المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بالعجب العجاب، والله الموفق للصواب. - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١٠

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: بالعجب العجاب، والله الموفق للصواب.

بالعجب العجاب، والله الموفق للصواب.

انطفاؤها في السابع والعشرين من شهر رجب ليلة الإسراء والمعراج" أي الذي اتفق فيه ذلك، "وبالجملة فاستيفاء الكلام على هذه النار يخرج عن المقصود" من الاختصار. "وقد نبه عليه القرطبي في التذكرة، وأفردها بالتأليف الشيخ قطب الدين القسطلاني في كتاب سماه جمل الإيجاز بنار الحجاز، فأتى فيه من رقائق الحقائق بالعجب العجاب"، ومن جملة ذلك قوله فيه: حكى لي جمع ممن حضر أن النفوس سكرت من حلول الوجل، وفتنت من ارتقاب نزول الأجل، ونشج المجاورون في الجؤار بالاستغفار، وعزموا على الإقلاع عن الإصرار والتوبة عما اجترحوا من الأوزار، وفزعوا إلى الصدقة بالأموال، فصرفت عنهم النار ذات اليمين وذات الشمال، وظهر حسن بركة نبينا صلى الله عليه وسلم في أمته، ويمن طلعته في رفقته بعد فرقته، فقد ظهر أن النار المذكورة في الحديث هي النار التي ظهرت بنواحي المدينة، كما فهمه القرطبي وغيره، ويبقى النظر هل هي من داخل كالتنفس؟ أو من خارج كصاعقة نزلت؟ والظاهر الأول، ولعل التنفس حصل من الأرض لما تزلزلت وتزايلت عن مركزها الأول، وقد تضمن الحديث في ذكر النار ثلاثة أمور: خروجها من الحجاز وسيلان واد منه بالنار وقد وجدا، وأما الثالث، وهو إضاءة أعناق الإبل ببصرى، فقد جاء من أخبر به، فإذا ثبت هذا فقد صحت الأمارات وتمت العلامات وإن لم يثبت، فتحمل إضاءة أعناق الإبل ببصرى على وجه المبالغة، وذلك في لغة العرب سائغ، وفي باب التشبيه في البلاغة بالغ، وللعرب في التصرف في المجاز ما يقضي للغتها بالسبق في الإعجاز، وعلى هذا يكون القصد بذلك التعظيم بشأنها والتفخيم لمكانها والتحذير من فورانها وغليانها، وقد وجد ذلك على وفق ما أخبر، وقد جاء من أخبر أنه أبصرها من تيماء وبصرى على مثل ما هي من المدينة في البعد، فتعين أنها المراد، وارتفع الشك والعناد، وأما النار التي تحشر الناس فنار أخرى، قاله المصنف، "والله الموفق للصواب" سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ما شاء الله لا قوة إلا بالله، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين.

ص: 182

‌المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم

‌مدخل

المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97-99] .

المقصد التاسع:

"في" فوائد "لطيفة" أي قليلة سهلة التناول من لطف "بالضم" صغر "من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ} "للتحقيق" {نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ

ص: 182

فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد بـ"اليقين" وإنما سمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن.

فإن قيل: ما الفائدة في قوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وكان قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} كافيا في الأمر بالعبادة؟

أجاب القرطبي تبعا لغيره: بأنه لو قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا، ولما قال:{حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي اعبد ربك في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة في هذه العبادات، كما قال العبد الصالح:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] .

وهذا مصير منه إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، وهي مسألة معروفة

بِمَا يَقُولُونَ} من الاستهزاء والتكذيب، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي قل سبحان الله وبحمده {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أي المصلين كما قال أهل التفسير: لا خصوص لسجود؛ لأنه لا يكون مستقلا، وسجود التلاوة تابع للقراءة، وسجود الشكر على القول به، لأنه إنما يكون بسبب نعمة حصلت، فالمناسب حمله على الصلاة، لأنها تدفع ضيق الصدر لخبر:"أرحنا بالصلاة" ، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد باليقين، وإنما سمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن" تسمية مجازية، لأن اليقين اعتقاد أن الشيء كذا مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا اعتقادا مطابقا للواقع، غير ممكن الزوال، فإطلاقه على الموت من تسمية الشيء بما يتعلق به وظاهر قول القاموس: اليقين إزاحة الشك كاليقين محركة، والموت إنه يطلق عليه حقيقة إلا أن يكون على عادته في التساهل بإدخال المجاز في الحقيقة اللغوية، "فإن قيل: ما الفائدة في قوله {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وكان قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} كافيا في الأمر بالعبادة".

