال يرجع هذا أيضا، ولأجل ذلك أتى الناظم بمثال الافتعال؛ إذ لا يتأتى أن تأتى التاء في الغالب إثر مطبق إلا فيه، فلذلك خص به هذا الحكم، وقد قالوا: فحصط، وخبط ونهضط، وهي لغة قليلة لبعض العرب، قال سيبويه:"وقد شبه بعض العرب ممن ترتضى عربيته هذه الحروف الأربعة: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء في فعلت، بهن في افتعل، لأنه يبنى الفعل على التاء ويغير الفعل فتسكن اللام كما تسكن الفاء في افتعل، ولم يترك الفعل على حاله في الإظهار، فضارعت عندهم افتعل، وذلك قولهم: فحصط برجلي، وحصط عنه، وخبطه، وحفظه .. " قال: "وسمعناهم ينشدون هذا البيت، (وهو) لعلقمة بن عبدة:
وفي كل حى خبط بنعمة
…
فحق لشأس من نداك ذنوب
/ووجه ذلك ما ذكره سيبويه من اتصال الفاعل بالفعل وجعله معه كالجزء حتى غير له آخره بالتسكين لئلا تتوالى أربع متحركات نحو: ضربت وخرجت، ولم يفعلوا ذلك في ضمير المنصوب نحو: ضربنا، إذ ليس الضمير هنالك مع الفعل كالجزء فلم يعتبر معه توالى الحركات فلما كان كذلك شبهوا التاء بما هي فيه من نفس البنية، وذلك افتعل، فأبدلوا
التاء كما أبدلوها في افتعل، لكن هذه لغة قليلة وقياسها ضعيف، من حيث عوما المنفصل معاملة المتصل، فلذلك لم يبن عليها الناظم واشترط الاتصال المحض، قال سيبويه:"وأعرف اللغتين وأجود ألا تقلبها طاء، لأن هذه التاء علامة الإضمار، وإنما تجئ لمعنى، وليست تلزم هذه التاء الفعل، ألا ترى أنك إذا أضمرت غائبا قلت: فعل، فلم تكن فيه تاء، وليست في الإظهار. فإنما تصرف فعل على هذه المعاني، وليست تثبت على حال واحد، وهي في افتعل لم تدخل على أنها تخرج منه لمعنى ثم تعود لآخر، ولكنه بناء دخلته زيادة لا تفارقه، وتاء الإضمار بمنزلة المنفصل".
والشرط الثاني: أن تكون التاء إثر مطبق، وهو على حذف الموصوف، أي: إثر حرف مطبق، والمطبق: ذو الإطباق، وهو من الحروف أربعة: الصاد والضاد، والطاء والظاء ومعنى الإطباق: أنك إذا وضعت لسانك في مواضع هذه الحروف انطبق لسانك من مواضعهن إلى ما حاذى الحنك الأعلى من اللسان ترفعه إلى الحنك، فإذا وضعت لسانك فالصوت محصور فيما بين اللسان والحنك إلى موضع الحروف. وما عدا هذه الحروف فإنما يحضر الصوت إذا وضعت لسانك في مواضعهن. قال سيبويه:"فهذه الأربعة لها موضعان من اللسان". (و) يعني أن الطاء لها موضع الدال وموضع آخر
هو المفسر بالإطباق، وهو فضل صوت الطاء على الدال، ولذلك قال سيبويه: "ولولا الإطباق لصارت الطائف دالا: والصاد سينا، والظاء ذالا، ولخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس من موضعها غيرها وما عدا هذه الأربعة هي المنفتحة.
فإذا تقرر هذا فنقول: إذا كانت التاء قد وقعت إثر حرف مطبق لزم ذلك الحكم من الإبدال، فإن لم يكن قبلها حرف مطبق لم تبدل طاء نحو: اقترب، واغترب، واعتزل، واختصهم، ونحوه. ومثال ما اجتمع فيه الشرطان قولك في الصاد: اصطبر واصطرف. وفي الضاد: اضطرب، واضطجر. وفي الطاء: اطلع واطبع. وفي الظاء: اظعن، واظطلم. وينشد بيت زهير، أنشد بعضه سيبويه:
هو الجواد الذي يعطيك نائله
…
عفوا ويظلم أحيانا فيظطلم
هكذا بالإبدال دون إدغام.
والمضارع من هذا والأمر، واسم الفاعل و (اسم) المفعول وغيرها، على حكم واحد، فقد أطلق لفظ الافتعال الذي هو الأصل للجميع، وهو المصدر.
ووجه ما فعلوا من/ هذا أن قصدهم بذلك التقريب بين الحروف التي فيها تقارب وتباعد من جهتين، وذلك أن التاء تقارب حروف الإطباق في المخرج، ولذلك أدغمت التاء في جميعها نحو:(هدمت صوامع)، وضربت ضربة، وجاءت طالبة، وضربت ظالمة. وهي تباعدها في أنها الا إطباق فيهان مع أن الصاد والضاد لا يدغمان فيها، فكرهوا ذلك التباعد مع امتناع الإدغام في البعض بإطلاق، وامتناعه هنا في الثاني. وذلك أنهم كرهوا أن يذهبوا بالإطباق هنا لأنهما في كلمة واحدة مع أن التاء زائدة لو قالوا: متلع في مطلع، الذي أصله: مطتلع، فكرهوا أن يغلب الزائد في ذلك الأصلي، ولذلك أجازوا (في) مثترد قلب الثاني للأول، وكرهوا أيضا إبقاء الإطباق فيلزموا الإطباق حرفا ليس أصله ذلك. وليس حكم ما هو من كلمتين كذلك، لأنه عارض قليل، فأرادوا أن يقلبوا التاء حرفا من مخرجها موافقا لها في الشدة موافقا لتلك في الإطباق، وهو الطاء، فقالوا: مصطبر من الصبر، ومضطرب من الضرب، ومظطلم من الظلم ومطلب من الطلب، فلزم الإدغام في هذا الأخير لاجتماع المثلين والأول منهما ساكن.
فإن قيل: ولعل القلب هنا للإدغام لا لمقاربة الحرفين.
فالجواب: أنه لو كان كذلك لجاز متلب كما جاز مترد في مثترد، هذا مع أنه لذا لزم قلب التاء طاء من أجل هذه الحروف التي ليست من
مخرجها لتقارب ما بينها للمباعدة التي بينهما في الإطباق، فأن تقلب مع الطاء طاء أحرى بذلك وأقرب.
فإن قيل: ظاهر كلام الناظم أن الإبدال طاء هنا لازم، على عادته في إطلاق مثل هذه العبارة، يريد بها الوجوب، لأنه قال:"طاتا افتعال رد" فيظهر أنه حكم واحد يمتنع خلافه. وليس كذلك؛ إذ يجوز في التاء مع هذه الحروف الإبدال الذي عين وإبدال آخر:
فأما مع الصاد فتبدلها صادا فتقول ي مصطبر: مصبر، قال سيبويه: "وحدثنا هارون أن بعضهم قرأ: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا} . أراد أن يصطلحا. وهي قراءة عاصم الجحدري، ولا يجوز هنا أن يبدل الصاد طاء فتقول: مطبر، لان الصاد لا تدعم فيما ليس من مخرجها لما فيها من امتداد الصوت الصفيري.
وأما مع الضاد فيجوز أن تبدلها ضادا فتقول في مضطجع: مضجع، كما يجوز هنا أن تبدل الضاد طاء فتقول مطجع. وجاز هنا مطجع وإن لم يجز في مصطبر مطبر، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد من جهة أن الصغير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد.
وأما مع الظاء فيجوز إبدالها ظاء فتقول في مضطلم: مظلم، كما قالوا: مصبر، وكما جاز أيضا أن تبدل الظاء طاء فتقول: مطلم وينشد بن بيت زهير:
ويظلم أحياناً فيطلم
…
بقلب الظاء طاء، وعليه أنشده سيبويه. ويروى فيظلم، بقلب التاء ظاء.
وأما مع الطاء فليس إلا وجه واحد.
فترك الناظم هذا كله مع جوازه وشهرته، وقد ذكر ذلك في التسهيل فحصل المسألة تحصيلا حسنا. هذا وجه من النظر/ في كلامه.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذه الوجوه المذكورة لا تعد في رتبة ما ذكر، وإنما هي قليلة فلم يذكرها لذلك.
والثاني- وهو المعتمد في الجواب-: أن هذه الإبدال إنما هو ثان عما ذكره، فالتاء تبدل طاء على ما تقدم ثم تبدل بعد ذلك. وأيضا أذا أبدلت بعد ذلك فللإدغام لا لمجرد البدل خاصة. ولذلك إذا قرر النحويون مثل ما قرر الناظم قالوا: فمن أراد الإدغام للقرب في المخرج والاتفاق في الإطباق لا قبل ذلك؛ إذ التاء- إذا كانت على أصلها- بعيدة من حروف الإطباق فلم تكن لتدغم فيها إدغام المقارب مع التباعد، ولذلك لا تدغم فيهما الصاد والضاد كما تقدم. وإذا كان كذلك لم يكن بد من تقديم إبدال الطاء، ثم بعد ذلك يتقارب الحرفان، فمن شاء الإدغام أدغم، فيقلب الأول للثاني، أو بالعكس، ولأجل هذا قال في التسهيل بعدما قرر الإبدال المذكور: "وتدغم في
بدلها"- يعني في بدل التاء- الظاء والذال والضاد". ويريد أنك تقول: اطلم، واطجع وادكر. على أنه قد قال:"وقد تجعل- يعني التاء- مثل ما قبلها من ظاء أو ذال أو ضاد أو حرف صغير". وليس الكلام هنا في التسهيل، وإنما أتيت بكلامه تأنيسا بما قاله غيره.
