المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١٠

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا

وقد أورد أبو نعيم مضموما لهذه الأحاديث، حديث الحارث بن فضيل عن زياد بن مينا عن أبي هريرة رفعه:"استدفئوا من الحر والبرد". وكذا أورد المستغفري مع ما عنده منها حديث إسحاق بن نجيح عن أبان عن أنس رفعه: "إن الملائكة لتفرح بفراغ البرد عن أمتي، أصل كل داء البرد". وهما ضعيفان وذلك شاهد لما حكي عن اللغويين في كون المحدثين رووه بالسكون. انتهى.

قول بعض الأطباء هي إدخال الطعام على الطعام قبل هضم الأول، فإن بطء الهضم أصله البرد الذي بردت منه المعدة، قال في الفائق: والقصد ذم الإكثار من الطعام، قيل: لو سئل أهل القبور ما سبب قصر آجالكم، لقالوا: التخمة.

"وقد أورد أبو نعيم" في الطب النبوي، "مضموما لهذه الأحاديث حديث الحارث بن فضيل" بالتصغير، الأنصاري، المدني، ثقة، من رجال مسلم، "عن زياد بن مينا""بكسر الميم وإسكان التحتية ونون" تابعي مقبول، "عن أبي هريرة، رفعه: "استدفئوا من الحر والبرد" وكذا أورد المستغفري مع ما عنده منها" أي: من الأحاديث السابقة "حديث إسحاق بن نجيح" الملطي، نزيل بغداد، كذبوه "عن أبان" بن يزيد العطار البصري، ثقة، له أفراد، "عن أنس رفعه: إن الملائكة لتفرح بفراغ" في المقاصد بارتفاع "البرد عن أمتي أصل كل داء البرد"، وهما" أي ذا الحديث وما قبله "ضعيفان، وذلك شاهد لما حكي عن اللغويين في كون المحدثين رووه بالسكون" فيكون المراد بالبردة البرد، فيتعين سكونه، وكذا على أن المراد التخمة على ما صدر به القاموس، كما علم. "انتهى" كلام شيخه.

ص: 28

‌الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا

يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف: إذا فسرتها، وعبرتها بالتشديد للمبالغة في

الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا

أي تفسيرها، وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها، قاله الراغب، وفي المدرك: حقيقة عبرت الرؤية، ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه، وهو عبره، ونحوه: أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلا، وهو مرجعها.

وقال البيضاوي: عبارة الرؤيا الانتقال من الصور الخالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور، وهو المجاوزة، "يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف" للباء "إذا فسرتها، قال تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، "وعبرتها بالتشديد للمبالغة في ذلك" هكذا

ص: 28

ذلك.

وأما "الرؤيا" بوزن فعلى -وقد تسهل الهمزة- فهي ما يراه الشخص في منامه.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: الرؤيا إدراكات يلقيها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إما بأسمائها، أي حقيقتها، وإما بكناها أي بعبارتها، وإما تخليطا.

وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب: إلى أنها اعتقادات، واحتج بأن الرائي قد

في نسخ صحيحة "بالواو"، لأنهما إطلاقان متقابلان بمعنيين مختلفين، خلاف ما في نسخ سقيمة بأو، والتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات وأنكروا التشديد، لكن قال الزمخشري: عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب:

رأيت رؤيا ثم عبرتها

وكنت للأحلام عبارا

"وأما الرؤيا بوزن فعلى""بضم الفاء قسيم لمقدر" أي أما التعبير فمأخوذ من عبرت الرؤيا إلى آخره، "وقد تسهل الهمزة" بإبدالها واوا، ثم قد تبقى ظاهرة، وقد تقلب ياء وتدغم فيما بعدها، فيتحصل من ذلك ثلاث لغات، "فهي ما يراه الشخص في منامه" فهي كالرؤية، ففرق بينهما بتاء التأنيث، كالقربة والقربى.

وقال القرطبي: الرؤيا مصدر رأى في منامه، والرؤية مصدر رأى في اليقظة، وقد تكون الرؤية مصدر رأى يقظة، كقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الصحيح أن الإسراء يقظة.

"قال القاضي أبو بكر بن العربي: الرؤية إدراكات يلقيها" وفي نسخة: يخلقها، وهما ظاهرتان، وفي آخر: علقها، أي أثبتها "الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إما بأسمائها أي حقيقتها" بأن يخلق صورة ما يراه في المنام، كما هو موجود مشاهد في الخارج، إما حالا، وإما مآلا، كأن يرى صورة إنسان يعرفه في اليقظة على صفة خاصة، أو يخاطب بشيء معلوم، "وإما بكناها، أي بعباراتها" بأن يخلق في قلبه شيئا هو علامة على أمور يخلقها في الحال، أو كان قد خلقها فيقع ذلك، "وإما تخليطا" بأن يخلق في قلبه حقيقة ما يراه، وم هو دال على أمور تقوم به.

قال: أعني ابن العربي: ونظيرها في اليقظة الخواطر، فإنها قد تأتي على نسق، وقد تأتي مسترسلة غير محصلة.

"وذهب القاضي أبو بكر" محمد "بن الطيب" الباقلاني "إلى أنها اعتقادات" أي ربط

ص: 29

يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد.

قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل التنسل فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات.

وقال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقاويلهم، فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤايا إلى الأخلاط، فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو وهكذا إلى آخره. وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجري الله

للقلب على معنى يتصور في نفسه، فذلك الربط عقد واعتقاد، وما ربط عليه القلب من المعاني معتقد، فتصور إنسان بصورته مثلا اعتقاد، والإنسان المتصور بأنه كذا معتقد.

"واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد" بخلاف الإدراك.

"قال ابن العربي: والأول أولى" لأن حقيقة الرؤيا تعلق الشيء بخصوص المرئي بذاته، أو بعلامة تدل عليه وذلك إنما يكون فيما لو رآه نفسه، أما إذا تصوره بغير صورته، فإنما هو مثال انتقش في ذهنه ليس حقيقة المرئي، "والذي يكون"، أي يوجد "من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل التمثيل، فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات" ولذا قالوا: التصورات لا يقع فيها الخطأ، فمن رأى شبحا من بعد فتصوره إنسانا، وليس هو كذلك، كانت الصورة الحاصلة في ذهنه صورة إنسان بلا شك، والخطأ إنما هو في الحكم على تلك الصورة بأنها إنسان، م أنها حجر أو شجر أو نحوهما.

"وقال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولا الوقوف على حقائق لا تدر بالعقل، ولا يقوم عليها برهان" دليل عقلي، "وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقاويلهم" بسبب ذلك، "فمن ينتمي" ينتسب "إلى الطب" من غير الإسلاميين "ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط" الأمزجة الأربعة، فيستدل بالرؤيا على الخلط، "فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح" يعوم "في الماء ونحو ذلك، لمناسبة طبيعة البلغم،" إذ كل منهما بارد رطب، "ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو" وشبهه لمناسبة الصفراء في أن كلا منهما حار يابس، ولأن

ص: 30

العادة به لكنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط.

ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش، فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها. قال: وهذا أشد فسادا من الأول، لكونه تحكما لا برهان عليه. والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض، والأعراض لا انتقاش فيها.

قال: والصحيح ما عليه أهل السنة، أن الله تعالى يخلق في النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنه جعلها علما على أمور أخرى خلقها أو يخلقها في ثاني حال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع اليقظان، ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف.

خفتها وإيقادها يخيل إليه الطيران في الجو والصعود في العلو، "وهكذا إلى آخره" أي: وهكذا يصنعون في بقية الأخلاط، كما هو لفظ المازري، "وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجري الله العادة به، لكنه لم يقم عليه دليل" من جهة الشرع، "ولا اطردت به عادة،" لأنا نرى كثيرا ممن غلب عليه البلغم أو غيره يرى ما لا يناسب طبعه، "والقطع في موضع التجويز غلط" وجهالة، فإن نسبوا ذلك إلى الأخلاط بعادة أجراها الله فجائز، وإن أضافوه إلى فعل الأخلاط قطع بخطئهم.

"ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري، أي يقع "في الأرض هو في العالم العلوي كالنقوش" وكأنه يدور بدوران الآخر، "فما حاذى بعض النفوس" بفاء وسين مهملة جمع نفس"، "منها" أي: النقوش "بالقاف والمعجمة""انتقش فيها".

"قال" المازري: "وهذا أشد فسادا من الأول" أي قول من ينتمي إلى الطب، "لكونه تحكما لا برهان عليه، والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض والأعراض لا انتقاش فيها"، فبطل قولهم بوجهين.

"قال" المازري: "والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله تعالى يخلق في النائم اعتقادات، هذا على قول ابن الطيب، أما على مختار ابن الربي، فالمناسب أن يقول إدراكات، "كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها، فكأنه جعلها علما على أمور أخرى خلقها" قبل ذلك، "أو يخلقها في ثاني حال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد، فهو كما يقع لليقظان ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف" فإذا وقع في قلب النائم اعتقاد الطيران، وليس بطائر فغايته أنه اعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه، وكم في

ص: 31

وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسره، وتارة بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند الله.

وأخرج الحاكم والعقيلي من رواية محمد بن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لقي عمر عليا فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب". قال الذهبي في تلخيصه: هذا حديث منكر، ولم يصححه المؤلف.

وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو: "إن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه به في المنام". ووجد الحديث للترمذي في "نوادر الأصول" من حديث عبادة بن

اليقظة من يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه، ويجعل ذلك الاعتقاد علما على غيره، هكذا في كلام المازري، "وتلك الاعتقادات تقع تارة الملك، فيقع بعدها ما يسره" أي الرائي، "وتارة بحضرة الشيطان" إبليس أو غيره، "فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند الله".

"وأخرج الحاكم والعقيلي من رواية محمد بن عجلان" المدني، صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، "عن سالم بن عبد الله بن عمر" بن الخطاب، أحد الفقهاء، "عن أبيه، قال: لقي عمر عليا، فقال: يا أبا الحسن الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب" فما السر في ذلك، "قال: نعم" أجيبك: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما"، أي يثقل نومه "إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش" بأن يبقى نائما حتى تصل روحه إلى العرش، "فتلك الرؤيا التي تصدق،" أي تقطع مطابقة للواقع لانكشاف صور الأشياء لها على حقيقتها، "والذي يستيقظ دون العرش" أي قبل وصول روحه إليه، "فتلك الرؤيا التي تكذب،" أي تخبر بخلاف الواقع.

"قال الذهبي في تلخيصه" لكتاب المستدرك للحاكم، لخصه تلخيصا حسنا مع تعقب عليه:"هذا حديث منكر" أي ضعيف، "ولم يصححه المؤلف" يعني لم يصرح الحاكم بقوله: صحيح، وإن رواه في المستدرك موضوعه الصحيح الزائد على ما في الصحيحين.

"وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو" لأحد بأن قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه في المنام" به، "ووجد الحديث للترمذي" محمد بن علي الحكيم "في"

ص: 32

الصامت، أخرجه في الأصل الثامن والتسعين، وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبي عمر، وهو واهن وفي سنده جنيد بن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة.

قال الحكيم: قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] قال: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي في المنام. ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل لأنه محروس، بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنه قد يحضرها الشيطان.

وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ فينسخ منه، ويضرب لكل على قصته مثلا، فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدمي قد يسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره

كتابه "نوادر الأصول من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه في الأصل الثامن والتسعين، وهو من روايته، عن شيخه عمر بن أبي عمر""بضم العين" الكلاعي "بفتح الكاف"، "وهو واه" أي شديد الضعف، "وفي سنده أيضا: جنيد" بضم الجيم" مصغر "ابن ميمون، عن حمزة بن الزبير، عن عبادة" بن الصامت الصحابي، ووجد أيضا في كبير الطبراني، وأخرجه الضياء في المختارة، عن عبادة قال النور الهيثمي: فيه من لم أعرفه.

"قال الحكيم" الترمذي: "قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] "قال:" معنى {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، أي في المنام"، فالحجاب هو المنام على هذا التفسير، ويؤيده ظاهر الحديث المذكور، وزعم أن معناه يكلمه ربه على لسان ملك خلاف المتبادر، "ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم" وإن قلنا: إن الله يكلم المؤمن على هذا الحديث الضعيف، "فالوحي لا يدخله خلل، لأنه محروس" أي محفوظ "بخلاف رؤيا غير الأنبياء، فإنه قد يحضرها الشيطان" فيداخله الخلل، كما هو الأصل فيما حضره، بل الغالب عليه الكذب، سيما إذا ألقيت على يد شيطان، والله الهادي المضل.

"وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها ويضرب لكل على قصته" الثابتة في اللوح، "مثلا: فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى، أو نذارة، أو معاتبة" فإذا كان في اللوح أن فلانا يحصل له كذا، تمثل مثال على صورة ما فيه، فإذا نام ألقى ذلك المثال في قلبه، "والآدمي قد يسلط عليه الشيطان لشدة العدواة بينهما، فهو يكيده،" أي يخدعه ويمكر به

ص: 33

بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه إما بتغليظه فيها أو بغفلته عنها.

وفي البخاري عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".

والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم، فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم.

وقد استشكل كون الرؤيا جزءا من النبوة، مع أن النبوة قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم.

وأجيب: بأن الرؤيا إن وقعت منه صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز.

"بكل وجه" يقدر عليه، "ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس""بكسر الباء" يخلط "عليه رؤياه، إما بتغليطه فيها، أو بغفلته عنها" رأسا.

"وفي البخاري" من طريق مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، "عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الرؤيا الحسنة" أي الصادقة، أو المبشرة احتمالان للباجي "من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".

قال ابن عبد البر: مفهومه أنها من غير الصالح لا يقطع بأنها كذلك، ويحتمل أنه خرج على جواب سائل، فلا مفهوم له، ويؤيده رواية:"يراها الرجل الصالح، أو ترى له"، فعم قوله:"أو ترى له" الصالح وغيره، "والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث" أي الأحلام الباطلة، جمع ضغث مبالغة في وصف الحلم بالبطلان، أو لتضمنه أشياء مختلفة، "ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم"، أي: مخالفهم وهم الفسقة، "فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم".

زاد في شرح البخاري: وحينئذ فالناس على ثلاثة أقسام: الأنبياء ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيا ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون والغالب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم ثلاثة مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق، وكفار ويندر فيا الصدق جدا، قاله المهلب، كما في الفتح.

"وقد استشكل كون الرؤيا جزءا من النبوة مع أن النبوة، قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم وأجيب بأن الرؤيا إن وقعت منه صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي،

ص: 34

وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق.

وتعقب بقول مالك -كما حكاه ابن عبد البر- أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة.

وأجيب: بأنه لم يرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم، فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة، لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة، وجزء الشيء لا يسلتزم ثبوت وصفه، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا، وفي حديث أم كرز الكعبية عند أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات. وعند أحمد من حديث عائشة مرفوعا: "لم يبق بعدي من المبشرات

فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز" لا الحقيقة، فإن جزء النبوة لا يكون نبوة، كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة، "وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت، فعلمها باق" "بفتح العين واللام" أي علاماتها كالمعجزات الدالة على نبوته عليه الصلاة والسلام، كذا ضبطه شيخنا، ولا يتعين، فيصح أن يكون بكسر فسكون مفرد علوم، إذ لا شك أن علومها باقية.

"وتعقب بقول مالك كما حكاه ابن عبد البر أنه سئل: أيعبر" يفسر "الرؤيا كل أحد، فقال: أبالنبوة يلعب؟ ثم قال" مالك "الرؤيا جزء من النبوة" فظاهره أن المراد جزء من حقيقة النبوة.

"وأجيب بأنه لم يرد أنها نبوة باقية" حقيقة، "وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي" لا يصح "أن يتكلم فيها بغير علم" لأنه إفتاء بالجهل عن أمر مغيب وهو حرام، "فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة" من جهة الاطلاع على الغيوب، "لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة، وجزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه" له، "كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رافعا صوته" بها، "لا يسمى مؤذنا" شرعا ولا عرفا، ولا يقال: إنه أذن، وإن كان جزءا من الأذان، وكذا لو قرأ يئا من القرآن وهو قائم لا يسمى مصليا، وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة.

"وفي حديث أم كرز""بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي""الكعبية" المكية، صحابية، لها أحاديث "عند أحمد" وابن ماجه، "وصححه ابن خزيمة وابن حبان" عن النبي صلى الله عليه وسلم "قال: ذهبت النبوة،" أي انقطع الوحي بموتي، "وبقيت المبشرات" بكسر الشين المعجمة

ص: 35

إلا الرؤيا"، وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأبو داود أنه عليه الصلاة والسلام كشف الستارة ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: "يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له". والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله تعالى للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه.

وقوله: "من الرجل الصالح" لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك،

جمع مبشرة اسم فاعل للمؤنث" وهي البشرى من البشر، وهو إدخال الفرح والسرور على المبشر "بالفتح" وليس جمع البشرى، لأنها اسم بمعنى البشارة، وفسرها في الخبر الآتي بالرؤيا الصالحة.

"وعند أحمد من حديث عائشة، مرفوعا: لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا" أي الصالحة، كما في الحديث بعده.

"وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأبي داود، أنه عليه الصلاة والسلام كشف الستارة""بالكسر" ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف" في الصلاة "خلف أبي بكر" الصديق، فقال: "يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم" بنفسه، "أو ترى له"، "بضم التاء، أي يراها له غيره "والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة، وهي صادقة يريها الله تعالى للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه".

وقال ابن التين: معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي، ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا، ويرد عليه الإلهام، فإن فيه إخبارا بما سيكون، وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا، ويقع لغير الأنبياء، كما في مناقب عمر: قد كان فيما مضى محدثون "بفتح الدال، أي ملهمون بفتح الهاء وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة، فكانت كما أخبروا، والجواب أن الحصر في المنام لشموله لآحاد المؤمنين، وكثرة وقوعه بخلاف الإلهام، فيختص بالبعض، ومع اختصاصه، فإنه نادر، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن يكن في أمتي أحد فعمر"، كان السر في ندور الإلهام في زمنه، وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة وإرادة إظهار المعجزات منه، وكان المناسب أن لا يقع لغيره في زمانه منه شيء، فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصه الله به للأمن من اللبس في ذلك، وفي إنكار ذلك، مع كثرته واشتهاره مكابرة ممن أنكره.

قال الحافظ: "وقوله من "الرجل الصالح" لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك".

ص: 36

وحكى ابن بطال الاتفاق عليه.

وقوله: "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" كذا في أكثر الأحاديث. وروى مسلم من حديث أبي هريرة: "جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة"، وعنده أيضا من حديث ابن عمر:"جزء من سبعين جزءا" وعند الطبراني: "جزء من ستة وسبعين جزءا" وسنده ضعيف، وعند ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعا:"جزء من ستة وعشرين جزءا" ووقع في شرح مسلم للنووي وفي رواية عبادة: "أربعة وعشرين".

والذي يتحصل من الروايات عشرة، أقلها ما عند النووي، وأكثرها من ستة وسبعين، وأضربنا عن باقيها خوف الإطالة.

"وحكى ابن بطال: الاتفاق عليه" ومر أيضا أن ابن عبد البر جوز أن الصالح لا مفهوم له، وقوله:"جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، كذا في أكثر الأحاديث" أنس عند البخاري كما مر، وهو في الصحيحين من طريق قتادة، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، لكن قال الحافظ: خالف قتادة غيره، فلم يذكروا عبادة في السند، وأبو هريرة في الصحيحين، والبخاري عن أبي سعيد، وابن عمر وجابر وابن عمر، وعند أحمد وعوف بن مالك وأبو رزين عند ابن ماجه، وابن مسعود والعباس بن عبد المطلب عند الطبراني، وهو متواتر.

"وروى مسلم من حديث أبي هريرة" في أثناء حديث: "جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة". "وعنده أيضا من حديث ابن عمر" بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة"، وكذا عند أحمد عن ابن عباس.

"وعند الطبراني" عن ابن عمر: "جزء من ستة وسبعين جزءا". "وسنده ضعيف".

"وعند ابن عبد البر من طريق عبد لعزي بن المختار" الدباغ البصري، مولى حفصة بنت سيرين، ثقة، روى له الستة، "عن ثابت، عن أنس مرفوعا": "جزء من ستة وعشرين جزءا". ووقع في شرح مسلم للنووي، وفي رواية عبادة:"أربعة وعشرين". وأشار الحافظ إلى تجويز أنه تصحيف، فعند ابن جرير، عن عبادة:"جزء من أربعة وأربعين". وابن النجار عن ابن عمر: "جزء من خمس وعشرين". والترمذي عن أبي زرين: "جزء من أربعين" وابن جرير عن ابن عباس: "جزء من خمسين". "والذي يتحصل من الروايات عشرة: أقلها ما عند النووي".

قال الحافظ: إن لم يكن مصحفا، "وأكثرها من ستة وسبعين" فذكرنا منها ستة، "وأضربنا عن باقيها" أربعة "خوف الإطالة" وقد ذكرتها لك، وأي إطالة فيها، ولكن الناس فيما

ص: 37

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة.

وقال المازري: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل

يعشقون مذاهب.

قال الحافظ: ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد، بأنه بحسب الوقت الذي حدث فيه صلى الله عليه وسلم بذلك، كأن يكون لما أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه حدث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك، وذلك وقت الهجرة، ولما أكمل عشرين حدث بأربعين، ولما أكمل اثنتين وعشرين حدث بأربعة وأربعين، ثم حدث بعدها بخمسة وأربعين، ثم حدث بستة وأربعين في آخر حياته، وما عدا ذلك من الروايات فضعيف، ورواية خمسين تحتمل جبر الكسر، والسبعين للمبالغة. انتهى.

وملحظ جمعه على تسليم الآتي أنه أوحى إليه مناما ستة أشهر، كما أفاده بقوله إن ثبت الخبر بذلك، وقد جمع غيره بغير ذلك مما فيه تعسف، وقد قال ابن العربي: تفسيره بمدة النبي صلى الله عليه وسلم باطل، لأنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا يوجد. قال: والأحسن قول الطبري العالم بالقرآن والسنة: إن نسبة هذه الأجزاء إلى النبوة إنما هو بحسب اختلاف الرائي، فرؤيا الصالح على عدد، والذي دونه دون ذلك. انتهى.

وخدش فيه القرطبي بحمل مطلق الرؤيا على مقيدها بالرجل الصالح، ولا خدش فيه بذلك، لأن الصالح يختلف إلى أعلى ومتوسط وأدنى، وابن العربي إنما قال الذي دونه، ثم هذا على أن الصالح له مفهوم، أما على ما قال أبو عمر لا مفهوم له، فالجمع حسن.

"وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا من أجزاء النبوة في الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما" يحصل له الشبه بالنبوة من ذلك الوجه.

"وأما تفصيل النسبة، فيختص بمعرفته درجة النبوة" إذ لا يصل إلى ذلك غيره، ومن حاول ذلك لم يصب، ولئن وقع له الإصابة في بعضها لما شهد له من الأحاديث المستخرج منها، لم يسلم له ذلك في بقيتها، مع أنه ما فيه من التكلف لم يقدر أن يبلغ بالعدد إلى ثلاثين.

"وقال المازري: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل الله

ص: 38

الله للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلم جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل.

وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبة، فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض أهل العلم ذكر أن الله تعالى أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا؛ لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح.

قال ابن بطال: هذا تأويل بعيد من وجهين:

أحدهما: أنه قد اختلف في قدر المدة التي بعد بعثه صلى الله عليه وسلم.

والثاني: أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى.

وهذا الذي قاله من الإنكار في هذه المسألة سبقه إليه الخطابي فقال: كان بعض أهل العلم يقولون في تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه عليه

للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلم جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل" الثاني، فلا يلزم بيان تلك الأجزاء، قال: ورجح بعض شيوخنا هذا الوجه، وقدح في القول، بأن مدة الرؤيا قبل النبوة ستة أشهر، بأنه لم يثبت، "وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة" المبدأ بها، وهي جزء من ستة وأربعين، "وأبدى لها مناسبة" واعترض، وإذا أردت بيان ذلك، "فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض أهل العلم ذكر أن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة" "بفتح القاف" خلاف النوم "بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا" من النبوة، "لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح" وقيل: عشرين، وقيل: خمسا وعشرين.

"قال ابن بطال هذا تأويل بعيد من وجهين، أحدهما: أنه قد اختلف في قدر المدة التي بعد بعثه صلى الله عليه وسلم" لكن قد اعترف بأنه بناه على الصحيح، فلا معنى لاستبعاده بهذا؛ "والثاني أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى"، قال الحافظ: ويضاف إليه بقية الأعداد الواردة، أي: في بقائها بغير معنى، "وهذا الذي قاله من الإنكار في هذه المسألة، سبقه إليه الخطابي فقال: كان بعض أهل العلم يقولون": أفاد الجمع تعدد قائل ذلك "في تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أقام بعد الوحي ثلاثا وعشرين

ص: 39

الصلاة والسلام أقام بعد الوحي ثلاثا وعشرين سنة، وكان يوحى إليه في منامه ستة أشهر، وهي نصف سنة، فهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. قال الخطابي: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب على من قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا، ولا نعلم في ذلك أثرا ولا ذكر مدعيه في ذلك خبرا، فكأنه قاله على سبيل الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا. وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام، ورمي الجمار، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها. وقد ذكروا في المناسبات غير ذلك مما يطول ذكره.