"أجاب القرطبي تبعا لغيره، بأنه لو قال: واعبد ربك مطلقا" بدون التقييد بالغاية، "ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا"، أي ممتثلا للأمر ومنقادا له، "ولما"، "بفتح اللام وخفة الميم"، "قال {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي لما احتيج إلى ذلك في إفادة المقصود، ويصح شد الميم، والجواب محذوف، هو علم أن المراد انقياده طول حياته، دل عليه قول: "أي اعبد ربك في زمان حياتك" كلها، "ولا تخل لحظة من لحظات"، "بفتح الحاء"، "الحياة من هذه العبادات، كما قال العبد الصالح" عيسى عليه السلام:{وَأَوْصَانِي} أمرني {بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} ، وهذا مصير منه" أي القرطبي ومن تبعه "إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار" أي لا يدل على

ص: 183

في كتب الأصول اختلف فيها.

وهي: هل الأمر المطلق يفيد التكرار، أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منهما؟ على مذاهب:

الأول: أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه، بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال، إذ لا توجد الماهية بأقل منها، وهذا مختار الإمام مع نقله له على الأقلين، ورجحه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما.

الثاني: أنه يفيد التكرار مطلقا، كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو حاتم القزويني، فإن عين للتكرار أمدًا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمان قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات.

الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح "اللمع" عن أكثر أصحابنا وأبي حنيفة وغيرهم. وإن علق بشرط أو صفة اقتضى التكرار بحسب

طلبه، "وهي مسألة معروفة في كتب الأصول، اختلف فيها، وهي: هل الأمر المطلق" عن التقييد بشرط أو صفة "يفيد التكرار،" لظاهر قول الصحابي في الحج: أكل عام، "أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منهم على مذاهب" ثلاثة:

"الأول أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه" بحيث لو كرر ما أمر به لا يقال فيه لم يمتثل، "بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به" أي طلب حصول الماهية "من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال إذ لا توجد الماهية" الحقيقة "بأقل منها، وهذا مختار الإمام" أي إمام الحرمين "مع نقله له عن الأقلين" من الأصوليين، "ورجحه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما".

"الثاني: أنه يفيد التكرار مطلقا" سواء علق بشرط أو صفة، أو لم يعلق بذلك، لأن النهي يقتضي التكرار، فكذا الأمر بجامع أن كلا منها طلب، "كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو حاتم القزويني، فإن عين للتكرار أمدا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمان قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات"، وفي نسخة من الضروريات على تقدير مضاف، أي مقتضى الضروريات والأولى أولى.

"الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن أكثر أصحابنا" الشافعية: "وأبي حنيفة وغيرهم، وإن علق بشرط أو صفة" مفهوم قوله أولا المطلق،

ص: 184

تكرار المعلق به، "نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] انتهى ملخصا من شرح العلامة أبي الحسن الأشموني لنظمه لجمع الجوامع للعلامة ابن السبكي.

وقد روى جبير بن نفير مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين". رواه البغوي في شرح السنة وأبو نعيم في الحلية عن أبي مسلم الخولاني.

"اقتضى التكرار بحسب تكرار المعلق به" فالشرط "نحو: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فكلما وجدت الجنابة لزم التطهير، "و" الصفة نحو: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} فكلما وجد الزنا لزمت المائة. "انتهى ملخصا من شرح العلامة أبي الحسن" نور الدين علي "الأشموني"، "بضم الهمزة وسكون المعجمة" نسبة إلى أشمون بلدة بصعيد مصر، كان إماما عاما، زاهدا ورعا، متقشفا في مأكله وملبسه وفراشه.

قال الشعراوي: صحبته نحو ثلاث سنين، كأنها سنة من حسن سمته وحلاوة كلامه وقلة كلامه، ولم يزل على ذلك حتى مات رحمه الله، "لنظمه لجمع الجوامع للعلامة ابن السبكي" رحمه الله، وللأشموني أيضا "نظم المنهاج" في الفقه وشرحه ألفية بن مالك المشهور.