ثم قال: "في ادان وازدد وادكر دالا بقى". الضمير في "بقى" عائد إلى التاء المتقدم الذكر، وهو التاء في الافتعال، فيعنى أن التاء المذكورة تبدل دالا في نحو هذه الأمثلة التي هي: ادان، وازدد، وادكر. وهذه الأمثلة أشارت إلى أن موجب الإبدال فيها تقدم الدال والزاي أو الذال على تاء الافتعال، لأن ادان افتعل من الدين:
أصله: ادتان، وازدد: افتعل من الزيادة، أصله: ازتد. وادكر: افتعل من الذكر، أصله: اذتكر. وقد حصل من هذا الكلام اشتراط شرطين:
أحدهما: أن تقع التاء بعد أحد ثلاثة أحرف، وهي: الدال، والزاي، والذال. فإن وقعت بعد غيرها لم تنقلب دالا، فلا تقول في استلم: اسدلم، ولا في اثترد: اتدرد ولا اظطلم: اظدلم، ولا ما أشبه ذلك، وإن كانت السين
مع الزاي من مخرج واحد والثاء والظاء مع الذال كذلك. وقد أبدلت بعد الجيم لكن قليلا فلذلك لم يذكرها مع الثلاثة كقولهم: اجدمعوا في اجتمعوا. واجدز في اجتز، من جززت، أنشد الكسائي، ونسبه الجوهري ليزيد بن الطثرية، ويقال: بل هو لمضرس:
فقلت لصاحبي: لا تحبسانا
…
بنزع أصوله، واجدز شيحا
والثاني: أن تكون التاء تاء الافتعال. ويلزم من ذلك أن تكون التاء متصلة بالزاي أو الدال من كلمة واحدة، فإن كانتا من كلمتين لم يجز ذلك، فلا تقول في أحرز تالدا: أحرز دالدا. ولا في انبذ تالدا: انبذ دالدا. ولا ما أشبه ذلك وعلى ذلك أيضا لا تقول في حززت: حززد، ولا في حددت: حدد، ولا في نبذت: نبد. وإن لم تكن تاء افتعل لم تبدل أيضا إلا أن يشذ من ذلك شيء نحو: دولج في تولج فإذا توفر الشرطان/ قلت: ادان، من الدين، افتعل منه وازداد، كذا، وادكر، كذا: ادعى من الدعوى، وادرى، من الدراية، قال:
وماذا يدرى الشعراء مني
…
وقد جاوزت حد الأربعين؟ !
وفي القرآن الكريم: {وادكر بعد أمة} ، وفيه:{فهل من مدكر} . وفيه: {وازدادوا تسعا} . وهو كثير.
ثم في ادكر في هذه المثل فائدة زائدة على ما تقدم من الاشتراط، وهي أنه أتى بالذال مدغمة في الذال، وذلك أن الأصل كان أن يؤتى بها غير مدغمة فيها فيقول واذدكر، لأن الإدغام ليس من شأنه في هذه المسألة كما لم يذكره في اطلم، واصبر، واطجع. وهم قد أجازوا اذدكر، فكيف يأتى به مدغما؟ قال ابن جنى: قال لي أبو علي: وأجاز بعضهم: اذدكر، لأن تاء افتعل لا يلزم أن يجيء قبلها ذال أبدل، فأشبهت اقتتلوا في البيان. يقول: كما أظهروا اقتتلوا مع تحرك التاءين، لأنه لا يلزم أن يكونن بعد تاء افتعل تاء أخرى نحو: احتلم واغتلم كذلك حال اذدكر، فقلبوا التاء دالا للتقريب، ولم يدغموا، لأنه لا يلزم أن يكون قبل التاء ذال نحو: استلم وابتسم". وحكى المازني:
"اذدكر فهو مذدكر"، قال أبو حكاك:
والهرم تذريه اذدراء عجبا
…
فإذا كان هكذا فكان من حقه أن يقول: واذدكر. لكن قصد الناظم أن يذكر ما هو الأشهر في الكلام والمعتد في اللغات، ولا شك أن (ما) مثل به من الإدغام هو الوجه الأفصح، وهي لغة القرآن، وقد نص النحويون على أنها الأولى، وإذا كان أشهر من غيره مع حصول المقصود من الإبدال دالا كما تقدم كان اقتصاره على ما اقتصر عليه على ما ينبغي، ووجه ما عملوا من هذا أن الزاي لما كانت حرفا مجهورا (و) كانت التاء مهموسة، والدال أخت التاء في المخرج وأخت الزاي في الجهر، قربوا بعض الصوت من بعض، فأبدلوا من التاء أشبه الحروف من موضعها بالزاي، وهي الدال، فقالوا: ازدجر وكذلك الذال في اذتكر مجهروة، والتاء مهموسة، فأبدلوا التاء دالا لأنها أختها وأخت الذال في الجهر، فقالوا: اذدكر، ثم أبدلوا للإدغام فقالوا: ادكر.
وأما ادان فقد يقال: إن الإبدال فيه للإدغام فكيف يدخله في هذا الباب ويجاب عنه بما تقدم في مطلب من أنه لو كان الإبدال للإدغام لقالوا: اتان في ادان، وقد حصل أن الدال إنما تبدل من التاء خاصة.
وههنا انتهى ما قصد ذكره من الإبدال القياسي، وماتبعه من غير القياسي.
ثم شرع في الكلام على الإعلال بالحذف فقال:
فصل
فا أمر او مضارع من كوعد
…
احذف، وفي كعدة ذاك اطرد
فا أمر أصله: فاء أمر، لكنه حذف إحدى الهمزتين كراهية اجتماعهما وإن كانتا من كلمتين، والمحذوفة هي الثانية في القياس عند طائفة، لأنها التي وقع بها الثقل، والأولى عند طائفة، وهو مثل قراءة أبي عمرو:(جا أمرنا)، و (جا أشراطها).
وفا: منصوب باحذف. وقوله: "من كوعد"، الكاف فيه اسم لدخول حرف/ الجر عليها وهو من، فصار مثل قوله، أنشد: سيبويه:
وصاليات ككما يؤثفين
…
واعلم أن الإعلال بالحذف قليل، ولذلك لا تجده مطردا. إلا في مواضع قليلة، وإنما الغالب وقفه على السماع، إذ لم يكثر كثرة يسوغ
فيها القياس، وأكثر ما تجده في اللام نحو: أخ، وأب، ويد، ودم، وشاة، وشفة، وأمة ويقل في الفاء نحو: رقة، وعدة، وزنة، وجهة. وأقل من ذلك الحذف في العين نحو سه، وشاك، ولاث، وهار، أصله: سته، وشائك، ولائث، وهائر، وكذلك: مذ، أصله: منذ. وأكثر الحروف حذفا حروف اللين الثلاثة، والهمزة، والهاء، والحرف المتصل بمثله. فالألف نحو: علام تفعل؟ والياء نحو: أصاب الناس جهد، ولو تر ما الصبيان؟ والواو نحو عدة وزنة، والهمزة نحو: ترى، ويرى، وأكرم، وبراء في براء، والهاء نحو: شفة، وشاة واست، والحرف المتصل بمثله نحو: ظلت في ظللت، وأحست في أحسست.
ولما كان (هذا) الحذف على قسمين، حذف قياسي، (وحذف غير قياسي)، وكان غير القياسي موقوفا على النقل، إنما يتلقى من أهل اللغة، وإنما يتكلم عليه النحوى من حيث التوجيه أو بالعرض، والقياسي هو الذي يعنيه الكلام، تعرض الناظم للكلام على القياسي منه وترك غيره، إلا ما كان له كثرة ما وشهرة، وربنا قيل في مثله بالقياس. وجملة المواضع القياسية في الحذف على ما ذكره هو في التسهيل وغيره حذف فاء المضارع والأمر من نحو ود، وحذفها من المصدر الذي على فعله منه أيضا. وحذف همزة أفعل من المضارع والجاري عليه. وهذه ثلاثة مواضع نص هنا عليها، ورابع تكلم عليه في هذا النظم في باب الوقف، وهو حذف ألف ما الاستفهامية. وهذا في الحقيقة سماع، لكنه مضبوط بقانون مختص به. وزاد في التسهيل حذف عين فيعلولة،
وزاد غيره حذف عين فيعلان وفيعل، وجعله في التسهيل محفوظا. فإذا إنما ترك مما ذكره في التسهيل فيعلولة خاصة، وهو قليل الاستعمال ليس من جلائل المهمات في العربية ذكره، فتركه، وكان أولى منه فيعل لكثرته ودورانه على السنة لو كان عنده قياسا. أما ما يجرى مجرى المقيس فظلت وقرن، وسيذكرهما الناظم
ولنرجع إلى لفظه، فقوله:"فا أمر أو مضارع" .. إلى آخره، يعني ان الفعل المضارع وفعل الأمر إذا كانا من الأفعال التي ماضيها من نحو: وعد، حذفت فيهما الفاء وجوبا، وذلك نحو: يعد وعد، ويزن وزن، ويرد ورد، لأنها من وعد ووزن وورد. وكذلك: يسم وسم. أصلها: يوعد واوعد، ويوزن واوزن، وكذلك سائرها، لكن حذفت الواو في الأصل مع الياء التي للمضارعة استثقالا لوقوعها في فعل بين ياء مفتوحة وكسرة إذا قلت: يوعد. أما وقوعها في الفعل فهو ثقيل والاسم أخف منه، ووقوعها بين الياء والكسرة لتجانسهما ومنافرة الواو لهما/ والياء مفتوحة، والفتحة من الألف، والألف قريبة من الياء، ولذلك رجعت الواو إلى الياء إذا وقعت بعد الألف في مصدر الفعل المعل نحو: حالت حيالا، وقامت قياما، وصحت في مثل العوض والحول، كما تقدم قبل ذلك، فصارت هذه الأشياء مظنة للاستثقال عند بقاء الواو، فحذفت، وهذه هي العلة. ثم حمل المضارع ذو الهمزة أو النون أو التاء على ذي الياء وإن لم يكن هناك ياء مفتوحة، لأنهم لو قالوا: أنت توعد، وهو يعد، لاختلف المضارع، فكان
يكون تارة بواو، وتارة دونها، فحافظوا على المجانسة في الفعل ليجرى على أسلوب واحد في أنواع مصرفاته. ومثله حذف همزة يكرم وأكرم الآتى إثر هذا. ثم حمل الأمر على المضارع في هذا الحكم لأنه يجرى عليه في غالب أحكامه لكن هذا الحكم لا يكون إلا بوجود الأوصاف التي نبه عليها بالمثال حيث قال:"من كوعد" فإذا كان المضارع والأمر من الماضي الذي على هذا الوصف ثبت الحكم وإلا فلا يثبت، وجملة الأوصاف التي اشتمل عليها هذا الفعل أربعة:
أحدها: أن يكون ثلاثيا لا رباعيا ولا ما فوق ذلك، فإنه إن كان رباعيا أو فوق ذلك ثبتت الواو، فإذا كان الماضي على أفعل نحو: أوعد، قلت في المضارع: يوعد، وفي أورث: يورث. وكذلك الأمر تقول: أوعد وأورث، ونحو ذلك، فلا تحذف البتة، ووجه ذلك وجهان:
أحدهما: أن يوعد أصله: يؤوعد مثل يؤكرم، فلما حذفوا الهمزة للعلة التي تذكر بعد إن شاء الله- تعالى- أرادوا ألا يجمعوا على الكلمة حذف الفاء وحذف الهمزة الأولى، بخلاف يعد فإنه لم يحذف منه شيء، فجاز الحذف منه.