سنة، وكان يوحى إليه في منامه ستة أشهر، وهي نصف سنة، فهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.

"قال الخطابي: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب على ما قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا" عمن يقبل قوله، لأنه خبر عن غيب، "ولا نعلم في ذلك أثرا" عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابي، "ولا ذكر مدعيه في ذلك خبرا، فكأنه قاله في سبيل الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا" لأنه اعتبار له في المعارف والعلوم، وإنما يعتبر به في العمليات وما هو وصلة إليها وأسقط المصنف من كلام الخطابي: ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذهب إليه، فليلتحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه فيها في منامه في طول المدة كما ثبت عنه في أحاديث كثيرة، كليلة القدر والرؤيا في أحد وفي دخول مكة، فإنه يتلفق من ذلك مدة أخرى تزاد في الحساب فتبطل القسمة التي ذكرها، فدل ذلك على ضعف ما تأوله المذكور، "وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام ورمي الجمار، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها" وبقية كلام الخطابي، وهو كقوله في حديث آخر: الهدى الصالح السمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة، فإن تفصيل هذا العدد وحصر النبوة متعذر، وإنما فيه أن هاتين الخصلتين من جملة هدي الأنبياء وسمتهم، فكذلك معنى حديث الباب المراد به تحقيق أمر الرؤيا، وأنها مما كان الأنبياء تثبته، وأنها جزء من أجزاء العلم الذي يأتيهم والأنباء التي كان ينزل بها الوحي عليهم. انتهى ملخصا.

قال الحافظ: وقد قبل جماعة من الأئمة المناسبة المذكورة، وأجابوا عما أورده الخطابي، أما الدليل على كون الرؤيا ستة أشهر، فإن ابتداء الوحي كان على رأس أربعين من عمره صلى الله عليه وسلم،

ص: 40

وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أصدق الرؤيا بالأسحار". رواه الترمذي

كما جزم به ابن إسحاق وغيره، وذلك في ربيع الأول، ونزول جبريل إليه وهو بغار حراء كان في رمضان وبينهما ستة أشهر، وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه على تقدير تسليمه ليس فيه تصريح بالرؤيا.

وقد قال النووي، أي تبعا لغيره: إن زمن الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم كان ستة أشهر وأما ما ألزمه به من تلفيق أوقات المرائي وضمها إلى المدة فأجيب عنه بأن المراد وحي المنام المتتابع، وأما ما وقع منه في غضون وحي اليقظة، فهو يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة، فهو مغمور في جانب وحي اليقظة، فلم يعتبر بمدته، وهو نظير ما اعتمدوه في نزول الوحي، وقد أطبقوا على تقسيم النزول إلى مكي ومدني فقط، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، ولو وقع بغير مكة، كالطائف ونخلة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، ولو وقع بغير المدينة، كما في الغزوات وسفر الحج والعمرة حتى مكة، وهو اعتذار مقبول.

"وقد ذكروا في المناسبات غير ذلك مما يطول ذكره" لا سيما وكله متعقب، ومنها: أن هذه التجزئة في طرق الوحي، إذ منه ما سمع من الله بلا واسطة والملك والإلهام والمنام وصلصلة الجرس، وقد عدها الحليمي ستا وأربعين، فتعسف وتكلف.

وقال الإمام الغزالي: لا يظن أن تقدير النبي صلى الل عليه وسلم يجري على لسانه كيف اتفق، بل لا ينطبق إلا بحقيقة الحق، فقوله: ستة وأربعين جزءا من النبوة تقدير محقق، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين؛ لأن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وهو مختص بأنواع من الخواص، كل واحد منها يمكن انقسامه إلى أقسام، بحيث يمكننا أن نقسمها إلى ستة وأربعين جزءا، بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءا من جملتها، لكن لا يرجع إلا إلى الظن والتخمين، لا أنه الذي أراده صلى الله عليه وسلم حقيقة.

"وعن أبي سعيد" الخدري، "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أصدق الرؤيا بالأسحار" أواخر الليل على المشهور، لفضل الوقت بانتشار الرحمة فيه، ولراحة القلب البدن بالنوم قبل ذلك غالبا، وخروجهما عن تعب الخواطر وتواتر التصرفات، ومتى كان القلب أفرغ كان أوعى لما يلقى إليه؛ لأن الغالب حينئذ اجتماع الخواطر والدواعي؛ ولأن المعدة خالية غالبا، فلا يتصاعد منها الأبخرة المشوشة، ولا يعارضه خبر جابر، رفعه:"أصدق الرؤيا ما كان نهارا، لأن الله عز وجل خصني بالوحي نهارا" ، رواه الديلمي والحاكم في تاريخه بسنده ضعيف، لجواز أن رؤيا النهار أصدق من رؤيا الليل ما عدا وقت السحر؛ لأن الخاص يقضي على العام، أو أن أصدق في كل من الحديثين على معنى من، وهذا أولى، لأن علماء التعبير قالوا: رؤيا الليل أصدق من رؤيا النهار، وأصدقها بالأسحار، "رواه الترمذي والدارمي" وابن حبان والبيهقي والحاكم، وقال: صحيح،

ص: 41

والدارمي.

وروى مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا".

قال الخطابي في "المعالم" في قوله: "إذ اقترب الزمان" قولان:

أحدهما: أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار، وهو وقت استوائهما، أيام الربيع، وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا، قال: والمعبرون

وأقره الذهبي.

"وروى مسلم من حديث" عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن "أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"، قال:"إذ اقترب" افتعل من القرب، وروي:"تقارب". "الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب" مبالغة، أي: لم تقرب أن تكذب، فضلا عن أن تكذب، ومنه قول ذي الرمة:

إذا غير النأي المحبين لم يكد

رسيس الهوى من حب مية يبرح

أي لم يقرب من البراح، "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا"، قال عياض: كان ذلك لأن غير الصادق يعتري الخلل رؤياه من وجهين: أحدهما: أن تحديثه نفسه يجري في نومه على جري عادته من الكذب، فتكون رؤياه كذلك، والثاني: أنه قد يحكي رؤياه، ويسامح في زيادة أو نقص أو تحقير عظيم، أو تعظيم حقير، فتكذب رؤياه لذلك، وبسط ذلك القرطبي كما يأتي، وخص عزوه لمسلم لزيادته:"وأصدقكم"

إلخ، وإلا فهو في البخاري أيضا من وجه آخر، عن ابن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمنين".

"قال الخطابي في المعالم" أي معالم السنن شرحه على أبي داود "في قوله: "إذا اقترب الزمان". قولان".

"أحدهما" وهو قول أبي داود "أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار" بأن يكون قدر أحدهما قريبا من الآخر، "وهو وقت استوائهما أيام الربيع" أي ربيع الزمان، وهو تلو الشتاء، ومراده أنه ليس الليل في غاية الطول، ولا النهار في غاية القصر، كأوائل الشتاء، ولا عكسه كأوائل الصيف، وليس المراد باستوائهما أن يكون الليل طول النهار في جميع فصل الربيع؛ لأنه خلاف الواقع، إذ لا يستويان إلا في أول ليلة منه، واليوم التالي لها، "وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا" فلا يكون في المنام أضغاث أحلام، فإن من موجبات التخليط غلبة

ص: 42

يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار.

والثاني: أن اقتراب الزمان المراد به انتهاء مدته، إذ دنا قيام الساعة.

وتعقب الأول: بأنه يبعده التقييد بالمؤمن، فإن الوقت الذي تعتدل فيه الطبائع لا يختص به.

وجزم ابن بطال بأن الثاني هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذي من طريق معمر عن أيوب في هذا الحديث بلفظ:"في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن".

بعض، الأخلاط على بعض ومن ثم "قل: والمعبرون يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار" وانفتاق الأزهار، وعند ذلك تصح الأمزجة وتنصح الحواس.

والثاني: أن اقتراب الزمان المراد به انتهاء مدته إذا دنا" قرب "قيام الساعة، وتعقب الأول بأنه يبعده التقييد بالمؤمن" في الرواية الآتية، المعبر عنه في رواية مسلم بالمسلم؛ "فإن الوقت الذي تعتدل في الطبائع لا يختص به" وبعده المازري، بأن رؤيا الصالح الصدق في كل زمان.

وقال ابن العربي: لا يصح التفسير الأول؛ لأنه لا أثر لاعتدال الزمان في صدق الرؤيا إلا على ما يقوله الفلاسفة من اعتدال الأمزجة حينئذ، ثم إنه وإن كان في هذا الاعتدال في الأول، لكنه حين تحل الشمس برأس الميزان عكس الأول؛ لأنه تسقط الأوراق ويتقلص الماء عن الثمار، مع أنه يتقارب فيه الليل والنهار، يعني: فحمله على أحدهما تخصيص بلا مخصص، قال: والصحيح التفسير الثاني؛ لأن القيامة هي الحاقة التي تحق فيها الحقائق، فكل ما قرب منها فهو أخص بها. انتهى.

"وجزم ابن بطال بأن الثاني هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذي من طريق معمر، عن أيوب" السختياني "في" روايته "هذا الحديث" عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة "بلفظ":"في آخر الزمان لا تكذب" لفظ الترمذي: "لم تكد تكذب". "رؤيا المؤمن". والحديث واحد، فيفسر الاقتراب بآخر الزمان.

قال ابن بطال: فالمعنى إذا اقتربت الساعة وقبض أكثر أهل العلم، ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة كان الناس على مثل الفترة محتاجين إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين، كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء لكن لما كان نبينا خاتم الأنبياء عوضوا بالرؤيا الصادقة التي هي جزء من النبوة الآتية بالبشارة والنذارة، وقال ابن أبي حمزة: المؤمن في ذلك الوقت يكون غريبا، فيقل أنيسه ومعينه، فيكرم بالرؤيا الصادقة، وفي الأبي قال بعضهم: كان ذلك عند القيامة، لأن

ص: 43

وقيل: إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه.

وقال القرطبي في "المفهم": المراد -والله أعلم- بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث، زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول، وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤيا لا تكذب، ومن ثم قال عقب هذا:"وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا"، وإنما كان كذلك لأن من كثر صدقه تنور قلبه، وانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب أحواله الصدق في يقظته فإنه يستصحب ذلك في نومه فلا يرى إلا صدقا، وهذا بخلاف الكاذب والمخلط، فإنه يفسد

العلم حيئنذ ينقطع بموت العلماء والصالحين والناهين عن المنكر، فجعل الله صدق الرؤيا زاجرا لهم وحجة عليهم.

"وقيل: إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي" محمد بن عبد الله الحسني الحسيني، "عند بسط العدل وكثرة الأمن، وبسط الخير" المال "والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه"، وأخذوا هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، وملحظ هذا التلذذ بحسن الزمان وطيب العيش، وملحظ ما قبله الهم بتغير الزمان بالهرج ونحوه، وهو بعد المهدي وعيسى، فهو غيره قطعا، فلا اتجاه لتجويز؛ أنه بيان لمعنى القول الثاني، لا مغاير له.

"وقال القرطبي في المفهم" في شرح مسلم: "المراد والله أعلم بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث" إذا اقترب الزمان "زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول"، أي زمان الصحابة خير القرون، "وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤيا لا تكذب"، وهذا يلي زمان المهدي لأن عيسى حين ينزل يصلي خلفه، فيجتمعان، فيكون المراد حسن الزمان في الوقتين، "ومن ثم قال عقب هذا:"وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا". وإنما كان كذلك، لأن من كثر صدقه تنور قلبه" أي كثر نوره، "وانتقشت" أي ثبتت واستقرت "فيه المعاني على وجه الصحة" بحيث لا تزول عن الخاطر، فكأنها منقوشة، "وكذلك من كان غالب أحواله الصدق في يقظته، فإنه يستصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقا".

ولذا لما كان صلى الله عليه وسلم أصدق العالمين، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، "وهذا بخلاف الكاذب والمخلط" بالمعاصي "فإنه يفسد قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا

ص: 44

قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيان، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا.

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم في منامه الرؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليتحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها، فإنها لا تضره". رواه البخاري.

وفي رواية مسلم: "ورؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا

وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيانا، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا" كلام القرطبي.

وقيل: المراد إذا اقترب أجل الإنسان بمشيئته، فإن رؤياه قلما تكذب لصفاء باطنه ونزوع الشهوات عنه، فنفسه حينئذ لمشاهدة الغيب أميل.

"وعن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "إذا رأى أحدكم في منامه الرؤيا يحبها". صفة الرؤيا أو حال منها، "فإنما هي من الله" لا دخل فيها للشيطان، ولا للأضغاث، "فليحمد الله عليها" بأن يقول: الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يحبه قال ذلك، "وليتحدث بها"، "بتحتية ففوقية وفتح الدال المهملة" رواية أبي ذر، ورواه غيره: "وليحدث". "بكسر الدال دون فوقية"، "وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان".

قال عياض: نسبتها إلى الله للتكريم، والتشريف، لطهارتها من حضور الشيطان وإفساده لها، وسلامتها من الأضغاث، أي التخليط وجمع الأشياء المتضادة بخلاف المكروهة، وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وبإرادته، ولا فعل للشيطان فيها، لكنه يحضرها ويرضاها ويسر بها، فلذا نسبت إليه، أو لأنها مخلوقة على طبعه من التحذير والكراهة التي خلق عليها، أو لأنها توافقه، ويستحسنها لما فيها من شغل بال المسلم وتضرره بها، "فليستعذ بالله من شرها" أي الرؤيا، "ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره"، لأن الله جعل ذلك سببا لسلامته من مكروه يترتب عليها، كما جعل الصدقة وقاية للمال وسببا لدفع البلاء.

"رواه البخاري" في التعبير، "وفي رواية مسلم" عن أبي قتادة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا السوء". أي سوء الظاهر، أو سوء التأويل احتمالان لعياض "من الشيطان" لأنه يخيل فيها، ولأنها تناسب صفته من الكذب والتهويل وغير ذلك، "فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا، فلينفث""بكسر الفاء وضمها"، "عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان

ص: 45

فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان، ولا يخبر بها أحدا، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها إلا من يحب".

وقوله: "فليبشر" بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة، من البشرى.

وفي حديث أبي رزين العقيلي عند الترمذي: "ولا يقصها إلا على واد -بتشديد الدال، اسم فاعل من الود- أو ذي رأي". وفي أخرى: "ولا تحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا". وفي أخرى: "لا تقص رؤياك إلا على عالم أو ناصح".

وفي حديث أبي سعيد عند مسلم: "فليحمد الله عليها وليحدث بها".

ولا يخبر بها أحدًا، فإن رأى رؤيا حسنة، فليبشر".

قال عياض: يحتمل حسن ظاهرها ويحتمل صحتها، "ولا يخبر بها إلا من يحب" فيخبره بشرطه الآتي، "وقوله:"فليبشر" بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة من البشرى".

قال عياض: هكذا الرواية، وعند العذري، يعني أحد رواة مسلم "بالنون"، وهو تصحيف، إنما هو من البشارة، يقال: بشرت الرجل مخففا ومشددا، كأن الحافظ لم يرتضه، فقال: زعم عياض أن النون تصحيف، ووقع في بعض نسخ مسلم: فليستر بمهملة ومثناة من الستر.

"وفي حديث أبي رزين""بفتح الراء وكسر الزاي"، لقيط بن عامر "العقيلي" صحابي شهير "عند الترمذي" وأبي داود وابن ماجه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت، ولا يقصه إلا على واد" أو ذي رأي، هذا لفظه برمته، أي إلا على واحد من هذين، إما واد "بتشديد الدال" أي محب "اسم فاعل من الود""بفتح الواو وضمها"، "أو ذي رأي" أي علم بتعبيرها، وإن لم يكن محبا، فإنه يخبرك بحقيقتها، أو بأقرب ما يعلم منه، لا أن تعبيرها يزيلها عما جعلها الله عليه، ووقع في بعض نسخ الفتح، أي ذي رأي بأي، وهو تصحيف، والنسخ الصحيحة، بأو، كما هو في الترمذي.

"وفي" رواية "أخرى" له: "ولا تحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا" قال البيضاوي: معناه لا تقصها إلا على حبيب لا يقع في قلبه لك إلا خير، أو عاقل لبيب لا يقول إلا بفكر بليغ ونظر صحيح، ولا يواجهك إلا بخير.

"وفي أخرى: "لا تقص رؤياك إلا على عالم أو ناصح".

"وفي حديث أبي سعيد عند مسلم" صوابه عند البخاري كما قدمه: ومسلم لم يخرج

ص: 46

وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره.

وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل حين يهب من نومه، ولا يذكرها لأحد أصلا. وفي البخاري من حديث أبي هريرة خامسة: وهي الصلاة، ولفظه:"من رأى شيئا يكرهه في منامه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل". لكن لم يصرح البخاري بوصله، وصرح به مسلم، وزاد مسلم سادسة: وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه فقال: عن جابر رفعه: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ

حديث أبي سعيد: "فليحمد الله وليحدث بها" غيره "وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة" أي ما يطلب فعله من رائيها "ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها" فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، "وأن يستبشر" يفرح "بها، وأن يتحدث بها، لكن لمن يحب دون من يكره"، وفي نسخ: أدب بالإفراد مرادا به الجنس الصادق بالقليل والكثير، فصح الإخبار عنه بثلاثة، "وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ" يعتصم "بالله من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل" "بضم الفاء وكسرها" "حين يهب"، "بضم الهاء"، "من نومه".

قال عياض: أي يستيقظ أثر حلمه، ففي حديث أبي قتادة عند مسلم:"فليبصق على يساره حين يهب من نومه" ، ثلاث مرات، "ولا يذكرها لأحد أصلا" ولو حبيبا.

"وفي البخاري من حديث أبي هريرة: خامسة وهي الصلاة، ولفظه: "من رأى شيئا يكرهه في منامه، فلا يقصه"، "بضم الصاد المشددة" على أحد، وليقم فليصل، لكن لم يصرح البخاري بوصله" أي يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أخرج حديث إذا اقترب الزمان من طريق عوف الأعرابي، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، ثم قال في آخره: قال ابن سيرين: وكان يقال: الرؤيا ثلاث: حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله، فمن رأى شيئا

إلخ.

"وصرح به مسلم" في روايته الحديث المذكور من طريق أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فساقه كله مرفوعا، وزاد بعد قوله:"فليصل ولا يحدث بها الناس". ولذا قال الحافظ: غفل أبو بكر بن العربي، فقال: زاد الترمذي على الصحيحين الأمر بالصلاة: "وزاد مسلم سادسة، وهي: التحول عن جنبه الذي كان عليه" نائما، "فقال" أي روى بسنده من طريق أبي الزبير، "عن جابر رفعه" بقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها" صفة الرؤيا أو حال منها، "فليبصق"، "بالصاد"، "عن يساره" أي جانبه الأيسر "ثلاثا" من المرات، "وليستعذ بالله" بجمع همة وحضور قلب وصفاء باطن وصحة توجه، فلا يكفي الاستعاذة بمجرد

ص: 47

بالله من الشيطان، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه".

قال النووي: وينبغي أن يجمع هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها كما صرحت به الأحاديث.

وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم ير في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحد، ثم قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها. انتهى.

ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله كما قال القرطبي، لأنه إذا قام يصلي تحول عن جنبه، وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها.

اللسان، كما أشار إليه بعض الأعيان.

قال الحافظ: وورد في صفتها أثر صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد الرزاق، بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي، قال: إذا رأى أحدكم في منامه، ما يكره، فليقل: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله "من" شر رؤياي هذه أن يصيبني منها ما أكره في ديني أو دنياي.

وقال غيره: وزاد أنه يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل "الشيطان" وسيئات الأحلام، رواه ابن السني:"وليتحول عن جنبه الذي كان" مضطجعا "عليه" حين رأى ذلك.

"قال النووي: وينبغي أن يجمع هذه الروايات كلها ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها، كما صرحت به الأحاديث، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم ير في شيء من الأحاديث، الاقتصار على واحد" بل في بعضها أربع، وفي بعضها ثلاث، وفي بعضها ثنتان، "ثم قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها".

قال الحافظ: وكأنه أخذه من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 89، 99] ، فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان. "انتهى".

"ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله، كما قاله القرطبي" في المفهم، "لأنه إذا قام يصلي تحول عن جنبه" تحولا زائدا، "وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها"، وهذا وإن كان وجيها، لكن ظاهر الأحاديث يأباه، لا سيما قوله: ويبصق عن يساره حين يهب من نومه، إذ المتبادر منه الإسراع به عقب النوم، وإن البصق غير بصق مضمضة الوضوء الذي يأتي به بعد ذلك للصلاة

ص: 48

وذكر بعضهم سابعة: وهي قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستندا، فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة: ولا يقربك شيطان فمتجه، قال: وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة.

وحكمة التفل -كما قال القاضي عياض- أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة، تحقيرا له واستقذارا، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها، والتثليث للتأكيد.

وقد ورد التفل والنفث والبصق، وقال النووي في الكلام على النفث في

المطلوبة أيضا.

"وذكر بعضهم سابعة، وهي قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستندا" يدل عليه، "فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة" عند البخاري:"إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرس من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ولن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان" حتى تصبح، "فمتجه" في الجملة، وإلا فهو عند إرادة النوم، وهذا عند الانتباه منه بسبب رؤيا مكروه، فيحتاج إلى دليل خاص.

"قال" الحافظ ابن حجر: "وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة"، وقد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور، فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح، وهي مشروعة عند كل أمر يكره، وأما الاستعاذة من الشيطان، فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه، وأنه يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه، "وحكمة التفل كما قال القاضي عياض: أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارا" له، كما يبصق على الشيء المستقذر، "وخصت به اليسار، لأنها محل الأقذار ونحوها" وقوله:"والتثليث للتأكيد" ليس هو من كلام القاضي، بل زاده الحافظ عقبه.

قال الحكيم الترمذي: هذا التفل واصل إلى وجه الشيطان واقع عليه، فالتفل مع تعوذ الرائي بالله يرد الذي جاء به من النزغة والوسوسة، كالنار إلى وجهه، فيحترق ويصير قروحا.

ورد عن الربيع بن خيثم أنه قص عليه رؤيا منكرة، فأتاه رجل، وقال: رأيت في المنام رجلا يقول: أخبر الربيع بأنه ن أهل النار، فتفل عن يساره، وتعوذ فرأى ذلك الرجل في الليلة الثانية أن رجلا جاء بكلب، فأقامه بين يديه وفي عنقه حبل وفي جبهته قروح، فقال: هذا ذلك الشيطان وهذه القروح تلك النفثات التي نفثها في وجهه الربيع.

"وقد ورد التفل والنفث والبصق".

ص: 49

الرقية تبعا للقاضي عياض: اختلف في التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى واحد ولا يكونان إلا بريق. وقال أبو عبيدة: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، وقيل: عكسه. وسئلت عائشة عن النفث في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد. قال: وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب: فجعل يجمع بزاقه.

قال القاضي عياض: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء.

وقال النووي أيضا: وأكثر الروايات في الرؤيا: "فلينفث" ، وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا.

وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن المطلوب منه في الموضعين مختلف، لأن المطلوب في الرقية برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان،

قال الجوهري: التفل شبيه بالبصق، وهو أقل منه أوله البزق، ثم التفل، ثم النفث ثم النفخ، وقال عياض: هنا النفث والبصق بمعنى واحد، وتقدم الكلام، على ذلك في الصلاة وفي الطب.

"وقال النووي: في الكلام على النفث في الرقية تبعا للقاضي عياض، اختلف في التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى واحد، ولا يكونان إلا بريق" أي مع ريق "وقال أبو عبيدة: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث" ريق أصلا.

"وقيل: عكسه" النفث بريق والتفل بدونه، "وسئلت عائشة عن النفث في الرقية" ما صفته؟ "فقالت: كما ينفث آكل الزبيب" نفثا "لا ريق معه، قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة" بكسر الباء الموحدة وشد اللام""بغير قصد، قال: وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب، فجعل يجمع بزاقه".

"قال القاضي عياض: وفائدة التفل" في الرقية "التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء".

"وقال النووي أيضا" زيادة على ما تبع فيه عياضا: "وأكثر الروايات في الرؤيا: فلينفث وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا".

"وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن المطلوب منه في الموضعين" أي الرقية والرؤيا "مختلف؛ لأن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذكر، كما تقدم" قريبا، "والمطلوب هنا"

ص: 50

وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما تقدم.

فالذي يجمع الثلاثة، الحمل على التفل، فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له: نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له: بصق.

وأما قوله: "فإنها لا تضره". فمعناه كما قال النووي: إن الله تعالى جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال.

وأما التحول، فللتفاؤل بتحول تلك الحال كان عليها.

والحكمة في قوله في الرؤيا الحسنة: "ولا يخبر بها إلا من يحب" لأنه إذا أخبر بها من لا يحب فقد يفسرها له لما لا يحب، إما بغضا فيه وإما حسدا، فقد تقع على تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك.

في الرؤيا "طرد الشيطان وإظهار احتقاره واستقذاره، كما نقله هو عن عياض، كما تقدم" قريبا، "فالذي يجمع الثلاثة الحمل على التفل، فإنه نفخ مع ريق لطيف" أي قليل، "فبالنظر إلى النفخ قيل له: نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له: بصق" فتتفق الروايات.