"وقد روى جبير"، "بجيم وموحدة" مصغر "ابن نفير" بنون وفاء" مصغر ابن مالك بن عامر الحضرمي، الحمصي، تابعي، ثقة جليل، مخضرم، ولأبيه صحبة، مات سنة ثمانين، وقيل: بعدها "مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين" جمع تار، إذ الدنيا يجمعها من لا عقل له كما ورد، "ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" رواه البغوي" الحسين بن مسعود بن محمد الإمام الحافظ "في شرح السنة" أحد تصانيفه المبارك له فيها لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، مات سنة ست عشرة وخمسمائة في شوال وله ثمانون سنة.

"و" رواه "أبو نعيم" أحمد بن عبد الله "في الحلية" أي كتابه حلية الأولياء "عن أبي مسلم الخولاني: "بفتح المعجمة وإسكان الواو" نسبة إلى خولان بن عمرو قبيلة نزلت بالشام الزاهد، العابد، الشامي واسمه عبد الله بن ثوب "بضم المثلثة وفتح الواو، فموحدة" وقيل: غير

ص: 185

وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح والتحميد والسجود والعبادة.

واختلف العلماء في أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن.

فحكى الإمام فخر الدين الرازي عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها، فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب عليَّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات.

ذلك تابعي كبير، ثقة، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه، وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية، "وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح" بقوله: {فَسَبِّحْ} ، "والتحميد" بحمد ربك، "والسجود" الصلاة "والعبادة" أعم منها.

وفي البيضاوي: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد، يكفك ويكشف الغم عنك، أو فنزهه عما يقولون حامدا له على أن هداك للحق، وكن من الساجدين من المصلين، وعنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة.

"واختلف العلماء في أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن" أشار إلى أن القلب هو المراد بالصدر في الآية، عبر بالصدر عنه مجازا لمجاورته له، وإلا فحقيقة الصدر ما نزل عن العظام عن الترقوتين إلى المعدة، وهي المنخسف تحته، "فحكى الإمام فخر الدين الرازي عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية" أي العالم الذي يتعلق به علم الرب تعالى مما غاب عن إدراكنا، "ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية" أي بجملتها "حقيرة" عنده، "وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها"، "بكسر الفاء" عدمها مصدر لفقد "بفتح فسكون"، "ووجدانها"، "بكسر الواو" مصدر وجد ووجود أيضا في لغة، "فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها" لحقارتها، "وعند ذلك يزول الحزن والغم، وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع"، "بكسر الزاي وفتحها" التجأ "إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب علي عبادتك، سواء أعطيتني الخيرات" التي تسر، "أو ألقيتني

ص: 186

وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِه} [مريم: 65] .

فأمره تعالى عليه السلام بالعبادات والمصابرة على مشاق التكاليف في الإنذار والإبلاغ.

فإن قلت: لم لم يقل: واصطبر على عبادته، بل قال:{وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ؟

فالجواب: لأن العبادة جعلت بمنزلة القِرْن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك أي: اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه. والمعنى: أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها قاله الفخر الرازي وكذا البيضاوي.

وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] .

فأول درجات السير إلى الله تعالى، عبودية الله، وآخرها التوكل عليه، وإذا كان العبد لا

في المكروهات" إذ هذا من حقيقة العبودية.

"وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} أي اصبر عليها، "فأمره تعالى عليه السلام بالعبادات والمصابرة على مشاق التكاليف في الإنذار والإبلاغ" كأنه قصر المشقة على ذلك، لأنه لا يشق عليه غيره من العبادات، وإن تورمت قدماه من القيام، "فإن قلت: لم لم يقل واصطبر على عبادته" مع أن المعنى على ذلك، "بل قال: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ، قلت:"فالجواب" عبر بذلك، "لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن"، "بكسر القاف وسكون الراء" المقاوم في علم، أو قتال، أو غير ذلك "في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه، والمعنى" هن "أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها، قاله الفخر الرازي" وحاصله: أن اللام للتعليل ومفعول اصطبر محذوف، أي اصطبر على المكاره والمشاق لأجل العبادة، "وكذا البيضاوي" بلفظ: إنما عدي "باللام" لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق، كقولك للمحارب: اصطبر لقرنك.

"وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي علم ما غاب فيهما، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ} "بالبناء للفاعل" يعود "وللمفعول" يرد {الْأَمْرُ كُلُّهُ} فينتقم ممن عصى، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ثق به، فإنه كافيك، "فأول درجات السير إلى الله تعالى" أي السعي في طلب الوصول إلى القرب منه عز وجل "عبودية الله" بالاجتهاد فيها، "وآخرها التوكل عليه" بأن يفوض جميع أموره إليه مخلصا، بحيث لا يعتمد على غيره في أمر ما، حتى لو سأل غيره في شيء لاحظ أن المسئول لا فعل له، وأن الله هو المعطي، فإن أراد وصول شيء للعبد على يد

ص: 187

يزال مسافرا إلى ربه لا ينقطع سيره إلي ما دام في قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة لا يستغنى عنه ألبتة، ولو أتى بأعمال الثقلين جميعا، وكلما كان العبد في الله تعالى أقرب كان جهاده في الله أعظم، قال تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بوظائف العبادة، ومحافظة عليها إلى أن توفاه الله تعالى. وتأمل أصحابه رضي الله عنهم فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب مقاما عظم جهادهم واجتهادهم.

ولا تلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف حيث قال: القرب

بعض خلقه ألهمه فعله وأقدره عليه "وإذا كان العبد لا يزال مسافرا" أي مشغولا بالعبادة "إلى" لقاء "ربه" ففيه استعارة تصريحية تبعية، شبه الاشتغال بالطاعة بسفر إنسان إلى مقصد يريده، واشتق منه الوصف بمسافر "لا ينقطع سيره إليه ما دام في قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة" أي ما يوصله إليها، كاجتهاده في الطاعات وكثرة النوافل، فالعابد كأنه جعل طاعته مودية للوصول إلى الله، كطعام المسافر يوصله إلى مقصده، "لا يستغنى عنه البتة"، "بقطع الهمزة"، "ولو أتى بأعمال الثقلين" الإنس والجن "جميعا، وكلما كان العبد إلى الله تعالى أقرب" قربا معنويا، "كان جهاده في الله أعظم" من غيره، "قال تعالى:{وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لله، ومن أجله أعداء الله الظاهرة كأهل الزيغ، والباطنة كالقوى والنفس.

روى البيهقي في الزهد، وضعف إسناده عن جابر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال:"قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "مجاهدة العبد نفسه". "حق جهاده" أي جهادا فيه، حقا خالصا لوجهه، فعكس، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، كقولك: هو حق عالم، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لأنه يختص بالله من حيث أنه مفعول لوجه الله ومن أجله، قاله البيضاوي تبعا للزمخشري.

قال الطيبي: يعني أن أصل المعنى: جاهدوا في الله جهادا حقا، فهو يفيد أن هناك جهادا واجبا، والمطلوب منهم الإتيان به، فإذا عكس وأضيفت الصفة إلى الموصوف بعد الإضافة إلى الله تعالى، أفاد إثبات جهاد مختص بالله، والمطلوب القيام بواجبه وشرائطه على وجه التمام بقدر التوسع والطاقة، "ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بوظائف العبادة ومحافظة عليها، إلى أن توفاه الله تعالى وتأمل أصحابه" أي أحوالهم "رضي الله عنهم، فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب" المعنوي من الله "مقاما، عظم جهادهم" لأنفسهم ولأعداء الله،

ص: 188

الحقيقي ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل زاعما بذلك سقوط التكليف عنه، وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التي هي من أماني النفس وخدع الشيطان، فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال حبة ما دام قادرا عليه.

وقد اختلف العلماء: هل كان عليه الصلاة والسلام قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟

فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشيء، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأنه لو كان كذلك لنقل، ولما أمكن كتمه وستره في العادة، إذ كان من مهم أمره، وأولى ما اهتبل به من سيرته، ولفخر به أهل تلك الشريعة، ولاحتجوا به عليه، ولم

"واجتهادهم" في الطاعات، "ولا تلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف، حيث قال: القرب الحقيقي ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة، ويريح الجسد والجوارح من كد" أي تعب "العمل، زاعما بذلك سقوط التكليف عنه، وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية، وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التي هي من أماني النفس" أكاذيبها "وخدع الشيطان" ما يخدع به الإنسان ليضله، "فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال حبة ما دام قادرا عليه" بإجماع.