والثاني: أن مضارع ما زاد على الثلاثة على طريق (واحد) لا يتغير، وليس كذلك مضارع فعل، لأن بابه أن يجيء على يفعل وعلى يفعل وعلى يفعل مع حرف الحلق، فلما لم يلتزم فيه يفعل كان هذا تغييرا حاملا على تغيير آخر، وقد كثر في كلامهم (وجود) التغيير حيث تغيير آخر غيره، كحذفهم ياء فعيلة وفعيلة في النسب باطراد للزوم حذف الهاء، فإذا كانت الكلمة بغير هاء لم تحذف إلا شذوذا وليس بينهما في الثقل زيادة. قال ابن الضائع: ولهذا صار
النحويون يقولون: التغيير يأنس بالتغيير قال: وهو صحيح بالنظر إلى هذا المعنى، ولهذا لم يغير عند سيبويه يوضؤ، لأنهم كرهوا حذفه، لأنه يجئ على طريقة واحدة لا تتغير، ولم يغيروه إلى يفعل لأنه لا يكون مضارعا له كما يكون لفعل. وعلى اعتبار هذا الشرط لو بنيت من الوعد مثل دحرج فقلت وعدد، ثم بنيت المضارع منه لقلت: يوعدد، وفي وزنن: يوزنن. ولا تقول: يعدد، ولا: يزنن- وإن وقعت الواو بين ياء وكسرة- لأمرين، أحدهما: ضم الياء وقد تقدم أن الفتحة لها تأثير ما في الحذف. والثاني: أنك لو حذفت لزال الغرض/ المطلوب من الإلحاق؛ إذ صارت الواو في مقابلة الدال من يدحرج، فلم يكونوا ليخلوا بما قصدوا من الإلحاق. وهذا كما قاله ابن جنى في بناء مثل دحرج من الأخذ إذ تقول في المضارع: يؤخذذ، ولا تحذف الهمزة كما تحذفها في يؤكرم فتقول: يكرم.
والثاني: أن تكون فاؤه واوا كما تقدم تمثيله، تحرزا من أن تكون همزة أو ياءا. أما إن كانت همزة فلا تحذفها وإن وقعت بين ياء وكسرة أو لم تقع كذلك، فتقول في مضارع أخذ: يأخذ، وفي مضارع أبق: يأبق. ولا تقول: يخذ، ولا: يبق وكذلك الأمر، فتقول في الأمر من أبق: ايبق، ومن الأمن: ايمن، ومن أفل يأفل: اوفل يا بدر. وكذلك ما أشبهه. إلا أنه شذ من هذا ثلاثة من أفعال الأمر، وهي: خذ، وكل،
ومر، (مع أن المضارع لم تحذف منه، وإنما تقول: يأخذ، ويأكل، ويأمر، فكان الأصل فيها: اؤخذ واؤكل واؤمر) فالتزموا حذف الهمزة التي هي فاء، وسقطت ألف الوصل حين وليها المتحرك. إذا بدأت بها أو وصلتها بغير الواو والفاء، فإن وصلتها بهما فل في مر وجهان: الأثبات، فتقول: وأمر، فأمر- وهو أجود- ولك أن تقول: فمر ومر. وأما خذ وكل فإنما تتركها على حالها من الحذف وهذا شاذ لا يقاس عليه غيره، قال في التسهيل: إلا في الشعر لمكان الضرورة. كقوله:
فإن نحن لم ننهض لكم فنبيركم
…
فتونا فقودونا إذا بالخزائم
وأما إن كانت الفاء ياء فكذلك أيضا لا تحذفها وإن وقعت بين ياء وكسرة، نحو: يعر ييعر. (يسر ييسر، وينع يينع. وذلك لأن الياء أخف عليهم من الواو لقربها من الألف، والواو ليست كذلك، لأنها تحتاج في إخراجها إلى تحريك شفتيك قال سيبويه: فجرى ذلك مجرى تحريم بعض جسدك، والياء مخرجها من وسط الفم والعمل فيها أخفى، وقد جاء فيها الحذف شاذا، حكى سيبويه شذوذا: يئس يئس كيعد، وبها شبهها سيبويه.
والثالث: أن يكون (المضارع) على يفعل- بكسر العين- لأنه إذا كان كذلك تمكن العلة المذكورة، من وقوع الواو بين ياء وكسرة. فلو كان المضارع على يفعل أصلا غير محول لم تحذف. فتقول في مضارع وجل: يوجل. وفي مضارع وحل: يوحل، ولا تحذف. وكذلك إن كان (علي) يفعل- بضم العين- نحو: وضئ يوضؤ، ووقح يوقح؛ قال ابن جني:"سألت أبا علي وقت القراءة عليه فقلت: هلا حذفت الواو من يوطؤ ويوضؤ لوقوعها بين ياء وضمة، على أن الضمة أثقل من الكسرة؟ فقال: إنما جاء هذا تاما ولم تحذف واوه لان باب فعل لا يأتى مضارعه إلا على بناء واحد وهو يفعل، نحو: ظرف يظرف، وشرف يشرف. وما كان على فعل فإن مضارعه يختلف نحو: ضرب يضرب، وقتل يقتل، وسأل يسأل، فلما كان مضارعا مضارع فعل يختلف جاز فيه حذف الواو: نحو: يعد، ولما كان مضارع فعل لا يجئ إلا على يفعل لم تحذف واوه لئلا يختلف". قال: "وقد لوح أبو عثمان إلى هذا المعنى بقوله: فهذا يجرى مجرى ظرف/، أي: لا يختلف كما لا يختلف ظرف يظرف (ووطؤ، يوطؤ) وشرف يشرف، ولكنه لم يخلصه تخليص أبي علي"، قال:"ولمثل هذه المواضع يحتاج مع الكتب إلى الأستاذين". انتهى كلام ابن جني.
"ولمثل هذه المواضع يحتاج مع الكتب إلى الأستاذين". انتهى كلام ابن جنى
وزعم ابن عصفور أنه (إنما) لم يحذف يوضؤ ويوطؤ لأن الواو بين ياء وضمة أخف. قال ابن الضائع: وليس كذلك، بل يوضؤ أثقل من يوعد، لو قيل. قال وإنما سببه ما تقدم، وبه علل سيبويه. يعني ما ذكرته عن ابن جنى والفارسي. وقد شذ من هذا قولهم: يجد، في مضارع وجد، فحذفوا فاءه مع كونه على بفعل، (وهي) لغة عامرية، وعليها جاء قول لبيد العامري:
لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة
…
تدع الصوادي لا يجدن غليلا
وكأنهم حملوا هذه اللغة على اللغة الفصحى في الحذف. قال الفارسي في التذكرة: لم يجز أن تصح الواو في يجد كما صحت في يوضؤ، لأن الضم لا يلزم لقولهم: يجد، فإذا كانوا لم يصححوا الواو في يطأ ويسع كما صححوها في يوجل، لأن الفتحة مجتلبة من أجل حرف الحلق، وإن كانوا لم يستعملوا الكسر كما استعملوا الكسر من يعد، فألا يصح من يجد مع استعمالهم نجد أجدر وأولى.
ثم أن هذا الكسر في المضارع تارة (يكون) ملفوظا به، وتارة يكون مقدرا، فا لملفوظ به نحو ما تقدم، والمقدر هو الذي يكون في الأصل كذلك، إلا أنه فتح لعارض اقتضى ذلك، كقولك: بطأ ويسع أصله يوطئ ويوسع، فوقع الإعلال بحذف الواو، ثم فتح لأجل حرف الحلق فقيل: بطأ ويسع، ودليل ذلك أنه لو كان على يفعل في الأصل لم تحذف منه الواو، بل كنت تقول: يوطأ ويوسع، كما قلت: يوجل ويوحل.
فإن قيل: إن الماضي منه على فعل، وليس قياسه إلا يفعل فكيف يكون الأصل هنا يفعل؟
فالجواب: أن الخليل جعل هذا مما جاء من المعل على فعل يفعل نحو: ومق يمق، ووثق يثق، وورم يرم، وورث يرث، ووله يله، ووفق يفق، ووحر يحر، ووغر يغر ويوغر- ويوحر أيضا- ووغم يغم ويوغم. فهذا مما يؤنس بمجئ فعل على يفعل، لكنه حرف الحلق إذا جاء لاما تفتح له العين، هذا إذا كان الماضي منه فعل، فإن كان فعل فلا إشكال نحو: وضع يضع، ووقع يقع، وودع يدع وأما يذر فمن هذا أيضا لكن حمل على يدع الذي في معناه؛ إذ ليس لفتح عينه علة سوى ذلك، لان لامه ليست بحرف حلقى. وكذلك عينه، كما كان لنحو قرأ يقرأ وذهب يذهب.
والذي يدخل هذا النوع تحت إشارة الناظم أنه أتى بوعد، ولا شك أن مضارعه على يفعل، فكذلك إذا قيل لك: ما وزن يضع/ مضارع وضع؟ فإنك تقول: يفعل لأنك إما أن تجيبه على الأصل أو على اللفظ، واللفظ ليس بمراد لأنه يعل، والأصل يفعل بالكسر، فلابد أن تجيبه على الأصل فقد دخل في معنى مضارع وعد.
والرابع: أن يكون مبنيا للفاعل كوعد، تحرزا من المبنى للمفعول فإنه لا تحذف واوه بل تقول: يوعد ويوزن ويوسم، وذلك لفقد العلة التي لأجلها حذفت في موضع الحذف، وهي وقوع الواو بين ياء وكسرة. قال ابن جنى:"وفيه علة أخرى، وهى أن مضارع فعل لا يكون إلا علي يفعل، فجرى ذلك مجرى شرف في لزوم مضارعة وزنا واحدا، فصحت في يوعد كما صحت في يوطؤ لئلا يختلف الباب". قل "هو منتزع من قول أبي على في يوطؤ ويوضؤ".
فإن قيل: قد زعم النحاة أن فعل المفعول ثان عن فعل الفاعل ومغير منه، ولذلك جرى على حكمه في مثل سوير وقوول دون إعلال ولا إدغام كما إذا قلت: ساير وبايع، وقد تقدم في نحو يطأ ويسع ويقع ويدع أن الحركة المنتقل إليها عن الأصل لا تراعي، وأن المراعى هو الحركة الأصيلة، فلهذا وجب الحذف، فكان الواجب على قياس هذا كله أن تحذف واو نحو يوعد، لأن الأصل يعد، وهذا التغيير طارئ عارض.
فالجواب: أن كل مضارع من ثلاثي هو فعل مفعول فإنما يكون على يفعل أبدا لا ينكسر، ولما كان منه ما لا يصح أن يجرى فيه هذا الإعلال لخلوه في الأصل عن موجبه، وذلك مضارع فعل وفعل كيوحل ويوجل، ويوضؤ ويوقح، تقول: هذا مكان يوحل فيه ويوقح فيه، وكان البناء واحدا في الجميع، كرهوا اختلافه بالصحة في بعض (و) الإعلال في بعض، فحملوه محملا واحدا، وطردوا فيه حكم الصحة حملا لما فيه موجب الإعلال علي ما فقد فيه، وآثروا مع ذلك التصحيح على الإعلال لأنه الأصل، قاله ابن عصفور، وهو متنزع من تعليل ابن جنى وراجع إلى معناه. وقد شذ من هذا يذر ويدع في يوذر ويودع، قال الفرزدق:
وعض زمان- يا ابن مروان- لم يدع
…
من المال إلا مسحت أو مجلف
يروى بضم ياء يدع، وكان الأصل أن يقال: يودع، من ودع (بمعنى ترك) ووجهه الحمل على فعل الفاعل، كأنه اعتبر أنه أصله وأن بناء المفعول عارض، فأبقى، الإعلال بعد التغيير على حاله قبله.