وقال الزركشي: ينبغي فعل الكل؛ لأنه زجر للشيطان، فهو من باب رمي الجمار، "وأما قوله:"فإنها لا تضره". فمعناه كما قال النووي: إن الله تعالى جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال" وسببا لدفع البلاء، "وأما التحول فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها" عبارة عياض، أمره بذلك تفاؤلا بتحول الرؤيا عن تأويلها المكروه، وأنها لا تضر، كذا لخصه الأبي، وقال غيره أمر بالتحول لتتم يقظته ولمجانبة مكان الشيطان، ولذا أمر الناعس يوم الجمعة بالتحول عن مكانه الأول.

قال الحافظ: وأما الصلاة فلما فيها من التوجه إلى الله واللجأ إليه؛ ولأن في التحرم بها عصمة من الأسواء، وبها تكمل الرغبة وتصح الطلبة لقرب المصلي من ربه عند سجوده، "والحكمة في قوله في الرؤيا الحسنة:"ولا تخبر بها إلا من تحب" هي، "لأنه إذا أخبر بها من لا يحب فقد يفسرها له بما"، أي بتفسير "لا يحب، إما بغضا فيه" أي الرائي، "وإما حسدا" للنعمة فيكيده به {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] ، "فقد تقع على تلك الصفة" إذا كان لها تأويلان أو أكثر، أحدها حسن والآخر سيئ، "أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك" المذكور.

ص: 51

وقد روي من حديث أنس مرفوعا: "الرؤيا لأول عابر". وهو حديث ضعيف، فيه يزيد الرقاشي، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، بسند حسن، وصححه الحاكم عن أبي رزين العقيلي رفعه:"الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت".

وعند الدارمي بسند حسن عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف في التجارة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي غائب، وتركني حاملا، فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت وإني ولدت غلاما أعور، فقال: "خير يرجع زوجك إن شاء الله

"وقد روي من حديث أنس مرفوعا: "الرؤيا لأول عابر". وهو حديث ضعيف فيه يزيد" بن أبان "الرقاشي" بخفة القاف، ثم معجمة" أبو عمرو البصري، "القاص "بتشديد المهملة" تابعي صغير، زاهد ضعيف، مات قبل العشرين ومائة، "ولكن له شاهد".

"أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن، وصححه الحاكم" على شرط مسلم، "عن أبي رزين" لقيط بن عامر "العقيلي، رفعه: "الرؤيا على رجل طائر" أي هي كشيء معلق برجله لا استقرار لها "ما لم تعبر" بالبناء للمجهول وتخفيف الباء" في أكثر الروايات، أي لما لم تفسر، "فإذا عبرت وقعت" تلك الرؤيا بمعنى أن يلحق الرائي أو المرئي له حكمها.

قال في النهاية: يريد أنها سريعة السقوط إذا عبرت، كما أن الطير لا يستقر غالبا، فكيف يكون ما على رجله. وقال في جامع الأصول: كل حركة من كلمة أو شيء يجري لك فهو طائر، يقال: اقتسموا دارا وطار سهم فلان في ناحية كذا، أي خرج وجرى، والمراد أن الرؤيا على رجل قدر جار وقضاء ماض من خير أو شر، وهي الأول عابر يحسن تعبيرها، وتتمة الحديث:"ولا تقصها إلا على واد أو ذي رأي". ومر قريا.

"وعند الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن تهرام السمرقندي، الحافظ، صاحب المسند، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم، ثقة، متقن، فاضل، مات سنة خمس وخمسين ومائتين، وله أربع وسبعون سنة "بسند حسن عن سليمان بن يسار" الهلالي، المدني، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة، ثقة، فاضل، أحد الفقهاء، السبعة، مات بعد المائة، وقيل: قبلها.

"عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف"، أي يذهب ويجيء "في التجارة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي غائب وتركني حاملا، فرأيت في المنام أن سارية" أي: عمود "بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاما أعور" لا يبصر إلا بعين

ص: 52

صالحا، وتلدين غلاما برا". فذكرت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، فسألتها فأخبرتني بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها".

وعند سعيد بن منصور من مرسل عطاء بن أبي رباح: قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني رأيت كأن جائزة بيتي انكسرت، وكان زوجها غائبا، فقال:"رد الله عليك زوجك"، فرجع سالما، الحديث.

قال أبو عبيدة وغيره: معنى قوله: "الرؤيا لأول عابر" إذا كان العابر الأول

واحدة، "فقال": رؤياك "خير يرجع زوجك إن شاء الله صالحا" أي بحالة حسنة من ربح تجارته وصحة جسده، "وتلدين غلاما برا" بك وبأبيه وطائعا لله، "فذكرت" المرأة "ذلك ثلاثا" من المرات للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبها بما ذكر، وكأنها فعلت ذلك لتزداد طمأنينة، لأن ظاهر رؤياها مكروه، "فجاءت" مرة أخرى "ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب" عن بيت عائشة، قالت:"فسألتها" عن تعدد مجيئها، "فأخبرتني بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجرا" كأنها فهمت ذلك من العلامات التي يعتمد عليها في التعبير، وهي قطعا لم تسمع تعبيره صلى الله عليه وسلم للمرأة قبل ذلك، إذ لا تستبيح مخالفته، "فقعدت تبكي" لتجويزها أن تعبيره صلى الله عليه وسلم أحد تفسيرين للرؤيا، ولذا أعادها عليه، فلما فسرتها عائشة بذلك، وهي عالمة بالتعبير كأبيها رضي الله عنهما، قوي ذلك عندها فبكت، "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فسأل عن بكائه، فأخبر بسببه، فقال:"مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا، فاعبروها على خير" أي على أحسن ما يعبر به، "فإن الرؤيا تكون" تقع "على ما يعبرها صاحبها" أي العابر الذي تقص عليه.

"وعند سعيد بن منصور" بن شعبة الخراساني، نزيل مكة، ثقة، له تصانيف، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وقيل: بعدها "من مرسل عطاء بن أبي رباح"، "بفتح الراء والموحدة المخففة" واسمه أسلم القرشي، مولاهم المكي، ثقة، فقيه، فاضل، كثير الإرسال، مات سنة أربع عشرة ومائة على المشهور.

"قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني رأيت كأن جائزة بيتي" أي ساريته "انكسرت وكان زوجها غائبا، فقال: "رد الله زوجك عليك". فرجع سالما"، الحديث، فصدق الله تعبير رسوله صلى الله عليه وسلم.

"قال أبو عبيدة وغيره: معنى قوله: "الرؤيا لأول عابر" إذا كان العابر الأول عالما، فعبر

ص: 53

عالما، فعبر وأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول. هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره.

ومن آداب المعبر، ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه يكتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خير لنا شر لأعدائنا. ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع.

وفي حديث ابن زمل عند الطبراني والبيهقي في الدلائل: لما قص على

وأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام، ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب" بظهور قرائن تدل على أنه مصاب، "فلا ينبغي أن يسأل غيره وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده، ويبين ما جهل الأول، هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره".

"ومن آداب المعبر ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه كتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا" تفريع على شيء قبله لم يتعلق به غرض المصنف، "فقصها على أخيه" أي ذكرها له ليطلب منه تفسيرها، "فليقل" الأخ "خير لنا، شر لأعدائنا، ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع" إذ معمر لم يدرك أبا موسى.

"وفي حديث ابن زمل""بكسر الزاي وإسكان الميم ولام" قال في الإصابة عبد الله بن زمل الجهني، ذكره ابن السكن وقال: روي عنه حديث الدنيا سبعة آلاف سنة، بإسناد مجهول وليس بمعروف في الصحابة، ثم ساق الحديث، وفي إسناده ضعف، قال: وروي عنه بهذا الإسناد أحاديث مناكير، قلت: وجميعها جاء عنه ضمن حديث واحد، أخرجه بطوله الطبراني في المعجم الكبير، وأخرج بعضه ابن السني في اليوم الليلة، ولم أره سمي في أكثر الكتب، ويقال: اسمه الضحاك، ويقال: عبد الرحمن والصواب الأول، والضحاك غلط، فإن الضحاك بن زمل آخر من أتباع التابعين، وقال ابن حبان: عب الله بن زمل، له صحبة، لكن لا أعتمد على إسناد خبره. انتهى.

فهو صحابي قطعا، وإن كان إسناد خبره ضعيفا، فجازف صاحب القاموس في قوله: عبد الله بن زمل "بالكسر" تابعي مجهول، غير ثقة، وقول الصغاني صحابي غلط، فإنه الأولى بأن يكون هو الغالط، وصاحب الإصابة لم يذكره في قسم من ذكر في الصحابة غلطا، إنما ذكره في القسم الأول المسلم كون من فيه صحابيا.

ص: 54

النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه، فقال عليه الصلاة والسلام:"خير نلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا الحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك" الحديث، وسنده ضعيف جدا، ويأتي إن شاء الله تعالى.

ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا في الليل، وأن لا يقصها على امرأة، لكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة يقول: هل رأى أحد الليلة رؤيا، فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، ويعبر لهم ما يقصونه، وبوب عليه البخاري: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.

قالوا: وفي إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال: لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس، وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير: إن

"عند الطبراني" في المعجم الكبير، "والبيهقي في الدلائل" النبوية "لما قص" أي أراد أن يقص "على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه" حين قال صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح والاستغفار: هل رأى منكم أحد شيئا، قال ابن زمل: فقلت: أنا يا رسول الله، "فقال عليه الصلاة والسلام: خير نلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا، الحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك الحديث وسنده ضعيف جدا، ويأتي إن شاء الله" آخر هذا الفصل.

"ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا في الليل".

"و" من آداب الرائي "أن لا يقصها على امرأة" لنقص عقلها، ولا على عدو، ولا على جاهل، "لكن ثبت" في البخاري وغيره، عن سمرة بن جندب "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة" أي الصبح "يقول" لأصحابه:"هل رأى أحد" منكم "الليلة رؤيا". فيقص عليه، بضم الياء وفتح القاف "ما" أي مقصوصا:"شاء الله أن يقص""بضم الفتح".

وفي رواية النسفي للبخاري: فيقص عليه من شاء الله "بفتح الياء وضم القاف" ومن فاعل، أي القاص، "ويعبر لهم ما يقصونه" أي يفسره، "وبوب عليه البخاري باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح" وقبل طلوع الشمس، أي جوازه أو ندبه، "قالوا: وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال: لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس" ووجه ضعفه من حديث الصحيح ظاهر؛ لأنه كان يصلي بغلس، "وفيه" أيضا" إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير إن

ص: 55

المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة.

قال المهلب: تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات، لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها، وقبل ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشره بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير من معصية فكيف عنها، وربما كانت إنذارا الأمر فيكون له مترقبا. قال: فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أو النهار. قاله في فتح الباري.

وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائي أن يكون صادق اللهجة، وأن ينام على

المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى" الساعة "الرابعة" من النهار، "ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس"، "ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة" لجواز حمله على بعد طلوع الشمس إلى ارتفاعها، وبعد الاصفرار إلى الغروب ووقت الاستواء على القول بكراهة الصلاة وقته لا بعد صلاة الصبح، وإن كره النفل حينئذ لتعبيره صلى الله عليه وسلم فيه، فيخص قولهم بما عده، ولذا "قال المهلب" أبو القاسم بن أحمد بن أسيد بن أبي صفرة التميمي الأندلسي، من العلماء الراسخين في الفقه والحديث والعبادة والنظر، سمع الأصيلي والقابسي وأبا ذر الهروي وغيرهم، وسمع منه ابن المرابط وابن الحذاء وغيرهم أحيا صحيح البخاري بالأندلس، وشرحه ومات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة: "تعبير الرؤيا عند" أي بعد "صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها، لقرب عهده بها وقبل ما يعرض له نسيانها" فيقصها على وجهها، "ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه" فيعبرها على الصواب "وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشر بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير من معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذار الأمر، فيكون له مترقبا" فيكون أهون عليه من فجأته له.

"قال" المهلب: "فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار، قاله في فتح الباري، وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائي أن يكون صادق اللهجة"، "بفتح الهاء وسكونها لغة" أي فصيح اللسان، أي يبين كلامه بيانا شافيا، بحيث لا يشتبه على المخاطب، "وأن ينام على وضوء

ص: 56

وضوء، على جنبه الأيمن، وأن يقرأ عند نومه والشمس، والليل، والتين، وسورة الإخلاص والمعوذتين وأن يقول: اللهم إني أعوذ بك من سيئ الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان في اليقظة والمنام، اللهم إني أسألك رؤيا صالحة صادقة نافعة حافظة غير منسية، اللهم أرني في منامي ما أحب. وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل.

إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائي تنحصر في قسمين:

أضغاث أحلام وهي لا تنذر بشيء وهي أنواع:

الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائي، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك. وروى مسلم عن جابر:

على جنبه الأيمن".

قال ابن الوردي: ومن ينم على الشمال لا يصح، وصح ما سواه وهو متضح، وربما صحت كرؤيا الجنب، "وأن يقرأ عند نومه والشمس والليل والتين وسورة الإخلاص" {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] .

وفي نسخة: وسورتي الإخلاص وهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] والأولى هي الموافقة لما نقله شارح ألفية ابن الوردي، يندب للنائم أمور، منها: استقبال القبلة وقراءة ما تيسر، والأولى الفاتحة والإخلاص لما رواه البزار وغيره عن أنس، مرفوعا: إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] الآية، فقد أمنت من كل شيء إلا الموت "والمعوذتين""بكسر الواو"، "وأن يقول: اللهم إني أعوذ بك من سير الأحلام"، من إضافة الصفة للموصوف، "وأستجير بك من تلاعب الشيطان في اليقظة" "بفتحات" والمنام، اللهم إني أسألك رؤيا صالحة، صادقة، نافعة، حافظة" لصاحبها عن أن يخلط فيها، أو يفهم منها غير ما أريد بها، غير منسية" بأن يتذكرها إذا استيقظ، "الله أرني في منامي ما أحب، وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل" بعلم الرؤيا "إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائي تنحصر في قسمين: أضغاث أحلام" تخليطها، "وهل لا تنذر" تخبر "بشيء، وهي أنواع الول تلاعب الشيطان ليحزن" "بضم الياء وكسر الزاي وفتحها وضم الزاي" الرائي، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه أو يرى أنه واقع في هول" فزع وخوف "ولا يجد من ينجده" يعينه ويخلصه منه "ونحو ذلك".

ص: 57

قال جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، إني حلمت أن رأسي قطع وأنا أتبعه، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام".

الثاني: أن يرى أن بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحالات عقلا.

"وروى مسلم" من طريق أبي الزبير، "عن جابر قال: جاء أعرابي" زاد في رواية ابن ماجه والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، "فقال: يا رسول الله إني حلمت" "بضم اللام" رأيت في منامي "أن رأسي قطع وأنا أتبعه" أمشي على أثره، وفي رواية ابن ماجه: فاتبعته فأعدته "فزجره النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال: "لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام".

وفي مسلم أيضا من طريق أبي سفيان، عن جابر: جاء أعرابي، فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج، فاشتددت على أثره، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تحدث بتلعب الشيطان بك في منامك" وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد يخطب، فقال:"لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه" وله في رواية ثالثة، عن جابر: جاء رجل، فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كان رأسي قطع، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال:"إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يحدث به الناس".

قال المازري والقرطبي: ليس في المنام ما يدل على أنه من الأضغاث أو تلاعب الشيطان، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن منامه هذا من الأضغاث أو تلاعب الشيطان، بوحي أو بدلالة في المنام دلته على ذلك، أو على أنه من المكروه الذي هو من تحذير الشيطان.

وقيل: إن الراوي أسقط من المنام ما لو ذكره لعلم أنه من الأضغاث وإلا فأهل التأويل في قطع الرأس تأويلات، كمفارقة الرائي ما هو عليه من النعم، أو مفارقة قومه، أو زوال سلطانه، أو تغير حاله في جميع الأمور، إلا أن يكون عبدا، فيدل على عتقه، أو مريضا فيدل على شفائه، أو مديانا فيدل على قضاء دينه، أو لم يحج، فيدل على أن يحج، أو محزونا فدل على زوال حزنه أو فرحه، أو خافئا فيدل على أمنه، إلى غير ذلك مما وسعوا فيه، وكذلك ينظرون في اتباع الرأس بما يئولون به قطع الرأس في الحملة لا باعتبار هذا المنام بعينه.

وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب أصول العبارة أن رجلا قال: يا رسول الله إني رأيت رأسي قطع، فجعلت أنظر إليه بإحدى عيني، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال:"بأيهما كنت تنظر إليه" فلبث ما شاء الله، ثم قبض صلى الله عليه وسلم، وإن النظر إليه كأنه اتباع السنة. انتهى.

"الثاني: أن يرى بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحالات عقلا"؛ لأن العقل دل على عصمتهم من ذلك، فلا يمكن وقوعه، فهو من الأضغاث لا تعبير له.

ص: 58

الثالث: ما يحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه، فيراه كما هو في المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة، أو يغلب على مزاجه ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا، وعن الماضي قليلا.

القسم الثاني: الرؤيا الصادقة، وهي رؤيا الأنبياء، ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور، وهي التي تقع في اليقظة على ما وفق ما وقعت في النوم، وقد وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة التي كفلق الصبح ما لا يعد ولا يحد.

قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. الحديث رواه البخاري.

"الثالث: ما يحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه، كما هو في المنام" لا يعبر، لأنه منام همة، "وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة" بفعله أو قوله، "أو يغلب على مزاجه" من الأضغاث لا يؤول، "ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا" غير غالب، "وعلى الماضي قليلا" وعبر في الفتح بلفظ عن في الثلاثة والخطب سهل.

"القسم الثاني: الصادقة وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور" أي قلة إنقاذا لهم من المعاصي، أو معافاة في أبدانهم، "وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم" كرؤياه صلى الله عليه وسلم أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رؤسهم ومقصرين.

"وقد وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة التي كفلق"، "بفتحتين"، "الصبح" أي شبيهة به في الضياء والوضوح، وخص بالشبة لظهوره الواضح الذي لا يشك فيه "ما لا بعد" لكثرته فلا يمكن حصره بعد "ولا يحد" لعدم إمكان حده.

"قال عائشة: أول ما بدئ "بضم الموحدة وكسر المهملة فهمزة" به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي" أي من أقسامه، فمن للتبعيض، وقل القزاز لبيان الجنس، كأنها قالت من جنس الوحي وليست منه، أي فهي مجاز علاقته المشابهة للوحي في أنه لا دخل للشيطان فيها، رده عياض بحديث أنها جزء من النبوة الرؤيا الصادقة في النوم" زيادة للإيضاح أو لتخرج رؤيا العين يقظة، مجازا، "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت" في بيانها مجيئا، "مثل:" فنصب نعت مصدر محذوف "فلق الصبح" في الضياء والظهور أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فالنصب على الحال والفلق الصبح لكنه لما استعمل في هذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام للخاص، "الحديث رواه البخاري" في مواضع ومسلم ومر بتمامه في أوائل الكتاب.

ص: 59

وفي رواية: الصالحة.

وهما بمعنى بالنسبة إلى أمور الآخر في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص. فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد، فإنه صلى الله عليه وسلم رأى بقرا تذبح، ورأى في سيفه ثلما، فأول البقر ما أصاب أصحابه يوم أحد، والثلم الذي كان في سيفه برجل من أهل بيته يقتل، ثم كانت العاقبة للمتقين، وكان بعد ذلك النصر والفتح على جميع الخلق.

وأما رؤيا غير الأنبياء، فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تفسير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقا.

وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري في "التعبير القادري": الرؤية الصادقة ما يقع عينه، أو ما يعبر في المنام، أو يخبر به من لا يكذب، والصالحة ما فسر.

واعلم أن الناس في الرؤيا على ثلاثة درجات:

"وفي رواية" عند مسلم والبخاري في بدء الوحي: "الصالحة" بدل الصادقة، "وهما بمعنى" واحد "بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص" من الصادقة، "فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم" وغيره من الأنبياء "كلها صادقة، فالصالحة في الأصل أخص" من الصادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد، فإنه صلى الله عليه وسلم رأى بقرا" "بموحدة فقاف" "تذبح، ورأى في سيفه ثلما" "بفتح المثلثة وسكون اللام" "فأول البقر ما" أي بما "أصاب أصحابه يوم أحد" من استشهاد سبعين، "والثلم الذي كان في سيفه برجل من أهل بيته يقتل" حمزة سيد الشهداء، "ثم كانت العاقبة للمتقين وكان بعد ذلك النصر الفتح على جميع الخلق".

"وأما رؤيا غير اأنبياء فبينهما" أي الصادقة والصالحة "عموم وخصوص" من وجه "إن فسرنا الصادقة بأنها التي تحتاج إلى تفسيره وأما إن فسرناها غير الأضغاث، فالصالحة أخص مطلقا" من الصادقة.

"وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري""بفتح الدال والنون والواو" وراء نسبة إلى الدينور من بلاد الجبل "في" كتاب "التعبير القادري: الرؤيا الصادقة ما يقع بعينه" يقظة مثل ما وقع مناما، "أو ما يعبر في المنام" للرائي "أو يخبر به من يكذب" من الأنبياء وكثير من الصالحين، "والصالحة ما فسر": عبر بتعبير كتعبيره صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم.

"واعلم أن الناس في الرؤيا على ثلاث درجات: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم،

ص: 60

الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير.

والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير.

ومن عداهم، يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة فالغالب على رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق.

وكفار: ويندر في رؤياهم الصدق جدا، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كما في رؤيا صاحب السجن مع يوسف عليه الصلاة والسلام، ورؤيا ملكهم وغير ذلك.

وقد روى الإمام أحمد مرفوعا، وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد:

ورؤياهم كلها صدق" وغالبها لا يحتاج إلى تعبير، "ويقع فيها ما يحتاج إلى تعبير،" كرؤيا يوم أحد، "والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق" واحتياجها إلى تعبير، "وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير" بأن يقع يقظة، كما رأوا في المنام، ويندر فيها الأضغاث لشغل بال وتغير مزاج ونحو ذلك، "ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم". من جهة رؤياهم، "وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق" لا جدا، "وكفار ويندر": يقل "في رؤياهم الصدق جدا، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا".

"أخرج مسلم من حديث أبي هريرة" وأوله إذا اقترب الزمان كما مر قريبا، لكن بلفظ أصدقكم "بالكاف" في الموضعين، وهو الذي رأيته في مسلم، "وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كما في رؤيا صاحب السجن" أحدهما يعصر خمرا، والآخر يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه "مع يوسف عليه الصلاة والسلام" أي اللذين دخلا السجن معه "ورؤيا ملكهم" سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، "وغير ذلك" كما حكى أن جالينوس غلظ طحاله فعجز عن علاجه، فرأى في المنام ملكا أمره بفصد عرق بين الخنصر والبنصر فبرئ، وأنه عرض له ورم في المحل الذي يتصل منه بالحجاب، فأمره الله في المنام بفصد العرق الضارب من كفه اليسرى فبرئ وذلك لأن الكافر وإن لم يكن محلا للصدق، لكن لا يمتنع أن يرى ما يعود عليه بخير في دنياه.

"وقد روى الإمام أحمد" والترمذي والدارمي "مرفوعا وصححه ابن حبان من حديث

ص: 61

أصدق الرؤيا بالأسحار. وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينوري أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها، ومن النصف الثاني يسرع بتفاوت أجزاء الليل، وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر، ولا سيما عند طلوع الفجر، وعن جعفر الصادق أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة، وعند محمد بن سيرين: رؤيا الليل مثل رؤيا النهار، والنساء كالرجال، وعن القيرواني: إن المرأة إذا رأت ما ليست له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه.

ومن مرائيه الكريمة عليه الصلاة والسلام: شربه اللبن وتعبيره بالعلم، كما في حديث ابن عمر عند البخاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم

أبي سعيد: أصدق الرؤيا بالأسحار" سبق شرحه قريبا.

"وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينوري أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها" إلى النصف الأول، "ومن النصف الثاني يسرع بتفاوت أجزاء الليل،" فكلما قرب من آخره كان أسرع مما قبله، "وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر" قبيل الصبح بين الفجرين، "ولا سيما عند طلوع الفجر" الصادق.

"وعن جعفر" بن محمد "الصادق: أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة" نصف النهار، أي بالنهار، فلا يخالف الحديث.

"وعن محمد بن سيرين" التابعي المشهور، العالم بالتعبير:"رؤيا الليل مثل رؤيا النهار، و" رؤيا "النساء كالرجال" أي كرؤياهم.

"وعن" علي "القيرواني" العابر: "أن المرأة إذا رأت ما ليس له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم" رؤيا "العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه" إن لم يكن كل أهلا، كما صرح به في الألفية، فقال:

والعبد رؤياه تخص المولى

وما ترى المرأة نال البعلا

وانقل إلى الوالد رؤيا الطفل

إن كان هؤلاء غير أهل

"ومن مرائيه الكريمة عليه الصلاة والسلام شربه اللبن وتعبيره بالعلم" لا يظهر عطفه على ما قبله، فإما أن يقدر في الأول من مرئيه وتعبيراته، أو يقدر في الثاني، ومن تعبيراته تعبيره بالعلم، "كما في حديث ابن عمر عند البخاري" في العلم والمناقب والتعبير في ثلاثة مواضع.