"وقد اختلف العلماء هل كان عليه الصلاة والسلام قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ " قيل: صوابه أو لا، لأن أم لا تعادل هل، وفيه نظر، "فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشيء" من شرائع من قبله، "وهو قول الجمهور" كالباقلاني وغيره من المحققين.

قال عياض: فالمعاصي على هذا القول غير موجودة ولا متصورة في حقه حينئذ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر والنواهي، وتقرر الشريعة "واحتجوا بأنه لو كان ذلك لنقل" إلينا بعده "ولما أمكن كتمه وستره في العادة" الجارية بين الناس في مثله أن من تعبد بشرع يظهره وينقله من اطلع عليه نقلا مستفيضا لا يخفى، "إذ كان" نقله وعدم كتمانه "من مهم أمره" أي تعبده بشرع غيره عند أهل ذلك الدين، "وأولى"، أي أحق "ما اهتبل"، "بهاء ففوقية فموحدة مبني للمفعول"، أي اعتنى واهتم "به من سيرته" وصفاته المأثورة، "ولفخر به أهل تلك الشريعة" بأن من أهل ملتهم أشرف الأنبياء، "ولاحتجوا به عليه" أي لاستدل أهل تلك الشريعة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لاتباعه، بأنك كنت على شريعتنا، فلم تنهانا عنها الآن،

ص: 189

يؤثر شي من ذلك جملة.

وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا. والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى.

وذهب آخرون إلى الوقف في أمره عليه الصلاة والسلام وترك قطع الحكم عليه بشيء من ذلك، إذ لم يحل الوجهين منها العقل، وهذا مذهب الإمام أبي المعالي إمام الحرمين وكذا الغزالي والآمدي.

وقال آخرون: كان عاملا بشرع من قبله. ثم اختلفوا: هل يتعين ذلك الشرع أم لا؟ فوقف بعضهم على التعيين وأحجم، وجسر بعضهم على التعيين وصمم، ثم

وتأمرنا بترك ما كنت توافقنا فيه "ولم يؤثر" أي ينقل "شيء من ذلك" المذكور من النقل والظهور والافتخار "جملة" أي أصلا، وكثيرا ما تستعمل بمعنى كافة وعامة، "وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا" أي بدليل عقلي لا دخل للنقل فيه "قالوا" معللين لذلك:"لأنه يبعد أن يكون متبوعا" مقتدى به فيما شرعه الله، وأمره بدعوة الناس إليه "من عرف تابعا" لشرع غيره متعبدا به قبل بعثته.

قال عياض: وبنوا هذا على التحسين والتقبيح العقليين، وهي طريقة غير سديدة، "والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى" أحق وأظهر لوجهين، أحدهما: ابتناء الثاني على قول ضعيف كما قاله عياض، والثاني: أن العقل يجوز أنه تابع باعتبار، ومتبوع باعتبار آخر، وإنما يمتنع في جهة واحدة.

"وذهب آخرون" وفي الشفاء طائفة "إلى الوقف في أمره عليه الصلاة والسلام" أي التوقف من غير تعيين لطرف، "وترك قطع الحكم عليه بشيء من ذلك" الحال، المتعلق بعبادته قبل البعثة "إذ لم يحل الوجهين منها" أي المسألة "العقل" أي لم يعده محالا لتساويهما عنده في الإمكان.

زاد عياض: ولا استبان عندها، أي الطائفة في أحدهما طريق النقل، "وهذا مذهب الإمام أبي المعالي" عبد الملك الجويني إمام الحرمين، وقوله:"وكذا الغزالي والآمدي" زيادة على ما في الشفاء.

"وقال آخرون" في الشفاء: وقالت فرقة: "وكان عاملا بشرع من قبله" من الأنبياء، "ثم اختلفوا هل يتعين ذلك الشرع" بتعيين صاحبه "أم لا" فيقال: كان على شرع لم يعلم،"فوقف بعضهم على التعيين وأحجم"، "بحاء فجيم" أي تأخر ولم يجسر عليه لعدم دليل قام عنده على

ص: 190

اختلفت هذه الفرقة المعينة فيمن كان يتبع فقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى.

فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة. والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، وأبعدها مذهب المعينين، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل -كما قدمناه- لكنه ولم يخف جملة، ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء فلزمت شريعته من جاء بعده، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصا من كلام القاضي عياض، وهو كلام حسن بديع، لكن قوله: فهذه جملة المذاهب، فيه نظر، لأنه بقي عليه منها شيء، فقد

التعيين، "وجسر" تجرأ، وأقدم "بعضهم على التعيين وصمم" عزم وتمادى على ذلك ولم يرجع عنه، "ثم اختلفت هذه الفرقة المعينة فيمن كان يتبع، فقيل: نوح،" لأنه أول رسول إلى أهل الأرض كما في الصحيح، أي بالإهلاك والإنذار لقومه، فلا يرد أن أول الرسل آدم، لأن رسالته كانت كالتربية لبنيه، "وقيل: إبراهيم" لأنه أفضل الرسل بعد نبينا، "وقيل: موسى" لأنه كليم الله وكتابه أجل الكتب قبل وجود القرآن، "وقيل: عيسى" لأنه أقرب الرسل زمانا إليه، "فهذه جملة المذاهب" المنقولة "في هذه المسألة والأظهر"، أي الأقوى دليلا "فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر "محمد بن الطيب الباقلاني، وهو قول الجمهور المنقول أولا، وقد وصف أبو بكر في الشفاء، بأنه سيف السنة ومقتدى فرق الأمة إشارة إلى ترجيحه، وأنه لا ينبغي العدول عنه، ولأنه مالكي على مذهب عياض، لا شافعي كما وهم، "وأبعدها مذهب المعينين، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل" إذ مثله لا يخفى "كما قدمناه لكنه" لم ينقل، فدل على عدمه، "ولم يخف،" أي يستر "جملة" على الناس، "ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء" قبله، فهو أقربهم إليه، ولا نبي بينهما، فهو أولى به، كما ذهب إليه من عينه "فلزمت شريعته ما جاء بعده" لأنه المتبادر ببادي الرأي قبل، التأمل وعند التأمل لا يلزم من جاء بعده، "إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى" وإنما كانت لبني إسرائيل كما في التنزيل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} [الصف: 6] ، "بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم" فإنها عمت الثقلين إجماعا والملائكة على أحد القولين ورجح، ومقابل الصحيح إن دعوة بعض من قبله عامة أيضا، لقول نوح:{لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، إذ لو لم يرسل لهم ما استحقوا الهلاك بمخالفته، وهذا إن سلم فهو عموم نسبي لا حقيقي، كما لنبينا عليه الصلاة والسلام.

"انتهى ملخصا من كلام القاضي عياض" في الشفاء "وهو كلام حسن بديع" في

ص: 191

قيل: شريعة آدم عليه السلام أيضا، وهو محكي عن ابن برهان، وقيل: جميع الشرائع. حكاه صاحب "المحصول" عن المالكية.

وأما قول من قال: إنه كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته صلى الله عليه وسلم إحياء شرع إبراهيم، وعول في إثبات مذهبه على قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فهذا قول ساقط مردود، لا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع.

وإنما المراد بهذه الآية الاتباع في التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال:{أَنِ اتَّبِعْ} كان المراد منه ذلك. ومثله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ولم تكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب. على قول من يقول إنه ليس برسول. وقد سمى الله تعالى

الحسن "لكن قوله: فهذه جملة المذاهب فيه نظر، لأنه بقي عليه منها شيء فقد قيل: شريعة آدم عليه السلام أيضا" لأنه الأب الأول، "وهو محكي عن ابن برهان""بفتح الموحدة" أحمد بن علي بن برهان الفقيه، صاحب الفقيه.

"وقيل: جميع الشرائع" بأن يتعبد بما شاء منها بالإلهام "حكاه صاحب المحصول عن المالكية".