وثم شرط خامس مأخوذ من تخصيصه هذا الحكم بالفعل؛ إذ مفهوم قوله: "فا أمر أو مضارع" أن فاء غيرهما غير محذوف وإن وقعت الواو فيه كوقوعها في يعد. وهذا صحيح، فإنك لو بنيت مثل يقطين من وعد لقلت: يوعيد،
أو من وزن لقلت: يوزين، أو من ورد لقلت: يوريد. وكذلك ما أشبه ذلك، فالواو فيها واقعة بين ياء وكسرة كما كانت في يعد كذلك، لكنها لما وقعت في الاسم الذي هو أخف من الفعل ثبتت ولم تحذف، وقد تقدم قبل هذا الأشعار بان كونها في الفعل جزء علة، وأيضا فإن التصريف بالحذف وغيره أمكن في الفعل منه في الاسم، فساغ فيه مالا يسوغ في غيره. وإذا ثبتت مع الياء والكسرة كان ثبوتها مع غيرها من الحروف/ الأخر أجدر، وهي الهمزة والنون والتاء، فالهمزة كما إذا بنيت مثل أصبح من الوعد بإنك تقول: أوعد، ومن الوزن: أوزن، أو مثل نرجس فإنك تقول: نوعد ونوزن. وكذلك التوصية والتودية والتوسعة. وهذا ظاهر.
ثم يبقى على الناظم توهم شرط سادس ظاهر من تمثيله، مع أنه غير مراده، وذلك كون الماضي على فعل، بفتح العين، فإنه يوهم أنه يتحرز به من مضارع فعل إن كان على يفعل، فيكون نحو: وثق يثق، شاذا وعلى غير قياس. وليس بصحيح، بل كان ما كان على يفعل- كان ماضيه فعل أو فعل- فالحذف له لارم قياسا، ولا خلاف في هذا أعلمه. وأخذ هذا الشرط أظهر من أخذ كون المضارع على يفعل، لأن هذا بالنص لقوله:"كوعد" وذلك باللزوم، إذا كان مضارع وعد يعد، فهذا من التمثيل الموقع في الإشكال.
ويجاب عنه بأن قصده إلى الأمر والمضارع يدخل له نحو: وثق يثق، وذلك أن المضارع من وعد على يفعل، فقد دخل له ما كان مضارعه من الأفعال على هذا الوزن. وأما كونه على فعل فيدل على إهماله من
كلامه كون المضارع على يفعل؛ فإن فعل المفتوح العين غير مخصوص بيفعل، بل مضارعه يأتي على يفعل وعلى يفعل، فلو كان كون الماضي (على) فعل مشترطا لكان مناقضا لاشتراط كون مضارعه على يفعل. وأيضا لا معنى لاستراط كون الماضي على فعل إذا كان المقصود المضارع والأمر المحمول عليه، فإذا قد ظهر من كلامه سقوط اعتبار هذا المعنى.
ثم قال: "وفي كعدة ذاك اطرد". ذاك: إشارة إلى حذف الفاء، والحذف لم يذكره نصا، وإنما ذكر الفعل المفهوم منه الحذف وهو قوله: احذف". فأشار إلى مدلول عليه كما يعاد الضمير عل مدلول عليه بغيره، كقوله تعالى:{وإن تشكروا يرضه لكم} . ومنه قوله:
إذا نهى السفيه جرى إليه
…
وخالف والسفيه إلى خلاف
وكان "كعدة" اسم أيضا كقوله: "من كوعد"، ويريد أن عدة الذي هو مصدر وعد المذكور وما كان مثله وعلى وزانه يجرى فيه من الحذف المذكور ما جري في فعله.
وقد اشتمل هذا العقد على التنبيه على أوصاف عدة الذي يلزمه ذلك الحكم، وذلك وصفان:
أحدهما: كونه مصدرا، لأن عدة مصدر وعد يعد عدة، فكل ما كان مصدرا مثله فهو مثله في الحذف كقوله: وعد عدة، ووزن زنة، ووسم سمه،
وومق مقة، ووثق ثقة، ووصل صلة، وما أشبه ذلك، كأنهم استثقلوا وعدة ووزنة، فألزموها الحذف. وأيضا إذا كانوا يستثقلون الواو بين ياء وكسرة في الفعل والواو ساكنة، كانوا للواو عند كسرها نفسها أشد استثقالا، فحولوا كسرتها على ما بعدها وألزموها الحذف، لأنهم إن أثبتوها بعد أن سلبوها حركتها احتاجوا إلى ألف الوصل، من حيث كانت ساكنة معرضة للابتداء بها، ولا يبتدأ بساكن. ولو جاءوا بألف الوصل- وهي مكسورة- لزمهم قلب الواء ياء لأحل الكسرة قبلها، فكانوا يقولون ايعدا أو ايعدة، فتجتمع كسرتان بينهما ياء ساكنة، فكان يجتمع ما يستثقلون، فحذفوا لذلك. وأيضا لما كان المصدر قد يعتل لاعتلال/ فعله، كما تقدم في الإقامة والاستقامة، وقيام وصيام، أعل هذا أيضا لاعتلال فعله.
فالجواب عندهم: أن مصادر الثلاثي لما (لم) تلزم طريقة واحدة كمصادر ما زاد على ثلاثة لم يلتزم فيه الإعلال (لاعتلال) فعله، لكنه (إذا) اقترن به ثقل ما وأمكن فيه إعلال لا يلبس أعلوه، كما فعلو في
القيام ونحوه. وكذلك فعلوا في عدة لما كسروا الواو، وهي مستثقلة كما تقدم، أعلوا بإلقاء حركتها على الساكن بعدها وحذفوها، كما حذفوها في الفعل، فقالوا: عدة وزنه، وصار بقاء الكسرة دليلا عليها. فإن لم يكن مصدرا لم يحذف هذا الحذف، وذلك نحو: وجهة من نحو قوله تعالى: {ولكل وجهة هو موليها} ، وهي بمعنى الجهة. وحمله المازني على أنه اسم المكان المتوجه إليه، وعلى ذلك حمله الفارسي في التذكرة والإيضاح، قال في الإيضاح:"ومن جعلها التوجه كان شاذا كشذوذ القصوى والقود ونحو ذلك". قال: "وهذا في المصدر أبعد لإجرائهم إياه مجرى الفعل، والفعل لم يصح في هذا النحو" يعني فكذلك ينبغي ألا يصح المصدر. ومذهب سيبويه- فيما يظهر منه- أنه من المصادر، وأنه جاء شاذا. وعلى هذا أيضا إن جاء الحذف في غير المصدر فشاذ أو مؤول بأنه مصدر في الأصل، وذلك نحو:"الرقة للورق، واللدة على مذهب المؤلف في التسهيل، وذكر غيره أنه مصدر وصف به" والظاهر عدم ذلك بدليل جمعه على لدون، والمصدر الموصوف به بابه ألا يجمع.
والوصف الثاني: كون ذلك المصدر على فعلة- بكسر الفاء ولزوم التاء- كما تقدم من الأمثلة. وقد اشتمل هذا الوزن على ثلاثة أمور:
أحدها: كسر الفاء، تحرزا من أن تكون مفتوحة أو مضمومة، فإن كانت مفتوحة لم يحذف شيء كقولك: وعد وعدا، ووزن وزنا، ووجد وجدا، ووفد وفدا،
ونحو ذلك. وكذلك إن كانت مضمومة نحو: وجد وجدا، من قوله تعالى:{أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} . وقد تقدمت الإشارة إلى اختصاص هذا الحكم بالكسر دون غيره، من استثقالهم الكسر في الواو مع الإعلال في الفعل، وأيضا لما كان للكسر تأثير في الإعلال في الفعل دون الضم أرادوا أن يكون ذلك في المصدر- أيضا- (و) علل سيبويه بأنه إنما فعلوا ذلك بها مكسورة كما يفعل بها في الفعل وبعدها الكسرة، قال:"فبذلك شبهت". فعلى هذا ما جاء من صلة في صلة أصله وصلة، لكنهم أعلوا كما أعلوا في المكسور الفاء، فحمل على اللغة الفاشية. وكذلك ما جاء من نحو: قحة في قحة، وضعة، في ضعة، فإعلالهم الفاء بالحذف ونقل الحركة مع أنه غير مكسور العين شاذ لا يقاس عليه، وهذا على ما ذهب إليه غير المبرد في هذين المصدرين من (أن) الأصل فيهما فعل- بفتح العين- فأعلا، من باب حمل بعض اللغات على بعض، كما قالوا: يجد في يجد، وصلة في/ صلة. وكذلك قولهم: سعة وجعة ونحو ذلك إنما أعل بالحمل على المكسور.
والثاني: لحاق التاء عوضا من ذلك الحذف كما في عدة الممثل به على رأي الجمهور، خلافا لما رآه الفارسي من كونها غير عوض، بدليل
أنها لو كانت عوضا لم تثبت مع المعوض منه في وجهة. وجوابه به ظاهر وذلك لازم فيه كما هو لازم في عدة، فلا يجوز أن يقال: وعد عدا، ولا وزن زنا، كما لا يجوز أن تقول في زنادقة زنادق دون ياء- إلا في الضرورة، لأن الهاء عوض من الياء في زناديق، فحيث لزم الحذف لزم التعويض من غير إشكال نعم، لو دعت ضرورة إلى حذف التاء كما قال الشاعر، أنشده الفراء:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا
…
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
قال سيبويه: "وأما فعلة- إذا كانت مصدرا- فإنهم يحذفون الواو منها كما يحذفونها من فعلها، لأن الكسر يستثقل في الواو". ومضى في التعليل ثم لم تكن الهاء فلا حذف، لأنه ليس عوض". ثم قال بعد ذلك: إن الحذف إنما ثبت في المصدر إذ كان على فعلة، لأنه على عدد يفعل وعلى وزنه، لأن كل واحد منهما أربعة أحرف وثانيهما ساكن، فلما أعلوا ألقوا حركة الواو على ما بعدها، إذ لم يكن قلبها شيء وصارت بمنزلة الهمزة إذا خففت وقبلها ساكن.