وكذا أخرجه مسلم في الفضائل من طرق كلها عند الشيخين تدور على ابن شهاب، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" يقول: "بينا" بغير ميم، كما ضبطه المصنف في المواضع المذكورة "أنا نائم أتيت"، "بضم الهمزة"، "بقدح لبن، فشربت

ص: 62

أتيت بقدح لبن فشربت منه، حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي، يعني عمر". قالوا: فما أولته؟ قال: "العلم".

منه". أي من اللبن وأكثرت، "حتى إني"، "بكسر الهمزة" بعد حتى الابتدائية وفتحها على جعلها جاره "لأرى" "بفتح الهمزة" من الرؤية، ويؤيده رواية المناقب: حتى أنظر "الري"، "بكسر الراء وشد الياء" على الرواية.

وحكى الجوهري: الفتح أيضا، وقيل:"بالكسر الفعل، وبالفتح المصدرية"، ورؤية الري على سبيل الاستعارة، كأنه لما جعل الري جسما أضاف إليه ما هو من خواص الجسم، وهو كونه مرئيا "يخرج في أظفاري" جمع ظفر وفي بمعنى على، نحو:{فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ، أي عليها، وتكون بمعنى يظهر عليها، والظفر إما منشأ الخروج أو ظرفه، والجملة في موضع نصب على الحال إن قدرت الرؤية بمعنى الإبصار، ومفعول ثان لأرى إن قدر بمعنى العلم، واللام للتأكيد، وعبر بصيغة المضارع، والأصل أنه ماض استحضار الصورة الحال، "ثم أعطيت فضلي" ، أي ما فضل من القدح الذي شربت منه، "يعني عمر".

كذا في إحدى روايات البخاري في التعبير: وكان بعض رواته شك وله في العلم.

وفي الرواية الثانية في التعبر: "فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب". وفي المناقب: "ثم ناولت عمر". وفي الرواية الثالثة في التعبير: "ثم أعطيت فضلته عمر". أي فضلة اللبن.

"قالوا": وفي رواية للبخاري في التعبير، فقال من حوله:"فما أولته؟ " أي عبرته، قال:"العلم"، "بالنصب" أي أولته العلم وبالرفع أي المؤول به هو العلم.

وفي رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عند سعيد بن منصور: ثم ناول عمر فضله، قال: ما أولته، وظاهره أن السائل عمر، ووقع في جزء الحسن بن عرفة من وجه آخر عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"أولوها" قالوا: يا نبي الله هذا العلم الذي آتاكه الله حتى إذا امتلأت فضلت منه فضلة، فأخذها عمر، قال:"أصبتم". وإسناده ضعيف، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون بعضهم أول، وبعضهم سأل، أو أن هذا وقع أولا، ثم احتمل عندهم أن يكون عنده في تأويلها زيادة على ذلك، فقالوا ما أولته، ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة المنافع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني، والعلم للغذاء المعنوي، وفيه فضل عمر، وإن من شأن عمر الرؤيا، أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي، لكن منها ما يحتاج إلى تعبير، ومنها ما يحمل على ظاهره، والمراد بالعلم هنا العلم بساسة الناس، بكتاب الله وسنة رسوله، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان، فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة، فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم

ص: 63

وفي رواية الكشميهني: "من أظافيري". وفي رواية صالح بن كيسان: "من أطرافي".

وهذه الرؤية يحتمل أن تكون بصرية، وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول: ما أخرجه الطبراني والحاكم من طريق أبي بكر بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده في هذا الحديث: "فشربت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم". على أنه محتمل أيضا.

قال بعض العارفين: الذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، وهو كما قال، لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم

الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس، بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعا في خلافة عثمان، فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له، فنشأت الفتن من ثم إلى أن أفضى الأمر إلى قتله، استخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافا والفتن إلا انتشارا، قاله الحافظ في موضعين.

"وفي رواية الكشميهني" للبخاري: "من أظافيري" جمع أظفور كأسبوع وأسابيع بدل قوله في الرواية الأولى: "في أظفاري".

"وفي رواية صالح بن كيسان" عن ابن شهاب بسنده عند البخاري في التعبير: "حتى إني لأرى الري يخرج من أطرافي". بدل: "في أظفاري".

وفي رواية المناقب: "يجري في ظفري"، أو:"أظفاري" بالشك. "وهذه الرؤية": "حتى لأرى الري" ، "يحتمل أن تكون بصرية وهو الظاهر"، ويؤيده رواية المناقب:"حتى أنظر إلى الري". "ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول" البصرية، "ما أخرجه الطبراني والحاكم من طريق أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عمر" تابعي صغير، وثقه العجلي، وروى له الشيخان "عن أبيه" سالم أحد الفقهاء، "عن جده في هذا الحديث:"فشربت" من اللبن "حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم". "عن أنه محتمل أيضا" لأن تكون رؤيا علمية، فلا يؤيد الأول.

"قال بعض العارفين" عبارته على البخاري، قال القاضي أبو بكر بن العربي:"الذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق" أي: يوجد "المعرفة من بين شك وجهل" زاد في الفتح: ويحفظ العمل عن غفلة وزلل. انتهى.

والمراد من هذه العبارة أن حال الرائي من حيث هو متردد بين أن لا يعلم من حال رؤياه شيئا يؤولها به، وبين أن يتخيل شيئا منها لا يجزم به، فيتردد في المراد منها، والله قادر على أن

ص: 64

والذي ذكره قد يكون خارقا للعادة فيكون من باب الكرامة.

وقال العارف ابن أبي جمرة: تأول النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم اعتبارا بما بين له أول الأمر حين أتى بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن فقال له جبريل: أخذت الفطرة، انتهى.

وقد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة، كما أخرجه البزار من حديث أبي هريرة رفعه: اللبن في المنام فطرة.

يخلق المعرفة، وهي العلم المطابق للواقع فيمن أراد فيدركه ويجزم به.

وفي الفتح قال ابن العربي: اللبن رزق يخلقه الله طيبا بين أخباث من دم وفرث، كالعلم يظهره الله في ظلمة الجهل، فضرب به المثل في المنام، "وهو كما قال لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم".

وفي حديث مرفوع: "وإنما العلم بالتعلم". "والذي ذكره قد يكون خارقا للعادة، فيكون من باب الكرامة" والمراد أن خلق المعرفة قد يكون العادة من تحصيله بالتعلم، فلا يكون كرامة، وقد يكون بإلهام من الله تعالى من غير تعب، وهو اللدني، فيكون كرامة لمن أوتيها، كما إليه الإشارة بقوله تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] .

"وقال العارف ابن أبي جمرة: تأول" عبر "النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم، اعتبارا بما بين له أو الأمر حين أتى" في الإسراء "بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أخذت الفطرة. انتهى".

أي: الحق الذي أمر الله به من فعل الطاعات وترك المحرمات، وقيل غير ذلك مما سبق في المعراج.

وفي رواية: فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، "وقد جاء في بضع الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة" بكسر الفاء وسكون الطاء" زاد في الفتح والسنة والقرآن، "كما أخرجه البزار" بإسناد حسن "من حديث أبي هريرة رفعه: "اللبن في المنام فطرة" لأن العالم القدسي تصاغ فيه الصور من العالم الحسي لتدرك منه المعاني، ولما كان اللبن في عالم الحس من أول ما يحصل به التربية ويرشح به المولود، صيغ عنه مثال الفطرة الت بها تتم القوة الروحانية، وتنشأ عنها الخاصة الإنسانية، ذكره بعضهم.

وقيل: الفطرة هنا علم التوحيد لا غيره فهو الفطرة التي فطر الحق عليها عباده حتى أشهدهم حين قبضهم من ظهورهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، فشاهدوا الربوبية قبل كل شيء. انتهى.

ص: 65

وقد ذكر الدينوري: أن اللبن المذكور في هذا يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم، قال: ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك في الدين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللبوة مال مع عداوة لذي أمر.

وفي الحديث: إن علم النبي صلى الله عليه وسلم بالله لا يبلغ أحد درجته فيه؛ لأنه شرب حتى أرى الري يخرج من أظفاره.

وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم، ووجه التعبير في الحديث بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني،

"وقد ذكر الدينوري: أن اللبن المذكور في هذا" الحديث "يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم، قال: ولبن البقر" عراب أو جواميس "خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة" ضأن أو معز "مال وسرور وصحة جسم" وفي ألفية ابن الوردي قال:

وكل ما حل من الألبان

مال حلال كالظبا والضأن

"وألبان الوحش" مما لا يتأنس من دواب البر "شك في الدين" للشارب إما حالا بأن يكون متلبسا بذلك حال الرؤيا، وإما استقبالا بأن يطرأ عليه بعد، "وألبان السباع"، "جمع سبع بضم الياء وتسكن" يطلق على كل ما له ناب ويفترس، فهو من جملة الوحوش، فشربها شك في الدين، فلعله خصه بالذكر إشارة إلى أن فيها مضرة دنيوية أيضا.

ولذا قال: "غير محمودة" لشاربها "إلا أن لبن اللبوة" أنثى الأسد "مال مع عدواة لذي أمر" أي صاحب حكم، "وفي الحديث" من الفوائد:"أن علم النبي صلى الله عليه وسلم بالله لا يبلغ أحد درجته فيه؛ لأنه شرب حتى أرى الري يخرج من أظفاره، وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله" والشدة في أمره، "بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم" فلا يرفق في القيام بالحق، وأبو بكر، وإن كان لا يقر على باطل، لكنه كان يعامل بالرفق واللين، كما هو معلوم من سيرهما، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"أرأف أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر".

وتقدم أن وجه اختصاصه بذلك لطول مدة خلافته بالنسبة إلى أبي بكر، "ووجه التعبير في الحديث بذلك"، أي: تعبير اللبن بالعلم "من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع" بهما، "وكونهما سببا للصلح فاللبن" جعل محصلا "للغذاء البدني" وهو إصلاحه، بما يتغذى به من

ص: 66

والعلم للغذاء المعنوي.

ومن ذلك رؤيته صلى الله عليه وسلم القميص وتعبيره بالدين.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنهما ما يبلغ دون ذلك، ومر عليّ بن الخطاب وعليه قميص يجره". قالوا: ما أولته يا رسول الله؟

الطعام والشراب.

وفي الحديث: ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن، "والعلم للغذاء المعنوي"، أي يحصل ما ينتفع به في الدين من تمييز الحق من الباطل، وإطلاق الغذاء عليه مجازا تشبيها لما يحصل المنفعة في الدين بما يحصل المنفعة في البدن.

وفي الحديث أيضا كما قال ابن أبي جمرة: مشروعية قص الكبير رؤياه على من دونه، وإلقاء العالم المسائل، واختيار أصحابه في تأويلها، وإن ممن أدب أن يرد الطالب علم ذلك إلى معلمه، قال: والذي يظهر أنه لم يرد منهم أن يعبروها، وإنما أراد أن يسألوه عن تعبيرها، ففهموا مراده فسأله فأفادهم، ولذلك ينبغي أن يسلك هذا الأدب في جميع الحالات.

"ومن ذلك" أي مرائيه وتعبيراته: "رؤيته صلى الله عليه وسلم القميص وتعبيره بالدين عن أبي سعيد" سعد بن مالك بن سنان "الخدري رضي الله عنه" وعن أبيه، "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه قال:"بينا". "بغير ميم" وفي رواية بالميم. "أنا نائم رأيت الناس" من الرؤيا الحلمية على الأظهر، أو من الرؤية البصرية، فتطلب مفعولا واحدا وهو الناس، فجملة:"يعرضون عليّ". حال، أو علمية من الرأي، فتطلب مفعولين هما الناس، "يعرضون عليّ" أي يظهرو لي، ويجوز رفع الناس، كما قال الحافظ، ولعله بتقدير رأيت رؤيا، فقيل: ما هي؟ قال: هي الناس، وسقط لفظ على لأبي ذر وابن عساكر في التعبير، وثبت لغيره فيه كما في الإيمان وفي المناقب وفي التعبير أيضا، عرضوا علي "وعليهم قمص"، "بضم القاف والميم" جمع قميص "منها ما يبلغ الثدي" بالجمع والإفراد روايتان، يكون للرجل والمرأة خلافا لمن خصه بها، إلا أن يدعي أنه أطلق في الحديث على الرجل مجازا، "ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر علي" كذا عند البخاري في إحدى روايتيه في التعبير، وفي الثانية كالإيمان والمناقب:"وعرض علي". "عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره" لطوله، كذا في الإيمان والتعبير، وفيه أيضا رواية: يجتره.

قال المصنف: بسكون الجيم بعدها فوقية مفتوحة، ولابن عساكر: يجره بضم الجيم وإسقاط الفوقية، وفي المناقب: اجتره "بهمزة وصل وسكون الجيم" قالوا: ما أولته؟ أي عبرته، وللكشميهني: أولت بلا ضمير، وفي الإيمان: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين"

ص: 67

قال: "الدين". رواه البخاري.

وفي رواية الحكيم الترمذي في طبقة البخاري من طريق أخرى في هذا الحديث، فقال أبو بكر: علام تأولت هذا يا رسول الله؟

قالوا و"الثدي" بالمثلثة وكسر الدال وتشديد الياء، جمع ثدي، بفتح ثم سكون، والمعنى: أن القميص قصير جدا بحيث لا يصير من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها.

وقوله: "ومنها ما يبلغ دون ذلك" يحتمل أن يريد به من جهة السفل، وهو الظاهر فيكون أطول، ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي المذكورة:"فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته -بالإفراد- ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه".

"بالنصب ويجوز الرفع"، "رواه البخاري" في التعبير في موضعين، وقبله في المناقب وقبله في الإيمان، ورواه مسلم في الفضائل، كلاهما من طرق تدور على ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد.

"وفي رواية الحكيم الترمذي" محمد بن علي "من طبقة البخاري من طريق أخرى في" روايته "هذا الحديث: فقال أبو بكر الصديق: علام" أي على أي معنى "تأولت هذا" المنام "يا رسول الله؟ " ففيه بيان أنه السائل، فالجمع في قوله: قالوا. كأنه لما سكتوا عن سؤاله، فكأنهما "قالوا: والثدي: بضم المثلثة وكسر الدال وتشديد الياء جمع ثدي بفتح ثم سكون" كما رواه أبو ذر في التعبير في الموضعين وفي المناقب، ورواه غيره في الثلاثة بالإفراد، وأما في الإيمان، فرواه أبو ذر بالإفراد، وغيره بالجمع، كما أفاده المصنف، "والمعنى أن القميص قصير جدا، بحيث لا يصير" أي لا يمتد، وفي نسخة: أي لا يستر، وفي الفتح، وتبعه المصنف في الشرح، بحيث لا يصل "من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها" والمعنى واحد على الجميع.

"وقوله: "ومنها ما يبلغ دون ذلك". يحتمل أن يريد به" أي بالدون "من جهة السفل، وهو الظاهر، فيكون أطول" مما يبلغ الثدي، "ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو، فيكون أقصر" أي لم يبلغ الثدي.

"ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي المذكورة": "فمنهم من كان قميصه إلى سرته -بضم السين- ومنهم من كان قميصه إلى ركبته -بالإفراد- ومنهم من كان قميصه إلى

ص: 68

ويجوز النصب في قوله: "الدين". والتقدير: أولت الدين، ويجوز الرفع.

وفي رواية الحكيم المذكورة: على الإيمان.

وقد قيل في وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه، والأصل في قوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] .

واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده. وقال ابن العربي: إنما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل كما يستر القميص عورة البدن. قال: وأما غير عمر فالذي كان

إنصاف ساقيه" بجمع إنصاف كراهة توالي تثنيتين، "ويجوز النصب في قوله الدين" على أنه معمول أولت، "والتقدير أولت الدين، ويجوز الرفع" أي هو الدين، وظاهره استواؤهما وليس كذلك، فإن الحافظ قال: بالنصب، ويجوز الرفع، فمفاده أن الرواية بالنصب، وكذا جزم به المصنف في الإيمان وغيره.

"وفي رواية الحكيم المذكورة" قال: "على الإيمان" أولته بدل قوله: قال الدين "وقد قيل في وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه" فهو من التشبيه البليغ، لأنه يستر العورة، والدين يستره من النار، كما قال المصنف، "والأصل في قوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} العمل الصالح، أو السمت الحسن أو خشية الله، أو لباس الحرب، بالنصب عطفا على "لباسا"، والرفع مبتدأ خبره {ذَلِكَ خَيْرٌ} أو الخير خير وذلك صفته كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه، ولم يقل المصنف الآية، وإن وقعت في الفتح، لأن الاستدلال لا يتوقف على تمامها، وهم إنما يقولون الآية إذا كان في باقيها تمام الاستدلال.

"واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده" وذلك مناسب لحال عمر فإن دينه متين وآثاره باقية.

"وقال ابن العربي: إنما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل" فيشمل الإنسان ويحفظه ويمنعه من المخالفات، "كما يستر القميص عورة البدن" فوجه الشبه الستر والشمول، ولا يشكل ظاهره بأنه يستلزم فضل عمر على أبي بكر؛ لأن المراد بالأفضل الأكثر ثوابا والأعمال علاماته، فمن كان عمله أكثر فدينه أقوى، ومن كان دينه أقوى فثوابه أكثر، ومن كان ثوابه أكثر فهو أفضل، لأنه ليس في الحديث تصريح بالمطلوب، فيحتمل أن أبا بكر

ص: 69

يبلغ الثدي هو الذي يستر القلب عن الكفر ولو كان يتعاطى المعاصي؛ لأنه لا يخرج بها عن الإيمان، والذي كان يبلغ أسفل من ذلك وفرجه باد هو الذي يستر رجله عن المشي إلى المعصية، والذي يستر رجله هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذي يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص.

وأشار العارف ابن أبي جمرة: إلى أن المراد بالناس في هذا الحديث: المؤمنون، لتأويله القميص بالدين، قال: والذي يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية، بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وكان لعمر في ذلك المقام العالي.

قال: ويؤخذ من هذا الحديث، أن كل ما يرى في القميص من حسن أو غيره فإنه يعبر بدين لابسه، قال: والنكتة في القميص أن صاحبه إذا اختار نزعه،

لم يعرض في أولئك الناس، إما لأنه عرض عليه قبل ذلك، وإما لأنه لا يعرض أصلا، أو أنه لما عرض كان عليه قميص أطول من قميص عمر، وسكت عن ذكره اكتفاء بما علم من فضله، أو لأن المراد حينئذ بيان فضيلة عمر، فاقتصر عليها، أو ذكر أبا بكر، فذهل عنه الراوي.

وعن التنزل بأن الأصل عدم جميع هذه الاحتمالات، فهو معارض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصديق، وقد تواترت تواترا معنويا، فهو المعتمد، كما أفاده الحافظ في محلين.

"قال" ابن العربي: "وأما غير عمر، فالذي كان يبلغ الثدي هو الذي ستر القلب عن الكفر" لقرب الثدي من القلب، "ولو كان يتعاطى المعاصي لأنه لا يخرج بها عن الإيمان، والذي كان يبلغ أسفل من ذلك"، أي الثدي "وفرجه باد، هو الذي لم يسر رجله عن المشي في المعصية" بأن يمس فيها، "والذي ستر رجله هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه" فلم يفعل معصية، "والذي يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص" لله تعالى.

"وأشار العارف ابن أبي جمرة إلى أن المراد بالناس في هذا الحديث المؤمنون لتأويله القميص بالدين" وإن كان لفظ الناس عاما "قال: والذي يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية" أي مؤمنوها، "بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وكان لعمر في ذلك المقام العالي" الذي لا يساويه فيه من بعده.

"قال: ويؤخذ من الحديث أن كل ما يرى في القميص من حسن أو غيره، فإنه يعبر بدين لابسه" لأن المصطفى عبر الطول بالدين، فعلى قياسه: إذا كان حسنا، فلابسه حسن

ص: 70

وإذا اختار أبقاه فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب، ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون سبب نقص العمل.

وفي الحديث: إن أهل الدين يتفاضلون في الدين بالقلة والكثرة، والقوة والضعف، وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام ويذم في اليقظة شرعا، أعني جر القميص، لما ورد من الوعيد في تطويله.

ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام السوارين الذهب في يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين.

روى البخاري عن عبيد الله بن عبد الله قال: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها فقال ابن عباس ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا

الدين، وإن كان قبيحا فلابسه ناقص الدين.

"قال: والنكتة في القميص أن صاحبه إذا اختار" نزعه "نزعه""بفتحات" جواب إذا وما قدرته "بفتح فسكون" مفعول اختار، "وإذا اختار" بقاءه "أبقاه، فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب" أي طويله "ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان" لأنه يزيد وينقص على المذهب المنصور، "وقد يكون بسبب نقص العمل" وإن كان كامل الإيمان.

"وفي الحديث" من الفوائد إفادة "أن أهل الدين يتفاضلون في الدين بالقلة والكثرة والقوة والضعف" ولذا بوب عليه البخاري تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، "وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام، ويذم في اليقظة شرعا، أعني جر القميص لما ورد من الوعيد في تطويله" بنحو خبر: "لا ينظر الله إلى من يجر إزاره خيلاء". وفيه أيضا مشروعية تعبير الرؤيا وسؤال العالم بها عن تعبيرها، ولو كان هو الرائي، وفيه الثناء على الفاضل بما فيه لإظهار منزلته عند السامعين، ومحله إذا أمن عليه الفتنة بالمدح، كالإعجاب وفضيلة عمر ظاهره، "ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام السوارين الذهب في يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين".

"روى البخاري" في التعبير وقبله في المغازي، "عن عبيد الله""بضم العين""ابن عبد الله" بفتحها" ابن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء، "قال: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها" في شأن مسيلمة الكذاب.

وعند البخاري في المغازي: أن مسيلمة قدم المدينة، فأتاه صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس، وفي يده صلى الله عليه وسلم قضيب، فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك،

ص: 71

نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب ففظعتهما وكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان". فقال عبيد الله: أحدهما العنبسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة.

فقال صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت".

قال عبيد الله: فسألت ابن عباس عن رؤياه التي ذكرها، "فقال ابن عباس: ذكر لي" "بضم أوله مبينا للمفعول" وإبهام الصحابي لا يقدح، والذاكر له أبو هريرة، كما في الصحيحين من طريق نافع بن جبير.

قال ابن عباس: فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا" بغير ميم، قاله المصنف في المحلين "أنا نائم رأيت أنه وضع" بضم الواو "في يدي" بالتثنية "سواران"، "تثنية سوار بالكسر، ويجوز بالضم"، ولأبي ذر: إسواران "بكسر الهمزة وسكون المهملة تثنية إسوار لغة في سوار "من ذهب" من لبيان الجنس، كقوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] ، فهي القلب، "ففظعتهما"، "بفاء وظاء مشالة بعدها عين مهملة"، يقال: فظع الأمر، فهو فظيع إذا جاوز المقدار، قال ابن الأثير: الفظيع الأمر الشديد، وجاء هنا متعديا، والمعروف: فظعت به وفظعت منه، فتحمل التعدية على المعنى أي خفتهما أو معنى فظعتهما اشتد عليّ أمرهما.

قال الحافظ: ويؤيد الثاني رواية: فكبرا علي، "وكرهتهما" لكونهما من حلية النساء، وهو عطف مسبب على سبب، أي كرهتهما لشدة أمرهم وقبحه، "فأذن لي"، "بضم الهمزة وكسر المعجمة".

وفي رواية نافع عن ابن عباس: "فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما". "فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان" أي تظهر شوكتهما ومحاربتهما، "فقال عبيد الله""بضم العين" ابن عبد الله، المذكور في السند، "أحدهما العنبسي""بمهملة فنون ساكنة فسين مهملة" وهو الأسود صحب صنعاء، كما في الرواية الثانية، واسمه عبهلة "بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الهاء" ابن كعب، وكان يقال له أيضا: ذو الحمار؛ لأنه كان يخمر وجهه، وقيل: هو اسم شيطانه، وقول الكرماني: لأنه علم حمارا إذا قال له اسجد يخصف رأسه، يقتضي أنه بحاء مهملة، والمعروف أنه بالخاء المعجمة، بلفظ الثوب الذي يختمر به، كما أفاده الحافظ "الذي قتله فيروز" الديلمي الصحابي "باليمن" لما خرج بصنعاء وادعى النبوة، وغلب على عاملها للنبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بن أبي أمية المخزومي، وأخرجه منها، ويقال: أنه مر به، فلما حاذاه عثر الحمار، فادعى أنه سجد له، ولم يقم الحمار حتى قال له شيئا، فقام.