"وأما قول من قال إنه كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته صلى الله عليه وسلم إحياء شرع إبراهيم، وعول في إثبات مذهبه على قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَينَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، فهذا قول ساقط مردود لا يصدر مثله إلا عن سخيف" أي رقيق "العقل" أي ناقصه، "كثيف" غليظ "الطبع" لا يفهم شيئا، "وإنما المراد بهذه الآية الاتباع في التوحيد" أي الإيمان بالله وحده وما يتعلق بالعقائد الحقة مما يشترك فيه جميع الأنبياء "لأنه لما وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية، بأنه ما كان من المشركين، "فلما قال: {أَنِ اتَّبِعْ} كان المراد منه ذلك،" أي التوحيد لا اتباع شريعته، "ومثله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فالمراد بهداهم ما اتفقوا عليه من التوحيد دون فروع الشرائع، فإنه لا يضاف للكل، وقد قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] الآية، "وقد سمى الله فيهم من لم يبعث" أي لم يرسل بشريعة خاصة، وأمر بدعوة الناس إليها، "ولم تكن له شريعة" جديدة "تخصه، كيوسف بن يعقوب" بن

ص: 192

جماعة منهم في هذه الآية وشرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها، فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى.

فإن قيل النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله:{أَنِ اتَّبِعْ} على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التي صح حصول المتابعة فيها.

إسحاق بن إبراهيم، "على قول من يقول: إنه ليس برسول" وإنما هو نبي على شريعة أبيه يعقوب، أو على ملة إبراهيم، والجمهور على أنه رسول بعث إلى القبط، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34] ، فإن المراد يوسف بن يعقوب، والقائل بأنه ليس برسول، قال: المراد في الآية حفيده يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب "وقد سمى الله تعالى جماعة منهم" سرد أسماءهم على التوالي "في هذه الآية" ثم أمره بالاقتداء بهم "وشرائعهم مختلفة، لا يمكن الجمع بينها" حتى يؤمر باتباعهم جميعا في فروع الشرائع العلمية التعبدية، "فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى" القلبية التي لم يختلف فيها ونحوها من أصول الدين، وهذا أورده عياض ردا على من قال: كان يتعبد قبل البعثة على شريعة إبراهيم، فأورده المصنف ردا على من قال: كان بعدها على شريعته، لأنه أهم بالاعتناء برده، وكلاهما حسن، ولما كان ساقطا صادرا عن قلة العقل، لم يعتن عياض برده، وإنما قال عقب قوله: بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا، ولا حجة أيضا للآخرين، أي القائلين بأنه كان قبل البعثة متبعا لشريعة إبراهيم في قوله تعالى:{وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125]، ولا للآخرين في قوله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} فحمل هذه الآية على اتباعهم في التوحيد، كقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقد سمى فيهم من لم يبعث

إلخ ما ذكر المصنف هنا بالحرف، وقال بعده: هل يلزم من قال بمنع الاتباع بهذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا أو يخالفون بينهم، أما من منع الاتباع عقلا، فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية، وأما من مال إلى النقل فأينما تصور له وتقرر تبعه، ومن قال بالوقف فعلى أصله، ومن قال بوجوب الاتباع لمن قبله فليلتزمه بمساق حجته في كل نبي. ا. هـ.

"فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية" العقلية والنقلية "وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: {أَنِ اتَّبِعْ} على هذا المعنى" الذي هو التوحيد، "فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها"

ص: 193

أجاب الفخر الرازي: بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة، على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.

وقد قال صاحب الكشاف: لفظة "ثم" في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} تدل على تعظيم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قِبَل أن هذه الآية دلت على تباعد النعت في المرتبة على سائر المدائح التي مدحه الله بها. انتهى.

ومراده بالمدائح: المذكورة في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 120] .

كما قال ذلك البليد القليل العقل.

"أجاب الفخر الرازي بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة" كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ، "وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى"، والمجادلة مع كل واحد بحسبه "بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن" كما وقع لإبراهيم من الاستدلال بالكوكب، ثم القمر، ثم الشمس.

"وقد قال صاحب الكشاف لفظة "ثم" في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} تدل على تعظيم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة، وأجل ما أوتي من النعمة" عليه من الله تعالى "اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته من قِبَل"، "بكسر ففتح" أي جهة "أن هذه الآية دلت على تباعد" أي ارتفاع "النعت في المرتبة على سائر المدائح التي مدحه الله بها. انتهى".

"ومراده" أي الزمخشري "بالمدائح المذكورة في قوله: إن إبراهيم كان أمة" إماما قدوة، جامعا لخصال الخير التي لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص عديدة، كقوله:

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

"قانتا لله" مطيعا فيما يأمره، "حنيفا" مائلا عن الباطل إلى الدين القيم، "ولم يك من المشركين" كما زعمت قريش أنهم على ملة إبراهيم، "شاكرا لأنعمه" ذكر بلفظ القلة، تنبيها على أنه لا يخل بشكر النعم القليلة، فكيف بالكثيرة "اجتباه" اصطفاه "وهداه إلى صراط مستقيم" في الدعوة إلى الله، "وآتيناه في الدنيا حسنة" بأن حببه للناس حتى أن أرباب الملل،

ص: 194

وقال ابن العراقي في شرح تقريب الأسانيد: وليت شعري كيف تلك العبادة؟ وأي أنواعها؟ وعلى أي وجه فعلها؟ يحتاج ذلك لنقل ولا أستحضره الآن. انتهى.

وقال شيخ الإسلام البلقيني في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، لكن روى ابن إسحاق وغيره أنه عليه السلام كان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه، وكان من تنسك قريش في الجاهلية أن يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة، وحمل بعضهم التعبد على التفكر.

قال: وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنواع: وهي الانعزال عن الناس، كما صنع إبراهيم عليه السلام باعتزاله قومه والانقطاع إلى الله تعالى، فإن "انتظار

يتولونه ويثنون عليه، أو رزقه أولادا طيبة وعمرا طويلا في السعة والطاعة والثناء الحسن في كل أهل الأديان، "وإنه في الآخرة لمن الصالحين" الذين لهم الدرجات العلى في الجنة، كما سأله بقوله: وألحقني بالصالحين.

"وقال ابن العراقي" أحمد ولي الدين بن عبد الرحيم الحافظ ابن الحافظ "في شرح تقريب الأسانيد: وليت شعري كيف تلك العبادة" التي كان يتعبد بها صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، "وأي أنواعها، وعلى أي وجه فعلها، يحتاج ذلك لنقل، ولا أستحضره الآن. انتهى".

"وقال شيخ الإسلام" سراج الدين أبو حفص عمر "البلقيني"، "بضم فسكون فكسر"، "في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، لكن روى ابن إسحاق وغيره" كالبيهقي "أنه عليه السلام كان يخرج إلى حراء" الجبل المعروف بمكة "في كل عام شهرا من السنة" وهو رمضان، كما رواه البيهقي "يتنسك" أي يتعبد "فيه، وكان من تنسك قريش في الجاهلية أن يطعم" المتنسك "من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة" يعني: فيحتمل أن يكون تنسكه لله في حراء كذلك، "وحمل بعضهم" كابن المرابط:"التعبد على التفكر" في مصنوعات الله.

"قال" البلقيني: "وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنواع، وهي الانعزال عن الناس" لأنه عبادة لا سيما من كان على باطل، "كما صنع إبرايم عليه السلام باعتزاله قومه" قال تعالى:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48] ، "والانقطاع إلى الله تعالى" عن

ص: 195

الفرج عبادة" كما رواه علي بن أبي طالب مرفوعا، وينضم إلى ذلك الأفكار، وعن بعضهم: كانت عبادته في حراء التفكر. انتهى.

وقد آن أن أشرع فيما قصدته على النحو الذي أردته، وقد اقتصرت من عباداته عليه الصلاة والسلام على سبعة أنواع:

الخلق والراحة من أشغال الدنيا وفراغ القلب، وناهيك بهذا من عبادة "فإن انتظار الفرج عبادة" كما رواه علي بن أبي طالب، مرفوعا" أخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقي والديلمي عن علي، رفعه: "انتظار الفرج من الله عبادة"، "وينضم إلى ذلك الأفكار،" أي التفكير الذي قاله بعضهم كما مر فقوله:"وعن بعضهم كانت عبادته في حراء التفكر" تكرار. "انتهى" كلام البلقيني.

وفي شرح المصنف للبخاري: وإنما كان يخلو بحراء دون غيره، لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وسنه، فتبعه على ذلك، فكان يخلو بمكان جده، وكان الزمن الذي يخلو فيه شهر رمضان، فإن قريشا كانت تفعله كما كانت تصوم يوم عاشورا. ا. هـ.

"وقد آن" كحان وزنا ومعنى، أي قرب "أن أشرع" أي دخل وقت شروعي "فيما قصدته على النحو" الوجه "الذي أردته" عبر به تفننا وفرارا من تكرار اللفظ بعينه، "وقد اقتصرت من عباداته عليه الصلاة والسلام على سبعة أنواع""بسين فموحدة".

ص: 196