والثالث: كون المصدر بزنة الفعل، بمعنى مقابلة المتحرك بالمتحرك، والساكن بالساكن. وهو الذي علل به سيبويه، فلذلك أتى الناظم بما هو على فعلة مما ثانية ساكن وهو على أربعة بالتاء تحرزا من أن يكون الثاني متحركا، أو يكون المصدر مزيدا فيه، فإنه إن تحرك ثانيه كما لو أتى على فعلة لم يعل،
فتقول فيه من الوعد: وعدة، وإن زيد فيه فكذلك أيضا نحو: الوراثة والوفادة (والولادة)، وما أشبه ذلك، فهذا كله مما اعتبره الناظم في هذا الوصف، وهو ظاهر كما رأيت.
ثم في هذا الكلام نظر من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تمثيله بعدة مشكل، لأن عدة مصدر قد حذفت فاؤه، وهو إنما يتكلم في موضع الحذف والاشتراط فيه، فكأنه يقول:"و" فيما كان من المصادر محذوف الفاء اطرد الحذف. وهذا لا حقيقة له، لأنك إذا قلت له: كل ما هو محذوف منه فاحذف منه كان كلاما غير محصل، وأمرا بتحصيل الحاصل. وأيضا فهذا الكلام يصدق على ما كان حذفه بالسماع لا يقاس، فلو ألقيت مكان عدة مثلا رقة لكان الأطراد صادقا، لأن المعنى: كل ما سمع فيه الحذف فالحذف فيه مطرد، (و) لاشك أنه كذلك ولو لو يوجد منه إلا اللفظان أو الثلاثة. فهذه العبارة (غير محصلة)، وكلامه في التسهيل أحسن من هذا حيث قال:"وحمل على ذي الياء أخواته والأمر، والمصدر الكائن على فعل محرك العين بحركة الفاء معوضا منها هاء التأنيث".
والثاني: أن الإشارة بذاك إلى الحذف المتقدم الذكر والحذف المتقدم إنما هو حذف/ فاء المضارع والأمر الموصوفين، فإذا نزلت العبارة على معناها جاء منه أن حذف فاء المضارع والأمر اطرد في المصدر. وهذا خلف، إذ الحذف المخصوص بشيء لا يكون في غيره، ولم
يتقدم له حذف فاء مطلق فتعاد الإشارة إليه، وإنما قال:"فا آمر أو مضارع من كوعد احذف"، فالحذف مضاف إلى فاء الفعلين لا إلى فاء مطلقة. نعم، لو عادت إلى فاء مطلقة لكان الكلام مستقيما، إلا أنه لم يفعل ذلك.
والثالث: أن هذا الإطلاق لم يقيد بقيد، فدل على دخول ما كان من هذه المصادر معتل اللام نحو: شية ودية، فاقتضى أنك تقول: وقى قية، ووهى هية، وونى نية، ووعى عية، ووحي حية، وما أشبه ذلك. وهذا مما ينظر فيه؛ إذ السماع في مثل هذا قليل يلحق بالمحفوظ.
والجواب عن الأول: أن هذه العبارة مفهومة المعنى وإن تجوز فيها، وإنما أراد أن ما كان على فعل فإنه تحذف فاؤه وتلزمه الهاء عوضا، فتقول في وعدة: عدة، فأتى بالمثال تنبيها على غاية العمل فيه، ولم يرد أن ما كان بهذه الغاية فحكمه كذا. فاتكل على فهم المراد من اللفظ. ومثل هذا الكلام مما يجري على ألسنة النحويين كثيرا وإن كان المعنى غير مطابق لحقيقة تنزيل اللفظ، وقد قال المازني في نحو من هذا في المسألة نفسها:"واعلم أن المصدر إذا كان على فعلة فالهاء لازمه". قال ابن جني: "لو قال مكان هذا: واعلم أن المصدر إذا كان على ثلاثة أحرف وفاؤه مكسورة وعينه ساكنه فالهاء لازمة له، لكان أحسن في العبارة". قال: "ولكنه تسامح في اللفظ، وهو من عادة أهل علم العربية، ولهم أشياء كثيرة تحمل على المسامحة، ولكنهم يفعلون هذا لأن أغراضهم مفهومة". قال: "ونظير هذا الذي قاله أبو عثمان في التجوز (قولهم): وكل اسم على فعلول فهو مضموم الأول. ونحن نعلم أنه لا يكون على فعلول إلا وأوله مضموم، لأنا قد لفظنا بالضمة في أول فعلول، والعبارة
المستقيمة في هذا الموضع أن يقال: كل اسم على خمسة أحرف وعينه ساكنة، ولامه مضمومة، وبعدها واو، وبعد الواو لام، أخرى- ففاؤه مضمومة. وهذا المعنى يريدون، ولكنهم يحتصرون". هذا ما قال، وهو مثل ما ذكره الناظم في المسألة حين قصد الاختصار، وكان وجه العبارة ما ذكره في التسهيل، فإذا هذه الطريقة ليست ببدع في النحويين فدخل بهذا الاختصار في سوادهم.
والجواب عن الثاني من وجهين:
أحدهما: أن الإشارة لا تقول إنها للحذف المذكور أولا أو ما دل عليه، بل هي إشارة لما في عدة من العمل، كأنه قال: وفي نحو عدة اطرد هذا العمل الذي تراه، وهو حذف الفاء المكسورة ونقل حركتها إلى ما بعدها، وهو العين، وتعويض الهاء آخرا منها: وترك التنبيه على أصل عدة اتكالا على الشيخ، أو على فها لشادي الفطن؛ إذ هو بالنسبة إلى فهمه قريب.
والثاني: إذا سلمنا أن الإشارة إلى الحذف المفهوم من "أحذف"، فلا يلزم ما قيل، لأن الكلام محمول على معناه، وتقديره/: احذف الفاء في الفعل المضارع والأمر، وهو في المصدر أيضا مطرد. فإنما أضيفت الفاء إلى المضارع والأمر من حيث كونهما محلا للفاء لا من حيث التخصيص المنحتم عليها. ولذلك أظهر ما قصد في المصدر حيث قال: وفي عدة،
فأتى بفي، أي: احذف في هذا وفي هذا، وهذا ظاهر أيضا، ولكن الوجه الأول أولى، لأن فيه تنبيها على التعويض في الهاء، وهذا الوجه الثاني لا يدل على ذلك، فكان ينقصه التنبيه على معنى متأكد.
والجواب عن الثالث: أن عدم استثنائه المعتل اللام موافق لغيره، إذ لم يستثنه غيره، مع أنهم قد قالوا: وداه دية، ووشى الثوب شية. فكذلك نقول في كل مصدر منه أتى على فعل ولا نبالي.
وحذف همز أفعل استمر في
…
مضارع وبنيتي متصف
يعني أن حذف همزة أفعل مطرد إذا بني منه الفعل المضارع والبناءان اللذان للوصف، وهما: مفعل للفاعل، ومفعل للمفعول. وأطلق عليهما لفظ المتصف لأن كل واحد منهما متصف بمعنى ما اشتق منه، مثال ذلك: أكرم، وأخرج، وأعرض، تقول في المضارع منهما: يكرم ويكرم، ويخرج ويخرج، ويعرض ويعرض عنه. فالمضارع شامل لما بني للفاعل أو المفعول. وتقول في وصف الفاعل منهما: مكرم ومخرج (ومعرض. وفي وصف المفعول: مكرم ومخرج) ومعرض عنه. وإنما قال: "وبنيتي متصف"، فثنى ولم يقل: وبنية متصف، وكان للقائل أن يقول: إنه يجزئه ذلك، لأن الفاعل متصف بأنه فعل، والمفعول متصف بأنه فعل به- رفعا للإشكال العارض في ذلك، فإنه لو قال: وبنية متصف، لكان ظاهرا في اسم الفاعل خاصة لأنك إذا أطلقت لفظ
المتصف فهو حقيقة فيمن قام به الوصف، فمكرم يقال فيه: متصف بالإكرام، ولا يقال في مكرم: إنه متصف بالإكرام إلا مجازا، وهو لا يفهم إلا بقرينة، شأن (سائر) المجازات. فلما كان قصده أن يشمل الأمرين معا لم يكن بد من التنبيه على ذلك، فنبه عليه بالتثنية، فلما قال ذلك علم أنه يريد مع اسم الفاعل آمرا أخر، وذلك لا يكون إلا اسم المفعول، إذ يطلق على مكرم: إنه متصف بالإكرام، بمعنى أنه ذو إكرام، أي: محل الإكرام. ومن هذه الجهة ساغ أن تبنى له صيغة المفعول من المصدر، وقد دعاهم تخيل هذا المعنى وهذه الملابسة إلى أن بنوا له بنية الفاعل نحو: عيشة راضية، ونهاره صائم، وليله قائم، أي: مصوم فيه (ومقوم فيه). هذا معناه، لكنهم راعوا فيه مجرد النسبة والإضافة، إذ كان في التقدير ذا كذا. فإذا معنى قوله:"متصف"، أي: ذي وصف، ليشمل الأمرين معا. ولا يخلو مع هذا من مجاز في العبارة، لأن إطلاق المتصف وذي الوصف حقيقة إنما يكون في الفاعل، وهو في المفعول مجاز، فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
ولم يذكر هنا فعل الأمر، لأنه كالماضي لا تحذف همزته، بل تقول: أكرم وأخرج وأعرض، قال:
أرد من الأمور ما ينبغي
…
وما تطيقه وما يستقيم
وكان الأصل: أكرم يؤكرم فهو مؤكرم ومؤكرم، لكنهم حذفوا الهمزة من المضارع لما (كان) يؤدى إثباتها إلى اجتماع الهمزتين إذا قلت: أأكرم أنا، فحذفوها لذلك، ثم حملوا سائر الزوائد في أوله على الهمزة، وإن لم يكن معها موجب للحذف، فقالوا: يكرم ونكرم وتكرم، قصدا للمماثلة بين أصناف التصرفات في المضارع، لئلا يختلف الباب، كما فعلوا حين حذفوا الواو من نعد وتعد وأعد حملا على يعد الذي فيه الموجب، وقد تقدم، ولهذا نظائر، ثم حملوا الصفتين على المضارع لجريانهما عليه فقالوا مكرم ومكرم، وما أشبه ذلك. وقد شذ من هذا شيء فجاء على الأصل، قال الراجز:
فإنه أهل لإن يؤكرما
وقالت ليلى الأخيلية:
تدلت على حص ظماء كأنها
…
كرات غلام في كساء مؤرنب
أي: متخذ من جلود الأرانب. وأنشد سيبويه لخطام المجاشعي:
وصاليات ككما يؤثفين
وهو محتمل أن يكون من ثفيت القدر، فيكون من هذا الشذوذ. وأن يكون من تأنف، كقول النابغة:
وإن تأثفك الأعداء بالرفد
وهو إذ ذاك على القياس، لأن الناظم قال:"وحذف همز أفعل"، فعين أن هذا الحكم إنما هو في الهمزة الزائدة لا في الأصلية. وإذا قلنا: إن يؤثفين من تأثف فالهمزة أصلية لا زائدة، والأصلية لا تحذف، فتقول في السعة: يؤثفين، كما تقول: يسلقين، لأن وزنه: يفعلين. وقالوا أيضا: هذا أديم مؤرطى، فهو يحتمل الشذوذ بجعله على لغة من يقول: أديم مرطى، إذ الهمزة عند هؤلاء زائدة، من أرطيت الأديم: إذا دبغته بالأرطى. ويحتمل الجريان على القياس بجعله على لغة من قال: أديم مأروط وهي الشهري، لأن الهمزة أصلية،
فمؤرطى مفعلى كمسلقى، ووزنه على الأولى مؤفعل وعلى هذا لو بنيت مثل وحرج من الأخذ لقلت: أخذذ، فإن رددته إلى المضارع فقياسه على هذا يؤخذذ، بإثبات الهمزة، ولا يجوز: يخذذ- بحذف الهمزة- كما لو كنت قائلا: يكرم، لأن الفعل ملحق بدحرج فالهمزة أصلية في مقابلة الدال من دحرج. فكما تقول: أدحرج، كذلك تقول: أوخذذ، إلا أنك تبدل الهمزة واوا لاجتماع الهمزتين ولا تحذف، فكذلك في سائر التصرفات.