روى يعقوب بن سفيان والبيهقي من طريقه من حديث النعمان بن بزرج "بضم الموحدة

ص: 72

وفي رواية أبي هريرة عند الشيخين: "بينا أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض

وسكون الزاي"، ثم راء مضمومة ثم جيم قال: خرج الأسود الكذاب ومعه شيطانان، يقال لأحدهما سحيق "بمهملتين وقاف مصغر" والآخر شقيق "بمعجمة وقافين مصغر"، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمور الناس، فلما مات باذان عامل النبي صلى الله عليه وسلم بصنعاء، جاء شيطان الأسود، فأخبره، فخرج في قومه حتى ملك صنعاء، وتزوج المرزبانة، زوجة باذان، فذكر القصة في مواعدتها فيروز وغيره، فدخلوا على الأسود ليلا، وقد سقته المرزبانة الخمر صرفا حتى سكر، وكان على بابه ألف حارس، فنقب فيروز ومن معه الجدار حتى دخلوا، فقتله فيروز واحتز رأسه، وأخرجوا المرأة وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة، فوافى بذلك عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو الأسود عن عروة: أصيب الأسود قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بيوم أو ليلة، فأتاه الوحي، فأخبر أصحابه، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر، وقيل: وصل الخبر بذلك صبيحة دفنه صلى الله عليه وسلم "والآخر مسيلمة""بكسر اللام" مصغر ابن ثمامة، بضم المثلثة ابن كبير، بموحدة ابن حبيب بن الحارث من بني حنيفة، قال ابن إسحاق: ادعى النبوة سنة عشر، وزعم بعضهم أن مسيلمة لقب واسمه ثمامة، فيه نظر لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظا، فيكون ممن توافقت كنيته واسمه، فجمع جموع كثيرة ليقاتل الصحابة، فجهز له الصديق جيشا، أميرهم خالد بن الليد، فقتل جمع من الصحابة، ثم كان الفتح بقتل مسيلمة، قتله عبد الله بن زيد بن عاصم المازني على الأشهر، وقيل: عدي بن سهل، وقيل: وحشي بالحربة التي قتل بها حمزة، وقيل: أبو دجانة، ولعل عبد الله هو الذي أصابته ضربته، وحمل عليه الباقون، ثم ما في هذه الرواية من أن النص على اسمهما من عبيد الله قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشيخين، من رواية نافع بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي هريرة ولفظه:"فأولتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة".

قال عياض: النص على اسمهما في هذه الرواية التي بعدها هو من النبي صلى الله عليه وسلم وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحسن، رفع:"رأيت كأن في يدي سوارين، من ذهب فكرهتهما فذهبا كسرى وقيصر".

قال الحافظ: هذا إن كان الحسن أخذه عن ثبت، فظاهره يعارض التفسير بمسيلمة والأسود، فيحتمل أن يكون تعددا، والتفسير من قبله بحسب ما ظنه أدرج في الخبر فالمعتمد ما ثبت مرفوعا أنهما الأسود ومسيلمة.

"وفي رواية أبي الأسود عند الشيخين" في التعبير فالبخاري عن شيخه إسحاق بن راهويه، وفي المغازي عن شيخه إسحاق بن نصر، ومسلم عن شيخه محمد بن رافع، ثلاثتهم عن

ص: 73

فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبر علي وأهماني، فأوحي إلي أن أنفخهما فنفختهما، فأولتهما بالكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء وصاحب اليمامة".

عبد الرزاق، عن معمر، عن همام أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا" بغير ميم "أنا نائم إذ أتيت" قال الحافظ: كذا وجدته في نسخة معتمدة من طريق أبي ذر من الإتيان بمعنى المجيء، وبحذف الباء من "خزائن الأرض"، وهي مقدرة، وعند غيره:"أوتيت" بزيادة واو من الإيتاء بمعنى الإعطاء، ولا إشكال في حذف الباء على هذه الرواية، ولبعضهم كالأول، لكن بإثبات الباء، وهي رواية أحمد وإسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق يعني عند البخاري في المغازي، "فوضع"، "بضم الواو مبني لما لم يسم فاعله "في يدي" وفي رواية: في كفي "سواران" بالتثنية رفع بالألف مفعول ناب عن فاعله، ولأبي ذر: فوضع "بفتح الواو مبنيا للفاعل"، أي وضع الآتي بخزائن الأرض في يدي سوارين، نصب بالياء على المفعولية، كذا في شرح المصنف، وكان الحافظ لم ير الرواية الأولى هنا، فعزاها لرواية البخاري في المغازي، عن شيخه إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق قال: ولا إشكال فيهما، وشرح ابن التين هنا على لفظ وضع بالضم، وسوارين بالنصب، وتكلف لتخريج ذلك "من ذهب" صفة للسوارين، "فكبر"، "بضم الموحدة والإفراد" أي عظم على شأنهما وثقل.

وفي رواية المغازي: كمسلم، فكبرا بالتثنية، أي عظما "علي وأهماني" أحزناني وأقلقاني "فأوحي إلي" بالبناء للمجهول، رواه الأكثر، ولبعض الرواة:"فأوحى الله إلي".

قال القرطبي: أي إلهاما، أو على لسان ملك "أن انفخهما" بهمزة وصل، وكسر النون للتأكيد والجزم على الأمر، وقال الطيبي: ويجوز أن تكون مفسرة، لأن أوحي يتضمن معنى القول، وأن تكون ناصبة والجار محذوف، "فنفختهما" زاد البخاري في المغازي ومسلم: فذهبا، وفي رواية ابن عباس التي قبلها: فطارا، وزاد سعيد بن منصور من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة: فوقع واحد باليمامة، والآخر اليمن، "فأولتهما بالكذابين اللذين أنا بينهما" لأن السوارين في اليدين جميعا، فهو بينهما، قال عياض، ويأتي توجيه القرطبي "صاحب صنعاء" الأسود العنسي "وصاحب اليمامة" بتخفيف الميمين: مدينة باليمن على أربع مراحل من مكة، يعني مسيلمة الكذاب، وهذا ظاهر في أنهما كانا موجودين حين قص الرؤيا، فيخالف قوله في رواية ابن عباس التي فوق هذه:"يخرجان بعدي"، والجمع بينهما أن المراد بخروجهما بعده ظهور شوكتهما، ودعواهما النبوة ومحاربتهما، نقله النبوي عن العلماء.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن ذلك كله ظهر للأسود بصنعاء في حياته صلى الله عليه وسلم، فادعى النبوة وعظمت شوكته، وحارب المسلمين وفتك بهم، وغلب على البلد، وآل أمره إلى أن قتل في

ص: 74

قال المهلب: هذا الرواية ليست على وجهها، وإنما هي ضرب من المثل، وإنما أول النبي صلى الله عليه وسلم السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه، فلما رأى في ذراعيه سوارين من ذهب وليس من لبسه، لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له. وأيضا: ففي كونهما من ذهب، والذهب نهي عن لبسه دليل على الكذب، وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما فطارا، فعرف أنه لا ينسب لهما أمر، وأن كلامه بالوحي الذي جاء به يزيلهما من موضعهما.

حياته صلى الله عليه وسلم كما مر وأما مسيلمة، فادعى النبوة في حياته صلى الله عليه وسلم لكن لم تعظم شوكته، ولم تقع محاربته إلا في عهد أبي بكر، فإما أن يحمل ذلك على التغليب، وإما أن يكون المراد بقوله بعدي أي بعد نبوتي.

قال العيني: في نظره نظر، لأن كلام ابن عباس يصدق على خروج مسيلمة بعده صلى الله عليه وسلم، وأما كلامه في حق الأسود، فمن حيث أن أتباعه ومن لاذ به تبعوا سبيله وقووا شوكته، فأطلق عليه الخروج بعده بهذا الاعتبار، كذا قال، وهو كلام يضحك منه، فإن قوله يصدق على خروج مسيلمة بعده تقرير لقول الحافظ، يحمل على التغليب وقوله: وأما كلامه

إلخ، فإنما يتم أن ثبت أن أتباعه بعد قتله استمروا على ما كانوا عليه معه وأتى به، ولذا قال المصنف عقب نقله. انتهى.

فليتأمل "قال المهلب: هذه الرواية ليست على وجهها" أي ظاهرها، "وإنما هي ضرب من المثل، وإنما أول النبي صلى الله عليه وسلم السوارين بالكذابين، لأن الكذب وضع الشيء في غيره موضعه" تفسير باللازم وإلا فهو لغة الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عمدا أو خطأ، "فلما رأى في ذراعيه سوارن من ذهب، وليس من لبسه" أي مما يليق به ويلبسه، ولم يسبق له لبسهما، "لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له" فهو كاذب، "وأيضا ففي كونهما من ذهب، والذهب نهي عن لبسه" تحريما "دليل على" وجود "الكذب" إذ محال أن يلبس ما نهى عنه، "وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما، فطارا، فعرف أنه لا ينسب لهما أمر، وأن كلامه بالوحي الذي جاء به يزيلهما عن موضعهما" وفي ذلك إشارة إلى حقارة أمرهما، لأن شأن الذي ينفخ فيه فيذهب بالنفخ أن يكون في غاية الحقارة، قاله بعضهم، ورده ابن العربي، بأن أمرهما كان في غاية الشدة، لم ينزل بالمسلمين قبله مثله، قال الحافظ: وهو كذلك، لكن الإشارة إنما هي إلى الحقارة المعنوية لا الحسية، ويتجه في تأويل نفخهما أنه قتلهما بريحه، لأنه

ص: 75

وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسي، فأول الرؤيا عليهما ليكونا ذلك، إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت، ويحتمل أن يكون بوحي.

والمراد بـ"خزائن الأرض" الذي ذكرها، ما فتح على أمته من الغنائم، ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة.

وقال القرطبي: إنما كبر عليه السواران لكون الذهب من حلية النساء، وما حرم على الرجال، وفي طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما، ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا مسلمين، فكانوا كالساعدين للإسلام، فلما ظهر فيهما الكذابان، وبهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعاويهما الباطلة انخدع أكثرهم بذلك، فكأن الدين بمنزلة البلدين، والسوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا من الكذب، والزخرف من أسماء الذهب.

لم يغزهما بنفسه أما الأسود، فقتله فيروز الصحابي في مرض موته صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وأما مسيلمة، فقتل في خلافة الصديق.

"وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسي، فأول" أي حمل "الرؤيا عليهما، فيكون ذلك إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت" أي وقعت على الوجه الذي عبرت به، "ويحتمل أن يكون" تعبيره إياها بهما "بوحي" أوحى إليه بتعيينهما، "والمراد بخزائن الأرض التي ذكرها ما فتح على أمته من الغنائم، ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة" وقال غيره: بل يحمل على أعم من ذلك.

"وقال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "إنما كبر عليه السواران، لكون الذهب من حلية النساء، ومما حرم على الرجال" فلا يليق ذلك بعلي مقامه، "وفي طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما" وعدم ثباته، "ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعناء وأهل اليمامة كانوا مسلمين، فكانوا كالساعدين" تثنية ساعد، ما بين المرفق والكتف مذكر "للإسلام، فلما ظهر فيهما الكذابان، وبهرجا" زورا وزخرفا "على أهلهما بزخرف أقوالهما" المفسد لعقولهما "ودعاويهما الباطلة، انخدع أكثرهم بذلك، فكأن اليدين" الشريفتين اللتين وضع فيهما السواران "بمنزلة البلدين و"كأن "السوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا" أي حسنا "من الكذب، والزخرف من أسماء الذهب" ولذا قال: "اللذين أنا بينهما"،

ص: 76

وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير، فإن كان إلى جهة السماء تعريجا ناله ضرر، وإن غاب في السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه، وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه.

ومن ذلك: رؤيته صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء الثائرة الرأس، وتعبيرها بنقل وباء المدينة إلى الجحفة.

روى البخاري من حديث عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة -وهي

"وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير، فإن كان إلى جهة السماء تعريجا" أي ارتفاعا، والتكثير للمبالغة، لكن لفظ الفتح إلى جهة السماء بغير تعريج، وتبع المصنف في الشرح، "ناله ضرر وإن غاب في السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه" إن كان مريضا، "وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه" زاد في الفتح: فإن كان بجناح، فهو مال أو سلطان يسافر في كنفه، وإن كان بغير جناج دل على التحذير مما يدخل فيه، وقالوا: إن الطيران للشرار دليل رديء. انتهى.

وقال بعضهم: من رأى عليه سوارين من ذهب، أصابه ضيق في ذاته مدة، فإن كانا من فضة فهو خير من الذهب، وليس يصلح للرجال في المنام من الحلي إلا التاج والقلادة والعقد والخاتم.

قال الحافظ في المغازي: ويؤخذ من هذه القصة منقبة للصديق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تولى نفخ السوارين بنفسه حتى طارا، فأما الأسود فقتل في زمنه، وأما مسيلمة فكان القائم عليه حتى قتل أبو بكر، فقام مقامه صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويؤخذ منه أن السوار وسائر آلات الحلي اللائقة بالنساء تعبر للرجال بما يسوءهم ولا يسرهم، ولله أعلم.

"ومن ذلك" أي مرائيه وتعبيراته "رؤيته صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء الثائرة الرأس""بمثلثة من ثار الشيء إذا انتشر". "وتعبيرها بنقل وباء المدينة""بالمد والقصر" مرضها العام لا الطاعون، لأنه لم يدخلها "إلى الجحفة""بضم الجيم وسكون المهملة" الميقات المعلوم.

"روى البخاري" في التعبير من ثلاثة طرق، "من حديث" موسى بن عقبة، عن سالم، "عن" أبيه "عبد الله بن عمر" رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رأيت في المنام امرأة". وفي رواية: "كأن امرأة". "سوداء ثائرة الرأس"، "بمثلثة"، أي منتفش شعر رأسها، ولأحمد وأبي يعلى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة:"ثائرة الشعر تفلة". والمراد شعر الرأس وتفلة، "بفتح الفوقية وكسر الفاء ولام"، أي كريهة الرائحة "خرجت من المدينة" النبوية، كذا في أكثر

ص: 77

الجحفة- فأولت ذلك أن وباء المدينة نقل إليها".

وهذا من قسم الرؤيا المعبرة، وهي مما ضرب به المثل ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء: السوء والداء، فتأول خروجها بما جمع اسمها، وتأول من ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة.

وقال القيرواني من أهل التأويل: كل شيء غلبت السوداء في أكثر

الروايات.

وفي رواية ابن أبي الزناد: أخرجت بزيادة همزة مضمومة أوله على البناء للمجهول، ولفظه: أخرجت من المدينة، فأسكنت بالجحفة وسارت "حتى قامت" أي انتصبت قائمة حين وصولها "بمهيعة" "بفتح الميم وسكون الهاء فتحتية مفتوحة فعين مهملة" وقيل: بوزن عظيمة، ثم استقرت فيها كما يفيده التعبير بأسكنت في تلك الرواية.

قال الحافظ: وأظن قوله: "وهي الجحفة" مدرجا من قول موسى بن عقبة، فإن أكثر الروايات عنه خلا عن هذه الزيادة، وثبتت في رواية سليمان، يعني ابن بلال عن موسى عند البخاري، وابن جريج عن موسى عند ابن ماجه، إلا أنه قال بالمهيعة.

قال ابن التين: ظاهر كلام الجوهري أن مهيعة تصرف، لأنه أدخل عليها الألف واللام، إلا أن يكون أدخلهما للتعظيم وفيه بعد، انتهى.

وجزم السيوطي بأنه مدرج منه، "فأولت ذلك أن وباء المدينة نقل إليها" أي نقل من المدينة الجحفة لعدوان أهلها وأذاهم للناس، وكانوا يهودا وترجم البخاري على هذا الحديث باب: إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة "بضم الكاف وسكون الواو، بعدها راء مفتوحة فهاء تأنيث" أي: ناحية.

قال الحافظ: ظاهر الترجمة أن فاعل الإخراج النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نسبه إليه لأنه دعا به حيث قال: "اللهم حبب إلينا المدينة، وانقل حماها إلى الجحفة"، "وهذا" كما قال المهلب "من قسم الرؤيا المعبرة، وهي مما ضرب به المثل ووجه التمثيل أنه شق" أي قطع، أي أخذ "من اسم السوداء" جزئين "السوء والداء فتأول خروجهما بما جمع" هو، أي الجزآن "اسمها" فهو بالنصب مفعول، أو بالرفع والمفعول محذوف، أي بما جمعه اسمها، "وتأول من ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة""بفتح التحتية وضمها".

"وقال" علي "القيرواني، من" علماء "أهل التأويل: كل شيء غلبت عليه السوداء في أكثر وجوهها فهو مكروه" أي رؤياه تدل على مكروه، "وقال غيره: ثوران الرأس يؤول

ص: 78

وجوهها فهو مكروه، وقال غيره: ثوران الرأس يؤول بالحمى لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء لأنها أكثر اسيتحاشا.

ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه في درع حصينة وبقرا ينحر وتعبير ذلك.

عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت من المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة

بالحمى، لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء، لأنها أكثر استيحاشا" وعبارة الحافظ في حكاية هذا، وقيل: لأن ثوران الشعر من اقشعرار الجسد، ومعنى الاقشعرار: الاستيحاش، فلذلك يخرج ما يستوحش النفوس منه، كالحمى قلت: وكأن مراده بالاستيحاش أن رؤيته موحشة، وإلا فالاقشعرار في اللغة تجمع الشعر وتقبضه وكل شيء تغير عن هيئته، يقال: اقشعر كاقشعرت الأرض بالجدب والنبات من العطش، وقد قال القيرواني: فذكر كلامه استشهادا لما ترجاه وهو حسن.

"ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه في درع حصينة" صفة درع الحديد، لأنها مؤنثة عند الأكثر، "و" رؤيته "بقرا""بالنصب" في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى: وبقر بالجر، أي: وفي بقر، أي: مع بقر "ينحر، وتعبير ذلك عن أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال:"رأيت في المنام أني أهاجر" بضم الهمزة "من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي""بفتح الهاء" أي وهمي واعتقادي، قاله عياض وتبعه النووي، وجزم به الحافظ في الهجرة، وقال: هنا قال ابن التين: وبه رويناه والذي عند أهل مكة "بسكون الهاء" قال: ولعل الرواية على نحو قولهم في البحر بحر بالتحريك، ونهر ونهر، وشعر وشعر. انتهى.

وجزم في النهاية "بسكون الهاء" ولعله رواية قليلة، وقد يشعر به قول المصنف في علامات النبوة "بفتح الواو والهاء" وقد تسكن، وبه جزم في النهاية "إلى أنها اليمامة": بلاد الجو بين مكة واليمن، "أو هجر"، "بفتح الهاء والجيم" غير مصروف، قاعدة أرض البحرين، أو بلد باليمن، قاله المصنف.

وفي القاموس: مذكر مصروف، وقد يؤنث بلد باليمن واسم لجميع أرض البحرين، ورواه أبو ذر والأصيلي وابن عساكر الهجر بزيادة أل "فإذا هي" مبتدأ، وإذ للمفأجاة "المدينة" خبر "يثرب" اسمها في الجاهلية، فأتى به للبيان، أي التي تسمونها يثرب، ألا تراه قال قبل المدينة: فلا ينافي نهيه عن تسميتها بذلك، أو كان ذلك قبل نهيه، قاله عياض، قال: وفيه خروج الرؤيا على وجهها لهجرته صلى الله عليه وسلم إلى أرض بها نخل، وهي المدينة.

ص: 79

يثرب، ورأيت فيها بقرا، والله خير، وإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذي أتانا الله بعد يوم بدر". رواه

قال القرطبي: ولم يجزم بأحد البلدين، وليس في الرؤيا ما يدل على تعيين أحدهما، وإنما ذهب وهله إلى أحدهما لكثرة ما بهما من النخل.

وفي الصحيح مرفوعا: "أريت دار هجرتكم بين لابتين". قال الزهري: وهما الحرتان، قال ابن التين: رأى صلى الله عليه وسلم دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم رأى الصفة المختصة بالمدينة فتعينت، قال أبو عبد الله الأبي: فإن قيل: رؤياه حق، وقد ظن أحد البلدين ولم يتفق ذلك، أجيب بحضرة الشيخ حين أورد السؤال، بأن معنى كونها حقا، أنها ليست حلما من الشيطان، وأما باعتبار المطابقة فقد لا تجب المطابقة، ولم ينكره الشيخ، وأجاب هو، بأن الوهل يحتمل أن يكون أول حركة الذهن إلى التفسير، ثم لم يتماد عليه، ثم الوهل يحتمل أنه في النوم ويحتمل في اليقظة، انتهى.

ومراده بالشيخ الإمام محمد بن عرفة شيخه "ورأيت فيها" أي الرؤيا، اختصر الحديث تبعا للبخاري في التعبير، وإلا فقبل هذا في البخاري في علامات النبوة.

وفي مسلم: ورأيت في رؤياي هذه سيفا، فذكر ما يأتي، وقال عقبه: ورأيت فيها "بقرا"، "بموحدة وقاف" $"والله خير""مبتدأ وخبر".

قال عياض: رويناه برفعهما، ومعناه عند الأكثر، أي ثواب الله للمقتولين خير لهم من مقامهم في الدنيا، وقيل: المعنى صنع الله خير لهم وهو قتلهم يوم أحد، قال الأبي: وعلى التقديرين، فارتفاعهما على المبتدأ والخبر، ويحتمل أنه على اعتبار العوض بالنصر، كما يقال: في الله عوض من كل هالك.

قال عياض: وقيل فيه تقديم وتأخير، والتقدير: رأيت والله بقرا ينحر، والاسم مخفوض على القسم، وبهذا اللفظ جاء في رواية السيرة، وسمي خيرا على التفاؤل وإن كان مكروها في الظاهر، أو باعتبار عقباه، كما يقول العابر لمن قص عليه رؤياه خير، والأولى قول من قال: والله خير من جملة الرؤيا، وأنها كلمة ألقيت إليه، وسمعها عند رؤياه بدليل قوله: وإذا الخير

إلخ. انتهى.

"وإذا هم النفر"، "بفتح النون والفاء"، "من المؤمنين" الذين استشهدوا "يوم أحد".

قال القرطبي: أخذ النفر من لفظ بقر مصحفا، إذ لفظهما واحد ليس بينهما إلا النقط، يعني: والتصحيف من وجوه التأويل، وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري في المواضع كلها، فإذا هم المؤمنون يوم أحد، "وإذ الخير ما جاء الله به من الخير بعد".

ص: 80

البخاري ومسلم.

وقد روى الإمام وغيره عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة المدينة، والبقر بَقْرًا".

وهذه اللفظة الأخيرة وهي "بقر" الموحدة، وسكون القاف، مصدر بقره يبقره بقرا.

قال عياض: صحت الرواية فيها أنها بالضم مقطوعة عن الإضافة، أي بعد ما أصيبوا يوم أحد، "وثواب الصدق" أي صدق الوعد مع قريش يوم أحد على الاجتماع ببدر في العام القابل، فخرج صلى الله عليه وسلم إليها، وجبنت قريش فما خرجوا إليها "الذي أتانا"، "بالمد"، أي أعطانا "الله بعد يوم بدر" أي بدر الموعد، وهي الثالثة، وربما عبر عنها بالثانية، ولفظ الجلالة ثابت في الصحيحين، فلا عبرة بسقوطها في غالب نسخ المصنف.

قال عياض: صحت رواية في بعد "بالنصب" مضافة ليوم بدر، فهما أمران مختلفان أوتيهما في وقتين مختلفين، فيستحيل أن يكون المراد بيوم بدر، الغزوة الكبرى لتقدمها على أحد في رمضان سنة اثنتين، وأحد في شوال سنة ثلاث، فتعين أنها بدر الثانية في شوال سنة أربع.

"رواه البخاري" مفرقا في التعبير: وغزوة بدر، وغزوة أحد، وعلق أوله في الهجرة، وساقه تاما في علامات النبوة، لكنه في الجميع شك في رفعه، فيقول: أرى عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: قائل ذلك هو البخاري، كأنه شك هل سمع من شيخه صيغة الرفع أم لا؟

"و" أخرجه "مسلم" وأبو يعلى عن أبي كريب شيخ البخاري، فيه: فلم يترددا، بل جزما برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، "وقد روى الإمام أحمد وغيره" النسائي وابن سعد بإسناد صحيح، "عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت كأني في درع حصينة" منيعة، تمنع عن لابسها الأذى، "ورأيت بقرا" فزاد على السابقة: "تنحر" وبه يتضح التأويل.

وفي حديث ابن عباس: تذبح، "فأولت الدرع الحصينة المدينة" فهذا أيضا زيادة على السابق "و" أولت "البقر""بفتحتين"، "بقرا"، "وهذه اللفظة الأخيرة، وهي بقر: "بفتح الموحدة وسكون القاف" مصدر بقره يبقره" كقتله يقتله، أي شق بطنه "بقرا" يكون فينا، قال: فكان من أصيب من المسلمين، كما زاد في حديث ابن عباس: ومنهم من ضبطها "بفتح النون والفاء"؛ لأن من وجوه التأويل التصحيف، ولفظ بقر مثل لفظ نفر "بنون وفاء" خطأ.

ويؤيده رواية مسلم: وإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد كما مر، قيل: إنما أول البقر بمن قتل، لأن البقر متسلحة بقرونها، وبها يدفع ويناطح بعضها بعضا، فأشبهت رجال الحرب، وخص القتل بأصحابه، وليس في الرؤيا دليل ظاهر على تخصيصهم، لأن البقر قد يعبر بها عن أهل

ص: 81

ولهذا الحديث سبب جاء بيانه في حديث ابن عباس عند أحمد أيضا والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم من طريق أبي الزناد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس في قصة أحد، وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة ولبسه اللأمة وندامتهم على ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل". وفيه: "إني رأيت أني في درع حصينة" الحديث، بنحو حديث جابر، وأتم منه، وقد تقدمت الإشارة إليه في غزوة أحد من المقصد الأول.

والمراد بقوله: "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر" فتح خيبر ثم مكة، أي ما جاء الله به بعد بدر الثانية من تثبيت قلوب المؤمنين.

الحرب والبادية ومن يثير الأرض، لأنها تثيرها، ولأن الذكر منها ثور، وهذه صفة أصحابه الأنصار لاشتغالهم بالزراعة، وليست صفة غيرهم من قريش، أو لأن أصحابه الثائرين معه على الحرب، كذلك لتحريكهم جهتهم من الأرض، وقلبهم ظاهرها وباطنها.