إلا أن قول الناظم: "في مضارع وبنيتي متصف"، قاصر عن استيفاء مواضع الحذف، فإن اسم المصدر، واسم الزمان والمكان، حكمها حكم اسم الفاعل والمفعول، ولم يذكر ذلك، فأوهم فيها حكم الإثبات، كما ثبت في الأمر تحقيقا؛ إذ لم يذكره في جملة ما تحذف منه الهمزة فكان من الواجب أن ينبه على ذلك.
والجواب: أن ذلك قد دخل له تحت بينتي المتصف، لأن المفعول يطلق ويراد به جميع المفعولات الخمسة: المفعول به، وفيه، وله، والمطلق، فقد تقول: هذا المكان مكرم فيه، وهذا الزمان مخرج فيه، ويقال: ضربك مضروب، . كما يقال: شعرك شاعر. فدخل سائر المفعولات تحت بنية المفعول، لأن كل واحد منها ذو كذا، كما كان المفعول به كذلك. وعبارته هنا تسع هذا التأويل وكذلك عبارته في التسهيل، فإنه لم ينص فيها على المفعول به بخصوصه فيخرج له ما عداه، بل قال:"ومما اطرد حذفه همزة أفعل من مضارعه، واسمى فاعله ومفعوله". فأطلق لفظ المفعول، فدخل له جميع المفعولات على ذلك التفسير.
وقوله: "استمر"، معناه المراد: اطرد، أي: اطرد هذا الحذف في هذه المواضع المذكورة. ومعناه في اللغة: الذهاب، مر الرجل يمر مرا ومرورا، واستمر، أي: ذهب. كأن هذا الحذف يذهب في أفراد الباب فلا يقف دون شيء منها، وهو معنى الاطراد. ويقال: استمر مريره، أي: استحكم عزمه. وهو من ذلك، لأنه يمر فيما عزم عليه لا يقف ولا ينثني. وقالوا: لتجدن فلانا ألوى بعيد المستمر- بفتح الميم الثانية- أي: إنه قوي في الخصومة لا يسأم المراس. وأنشد أبو عبيدة:
وجدتني ألوي بعيد المستمر
…
أحمل ما حملت من خير وشر
***
ظلت وظلت في ظللت استعملا
…
وقرن في اقررن وقرن نقلا
استعملا، ألفه للتثنية، أي: استعمل هذان الوجهان، يريد أن ما كان نحو ظللت وعلى صفته حذفت منه عين الكلمة، وكان فيه بعد ذلك وجهان:
أحدهما: أن تحذفها بحركتها ولا تنقلها إلى ما قبلها، فتقول في ظللت: ظلت. ومنه قوله تعالى: {فظلتم تفكهون} .
والثاني: ألا تحذفها، ولكن تنقلها إلى الفاء فتغلب على حركتها، لأن الحكم للطارئ، فتقول: ظلت، بكسر الظاء، ومنه قراءة أبي حيوة:(فظلتم تفكهون) وكذلك قرأ عبد الله إلا أنه قرأ: (فظلتم تفكنون)، النون مكان الهاء.
وكذلك تقول في مسست: مست ومست.
ووجه هذا أن ظلت ومست ونحوهما أصله: ظلل ومسس، فأعلوه بالإدغام فصار: ظل ومس، فأشبه قام وباع، لسكون العين فيهما، فإذا اتصل بالفعل المعتل ما يوجب تسكين لامه حذفوا حرف العلة لالتقاء الساكنين، فقالوا: قمت وبعت، فشبهوا ظل بقام، فلما اتصل به ما سكن آخره لأجله اجتمع ساكنان، فحذفوا اللام الأولى لالتقاء الساكنين، ولم يحذفوا الأخيرة كما لم يحذفوا الثاني في قام. وأيضا الأولى قد كانت اعتلت بالسكون فضعفت، فمان إعلالها بالحذف أولى.
وعلى طريقة السيرافي كان الأصل ظللت، فكرهوا اجتماع المثلين ولم يمكنهم الإدغام فيحركوا ما لا يتحرك وهو ما قبل الضمير، فحذفوا الأول ولم يحذفوا الآخر، لأنهم لو حذفوه لاحتاجوا إلى تسكين الأول فيزيدوه تغييرا، فكان حذف الأول أولى.
فأما من ترك الفاء على الفتح ولم ينقل إليها فشبهها بلست، لما جاء على غير الأصل تركه على حاله، كما تركت فتحة ليس على حالها لما كانت مخالفة
للأفعال المعلة في اعتلالها وفي تصرفها. ومن كسر الفاء فنقل حركة العين إليها فشبهها بخفت، فأجراها على قياس الأفعال المتصرفة.
واعلم أن تمثيله أحرز شروطا معتبرة، وهي ستة أحدها: كونه فعلا، تحرزا من الاسم، فإنك إن فرضت اسما على فعل لم يقع فيه هذا الإعلال لما سيذكر من العلة.
والثاني: كونه مضاعفا، تحرزا من غير المضاعف، فإن هذا الحكم لا يجري فيه لا مطردا ولا شاذا، فلا تقول في خرجت: خجت، ولا في أعرضت: أعضت. ولا نحو ذلك. وأما المعتل العين فحذف عينه عند إسناده إلى الضمير البارز من باب التقاء الساكنين لا من باب الإعلال التصريفي كما سيأتي بحول الله.
والثالث: كون المحذوف مكسورا؛ إذ مثل بظللت، وهو كذلك، تحرزا من ضمه أو فتحه، فإن كان مفتوحا قلت: مررت، وفررت، وصببت. ولا تقول: مرت، ولا فرت، ولا: صبت. قال تعالى: {ففررت منكم لما خفتكم} ، وقال:{قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} ، مع أنه قال:(فظلتم تفكهون) وكذلك إذا انضم نحو: لببت وحببت، فلا تقول فيه: لبت ولا لبت، ولا ما كان نحو ذلك. وقد شذ في المفتوح قولهم: ظنت في ظننت.
والرابع: كونه مبنيا للفاعل، فإن كان مبنيا للمفعول لم يجز فيه ذلك الحكم بمقتضى المفهوم، فتقول: مسست، وظننت (كذا)، ولا تقول: مست، ولا: ظنت، ولا: مست، ولا: ظنت.
والخامس: أن يكون الفعل متصلا بما يسكن له آخره من ضمائر الرفع البارزة، ودل على ذلك إتيانه بالضمير، فتقول على هذا: ظلت أنا، وظلنا نحن، وظلت أنت، وظلت أنت، و (كذلك): ظلنا، وظلتم، وظلتن، والهندات ظلن فهذه مواضع ثمانية يستتب فيها هذا الحكم. وحيث فسر ما أراد باتصال الضمير بما يسكن له آخر الفعل دخل له كون النون ضميرا كما تقدم، أو علامة نحو: ظلن الهندات، في لغة:"يتعاقبون فيكم ملائكة".
ووجه هذا أنهم حين نقلوا الحركة إلى الفاء فسكنت العين لم تكن لتثبت واللام ساكنة في موضع لا تتحرك فيه البتة، كما أنها لم تكن لتثبت في قمت، بخلاف ما إذا لم يلحقه ضمير ولا ما يسكن الآخر لأجله فإن اللام تتحرك فتثبت العين وإن سكنت.
والسادس: أن يكون ماضيا لا أمرا ولا مضارعا، فإنه إن كان كذلك لم يستعمل فيه الحذف استعمالا يعتد بمثله، فإن جاء فهو نادر، ولذلك أخرج الأمر
بخصوصه فقال: "وقرن في اقررن نقلا"، أي: هو في حيز الموقوف على النقل، ولذلك لما حكى في التسهيل أن بني سليم يحذفون في الماضي قال في غيره:"وربما فعل ذلك بالأمر والمضارع". فالنوعان عنده ليسا على حد واحد في الحكم. وهذا على خلاف ما يظهر من النحويين، إذ هم يأتون ببعضها دليلا على البعض، فلا فرق عندهم بين الماضي في الحذف والمضارع (والأمر)، وهو ظاهر، إلا فما الفرق بينهما؟ وما يلزم في أحدهما لازم في الآخر، وبعيد أن يكون بنو سليم الذين نقل عنهم الحذف خصوه بالماضي وحده ولم يحذفوا في غيره، مع أن العلة التي لأجلها وقع الحذف موجودة في الجميع: فكما تقول: يقمن، فتحذف للساكنين، كذلك تقول: يقرن في يقررن، كما كنت قائلا في الماضي: قمن، وحملت عليه: ظلن. فأتا الآن لا أعرف للتفرقة التي ارتكبها المؤلف وجها إلا ما زعم من الندور، فانظر فيه.
ثم في كلامه مسائل:
إحداها: أن الجمهور- سيبويه وغيره- يرون أن قولهم: ظلت ومست من باب الشاذ الموقوف على السماع، ويقل جدل أن ترى واحدا يشير في هذا النحو إلى قياس، بل هم في ذلك بين أن ينصوا على شذوذه لسيبويه، كقوله: "وليس هذا النحو إلا شاذا كقوله في موضع آخر: ومن الشاذ قولهم كذا وبين ألا ينصوا على الشذوذ لكن لا يأتون إلا بهذه الألفاظ الثلاثة وهي: أحست، وظلت، ومست. وظاهر هذا أيضا عدم القياس. ونقل ابن الضائع عن
شيخه الشلوبين أن هذه الألفاظ شاذة لكنها مطردة عنده في أمثالها من الأفعال. قال: وتأخذ ذلك من قول سيبويه فيما شذ من المضاعف: "وذلك قولهم: أحست، يريدون: أحسست، وأحسن، يريدون: أحسسن" قال: "وكذلك تفعل به في كل بناء تبنى اللام من الفعل فيه على السكون ولا تصل إليها الحركة". فزعم أن هذا من كلامه يدل على أنه مطرد. قال ابن الضائع: فقلت له: من كلامه ما يدل عل خلاف ذلك وهو قوله في ذلك الباب: "ولا نعلم شيئا من المضاعف شذ إلا هذه الأحرف". (فقال: إنما يعني إلا هذه الأحرف) وما كان مثلها من المضاعف. قال ابن الضائع: هذا فاسد، لأنه إذا كان كذلك فالمضاعف كله شاذ. قال: وإنما ينبغي أن يحمل كلامه أولا على أحست، أي: كل ما يبنى من هذا على أن اللام لا تصل إليها الحركة يحذف فيقال: أحست، وأحسنا، وأحست، وأحست، (وأحستما)، وكذلك في الأمر، فهذا أظهر. فقوله:"تفعل به" لا يعود الضمير على المضاعف بل على أحست، ولا يتناقض الموضعان. قال: وهو حسن. هذا ما ذكر ابن الضائع من الخلاف في القياس في المسألة، ولا مرية أن مستند الشلوبين فيما ذهب إليه لا يظهر، فإن كلام سيبويه أظهر فيما قاله ابن الضائع، فلا ينبغي أن تجعل هذا مستندا للناظم، وإنما مستنده في الجواز ما نقل في التسهيل من أنها لغة، فهذا أقرب في الاستناد إن ثبت أنها لغة كما زعم، وأنهم يشترطون في الحذف ما اشترطه هنا من كون الفعل ماضا وما أشبه ذلك مما تقدم. والله أعلم.
والثانية: أن الناس قد ضموا إلى هذه المسألة ما كان على أفعل، وهو: أحسس، وأحسست. والناظم ليس في كلامه ما يشعر بذلك، وإنما يدل تمثيله
وكلامه عل الفعل الثلاثي الذي على فعل، فيحتمل أن يكون مثل هذا عنده مما لا يدخله القياس لتخلف شرط كونه ثلاثيا، وهذا لا يمشي على ما نقل في التسهيل حيث لم يشترط هذا الشرط، بل قال:"ويجوز في لغة سليم حذف عين الفعل الماضي (المضاعف) المتصل بتاء الضمير أو نونه".
والحكم كذلك عند غيره، فيدخل له أحسست، وأحسسن، فتقول فيه: أحست، وأحسن وأحسنا، وأحست وأحست وأحستما، وأحستم، وأحستن. والعلة في الجميع واحدة، وقد تقدمت، قال أبو زبيد الطائي:
سوى أن العتاق من المطايا
…
أحسن به فهن إليه شوس
وعادة الناظم أن يشير إلى القيود والشروط بالأمثلة اكتفاء (بها) عن التنصيص عليها قصدا/ للاختصار، ولاشك أنها قد تحرزها في بعض المواطن وتتخلف في بعضها، إذ لا يخلو كثير من المثل من زيادة أوصاف لا تكون مقصودة كهذا المثال، فقد ينازع الناظر في عدم قصده إلى اشتراط الثلاثية في هذا الموضع لظهوره في تمثيله بظللت، كما أنه لو مثل بأحسست لظهر أنه قصد الرباعي دون الثلاثي، وهذا أمر لازم في طريقته في الاجتزاء بالتمثل.
والثالثة: أن هذا الحذف الذي إنما هو للعين لا لغيرها، ودل على ذلك كلامه، لأنه قال:"ظلت وظلت في ظللت استعملا"؛ إذ الظاهر أن
اللام كانت ساكنة قبل الحذف فكذلك بقيت بعده، وأيضا فنقل الكسرة إلى الفاء دليل أن المحذوف من المضاعفين هو المكسور، وهو العين، وهذا ظاهر.
والرابعة: أن الناظم لم يبين هنا كون الحذف حصل بعد تغيير، وإنما أشعر بمجرد الحذف فقط، فالأولى حمل كلامه على أن الحذف مسلط على الحرف المضاعف، وهو على أصله لم يبدل إلى غيره، وهو الظاهر من كلام سيبويه وغيره. ومن النحويين من يزعم أن العين أبدلت قبل الحذف حرف علة كما فعل بقيراط ودينار، ثم حذفت بعد ذلك، على حد ما حذفت عين قمت وبعت لالتقاء الساكنين. وهذا الثاني ذهب إليه الفارسي (في الحجة) في قوله تعالى:{وقرن في بيوتكن} ، على أنه من القرار. والأظهر الحذف من غير إبدال كما أشار إليه الناظم. وقد اعترض على الفارسي هذا المذهب بأنهم قد قالوا: ظلت ومست، بفتح فاء الفعل، من غير نقل الحركة إليها، ولو كان قد دخل في باب بعت لم يكن بد من نقل الحركة فيقال: ظلت، ومست، البتة، من غير إجازة لغيره، كما لم يجز في بعت إلا النقل، لكنهم لم يوجبوا ذلك، فدل على أنه لم يدخل في باب بعت، بل حذف المضاعف ابتداء من غير إبدال.
وقد أجيب عن هذا بوجهين، (أحدهما): أن للفارسي أن يقول: (هذا) ليس من باب بعت حقيقة، وإنما هو لاحق به بالتشبيه، وقد تقرر أن المشبه لا يقوى قوة المشبه به؛ ألا ترى أن الإعلال طارئ عليه وليس بأصل فيه، فلا يلزم
أن يساوي حروف العلة الأصلية في الحكم، فأجازوا فيه ترك النقل على مخالفة حروف العلة الأصلية، ليكون ذلك إشعارا بأنه ليس منها بحكم الأصل.
وهذا الجواب ضعيف، فإن حروف العلة وإن كانت بدلا من غيرها محكوم لها بحكم ما أبدلت إليه كتظنيت وقصيت أظفاري ونحوهما؛ إذ لا يقال فيمن هذه سبيله: يحكم لها بحكم حروف العلة في بعض المواضع دون بعض، بل الحكم مطلق فيها كذلك ما لم يظهر المبدل منه لزوال علة الإبدال.
والثاني: أن يكون هذا القول مقتصرا به على محل النقل حيث اطرد حكم حروف العلة وجرى على سننها وطريقها، وأما حيث لا نقل فيكون القول في ذلك أن العين حذفت بحالها من غير قلب، ويرتفع الخلاف فيها. وقد يظهر هذا من الفارسي إذ لم يتكلم في "الحجة" إلا في محل النقل، ولم يعرض لما لا نقل فيه.
وهذا الجواب/ أقرب من الأول إلا أنه محتاج إلى تحرير هذا النقل، وأن صاحب هذا القول يفصل هذا التفصيل، ومع هذا فإنه على خلاف الظاهر، ودعوى لا دلالة عليها إلا مجرد التأنيس بمجيء تظنيت وأملاه بمعنى تظننت وأمله. وهذا لا ينهض أن يكون مقاوما لما ظهر؛ إذ القاعدة الحمل على الظاهر والوقوف معه حتى يدل دليل على خلافه وإن أمكن فلا ينبغي أن يصار إليه بمجرد الإمكان من غير دليل. والله أعلم.
والخامسة، وهي مبنية على ما قبلها أن يقال: إذا قلنا بقول الفارسي فالإعلال حاصل- أعني التصريفي- بالإبدال، ثم جاء الحذف بعد ذلك لالتقاء الساكنين، فليس لباب التصريف هنا عمل إلا مجرد الإبدال، وأما الحذف فلا، كما أن حذف العين من قمت لا يعد من هذا الباب ولا يعتد به إعلالا تصريفيا، وإلا فكان يجب أن يذكر في هذا الفصل كل ما كان من الحذف لالتقاء الساكنين، ولم يفعلوا ذلك. وأما إذا قلنا بالقول الآخر، وهو الحذف ابتداء فعلى (هذا) يكون من باب التصريف، ومن أجل ذلك ذكره الناظم هنا، وظهر بذلك اعتماده على مذهب الجمهور. إلا أن لقائل أن يقول: قد تقدم في تعليل هذا الحذف أنه لالتقاء الساكنين، وذلك أن ظل لما صار بالإدغام كقام، إذ كان أصله ظلل، فكرهوا إظهار التضعيف، فسكنوا وأدغموا، فلما لحق الضمير لم يكن بد من تسكين اللام الثانية أيضا، فاجتمع ساكنان، فحذفوا الأول منهما لالتقاء الساكنين. وإذا كان كذلك فليس من هذا الباب، وإنما الحذف من باب آخر، فكيف ذكر هنا، وذلك أن الحذف لالتقاء الساكنين إنما هو عارض لموجب حاضر يزول بزوال موجبه، فهو عندهم كأنه لم يحذف، ولذلك لم يذكروا في باب التصريف الحذف لالتقاء الساكنين، وأفردوه على حدة، فلم يقم- مثلا- أصله: لم يقوم، فحذفت الواو. ولم يذكر ذلك الناظم لأنه ليس من هذا الباب، لأن هذا بصدد أن يزول إذا حركت اللام، فكذلك ظلت بصدد أن تتحرك
اللام فترجع العين (فتقول): ظلوا يفعلون، وظل زيد يفعل، كما تقول: لم تقومن، ولا تقومن، وتقوم، ونحو ذلك. فليس بينهما في هذا الحكم فرق، فكيف يجعل الناظم هذا الحذف من هذا الباب، ولم يجعله من التقاء الساكنين؟
والجواب: أن الحذف لالتقاء الساكنين لا يكون إلا في حروف العلة أصلية كانت أو زائدة، ولا تجد حرفا صحيحا يحذف لالتقاء الساكنين إلا ما هو شاذ لا معول عليه، والتنوين: وإن حذف للساكنين فليس حذفه بالقوي، بل الشهير والمعروف حذف حرف اللين الأصلي والزائد لأجله، ومع ذلك فلشبهه بحروف اللين ومشاركته لها بالغنة التي في النون حذفت. ولذلك حذفت نون "لم يكن" تشبيها بلم يفز، وما عدا ذلك فلم يثبت فيه هذا.
والوجه في ظللت تحريك اللام الأولى عند التقاء الساكنين وردها إلى أصلها من الكسر كما في اللغة المشهورة، لكن من قال: ظلت، استثقل ظهور التضعيف، فأراد الحذف/ فجعل الطريق إليه التشبيه بقام كما تقدم، لا أنه في الحقيقة اجتراء (على الحذف) لالتقاء الساكنين مجردا، إذ كان له مندوحة عنه، وهو التحريك.