قاله عياض: "ولهذا الحديث سبب، جاء بيانه في حديث ابن عباس عند أحمد أيضا، والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم من طريق أبي الزناد""بكسر الزاي وخفة النون" اسمه عبد الله بن ذكوان، "عن عبيد الله""بضم العين""ابن عبد الله""بفتحها""ابن عتبة""بضمها وإسكان الفوقية""عن ابن عباس في قصة أحد، وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا" يخرجوا "من المدينة وإيثارهم" تقديمهم "الخروج طلبا للشهادة ولبسه" صلى الله عليه وسلم "اللأمة""بهمزة ساكنة"، ويجوز تخفيفه الدرع، "وندامتهم على ذلك" بعدما دخل بيته، وقول بعضهم: استكرهتم رسول الله، "وقوله صلى الله عليه وسلم" حين خرج وعرضوا عليه القعود "لا ينبغي" لا يجوز "لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" أو يحكم الله بينه وبين عدوه، وفيه:"إني رأيت أن في درع حصينة، الحديث بنحو حديث جابر" المذكور قبله، "وأتم منه" سياقا، "وقد تقدمت الإشارة إليه في غزوة أحد من المقصد الأول".

"والمراد بقوله": "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير، وثواب الصدق الذي آتانا"، "بالمد" أعطانا "الله بعد يوم بدر". فتح خيبر وقريظة، "ثم مكة"، "أي ما جاء الله به بعد بدر الثانية" التي بعد أحد، وتسمى بدر الموعد، لتواعدهم عليها بعد فراغ غزوة أحد "من تثبيت قلوب المؤمنين" لأن الناس جمعوا لهم، فزادهم إيمانا وفرق العدو من هيبتهم، فلم يأتوها وأخلفوا الموعد.

ص: 82

قال في فتح الباري: وفي هذا السياق إشعار بأن قوله في الخبر: "والله خير" من جملة الرؤيا. قال: والذي يظهر لي أن لفظ "والله خير" لم يتحرر إيراده، وأن رواية ابن إسحاق هي المحررة، وأنه رأى بقرا ورأى خيرا، فأول البقر على من قتل من الصحابة، يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق في القتال والصبر على الجهاد يوم بدر وبعده إلى فتح مكة، والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد نبه عليه ابن بطال.

ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه أتى برطب. روى مسلم عن أنس

"قال في فتح الباري: وفي هذا السياق إشعار، بأن قوله في الخبر" أي الحديث: "والله خير من جملة الرؤيا" زاد الفتح في المغازي، كما جزم به عياض وغيره، "قال" في الفتح هنا:"والذي يظهر لي أن لفظ الله خير لم يتحرر إيراده" من راويه، "وإن رواية ابن إسحاق":"إني رأيت والله خيرا، رأيت بقرا". "هي المحررة" والواو للقسم، وخيرا مفعول رأيت، "وأنه رأى بقرا ورأى خيرا، فأول البقر على من قتل من الصحابة يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق في القتال والصبر على الجهاد يوم بدر" العظمى، "وبعده إلى فتح مكة" وما اتصل به من حنين والطائف، ولم ينظروا إلى ما وقع في أحد، وفي هذا تورك على قول عياض: يستحيل أن المراد غزوة بدر الكبرى لتقدمها على أحد، لأنه لا يمتنع أنها المراد، وأن الرؤيا مؤولة بثواب القتال الواقع قبلها وبعدها، إلى آخر المغازي، كما أشار إليه بقوله:"والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد" بل يم جميع المغازي "نبه عليه ابن بطال".

قال الحافظ عقبه: ويحتمل أن يريد ببدر بدر الموعد، لا الواقعة المشهورة، السابقة على أحد، فإن بدر الموعد كان بعد أحد، ولم يقع فيها قتال، وكان المشركون لما رجعوا من أحد، قالوا: موعدكم العام المقبل بدر، فخرج صلى الله عليه وسلم ومن انتدب معه إلى بدر، ولم يحضر المشركون، فسميت بدر الموعد، فأشار بالصدق إلى أنهم صدقوا الموعد ولم يخلفوه، فأثابهم الله تعالى على ذلك بما فتح عليهم بعد ذلك من قريظة وخيبر وما بعدهما. انتهى.

وهذا الذي قدمه المصنف باختصار، بقوله: والمراد

إلخ. هو مختار عياض كما قدمته، ومر في المغازي أن غزوات بدر ثلاثة: الأولى في طلب كرز بن جابر لما أغار على سرح المدينة، فرجع ولم يلق حربا، والثانية: الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال، والثالثة: بدر الموعد، "ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام، أنه أتي برطب" في المنام.

"روى مسلم عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت الليلة" الذي رأيته في

ص: 83

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن نافع فأتينا برطب من رطب ابن طاب". فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب، ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام سيفا يهزه، وتعبيره ما روي في حديث أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ورأيت في رؤياي

مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كائنا"، "بنون" المتكلم ومعه غيره "في دار عقبة"، "بالقاف"، "ابن رافع"، "بالراء" الأنصاري، الصحابي، له ذكر في هذا الحديث.

وأخرجه ابن منده من حديثه، لكنه صحف أباه، فقال ابن نافع، "بالنون"، وتعقبه أبو نعيم وله حديث آخر، وهو:"إذا أحب الله عبدا أحماه الدنيا" أخرجه أبو يعلى والحسن بن سفيان، عنه رفعه، قاله في الإصابة ملخصا:"فأتينا برطب من رطب ابن طاب" نوع من أنواع تمر المدينة، منسوب إلى ابن طاب رجل من أهلها، "فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا" أخذا من لفظ رافع، "والعاقبة في الآخرة" أخذا من لفظ عقبة، "وأن ديننا قد طاب" أي قارب الاستقامة، ويناهي صلاحه لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] .

وقد قيل: لعل هذه الرؤيا كانت بعد أحد والخندق واستقامة الدين، ويحتمل أنها كانت قبل تبشيرا له صلى الله عليه وسلم بما يكون من حاله وحال الدين، وتأول الرطب بالدين؛ لأنه حلو، في القلوب سهل، لأن الشريعة سمحة كملت بعد تدريج، كما أن الرطب سهل حلو، كمل بعد تدريج من الطلع، إلى أن صار رطبا، قال علماء التعبير: طرق التعبير أربعة: الاشتقاق كما تقدم، والثانية ما يعبر بمثاله ويعتبر بشكله، كدلالة متعلم الكتابة على القاضي والسلطان وصاحب السجن ورئيس السفينة، وعلى الوصي والوالد، والثالثة ما يفسره المعنى المقصود من ذلك الشيء المرئي، كدلالة فعل السفر على السفر، وفعل السوق على المعيشة، وفعل الدار على الزوجة والجارية، والرابعة: التعبير بما تقدم له ذكر في القرآن والسنة والشعر وكلام العرب وأمثالها، وكلام الناس وأمثالهم، أو خبر معروف، أو كلمة حكمة، وذلك كتعبير الخشبة بالمنافق، لقوله تعالى:{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} [المنافقون: 4] والفأرة بالفاسق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، وتعبير الزجاجة بفم المرأة لتسمية بعض الشعراء إياها بذلك، وكتعبير رؤية الأنبياء والخلفاء بما كان في أيامهم وخاص قصصهم.

قاله عياض: "ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام سيفا يهزه"، "بضم الهاء" من باب نصر، أي يحركه، "وتعبيره ما روي في حديث أبي موسى" السابق في وسطه، عند مسلم والبخاري في العلامات، واقتصره هنا، فذكر منه هذه القطعة، وبوب عليه: إذا رأى الشخص أنه

ص: 84

هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان. فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين". رواه الشيخان.

وهذه أيضا من ضرب المثل ولما كان صلى الله عليه وسلم يصول بالصحابة عبر عن السيف بهم، وبهمزة عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وبالهمزة

هز سيفا في المنام، وكذا فعل في غزوة أحد، لكن ذكر بقيته، وهي: "ورأيت فيها بقرا

إلخ ". أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ورأيت" في رواية الكشميهني: أريت "في رؤياي هذه" التي أولها قوله: "رأيت في المنام أني أهاجر". "أني هززت"، "بفتح الهاء والزاي الأولى وسكون الثانية"، "سيفا".

وفي رواية الكشميهني: سيفي بالإضافة، وهو ذو الفقار، "فانقطع صدره"، وعن ابن إسحاق:"ورأيت في ذباب سيفي ثلما". وعند ابن سعد من مرسل عروة والبيهقي في الدلائل، موصولا عن أنس:"ورأيت سيفي ذا الفقار قد انقصم". "فإذا هو" أن تعبيره "ما أصيب به المؤمنون يوم أحد" من قتل سبعين وفي رواية عروة: كأن الذي رأى بسيفه ما أصاب وجهه.

وقال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم: قال: "وأما الثلم في لسيف، فهو رجل من أهل بيتي يقتل" ولا خلف، فإن ذلك مما أصيب به المؤمنون، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيحين أصح، "ثم هززته أخرى".

قال القاضي عياض: وكذا رويناه من طريق العذري وابن هامان "بزائين" في الموضعين، يعني هذا وما قبله، قال: ووقع في طريق غيرهم في الموضعين: هززته بتشديد الزاي، وهي لغة بكر بن وائل "فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح" لمكة "واجتماع المؤمنين" وإصلاح حالهم.

قال القرطبي: يعني ما يفتح الله به بعد أحد، فإنهم لم يكلوا من الجهاد، وما ضعفوا بما أصابهم فيها، بل خرجوا صبيحتها ونزلوا حمراء الأسد، مستظهرين على عدوهم، ولم يزل أمرهم مجتمعا، وإيمانهم يعلو ويقوى.

"رواه الشيخان:" مسلم جزما برفعه في جملة الحديث المشتمل على ثلاثة أمور، والبخاري بهذه القطعة منه في التعبير، بلفظ: أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم "بضم الهمزة" أي أظنه، ومر قول الحافظ الشك من البخاري، ورواه مسلم وغيره جزما، عن أبي كريب محمد بن العلاء شيخ البخاري فيه، "وهذه" الرؤيا كما قال المهلب "أيضا من ضرب المثل" المحتاجة إلى التعبير، "و" وجهه أنه "لما كان صلى الله عليه وسلم يصول" يثب "بالصحابة" على القتال "عبر عن السيف" أي أوله "بهم وبهمزة" أي عبر عنه "عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه" أي السيف، وهو تفسير للثلم،

ص: 85

الأخرى لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم.

وقال أهل التعبير: السيف يصرف على أوجه، منها أن من نال سيفا فإنه ينال سلطانا، إما ولاية وإما وديعة، وإما زوجة وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف فبالعكس، وإن سلما أو عطبا فكذلك. وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله بالأم وذوي الرحم وإن جرد السيف وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده في خصومة، وربما عبر السيف بسلطان جائر.

وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا فإنه يتزوج، أو ضرب

"بالقتل فيهم، وبالهمزة الأخرى، لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم" بالفتوحات والنصر، ونحوه قول القرطبي: هزه حمله إياهم على الجهاد، وإنما أول قطع صدره بمن قتل يوم أحد، لأنهم كانوا معظم عسكره وصدره إذا كان فيهم عمه حمزة وغيره من أشراف المهاجرين والأنصار، واقتبس صدر القوم بصدر السيف، وأول القطع الذي رأى فيه بقطع أعمال المقتولين.

وقال عياض: هذه الرؤيا بخلاف الأولى، أي رؤيا الهجرة، لأن تلك خرجت على وجهها، وهذه أولها بما ذكر، لأن سيف الرجل أنصاره الذين يصول بهم كما يصول بسيفه، وقد يكون سيفه ولده، أو والده، أو أخاه، أو عمه، أو زوجته، وقد يدل على الولاية والوديعة، وعلى لسان الرجل وحجته، وعلى سلطان جائر، كل ذلك بحسب القرائن التي تصحب الرؤيا وتشهد لأحد هذه الوجوه، كما أول ذلك هنا بأصحابه لقرينة محاربتهم.

"وقال أهل التعبير: السيف يصرف" في تعبيره "على أوجه" بحسب القرائن، "منها: أن من نال سيفا، فإنه ينال سلطانا إما ولاية، وإما وديعة، وإما زوجة" ظاهرة، عزبا كان أو متزوجا ووقع في كلام المصنف تقييده بما إذا كان عزبا، "وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم" "بنون فمثلثة" انكسر "سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف، فبالعكس" يسلم ولده وتموت زوجته، "وإن سلما أو عطبا فكذلك" أي يصابان معا إن عطب الغمد والسيف، ويسلمان جميعا إن سلما، "وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله" الحديدة التي في أسفل غمده يتعلق بالأم وذوي الرحم" كالخالة، "وإن جرد السيف وأراد قتل شخص، فهو لسانه يجرده في خصومة، وربما عبر السيف بسلطان جائر".

"وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا، فإنه يتزوج، أو ضرب شخصا

ص: 86

شخصا بسيف فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه ومن رأى سيفا عظيما فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره.

ومن ذلك: رؤياه عليه الصلاة والسلام أنه على قليب.

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم، رأيت أني على قليب، عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غربا فأخذها

بسيف، فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه، ومن رأى سيفا عظيما، فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره" وإن رأى أنه يجر حمائله، فإنه يعجز عنه كما في الفتح.

"ومن ذلك رؤياه عليه الصلاة والسلام أنه على قليب""بفتح القاف وكسر اللام وسكون التحتية وموحدة" بئر لم يطو، "عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "بينا" بغير ميم، كما قال المصنف في مواضع: "أنا نائم رأيت على قليب" بئر مقلوب ترابها قبل الطي، هكذا رواه سعد بن المسيب عن أبي هريرة.

وفي رواية همام، عنه: على حوض أسقي الناس، وجمع بأن الحوض هو الذي يجعل بجانب البئر لتشرب منه الإبل، فلا منافاة، وكأنه كان يملأ من البئر، فيسكب في الحوض والناس يتناولون الماء لأنفسهم ولبهائمهم "وعليها دلو، فنزعت"، "بسكون العين"، "منها ما شاء الله" أن أنزع، "ثم أخذها ابن أبي قحافة"، "بضم القاف وخفة المهملة فألف ففاء" أبو بكر الصديق عبد الله ن عثمان رضي الله عنهما، "فنزع" أخرج "منها" من البئر "ذنوبا أو ذنوبين"، "بفتح المعجمة" فيهما الدلو الممتلئ، والشك من الراوي، هكذا رواه الأكثر.

وفي رواية همام وأبي يونس مولى أبي هريرة عند مسلم، كلاهما عن أبي هريرة: ذنوبين بلا شك.

قال الحافظ في المناقب: اتفق من شرح هذا الحديث على أن ذكر الذنوب إشارة إلى مدة خلافته، وفيه نظر؛ لأنه ولي سنتين وبعض سنة، فلو كان ذلك المراد، لقال: ذنوبين أو ثلاثة، والذي يظهر أن ذلك إشارة إلى ما فتح في زمانه من الفتوح الكبار، وهي ثلاثة ولذا لم يتعرض في ذكر عمر إلى عدد ما نزعه من الدلاء، وإنما وصف بالعظمة إشارة إلى كثرة ما وقع في خلافته من الفتوحات، وفي الأم للشافعي: معنى قوله: "وفي نزعه ضعف" قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والازدياد، الذي بلغه عمر في طول مدته، فجمع ما

ص: 87

عمر بن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع ابن لخطاب حتى ضرب الناس بعطن".

وعبقري القوم: سيدهم وكبيرهم وقويهم.

وفي رواية: "فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر".

وفي رواية: "وأتاني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليريحني".

تفرق في كلام غيره.

ويؤيده حديث ابن مسعود عند الطبراني، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما عبرتها يا أبا بكر؟ "، قال: إليّ الأمر من بعدك، ثم يليه عمر، قال:"كذلك عبرها الملك". وفيه أيوب بن جابر، وهو ضعيف، "والله يغفر له" إشارة إلى أن ضعفه المراد به الرفق غير قادح فيه، أو المراد بالضعف ما وقع في أيامه من أمر الردة واختلاف الكلمة، إلى أن اجتمع ذلك في أواخر أيامه، وتكمل في زمان عمر، وإليه الإشارة بالقوة.

وفي حديث سمرة أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا من السماء دليت، فجاء أبو بكر فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فشرب حتى تضلع، ففي هذه إشارة إلى بيان المراد بالنزع الضعيف والنزع القوي، "ثم استحالت" أي تحولت الدلو "غربا"، "بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وموحدة" أي دلوا عظيما، "فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا" أي سيدا عظيما قويا "من الناس ينزع نزع ابن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن"، "بفتح المهملتين آخره نون" ما يعد للشرب حول البئر من مبارك الإبل، والمراد شربت الإبل بعطن بأن بركت، والعطن للإبل كالوطن للناس، لكن غلب على مبركها حول الحوض.

"وعبقري القوم سيدهم وكبيرهم وقويهم" وقيل: الأصل أن عبقر أرض تسكنها الجن فيما يزعمون، فكما رأوا شيئا فائقا غريبا مما يصعب علمه ويدق، أو ينشأ عظيما في نفسه، نسبوه إليه، ثم اتسع فيه، فسمي به السيد والكبير والقوي، وهو المراد هنا.

"وفي رواية" عند البخاري، عن همام، عن أبي هريرة:"فأتى ابن الخطاب، فأخذ منه، فلم يزل ينزع" يستخرج الماء من البئر بالدلو "حتى تولى الناس" أعرضوا "والحوض يتفجر" يتدفق منه الماء ويسيل.

"وفي رواية" هي رواية همام المذكورة: "وأتاني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليريحني من التعب، فنزع ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فأتى ابن الخطاب فأخذ"

إلخ، فلو قال المصنف: وفي رواية: وأتاني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليريحني، إلى أن قال في عمر: فلم يزل ينزع

إلخ، كان أحسن، لأن كلامه يوهم أنهما روايتان.

ص: 88

وفي رواية موسى عن سالم عن أبيه: "رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم قام ابن الخطاب فاستحالت غربا، فما رأيت من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن". رواه البخاري.

قال النووي: قالوا هذا المنام مثال لم جرى للخليفتين، من ظهور آثارهما

"وفي رواية موسى" بن عقبة "عن سالم" بن عبد الله بن عمر "عن أبيه" مرفوعا: "رأيت الناس" في المنام "اجتمعوا" على بئر "فقام أبو بكر" في هذه الرواية اختصار.

وفي رواية نافع عن ابن عمر عند البخاري قال: قال صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا على بئر أنزع منها، جاءني أبو بكر وعمر، فأخذ أبو بكر الدلو".

وفي رواية أبي بكر بن سالم، عن أبيه، عن جده مرفوعا عند البخاري أيضا:"أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر، فنزع" أبو بكر "ذنوبا أو ذنوبين" شك الراوي "وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم قام ابن الخطاب".

وفي رواية نافع: "ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر". "فاستحالت" تحولت الدلو "غربا" أي انقلبت من الصغرى إلى الكبرى، "فما رأيت من الناس" وللكشميهيني:"فما رأيت في الناس"، وفي رواية نافع:"فلم أر عبقريا من الناس يفري"، "بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر الراء"، "فريه"، "بفتح الفاء وسكون الراء وتخفيف التحتية" ولأبي ذر: من يفري فريه "بكسر الراء وشد التحتية" أي يعمل عملا جديا صالحا عجيبا، كذا قاله المصنف هنا، لكن قال الحافظ في المناقب: روي فريه "بسكون الراء" وخطأه الخليل. انتهى.

وهو مخالف لقول عياض: ضبطناه "بسكون الراء وبكسرها وتشديد الياء" وأنكر الخليل التشديد وخطأ قائله، والمعنى: يعمل عمله ويقوى قوته، وأصل الفري القطع، يقال: فلان يفري الفرى، أي يعمل العمل البالغ، ومنه:{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} ، أي عظيما، يقال: فريت إذا قطعت على وجه الصلاح، وأفريت إذا فعلت الفساد، "حتى ضرب الناس بعطن"، "بفتحتين"، أي رويت إبلهم.

وعند البخاري في المناقب من طريق أبي بكر بن سالم، عن أبيه، عن جده: حتى روى الناس، وضروبا بعطن، وهو عند أبي بكر بن أبي شيبة بلفظ: فما قب عمر حتى روى الناس وضربوا بعطن، وأقامت في مكانها حتى بركت، "رواه" أي المذكور من حديثي أبي هريرة بالروايتين، "وابن عمر "والبخاري" في مواضع من التعبير والمناقب من طرق وروى الحديثين أيضا مسلم في الفضائل من طرق.

"قال النووي قالوا:" أي: العلماء ومراده العز، ولجمع لا التبري، "هذ المنام مثال لما

ص: 89

الصالحة، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر قواعد الدين، ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام في زمنه. فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم، وأميرهم المسقي لهم منها، وفي قوله:"فأخذ الدلو من يدي ليريحني" إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موته صلى الله عليه وسلم، لأن الموت راحة من كد الدنيا، وتعبها، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم. وأما قوله:"وفي نزعه ضعف" فهو إخبار عن حاله في قصر مدة ولاته، وأما ولاية

جرى للخليفتين من ظهور آثارهما الصالحة وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر قواعد الدين" وفتح الله على يديه أمصار الكفر، مكة وخيبر والمدينة والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالهما، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل والمقوقس وملوك عمان، والنجاشي الذي ملك بعد أصحمة، "ثم خلفه، أبو بكر، فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم" فلما فرغ منهم أخذ في قتال الكفار، ففتح على يديه بصرى ودمشق وبلاد حوران وما والاها، "ثم خلفه عمر، فاتسع الإسلام في زمنه" ففتح على يديه البلاد الشامية كلها، ومصر والعراق وأكثر أقليم فارس، وكسر كسرى وفر إلى أقصى مملكته وفر هرقل إلى القسطنطينية، "فشبه أمر المسلمين بقليب" بئر "فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم وأميرهم المسقي لهم منها".

وقال البيضاوي: أشار بالبئر إلى الدين الذي هو منبع ما به حياة النفوس وتمام أمر المعاش والمعاد، والنزع منه إخراج الماء إشارة إلى إشاعة أمره وإجراء أحكامه.

"وفي قوله: فأخذ الدلو من يدي ليريحني إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موته صلى الله عليه وسلم لأن الموت راحة من كد الدنيا وتعبها" خصوصا لمثله، ولذا لما قالت فاطمة في مرض موته: واكرب أبتاه، قال صلى الله عليه وسلم:"لا كرب على أبيك بعد اليوم". "فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم" أتم قيام.

وفي حديث: "أنا سيف الإسلام وأبو بكر سيف الردة".

"وأما قوله: "وفي نزعه ضعف". فهو إخبار عن حاله في قصر مدة ولايته" لأنها كانت سنتين وثلاثة أشهر، والاضطراب الذي وجد في زمنه من أهل الردة وفزارة وغطفان وبني يربوع وبعض تميم وكندة وبكر بن وائل وأتباع مسيلمة الكذاب، وإنكار بعض الزكاة، فدعا له بالمغفرة ليتحقق السامعون أن الضعف الذي وجد في نزعه هو من مقتضى تغير الزمان، لا أن ذلك منه، لكن نسب إليه إطلاقا لاسم المحل على الحال، وهو مجاز شائع في كلام العرب، فليس

ص: 90

عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس في قوله:"والله يغفر له" نقص، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب، وإنما هي كلمة كانوا يقولونها. وقوله:"فاستحالت في يده غربا" أي تحولت الدلو غربا -بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة- أي: دلوا عظيمة.

وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة بن جندب أن رجلا قال: يا رسول الله، رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب

الضعف، وهنا في عزيمته، ولا خطأ من فضله عن عمر لقلة نزعه عن نزع عمر، بل هو إخبار عن حسن ولايته، والدعاء له بالمغفرة إعلام بأن الله جازاه على ما عاناه من حرب أهل الردة، فلا يظن أنه لتقصير وقع منه.

"وأما ولاية عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس في قوله: "والله يغفر له". نقص، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب وإنما هي كلمة كانوا يقولونها" يدعمون بها الكلام، أي يقومونه.

هكذا قال النووي تبعا لقول عياض: الأشبه عندي أن قوله: "والله يغفر له". دعامة للكلام ووصلة له، وقد جاء في الحديث، أنها كلمة كان المسلمون يقولونها، يقولون: افعل هذا والله يغفر لك، مثل قولهم: تربت يمينك وقاتله الله.

وقوله: "فاستحالت في يده" لم يذكرها فيما قدم، لكنها ثابتة في رواية نافع، عن ابن عمر عند البخاري "غربا"، "أي تحولت الدلو غربا بفتح المعجمة وسكون الراء، بعدها موحدة" أي: دلوا عظيمة" فتحولت من الصغر إلى الكبر.

"وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة""بضم الميم""ابن جندب" بن هلال الفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور له أحاديث، مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين "أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلي" بضم المهملة وشد اللام أي أرسل "من السماء" إلى الأرض، "فجاء أبو بكر، فأخذ بعراقيها" "بكسر المهملة وفتح القاف" خشبتان تجعلان على فم الدلو، متخالفتان لربط الدلو، "فشرب شربا ضعيفا" أي قليلا، "ثم جاء عمر، فأخذ بعراقيها، فشرب حتى تضلع" "بضاد معجمة" أي ملأ أضلاعه كناية عن الشبع، "ثم جاء عثمان، فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع" أي شبع، وقد طالت مدة ولايته عن عمر، وفتح في زمانه مدائن العراق وخراسان والأهواز وبلاد المغرب بتمامها، ومن المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، "ثم جاء علي فانتشطت"، "بضم المثناة وكسر المعجمة، بعدها طاء

ص: 91

حتى تضلع، ثم جاء علي فانتشطت وانتضح عليه منها شيء.

والعراقي: جمع عرقوة، وهي الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان كالصليب، وقد: عرقيت الدلو إذا ركبت العرقوة فيها. وانتشطت: أي جذبت ورفعت.

فهي نبذة من مرائيه الكريمة صلى الله عليه وسلم.

وأما ما رآه غيره فعبر صلى الله عليه وسلم له بما يخص ويعم من أمور الدنيا والآخرة.

مهملة" أي نزعت منه، فاضطرب وسقط بعض ما فيها أو كله، "وانتضح" أي رش "عليه منها شيء" قليل.

قال ابن العربي: حديث سمرة يعارض حديث ابن عمر، أو هما خبران، قال الحافظ: الثاني هو المعتمد، فحديث ابن عمر مصرح بأنه صلى الله عليه وسلم هو الرائي، يعني: وكذا حديث أبي هريرة وحديث سمرة سابقة، فنزل الماء من السماء وهو خزانته، فاسكن في الأرض كما يقتضيه حديث سمرة، ثم أخرج منها الدلو، كما دل عليه حديث ابن عمر، أي وأبي هريرة، وفي حديث سمرة إشارة إلى نزول النصرة من السماء على الخلفاء.

وفي حديث ابن عمر إشارة إلى استيلائهم على كنوز الأرض بأيديهم، وكلاهما ظاهر في الفتح التي فتحوها، وفي حديث سمرة زيادة إشارة إلى ما وقع لعلي من الفتن والاختلاف عليه، فإن الناس أجمعوا على خلافته، ثم لم يلبث أهل الجمل أن خرجوا عليه، وامتنع معاوية في أهل الشام، ثم حاربه بصفين، ثم غلب بعد قليل على مصر، وخرجت الحرورية على علي، فلم يحصل له في أيام خلافته راحة، فضرب المنام المذكور مثالا لأحوالهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

"والعراقي جمع عرقوة""بفتح العين وإسكان الراء وضم القاف وفتح الواو، ولا تضم العين"، قال الجوهري: لأن فعلوة إنما تضم إذا كان ثانيه نونا مثل عنصرة، "وهي الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان،" أي خشبتان تعرضان على الدلو "كالصليب، وقد عرقيت""بتحتية ففوقية""الدلو، إذا ركبت العرقوة فيها وانتشطت، أي جذبت" سحبت "ورفعت، فهذه نبذة" شيء قليل "من مرائيه الكريمة صلى الله عليه وسلم" وإلا فهي كثيرة جدا "وأما ما رآه غيره، فعبره صلى الله عليه وسلم له بما يخص" الرائي، "ويعم" أي يشمله ويشمل غيره "من أمور الدنيا والآخرة" فكثير لا يحصر، وإذا أردت بعضه "فقد كان" فجواب الشرط محذوف، والمذكور جواب شرط مقدر، إذ لا يظهر كونه جوابا للمذكور إلا أن يقال لما كان سببا لتفسير رؤيا الغير جعله جوابا،

ص: 92

فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الصبح أقبل على أصحابه فقال: "من رأى منكم الليلة رؤيا فليقصها عليّ أعبرها له"، فيقص الناس عليه مرائيهم.

وروى البخاري والترمذي عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم رؤيا"؟ فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وأنه قال ذات غداة:"هل رأى أحد منكم رؤيا"؟، فقالوا: ما أحد رأى

أو يقدر فيه، فهو ما تضمنه قولي: فقد كان "صلى الله عليه وسلم إذا انفتل"، "بهمزة وصل ونون ساكنة وفاء ففوقية مفتوحتين فلام" أي التفت "من صلاة الصبح" بعد السلام وما يليه من الأذكار، ولذا لم يقل فرغ لئلا يوهم التفاته بمجرد الفراغ، "أقبل على أصحابه" أي جعل وجهه إليهم، فقال:"من رأى منكم الليلة" أي الماضية "رؤيا فليقصها علي أعبرها له"، "فيقص الناس عليه مرائيهم" أي: ما يرونه في منامهم: جمع مرأى "بفتح فسكون" وهو محل الرؤيا، فالرؤيا إدراكه في منامه، والمرأة ما تعلقت به تلك الرؤيا.

"وروى البخاري" في التعبير والجنائز تاما، وروى أطرافا منه في مواضع، ومسلم قطعة من أوله، "والترمذي" تاما، "عن سمرة بن جندب" "بضم الدال وفتحها" "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم" زاد في الجنائز: الليلة "رؤيا" مقصور غير منصرف، ويكتب بالألف، ولفظ البخاري كان مما يكثر.

قال الطيبي: مما خبر كان، وما موصولة، ويكثر صلته، والضمير الراجع إلى ما فاعل يقول. وقوله: أن يقول فاعل يكثر، و "هل رأى أحد منكم" هو المقول، أي رسول الله من الذين يكثر منهم هذا القول، فوضع ما موضع من تفخيما وتعظيما، كقوله:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، أو تقديره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيد تأويل الرؤيا، وكان له مساهمة فهم، لأن الإكثار من هذا القول لا يكثر إلا من تدرب فيه بإصابته، كقوله: كان زيد من العلماء بالنحو، ومنه قول صاحبي السجن ليوسف:{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، أي المجيدين في عبارة الرؤيا، وعلما ذلك لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن، هذا من حيث البيان، وأما من طريق النحو، فيحتمل أن قوله:"هل رأى أحد منكم من رؤيا" مبتدأ، والخبر مقدم عليه على تأول هذا القول مما يكثر رسول الله أن يقوله، ومال في الفتح إلى ترجيح الوجه السابق، والمتبادر وهو الثاني، وهو الذي اتفق عليه أكثر الشارحين "فيقص عليه من شاء الله أن يقص""بفتح الياء وضم القاف فيهما" كذا في رواية النسفي، وفي رواية غيره: ما، وهي للمقصوص ومن للقاص، قاله كله المصنف، "وأنه قال ذات غداة" بإقحام لفظ ذات أو هو من إضافة المسمى إلى اسمه، أو من إضافة الجزء إلى الكل، وهذا أولى؛ لأن السؤال لم يقع في جميع الغداة، وعليه فهو صفة لمحذوف، أي ساعة صاحبة غداة؟

ص: 93

شيئا، قال:"لكني أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني فقالا لي: انطلق، فانطلقت فأتيا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فتثلغ رأسه"، الحديث.

وأقام عليه الصلاة والسلام يسأل أصحابه: "هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا"؟.

"هل رأى أحد منكم رؤيا؟ "، فقالوا: ما منا أحد رأى شيئا، قال:"لكني أتاني الليلة آتيان"، "بمد الهمزة وكسر الفوقية" وعند ابن أبي حاتم من حديث علي: ملكان. وفي الجنائز: "رأيت الليلة رجلين أتياني". وقال في آخر الحديث: إنهما جبريل وميكائيل. قال الطيبي: وجه الاستدراك أنه كان يحب أن يعبر لهم الرؤيا، فلما قالوا: ما رأينا، كأنه قال: أنتم ما رأيتم، لكني رأيت. انتهى.

وإيضاحه أنه استدراك على ما يتوهم من أنه لو سكت لم يكن رأى شيئا ومنشأ التوهم حبه لتعبير ما يراه هو أو غيره و"الليلة" بالنصب على الظرفية، والمعنى: أتاني في الليلة الماضية، وإلا فمعلوم أنه وقت الإخبار كان في النهار لا في الليل، "وإنهما ابتعثاني" بموحدة ساكنة ففوقية فمهملة فمثلثة فألف فنون".

كذا رواه الأكثر للكشميهني انبعثا بي "بنون فموحدة وبعد الألف موحدة"، قا الجوهري: بعثه وابتعثه أرسله، وقال ابن هبيرة: معنى ابتعثاني أيقظاني، ويحتمل أن يكون رأى في المنام أنهما أيقظاه، فرأى ما رأى في المنام، ووصفه بعد أن أفاق على أن منامه كاليقظة، لكن لما رأى مثالا كشفه التعبير دل على أنه كان مناما، "فقالا لي: انطلق"، "بكسر اللام"، "فانطلقت" لفظ البخاري في التعبير: "وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقت معهما".

وفي الجنائز: "رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة". وعند أحمد: "إلى أرض فضاء، أو أرض مستوية".

وفي حديث علي عند ابن أبي حاتم: "فانطلقا بي إلى السماء، فأتيا على رجل مضطجع" وفي الجنائز: مستلق على قفاه "وإذا آخر قائم عليه بصخرة" وفي الجنائز: بفهر أو صخرة بالشك.

وفي حديث علي: "فمررت على ملك وأمامه آدمي، وبيد الملك صخرة يضرب بها هامة الآدمي"، "وإذا هو يهوي بالصخرة"، "بفتح أوله وكسر الواو" أي يسقط، يقال: هوى "بالفتح" يهوي هويا، سقط إلى أسفل، وضبطه ابن التين "بضم أوله" من الرباعي، يقال: أهوى من بعد، وهوى "بفتح الواو" من قرب "لرأسه، فتثلغ" الصخرة "رأسه"، "بفتح أوله وسكون المثلثة وفتح اللام فغين معجمة" أي تشدخه، وفي الجنائز: فتشدخ به، والشدخ كسر الشيء الأجوف.

وقد فسره الملكان بأنه الرجل يأخذ القرآن، فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.

وفي الجنائز: "وأما الذي رأيت تشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم

ص: 94

ما شاء الله تعالى، ثم ترك السؤال، فكان يعبر لمن قص متبرعا. واختلف النقلة في سبب تركه السؤال:

فقيل: سبب ذلك حديث أبي بكرة -عند الترمذي وأبي داود- أنه صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا"؟ ، فقال رجل: أنا يا رسول الله! رأيت كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبي بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فمن حينئذ لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا عن رؤيا.

قال بعضهم: وسبب كراهته عليه الصلاة والسلام إيثاره لستر العواقب وإخفاء المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم مبينة لفضل بعضهم على بعض

يعمل بما فيه بالنهار، يعمل به إلى يوم القيامة، أي ما رأيت" الحديث، رواه البخاري مطولا في التعبير من طريق عوف، وقبله في الجنائز من طريق جرير بن أبي حازم، كلاهما عن أبي رجاء، عن سمرة بنحو ورقتين، فذكره بشرحه فيه طول، وبدونه لا فائدة فيه.

"وأقام عليه الصلاة والسلام يسأل أصحابه" بقوله: "هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا"؟. "ما شاء الله تعالى" أي مدة مشيئته، "ثم ترك السؤال، فكان يعبر لمن قص" أي لمن ذكر ما رآه له "متبرعا" من غير أن يسأل أحدا.

"واختلف النقلة في سبب تركه السؤال، فقيل: سبب ذلك حديث أبي بكرة" نفيع بن الحارث الثقفي، وقيل: اسمه مسروح، أسلم بالطائف، ثم نزل بالبصرة ومات بها سنة إحدى أو اثنتين وخمسين.

"عند الترمذي وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم" كان يعجبه الرؤيا الصالحة ويسأل عنها، وأنه "قال ذات يوم:"من رأى منكم رؤيا"؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله" رأيت رؤيا، "رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بأبي بكر ووزن".

وفي رواية: ثم وزن "أبو بكر وعمر، فرجح أبو بكر" على عمر "ووزن عمر وعثمان، فرجح عمر" على عثمان، هكذا في نسخ صحيحة، وفي بعضها: فرجح عثمان بنصبه مفعول رجح وفاعله مستتر، أي: فرجح عمر عثمان، "ثم رفع الميزان، فرأينا الكراهة" ظهرت "في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وفي رواية: فانساء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء". "قالوا: فمن حيئنذ لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدا عن رؤيا".

"قال بعضهم: وسبب كراهته عليه الصلاة والسلام إيثاره لستر العواقب وإخفاء

ص: 95

في التعيين خشي أن يتواتر ويتوالى ما هو أبلغ في الكشف من ذلك، ولله في ستر خلقه حكمة بالغة ومشيئة نافذة.

وقال ابن قتيبة -فيما ذكر ابن المنير: سبب تركه السؤال حديث ابن زمل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال صلى الله عليه وسلم وهو ثاني رجليه: "سبحان الله وبحمده وأستغفر الله، إن الله كان توابا". سبعين مرة، ثم يقول:"سبعون بسبعمائة، لا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم أكثر من سبعمائة". ثم يستقبل الناس بوجهه فيقول: "هل رأى أحد منكم شيئا؟ ". قال ابن زمل: فقلت ذات يوم: أنا يا رسول الله! قال: "خير تلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك".

قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب لاحب سهل، والناس على الجادة منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى ذلك الطريق بهم على مرج لم تر عيني مثله،

المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم، مبينة لفضل بعضهم على بعض في التعيين، خشي أن يتواتر ويتوالى" يتتابع "ما هو أبلغ في الكشف من ذلك، ولله في ستر خلقه" أي المخلوقين بإيجاده "حكمة بالغة" أي تامة "ومشيئة نافذة" "بمعجمة" أي ماضية.

"وقال ابن قتيبة" عبد الله بن مسلم الدينوري "فيما ذكر ابن المنير" في معراجه "سبب تركه السؤال حديث ابن زمل""بكسر الزاي وسكون الميم ولام" الجهني، واسمه عبد الله على الأصح، صحابي جزما، كما مر عن الإصابة، وأنه لا عبرة بقول القاموس: تابعي، مجهول، غير ثقة وقول الصغاني، صحابي غلط، وأنه هو الغالط.

وقد أنصف من قال فيه: لكثرة دخوله فيما لا يعنيه كثر الغلط فيه، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح، قال صلى الله عليه وسلم وهو ثاني رجليه: "سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله" "بالواو" عند ابن قتيبة، وعند غيره بلا واو، "إن الله كان توابا". "سبعين مرة"، ثم يقول: "سبعون بسبعمائة" لأن الحسنة بعشر أمثالها، "لا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم أكثر من سبعمائة". "ثم يستقبل الناس بوجهه" أي يجعل وجهه إليهم، فيقول: "هل رأى أحد منكم شيئا" في منامه، "قال ابن زمل: فقلت ذات يوم: أنا يا رسول الله"، قال: رؤياك "خير تلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك". حدث بها على وجهها، "قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب" "براء مفتوحة فمهملة ساكنة فموحدة" أي: واسع "لاحب" "بلام فمهملة مكسورة" واضح "سهل" أي: لا صعوبة فيه "والناس على الجادة" "بجيم فألف

ص: 96

يرف رفيقا، يقطر نداه، فيه من أنواع الكلأ، فكأني بالرعلة الأولى حين أشرفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق فلم يضلوه يمينا ولا شمالا، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا في المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى آدم، إذا هو تكلم يسمو، يكاد يفرع الرجال طولا، وإذا عن يسارك رجل ربعة تار أحمر، كثير خيلان الوجه، إذا هو تكلم أصغيتم

فمهملة مفتوحة ثقيلة فتاء تأنيث،" أي وسط الطريق "منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى"، "بفتح الهمزة وإسكان المعجمة ففاء فياء تحتية" أي أشرف "ذلك الطريق بهم على مرج"، "بفتح الميم وسكون الراء وجيم" موضع ترعى فيه الدواب، "لم تر عيني مثله يرف"، "بفتح التحتية وكسر الراء ففاء"، "رفيقا" أي يكثر ماؤه "يقطر نداه فيه من أنواع الكلأ"، "بكاف فلام مفتوحتين فهمزة" عشبه ونباته ويابسه، "فكأني بالرعلة"، "براء مفتوحة فعين مهملة ساكنة فلام فتاء تأنيث" القطعة من الفرسان "الأولى حين أشرفوا"، الرواية عند ابن قتيبة الذي هو نافل عنه: أشفوا "بفتح فسكون ففاء" بمعنى أشرفوا، فذكره المصنف بالمعنى "على المرج كبروا، ثم أكبو"، أي أرسلوا "رواحلهم في الطريق، فلم يضلوه" أي لم يخرجوا عنه "يمينا ولا شمالا".

زاد في رواية: فكأني أنظر إليهم منطلقين، "ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا" أشرفوا وأطلقوا "على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع"، "بضم الميم وسكون الراء وكسر الفوقية" أي الذي يخلي ركابه ترتع، أي: تسعى وترعى كيف شاءت ومنهم الآخذ الضغث"، "بكسر المعجمة وإسكان المهملة، فمثلثة" قبضة من حشيش مختلط، "ومضوا على ذلك، قال: ثم قدم عظم"، "بضم فسكون" أكثر "الناس فلما أشفوا على المرج كبروا" فرحا، "وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا في المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى" أبعد "المرج فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى"، "بقاف ونون"، قال ابن الأثير: هو السائل الأنف، المرتفع وسطه، وقيل: هو نتوء في وسط القصبة، والأول أولى بالمدح "آدم"، "بالمد" أي أسمر، "إذا هو تكلم يسمو" يعلو ويرتفع على جلسائه، "يكاد يفرع"، "بفتح الياء وسكون الفاء وفتح الراء وعين مهملة" أي: يعلو، "الرجال طولا،

ص: 97

إليه إكراما له، وإذا أمام ذلك شيخ كأنكم تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول الله.

قال: فانتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سري عنه، فقال: "أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل، فذلك ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغضارة عيشها، لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها، وأما الرعلة الثانية والثالثة -وقص كلامه- فإن لله وإنا إليه راجعون، وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني، وأما المنبر فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم فذلك موسى، نكرمه بفضل كلام الله إياه، وأما الرجل الربعة التار فذلك عيسى عليه السلام نكرمه بفضل منزلته من الله، وأما

وإذا عن يسارك رجل ربعة"، "بفتح الراء وسكون الموحدة" وقد تفتح، أي ليس بالطويل ولا بالقصير "تار"، "بفوقية فألف فراء ثقيلة"، "أي مسترخ من جوع أو غيره، "أحمر كثير خيلان" جمع خال، أي شامات "الوجه".

زاد في رواية: كأنه حمم شعره بالماء، "إذا هو تكلم أصغيتم" أملتم سمعكم ورأسكم "إليه" تسمعوا كلامه "إكراما له، وإذا أمام" قدام "ذلك شيخ كأنما تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء"، "بفتح العين المهملة وسكون الجيم ففاء فهمز ومد" مهزولة "شارف"، "بمعجمة فألف فراء ففاء" أي مسنة "وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول الله! قال: فانتقع"، "بنون ففوقية فقاف" مبني للمجهول، أي تغير "لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة" قطعة من الزمان "ثم سري" أي كشف "عنه، فقال":"أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل فذلك" أي تعبيره "ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذي رأيت فلدنيا وغضارة"، "بفتح المعجمتين فألف فراء فتاء تأنيث" طيب "عيشها" ولذاته وخصبه، "لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها".

كذا في رواية ابن قتيبة، وفي رواية غيره:"مضيت أنا وأصحابي، لم نتعلق منها، ولم تتعلق منا ولم نردها". "وأما الرعلة الثانية والثالثة". "وقص" أي: ذكر "كلامه". "فإنا لله وإنا إليه راجعون" أسف من تهافتهم على الدنيا وانهماكهم عليها فاسترجع "وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني" تعبير لقوله: لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج فإذا أنا بك. "وأما المنبر، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم، فذلك موسى نكرمه" نحن، أي: نعظمه "بفضل كلام الله إياه" مثله في رواية ابن قتيبة.

وفي رواية غيره: "فذلك موسى إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله تعالى إياه". وهذا

ص: 98

الشيخ الذي رأيت كأننا نقتدي به فذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الناقة العجفاء الشارف التي رأيتني أبعثها فهي الساعة عليها -أي على الأمة- تقوم، لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي".

قال الراوي: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحدًا عن رؤيا، إلا أن يجيء الرجل متبرعا فيحدثه بها. رواه ابن قتيبة والطبراني والبيهقي في الدلائل وسنده ضعيف جدا.

ومن غرائب ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من التعبير، أن زرارة بن عمرو النخعي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد النخع، فقال: يا رسول الله، إني رأيت في طريقي هذا رؤيا، رأيت أتانا تركتها في الحي ولدت جديا أسفع أحوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل لك من امرأة تركتها مصرة حملا؟ " قال: نعم، تركت أمة

المناسب لتعبير قوله: إذا تكلم يعلو، "وأما الرجل الربعة التار"، "بالفوقية"، أي المسترخي "فذلك" أي تعبيره "عيسى عليه السلام" وذلك مناسب لحاله، فإنه كثير الصيام والسياحة وعبادة الله، فيسترخي من ذلك "نكرمه" نعظمه بالإصغاء إليه "بفضل منزلته من الله".

"وأما الشيخ الذي رأيت كاننا نقتدي به، فذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] "وأما الناقة العجفاء الشارف الذي رأيتني أبعثها فهي الساعة عليها -أي على الأمة- تقوم، لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي، قال الراوي: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحد عن رؤيا إلا أن يجيء الرجل متبرعا" يقص منامه عليه من غير سؤال "فيحدثه بها"، أي يعبرا له.

"رواه ابن قتيبة" بإسناده، واقتصر ابن المنير على عزوه له، وزاد المصنف "والطبراني" في الكبير "والبيهقي في الدلائل" النبوية، "وسنده ضعيف جدا" ولا يلزم منه أن ابن زمل ليس بصحابي، إذ ضعف الدليل لا يضعف المدلول.

"ومن غرائب ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من التعبير أن زرارة"، "بضم الزاي"، "ابن عمرو"، "بفتح العين"، وسماه ابن الكلبي زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي "النخعي"، "بفتح النون والخاء المعجمة" نسبة إلى النخع قبيلة من مذحج من اليمن، "قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد النخع" في نصف المحرم سنة إحدى عشرة، قاله أبو حاتم، وبه جزم ابن سعد عن الواقدي.

وقال أبو عمر: قدم زرارة في نصف رجب سنة تسع، وجمع باحتمال قدومه وحده في هذا التاريخ، ثم قدم مع قومه في التاريخ المبدأ به وهو سنة قدوم قومه وكانوا آخر الوفود، "فقال: يا رسول الله إني رأيت في طريقي هذا رؤيا" زاد في رواية، هالتني، وفي أخرى، رأيت في

ص: 99

أظنها قد حملت، قال:"قد ولدت غلاما وهو ابنك"، قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، قال:"هل بك برص تكتمه؟ " قال: نعم والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به أحد، قال: فهو ذاك".

قال: ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان ودملجان ومسكتان، قال:"ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته".

قال: ورأيت عجوزا شمطاء، تخرج من الأرض، قال:"تلك بقية الدنيا".

قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، آكلكم آكلكم وأهلكم ومالكم فقال

سفري هذا عجبا، "رأيت أتانا"، "بفوقية ونون" الأنثى من الحمير، ولا يقال: إتانة، قاله ابن السكيت "تركتها في الحي" وفي رواية: خلفتها في أهلي، "ولدت جديا" الذكر من أولاد المعز "أسفع" بفتح فسكون ففتح أسود مشرب بحمرة "أحوى" كالتأكيد لما قبله، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من امرأة تركتها مصرة حملا؟ "، "اسم فاعل من أصر على الشيء أقام عليه"، والمراد أن حملها محقق ثابت، "قال: نعم تركت أمة أظنها قد حملت، قال:"قد ولدت غلاما وهو ابنك" جملة استئنافية دفع بها ما قد يدخل عليه من الريبة إذا رأى اللون الغريب، "قال: فما باله أسفع أحوى"، أي ما الحال الداعي إلى مجيئه بهذا اللون المخالف للون أبيه، "قال: ادن مني، فدنا منه، قال:"هل بك برص تكتمه؟ " استفهام تقريري أريد به طلب اعترافه به ليرتب عليه الجواب، فيكون ألزم للحجة، وأمره بالقرب منه لعلمه أنه يخفيه، "قال: نعم" هو بي، ولكن "والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق، ولا علم به أحد" غيرك، فهذا من آياته صلى الله عليه وسلم "قال: "فهو ذاك" أي اللون الذي في ابنك أثر البرص الذي فيك.

"قال" زرارة: "ورأيت النعمان بن المنذر" ملك العرب "وعليه قرطان"، "بضم القاف تثنية قرط، وهو ما يعلق في شحمتي الأذن "ودملجان"، "بضم الدال وضم اللام وفتحها شيء يشبه السوار "ومسكتان"، "بفتح الميم والسين المهملة سواران"، "قال: ذلك ملك"، "بضم فسكون"، "العرب، رجع إلى أحسن زيه"، "بكسر الزاي وشد الياء هيئته"، "وبهجته" حسنه لأن النعمان كان ملكا على العرب، فالمعنى عادت العرب إلى ما كانوا عليه من العز والشرف، وذهبت غلبة الفرس والعجم بظهوره صلى الله عليه وسلم "قال: ورأيت عجوزا شمطاء"، "بزنة حمراء أبيض شعر رأسها"، "تخرج من الأرض، قال:"تلك بقية الدنيا" فلم يبق منها إلا القليل بالنسبة للماضي، كالباقي من عمر العجوز مما مضى، "قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض، فحالت بيني وبين ابن لي

ص: 100

النبي صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان"، قال: وما الفتنة؟ قال: "يفتك الناس بإمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس"، وخالف صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، "يحسب المسيء أنه محسن، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء البارد".

فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة، محشوا حلاوة الحق، مكسوا طلاوة الصدق مجلوا بأنوار الوحي.

والأسفع: الذي أصاب جسده لون آخر.

يقال له عمرو" بن زرارة، أورده في الإصابة في القسم الأول، وقال: صحبته محتملة، "ورأيتها تقول: لظى لظى" بزنة فتى النار أو لهبها، ولظى معرفة جهنم، كما في القاموس: "بصير وأعمى"، أي أجمع الغث والثمين، فلا أترك واحدا منهما، "آكلكم آكلكم" تأكيد لفظي للأول، "أهلكم ومالكم" عطف بيان لآكلكم، وفي نسخ: آكلكم كلكم، بالتوكيد المعنوي وما بعده بالنصب بدل من الكاف، وهذا الذي في ابن المنير عن ابن قتيبة، "فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان" سماه آخرا مع أنا قتل عثمان رضي الله عنه، باعتبار أنه لغلظ أمرها وفحشها بمنزلة ما يكون في آخر الزمان أن الذي فيه الأحكام وتزول، حتى كأنها لا أثر لها، أو المراد آخر زمان خلافة النبوة، وسماه آخر مع أنه بقي منها خلافة علي والحسن لقرب قتل عثمان من آخرها، "قال: وما الفتنة" لأنها لغة تطلق على معان، فسأله أيها أراد، "قال: "يفتك"، "بكسر التاء وضمها" يبطش "الناس بإمامهم" الخليفة ويقتلونه على غفلة، ولعل تفسيرها بالفتك متسببة عنها، لأنها الميل والخروج عن الاعتدال، وذلك يتسبب عنه البطش والقتل، "ثم يشتجرون"، "بمعجمة وجيم" أي يتنازعون "اشتجار أطباق الرأس" عظامه "وخالف صلى الله عليه وسلم بين أصابعه" لم يبينوا صفة لمخالفة، وقال مستأنفا:"يحسب المسيء أنه محسن" للإشارة إلى غلبتها، فيظن المبطل أنه محق، لأن اجتهاده أداه لذلك، "ودم المؤمن عند المؤمن أحلى" ألذ، والذي في ابن المنير وغيره: أحل من الحل ضد الحرام "من شرب الماء البارد"، وكأنه لغلبة اشتباه الحال، فيظن أنه محق، فيراه أشد حلاء من شرب الماء، وخصه لغلبة حصوله من جهة حل، كالأنهار والأمصار، ونحوهما بقية الحديث كما مر في الوفدان: مات ابنك قبلك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك، قال: يا رسول الله ادع الله أن لا أدركها، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا يدركها" فمات، فبقي ابنه، فكان ممن خلع عثمان.

وعند ابن الكلبي وغيره: فكان أول خلق الله خلع عثمان بالكوفة، "فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة محشوا حلاوة الحق مكسوا طلاوة الصدق" مثلث الطاء الحسن

ص: 101

والأحوى: الأسود ليس بالشديد.

والمسكتان: السواران من ذهب.

وأطباق الرأس: عظامه.

والاشتجار: الاختلاف والاشتباك.

فإن قلت: تعبيره عليه الصلاة والسلام السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مر.

أجيب: بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، وكان السواران من زي النعمان ليسا بمنكرين في حقه ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفا، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته فجدير أن يهمه ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع في غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابهما، ولله الحمد.

والبهجة والقبول، كما في القاموس:"مجلوا بأنوار الوحي، والأسفع الذي أصاب جسده لون آخر" هذا مخالف لظاهر قول المجد: السفع: السواد يضرب إلى الحمرة، ثم قال: ومن اللون سواد أشرب حمرة، "والأحوى الأسود ليس بالشديد" في ذلك، "والمسكتان السواران من ذهب" كأنه بيان للمراد، وإلا فالذي قاله ابن سيده والجوهري: المسك بالتحريك، أي بتفحتين أسورة من ذبل أو عاج الواحدة مسكة.

زاد ابن الأثير في الجامع: فإن كانت من غير ذلك أضيفت إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب أو فضة أو غيرهما، والذبل:"بمعجمة وموحدة" شيء كالعاج، وقيل: ظهر السلحفاة البحرية، "وأطباق الرأس عظامه، والاشتجار الاختلاف والاشتباك، فإن قلت: تعبيره عليه الصلاة والسلام السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما" أي السوارين اللذين رآهما في يده الكريمتين "بالكذابين فيما مر" وذلك ضد البشرى.

"أجيب" أي أجاب ابن المنير في معراجه "بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك"، يجعلون لهم الأساور "ويحلونهم" بالحلي "وكان السواران من زي النعمان"، "بكسر الزاي" ليسا بمنكرين في حقه، ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفا" فلذلك عبرهما ببشرى.

"وأما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته" فضلا عنه، "فجدير" حقيق "أن يهمه"، "بفتح الياء وضم الهاء"، "ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع في غير

ص: 102

ومن ذلك: ما روي عن قيس بن عباد -بضم العين وتخفيف الموحدة- قال: كنت في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا، فقال: سبحان الله، ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة

موضعه"، وهو الكذابان، "ولكن حمدت العاقبة بذهابهما"، المأخوذ من لفظ ذهب، لأن حروفهما واحدة، "ولله الحمد" على ذلك، "ومن ذلك" أي تعبيره صلى الله عليه وسلم "ما روي عن قيس بن عباد، بضم العين" المهملة "وتخفيف الموحدة" آخره دال مهملة، الضبعي "بضم المعجمة وفتح الموحدة" أبي عبد الله البصري، ثقة، تابعي، كبير، له إدراك، قدم المدينة في خلافة عمر، ووهم من عده في الصحابة، مات بعد الثمانين، "قال كنت في حلقة"، "بسكون اللام"، "فيها سعد بن مالك" هو ابن أبي وقاص "وابن عمر" عبد الله، "فمر عبد الله بن سلام"، "بتخفيف اللام اتفاقا" الإسرائيلي، من ذرية يوسف الصديق، أسلم أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كما في الصحيح، وغلط من قال قبل الوفاة النبوية بعامين، ومات سنة ثلاث وأربعين.

وللبخاري في المناقب: كنت جالسا في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخضوع، "فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة".

وعند مسلم: كنت بالمدينة في ناس فيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل في وجهه أثر الخشوع، فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة، هذا رجل من أهل الجنة، هذا رجل من أهل الجنة ثلاثا، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج.

وعنده أيضا عن خرشة بن الحر: كنت جالسا في حلقة في مسجد بالمدينة وفيها شيخ حسن الهيئة، وهو عبد الله بن سلام، فجعل يحدثهم حديثا حسنا، فلما قام قال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا، وللنسائي: فجاء شيخ يتوكأ على عصا، فذكر نحوه.

قال الحافظ: ويجمع بينهما بأنهما قصتان، اتفقا الرجلين، فكأنه كان في مجلس يتحدث، كما في رواية خرشة: فلما قام ذاهبا مر على حلقة فيها سعد وابن عمر، فحضر ذلك قيس بن عباد، كما في روايته، وكل من خرشة وقيس، اتبع ابن سلام ودخل عليه منزله، وسأله فأجابه، ومن ثم اختلف الجواب بالزيادة والنقص، سواء كان زمن اجتماعهما بابن سلام، اتحد أم تعدد، "فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا"، بين في مسلم أن قائل ذلك رجل واحد، وفيه زيادة، ولفظه: ثم خرج فاتبعته، فدخل منزله ودخلت، فتحدثنا، فلما استأنس قلت له: إنك لما دخلت قبل قال رجل: كذا وكذا، وكأنه نسب القول للجماعة، والناطق به واحد لرضاهم به وسكوتهم

ص: 103

خضراء، فنصب فيها، وفي رأسها عروة، وفي أسفلها منصف -والمنصف الوصيف- فقال: ارقه، فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى". رواه البخاري.

عليه.

وفي رواية خرشة: فقلت: والله لأتبعه، فلأعلمن مكان بيته، فانطلق حتى كان يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقال: ما حاجتك يابن أخي؟ فقلت: سمعت القوم يقولون لما قمت: من سره أن ينظر إلى الرجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا، فأعجبني أن أكون معك، "فقال: سبحان الله، ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم" إنكار منه على من قطع له بالجنة، فكأنه ما سمع حديث سعد بن أبي وقاص: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، رواه الشيخان، وكأنهم هم سمعوه، ويحتمل أن يكون هو أيضا سمعه، لكنه كره الثناء عليه بذلك تواضعا، ويحتمل أن يكون إنكار منه على من سأله عن ذلك، لكونه فهم منه التعجب من خبرهم، فأخبره بأن ذلك لا عجب فيه لما ذكر له من قصة المنام، وأشار بذلك القول إلى أنه لا ينبغي لأحد إنكار ما لا علم له به إذا كان الذي أخبره به من أهل الصدق.

وفي رواية خرشة: فقال: الله أعلم بأهل الجنة، وسأحدثك مم قالوا ذلك فذكر المنام، وهذا يقوى باحتمال أنه أنكر عليهم الجزم، ولم ينكر أصل الأخبار، بأنه من أهل الجنة، وهذا شأن الخائف المراقب المتواضع.

وفي رواية النسائي: الجنة لله يدخلها من يشاء، زاد ابن ماجه: الحمد لله، "إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة خضراء" أي وسطها، فعند البخاري في المناقب: رأيت كأني في روضة، ذكر من سمعتها وخضرتها كذا وكذا وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء.

قال الكرماني: يحتمل أن يراد بالروضة جميع ما يتعلق بالدي وبالعمود الأركان الخمسة، وبالعروة الوثقى الإيمان، "فنصب فيها"، "بضم النون وكسر المهملة فموحدة" وللمستملي والكشميهني: قبضت "بفتح القاف والموحدة، فضاد معجمة ساكنة، فتاء المتكل"، "وفي رأسها عروة".

وفي رواية المناقب في مسلم: في أعلاه، أي العمود عروة، فيعلم منه أن ضمير رأسها للعمود، وأنثه وهو مذكر باعتبار الدعامة، "وفي أسفلها منصف"، "بكسر الميم وسكون النون وفتح الصاد المهملة وبالفاء" ويقال أيضا بفتح الميم.

حكاه عياض وغيره، "والمنصف الوصيف" مدرج في الخبر، وهو تفسير من ابن سيرين،

ص: 104

وفي رواية خرشة: بينما أنا نائم أتاني رجل فقال لي: قم، فأخذ بيدي فانطلقت معه، فإذا أنا بجواد -بجيم ودال مشددة جمع جادة وهي الطريق المسلوك- عن شمالي، قال: فأخذت لآخذ فيها -أي أسير- فقال: لا تأخذ فيها فإنها طريق أصحاب الشمال.

وفي رواية النسائي من طريقه: فبينا أنا أمشي إذ عرض لي طريق عن شمالي، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها.

بدليل قوله في رواية مسلم: فجاءني منصف، قال ابن عود: والمنصف الخادم، كذا قال الحافظ.

وفي البخاري في المناقب: قال لي خليفة: حدثنا معاذ، حدثنا ابن عون عن محمد، حدثنا قيس عن ابن سلام، قال: وصيف مكان منصف، والوصيف الخادم الصغير، ذكرا كان أو أنثى، "فقال" المنصف:"ارقه"، "بهاء السكت" وفي رواية بإسقاطها، "فرقيته"، "بكسر القاف على الأفصح" وحكى فتحها، كذا قال الحافظ وقال عياض: روي "بكسر القاف وفتحها، والفصيح الكسر" أي صعدت "حتى أخذت بالعروة" وفي المناقب: كمسلم، فقيل لي: ارقه، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف، فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك فاستيقظت، وإنها لفي يدي، "فقصصتها" على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: $"يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى". تأنيث الأوثق العقد الوثيق من الحبل الوثيق المحكم، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد، المخصوص حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده، والمعنى: وهو آخذ من الدين عقدا وثيقا لا تحله شبهة.

"رواه البخاري" في التعبير، ومسلم في الفضائل، كلاهما من طريق قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن قيس بهذا اللفظ مختصرا، وأخرجاه في المناقب من طريق عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، كان يتيما في حجر عمر.

قال أبو داود: له صحبة، وقال العجلي: ثقة من كبار التابعين، مات سنة أربع وسبعين، وروايته عند مسلم، عنه، عن ابن سلام: وسأحدثك مم قالوا: ذلك: "بينا أنا نائم أتاني رجل، فقال لي: قم، فأخذ بيدي، فانطلقت معه، فإذا أنا بجواد، بجيم ودال مشددة" زاد عياض: ومخففة "جمع جادة، وهي الطريق المسلوك" البين "عن شمالي، قال" عبد الله بن سلام: "فأخذت لآخذ فيها، أي أسير، فقال: لا تأخذ فيها، فإنها طريق أصحاب الشمال".

ص: 105

وفي رواية مسلم: فإذا جواد منهج على يميني، فقال لي خذ ههنا، فأتى بي جبلا فقال لي: اصعد، قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت، حتى فعلت ذلك مرارا.

وفي رواية ابن عون: فقال: "تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة، عروة الوثقى، لا تزال متمسكا بالإسلام حتى تموت".

وفي رواية خرشة عند النسائي وابن ماجه قال: "رأيت خيرا، أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء". زاد مسلم: "ولن تناله".

وهذا علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن عبد الله بن سلام لم يمت

"وفي رواية النسائي من طريقه" أي خرشة، عن ابن سلام:"فبينا أنا أمشي إذ عرض لي طريق عن شمالي، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها" أي فلا تسلكها.

"وفي رواية مسلم" المذكورة عن خرشة، عن ابن سلام عقب قوله الشمال، "فإذا جواد منهج على يميني".

قال القرطبي: يرفع منهج على الصفة، أي ظاهر واضح، "فقال لي: خذ" أي سر "ههنا، فأتى بي جبلا، فقال لي: اصعد، قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت" سقطت على استي، كما في مسلم متصلا بقوله: "حتى فعلت ذلك مرارا" قال: ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا، رأسه في السماء وأسفله في الأرض، فقال لي: اصعد فوق هذا، قلت: كيف أصعد هذا ورأسه في السماء، قال: فأخذ بيد، فزجل بي "بزاي وجيم"، أي رفعني، وروي "بحاء مهملة"، بمعناه، قال القرطبي: ورواية الجيم أصح وأولى، قال: فإذا أنا متعلق بالحلقة، ثم ضرب العمود فخر، وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه كما في مسلم.

"وفي رواية" عبد الله "بن عون" البصري، عن محمد بن سيرين، عن قيس بن عباد، عن ابن سلام، عند الشيخين، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"تلك الروضة روضة الإسلام" ، أي جميع ما يتعلق بالدين، "وذلك العمود عمود الإسلام" أي أركانه الخمسة، أو كلمة الشهادة وحدها، "وتلك العروة عروة الوثقى" أي الإيمان.

قال في المفهم: معنى الوثقى القوية التي لا انقطاع لها، وأضيفت عروة هنا إلى صفتها، كمسجد الجامع وصلاة الأولى، ورواه أبو ذر: وتلك العروة الوثقى بدون عروة الثانية، "لا تزال متمسكا بالإسلام" لفظ الصحيحين من هذه الطريق:"فأنت على الإسلام". نعم في مسلم في رواية خرشة: "ولن تزال متمسكا به"، "حتى تموت" وذلك الرجل عبد الله بن سلام. هذا بقية هذه الرواية عندهما، وهو يحتمل أنه قوله، ولا مانع أن يخبر بذلك ويريد نفسه، ويحتمل أنه من كلام الراوي، قاله الحافظ.

ص: 106

شهيدا، وإنما مات على فراشه في أول خلافة معاوية بالمدينة.

وقولهم إنه من أهل الجنة، أخذوه من قوله لما ذكر طريق الشمال: إنك لست من أهلها.

وإنما قال: "ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم" على سبيل التواضع وكراهية أن يشار إليه بالأصابع، خشية أن يدخله العجب، عافانا الله من سائر المكاره.

وقال القيرواني: الروضة التي لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها، وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف وكتب العلم والعالم ونحو ذلك. انتهى.

"وفي رواية خرشة عند النسائي وابن ماجه، قال" صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام، لما قص عليه:"رأيت"، "بفتح التاء"، " خيرا" فيستحب قول ذلك للعابر.

"أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء". "زاد مسلم" من رواية خرشة: "ولن تناله". "وهذا علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عبد الله بن سلام لم يمت شهيدا وإنما مات على فراشه في أول خلافة معاوية بالمدينة" سنة ثلاث وأربعين.

"وقولهم: إنه من أهل الجنة أخذوه من قوله: لما ذكر طريق الشمال إنك لست من أهلها"، ومن كان كذلك فهو من أهل الجنة، أو من قوله صلى الله عليه وسلم:"فأنت على الإسلام حتى تموت". ومن مات عليه فهو من أهلها.

قال الأبي: قوله في رواية مسلم: وسأحدثك لم ذلك، أي قالوا ذلك، نص في أنه فهم عنهم، أنهم قالوه مستندين للرؤيا، وإنما فيها أنه يموت على الإسلام وهو يستلزم دخول الجنة، وفهموا أنه دخول أولي، وكأنه هو لم يره أوليا، "وإنما قال: ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم على سبيل التواضع وكراهية" بكسر الهاء وخفة الياء"، "أن يشار إليه بالأصابع خشية أن يدخله العجب، عافانا الله من سائر المكاره".

قال عياض: لا نقطع بالجنة إلا لمن أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من أهلها، أو أخبر أه يموت على الإسلام، فهؤلاء إن بلغهم حديث سعد، فما قالوا ذلك إلا عن علم، وإنكاره عليهم يحتمل أنه لم يبلغه حديث سعد، أو بلغه ولم يذكره تواضعا وتسترا.

قال الأبي: والثاني أظهر، لأنه وإن لم يبلغه حديث سعد، فالرؤيا تدل على دخوله الجنة مطلقا لا دخولها أولا، أي مع السابقين، ومراد أولئك أنه يدخلها دخولا أوليا. انتهى.

وتقدم احتمال أنه إنكار على سائله، لفهمه منه التعجب من خبرهم، بأن ذلك لا عجب

ص: 107

وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة، تدل لمن تمسك به على قوته في دينه، وإخلاصه فيه.

ومن ذلك، ما رواه البخاري عن أم العلاء وهي امرأة من نسائهم، بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريت لعثمان بن مظعون بعد موته في النوم عينا تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:"ذلك عمله يجري له".

وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شيء من عمله بقي له ثوابه جاريا

فيه للرؤيا، فلا ينبغي لأحد إنكار ما لا يعلم إذا أخبره أهل الصدق.

قال المصنف: ويحقق هذا قوله: فاستيقظت، وإنها لفي يدي، أي حقيقة من غير تأويل على ظاهر اللفظ، وتكون رؤياه هذه كشفا كشفه الله له كرامة. انتهى.

وفيه تورك على قول الحافظ، أي إن الاستيقاظ كان حين الأخذ من غير فاصل، ولم يرد أنها بقيت في يده في حال يقظته، ولو حمل على ظاهره لم يمتنع في قدرة الله، لكن الذي يظهر خلافه، ويحتمل أن يريد أن أثرها بقي في يده بعد الاستيقاظ، كأن يصبح فيرى يده مقبوضة.

"وقال القيرواني" على المعابر في كتاب البستان: "الروضة التي لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها" زيادة على غيرها، "وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف، وكتب العلم والعالم ونحو ذلك. انتهى".

باعتبار الرائي والزمان والمكان، "وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة" التي لا تعرف من أي نوع هي، "تدل لمن تمسك بها على قوته في دينه وإخلاصه فيه" لأن أصل العروة الشيء المتعلق به، حبلا كان أو غيره.

وقيل: هي شجرة تبقى على الجدب سميت عروة، لأن العرب تتعلق بها إلى زمان الخصب.

"ومن ذلك ما رواه البخاري" في مواضع من طرق، كلها عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، "عن" أمه "أم العلاء"، "بفتح العين والمد" اسمها، كنيتها بنت الحارث بن ثابت بن خارجة بن ثعلبة، وهي أم خارجة الراوي عنها، فعند أحمد والطبراني عن سالم أبي النضر، عن خارجة بن زيد، عن أمه، عن عثمان بن مظعون: لما قبض قالت أم خارجة: طبت أبا السائب

الحديث، فلا يلزم من كونه أبهمها في رواية الزهري أن تكون أخرى، فقد يبهم الإنسان نفسه فضلا عن أمه، ووقع عند أحمد بن سعد عن ابن عباس لما مات عثمان بن مظعون قالت امرأته: هنيئا لك الجنة، فذكر نحو القصة وفيه نظر، فلعله امرأة بلا ضمير، وهي أم العلاء، ويحتمل أنه كان تزوجها قبل زيد بن ثابت، ويحتمل تعدد القول منهما جميعا، وهذا أظهر، "وهي

ص: 108

كالصدقة.

وأنكره مغلطاي وقال: لم يكن له شيء من الأمور الثالثة التي ذكرها مسلم في حديث أبي هريرة رفعه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث".

وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات في خلافة أبي بكر، فهو أحد الثلاث. قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن تكون له صدقة استمرت بعد موته.

وقال غيره: العين الجارية عمل من صدقة أو معروف لحي أو ميت.

وقال آخر: عين الماء نعمة وبركة وخير، وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة تبكي لها أهل داره. والله أعلم.

امرأة من نسائهم" أي الأنصار، ففي رواية للبخاري امرة من الأنصار، وقائل هذا الزهري، "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، فاشتكى، فمرضناه حتى توفي، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، قال: "وما يدريك"؟. قلت: لا أدري والله. قال: "أما هو فقد جاءه اليقين، إني لأرجو له الخير من الله، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم"؟. قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحدا بعده، قالت:"وأريت"، "بهمزة مضمومة فراء مكسورة" وفي رواية: ورأيت بتقديم الراء على الألف لعثمان بن مظعون" وفي رواية للبخاري: فأحزنني ذلك، فنمت، فأريت لعثمان "بعد موته في النوم عينا" من ماء "تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك" الذي رأيته "له" عليه السلام، "فقال": "ذلك"، " بكسر الكاف"، " عمله" الذي كان يعمله في حياه، "يجري له" ثوابه بعد موته.

"وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شيء من عمله بقي له ثوابه جاريا كالصدقة" فإنه كان من الأغنياء" وأنكره مغلطاي وقال: لم يكن له شيء من الأمور الثلاثة التي ذكرها مسلم في حديث أبي هريرة، رفعه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث". إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

"وتعقبه الحافظ" وفي نسخة: شيخ الحافظ "ابن حجر بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات في خلافة أبي بكر" الصديق، "فهو أحد الثلاث" في حديث مسلم، "قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن تكون له صدقة استمرت بعد موته" فقد أخرج ابن سعد من مرسل أبي بردة بن أبي موسى، قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون

ص: 109

فهذا طرف من تعبيره عليه الصلاة والسلام يهدي إلى غيره ما يشابهه، وإلا فالذي نقل عنه صلى الله عليه وسلم من غرائب التأويل، ولطائف التعبير -كما قاله ابن المنير- لا تحصره المجلدات.

وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحد من هذه الأمة في علم أو عمل، هي من آثار معجزة نبيه صلى الله عليه وسلم وسر تصديقه، وبركات طريقه، وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين من لطائف التعبير، مما شاع وذاع، وامتلأت به الأسماع، طبق الأرض صدقا وصوابا، وعجبا عجابا، بل بحرا عبابا، قضيت بأن ما منحه صلى الله عليه وسلم من العلوم والمعارف، لا تحيط به

على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأين هيئتها، فقلن: ما لك، فما في قريش أغنى من بعلك، قالت: الحديث، ويحتمل أن يراد بعمل عثمان مرابطته في جهاد أعداء الله، فإنه مما يجري له عمله، كما ثبت في السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم، عن فضالة بن عبيد، رفعه:"كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر". وله شاهد عند مسلم والنسائي والبزار، عن سلمان، رفعه:"رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأمن الفتانين". وله شواهد أخرى، فليحمل حال عثمان على ذلك، ويزول الإشكال من أصله، هذا بقية كلام الحافظ، ومر الكلام في غير هذا الموضع على قوله:"ما أدري ما يفعل بي ولا بكم". وعلى أن الخصال الباقية بعد الموت عشرة، وأنه اقتصر في خبر مسلم على ثلاث، لإمكان رجوع ما عداها إليها.

وقال المهلب: العين الجارية في المنام تحتمل وجوها، فإن كان ماؤها صافيا عبرت بالعمل الصالح وإلا فلا.

"وقال غيره: العين الجارية عمل جار من صدقة أو معروف لحي أو ميت" قد أحدثه أو أجراه.

"وقال آخر" وفي الفتح، وقال آخرون:"عين الماء نعمة وبركة وخير وبلوغ أمنية إن كان صاحبها" أي الذي رآها مناما "مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة تبكي لها أهل داره، والله أعلم، فهذا طرف من تعبيره عليه الصلاة والسلام، يهدى إلى غيره مما يشابهه، وإلا فالذي نقل عنه صلى الله عليه وسلم من غرائب التأويل ولطائف التعبير، كما قال ابن المنير" في المعراج: "لا تحصره المجلدات" لكثرته، "وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحد من هذه الأمة في علم أو عمل هي من آثار معجزة نبيه صلى الله عليه وسلم وسر تصديقه" لنبيه، "وبركات" اتباع "طرقه وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين"

ص: 110