ولهذا جعل السيرافي الحذف في أحست من أحسست لا من أحس. فاستثقال التضعيف هو الموجب، والتشبيه بقام مرجح وسيبويه وإن اعتمد التشبيه فهو على التضعيف أيضا أشد اعتمادا، ألا ترى أنه
في آخر الإدغام إنما علل به فقال: "ومن الشاذ قولهم: أحست، ومست، وظلت لما كثر في كلامهم كرهوا التضعيف، وكرهوا تحريك هذا الحرف الذي لا تصل إليه الحركة في فعلت وفعلن الذي هو غير مضاعف، فحذفوا، (كما حذفوا) التاء من قولهم: يستطيع، فقالوا: يسطيع"
…
وأتم التعليل إلى آخره، فاعتمد الثقل في التضعيف هنا واقتصر عليه، وأشار إليه في الباب الآخر، وهو باب ما شذ من المضاعف، وأيضا إذا فرضنا أنه (اعتمد) على التشبيه في التعليل فليس من باب التقاء الساكنين، بل من الحذف التصريفي المشبه به، ولا يلزم من كونه مشبها به أن يكون من بابه بلا بد، بل حذفت العين حذفا لما أشبه المضاعف المعتل في باب التقاء الساكنين .. فظهر إذا أن الحذف هنا على طريقة الناظم تصريفي، وتبين وجهه.
والسادسة: أن كلام الناظم هنا يحتمل وجهين:
أحدهما أن يكون إنما قصد الكلام على هذا اللفظ بخصوصه، من حيث جاء سماعا، فلا يكون قائلا بالقياس في بابه، ويريد بقوله: استعمل، استعمال العرب، إذ لم يقل: ظلت ونحوه، ولاما يعطي معنى تعميم الحكم في أمثاله، كما قال قبيل هذا:"من كوعد"، "وفي كعدة"، فأدخل مع المثال ما أشبهه.
والثاني: أن يكون أراده وما كان نحوه، فأتى بالمثال على جهة تمثيل الأصل: ويريد بقوله: استعمل، استعمال النحويين قياسا.
فإن أراد الأول فهو مساعد لظاهر لفظه وموافق لجمهور النحويين حسب ما تقدم، إلا أنه يشاح من وجهين:
أحدهما: أن السماع لم يأت بهذا اللفظ وحده، بل جاء منه ألفاظ أخر كقولهم: ظنت في ظننت، ومست في مسست، وأحست في أحسست، أو حست (في حسست) بل هي لغة ذكرها في التسهيل منقولة عن سليم، فكيف يقتصر على نقل لفظة واحدة، فيوهم اقتصاره عدم السماع في غيرها، وذلك غير صحيح؟
وقد يجاب عن هذا بأنه لم يقصد إلى نقل مجرد السماع فقط، فإن ذلك ليس من شأن النحوي من حيث هو نحوي، لاسيما في مثل هذا المختصر، وإنما قصده نقل ما كثر استعماله من هذا الباب، فذلك قال:"استعملا"، ولم يقل: شذا ولا ندرا، ولا نحو ذلك. ولفظ الاستعمال يعطي كثرة التداول والشياع على الألسنة، وقد جاء في القرآن الكريم كما مر، وترك ما عدا هذه اللفظة لأنه قليل في الاستعمال (إذا اعتبرته.
فإن قيل: فما فائدة ذكره وهو موقوف على السماع؟
قيل: قد جرت له عادة بذكر الألفاظ الشهيرة الاستعمال) كما فعل في إذا في باب الوقف، وحذف ألف ما الاستفهامية ونحو ذلك.
والثاني: أن القائل بالوقف على السماع في هذا وما أشبهه لا يقصره/ على مجرد ما ذكر الناظم من كونه متصلا بضمير الواحد، بل يستعمل عنده متصلا بجميع الضمائر التي يسكن لها آخر الفعل، فيقول: ظلت، وظلت، وظلتما، وظلتم، وظلتن. وكذلك لا يقتصر فيه أيضا على الماضي دون الأمر والمضارع، بل يقول: ظلن- يا هندات- قائمات لوجود العلة الموجبة للإعلال في الجميع: وقد مر هذا في الاشتراط.
وإن أراد الوجه الثاني- وهو القياس- فليس ببعيد عن قصده، لأنه قد يمثل فقط ويريد ما كان نحوه، كما قال في باب الضمائر:"في كنته الخلف انتمى. كذاك خلتنيه"، فإنما يعني: في كنته وما أشبهه، كذاك خلتينه وبابه، لكنه على هذا المحمل مخالف لجمهور النحويين كما تقدم، فالأول أظهر من جهة اللفظ، والثاني أظهر من جهة القصد. وعلى هذا الثاني وقع الشرح المتقدم.
ثم قال: "وقرن في اقررن وقرن نقلا". (ألف نقلا) ألف تثنية.
يعني أن قرن- بكسر القاف- وقرن- بفتحها- نقلا معا، وأراد أنهما معا محذوفان من المضاعف، حذفت العين منهما؛ إذ كان الأصل في قرن: اقررن، كما قال، وذكر أن ذلك نقل لا قياس بخلاف الماضي فإنه فيه قياس كما ذكر. وقد مر ما في هذه التفرقة من النظر.
وأشار بقرن وقرن إلى ما في القرآن الكريم من قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} ، قرئ بكسر القاف وفتحها، والفتح لنافع وعاصم، والكسر لمن عداهما.
ثم في كلامه هنا إشكال من وجهين:
أحدهما: أن ظاهره أن قرن وقرن معا أصلهما اقررن، هذا الذي ذكره، وهو إما أن يكون ضبطه بكسر الراء الأولى- وهكذا ثبت في النسخ- أو بفتحها، أو بالضبطين، أما الضبطان فلا دليل عليها إذ لم ينبه على ذلك، وأما أحدهما فغير صحيح من جهة أن رجوعه لهما معا لا يصح، إذ مقتضاه أنهما معا من فعل واحد، وليس كذلك:
أما قرن- بفتح القاف- فن قررت (في) المكان- بالكسر- أقر فيه (بالفتح) فالأصل: اقررن- بفتح الراء الأولى- وهي لغة حكاها البغداديون والكسائي والأخفش وأنكرها المازني إذ لم يحفظها، ثم حذفت العين بعد أن نقلت حركتها إلى القاف وحذفت همزة الوصل لتحرك ما بعدها؛ كما تقول: سل، في تخفيف، اسأل. وقد حمل أيضا على أنه من قررت به عينا أقر، وجرى فيه الإعلال المذكور. لكن ضعف هذا المحمل من جهة المعنى، إذ ليس المراد: لتقر أعينكن في بيوتكن.
وأما قرن- بالكسر- فأجاز فيها الفارسي وجهين، أحدهما. أن يكون أصله اقررن، من قررت في المكان أقر، وهي اللغة الفاشية، ثم حذفت العين بعد نقل حركتها إلى الفاء كما تقدم، وهذا هو الذي يريده الناظم (بقوله):"وقرن في اقررن"، فقيده بكونه من اقررن، أي: على أنه من هذا لا من الوجه الثاني الذي حمله الفارسي قراءة الكسر، وهو أن يكون قرن أمرا من الوقار، من وقر يقر، وأصله: اوقرن، ثم صار بحذف فائه إلى قرن، فهو إذ ذاك من المسألة الأولى من هذا الفصل، كعدن من الوعد، وزن من الوزن. وعلى هذا الوجه لا يدخل له هنا، فلذلك تحرز بقوله:"في اقررن"، ولهذا/ السبب يتعين ضبط اقررن بكسر الراء، ويكون فيه تنبيه حسن واحتراز مليح، كأنه يقول: وقرن إذا قلنا إنه من اقررن لا إذا جعلناه من الوقار. إلا أنه يلزم من حيث عين اقررن بالكسر أن يكون أيضا معينا للوجه الآخر؛ إذ لم يذكر له غير ذلك، وذلك غير صحيح، لأن قرن- بالفتح- ليس أصله اقررن- بالكسر- وإنما أصله: اقررن بالفتح أيضا كما تقرر.
فحصل أن هذا الكلام لا يستقيم تنزيله في الوجهين (على لغتين) كما ذكر الناس، وهو الذي لا يمكن غيره، وإنما يتنزل على واحدة، وذلك لا يصح.
والوجه الثاني من الإشكال: أنه أثبت في النقل قرن من القرار ولابد، لقوله:"وقرن في اقررن وقرن نقلا"، أي:(إن) قرن من اقررن منقول من كلام العرب. وهذا ليس كذلك، لأن قرن إنما نقل في القرآن، وهو- كما رأيت- محتمل أن يكون أصله: اقررن- كما قال- أو يكون افعلن من الوقار، وأحد الوجهين لم يتعين بعد، فكيف يجعل قرن من القرار منقولا ثابتا، وليس كذلك، لأنه إنما يثبت إذا لم يحتمل غير ما ادعيت فيه، فلا يصح لك أن تقول في هذا إنه من القرار خاصة لا من الوقار؛ إذ لا دليل على ذلك، وإذا لم يدل عليه دليل لم يكن إذا جعلته من القرار بأولى من أن تجعله من الوقار، ولا تثبت اللغة بمثل هذا، ولا اعتماد على الاحتمال المجرد من غير دليل.
والجواب عن الأول: أن اقررن لا يرجع إليهما معا بل إلى ما قبله وحده، وإنما أتى به احترازا- كما تقدم- من أن يكون من وقر يقر خاصة؛ إذا لو لم يكن هنالك ذلك الاحتمال لم يحتج إلى الإتيان به؛ إذ معلوم أنه يتكلم فيما حذفت عينه للتضعيف، فليس قوله:"في اقررن" إلا إخراجا للوجه الآخر. وأما قوله: "وقرن" فأطلقه علما بأنه من اقررن، إذ ليس فيه احتمال غير ذلك. وأيضا فحذفه لدلالة نظيره عليه، وتقدير الكلام: وقرن في اقررن وقرن في اقررن. وهذا ممكن، واتكل على أن ذلك مفهوم بأيسر النظر، فلم يحتج إلى التنصيص عليه.
والجواب عن الثاني: أنه يمكن أن يكون سمع من ذلك شيئا لا يحتمل إلا الحمل على اقررن لا على غيره، وإنا يكون الاحتمال قائما في الآية دون غيرها، فلعله اطلع على ما يتعين فيه أحد الوجهين، والجمهور لم ينقلوا قرن
وقرن إلا في الآية. ويحتمل أن يكون حمل الآية على هذا الوجه دون الإمكان الآخر لقيام الدليل عنده على ذلك، (وذلك) أن قراءة الفتح قد ثبت فيها معنى القرار على ما تقرر؛ إذ لا يسوغ حملها على المعنى الآخر الذي هو من قرت عينه، وإذا ثبت ذلك هنالك كان الذي ينبغي في قراءة الكسر الحمل على قراءة الفتح، لأن اتفاق القراءتين وتواردهما على معنى واحد أولى من حملهما على معنيين مختلفين. وهذا دليل يفيد هو وما كان مثله غلبة ظن، وغلبة الظن تكفي في إثبات اللغة، فلهذا حكم بأن قرن من اقررن، وبهذا ينهض جوابا في الموضع، وبالله التوفيق.
وهنا انتهى ما قصد ذكره من التصريف، ثم أخذ في ذكر تكملته فقال: