المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الأول: في الطهارة - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١٠

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌النوع الأول: في الطهارة

‌النوع الأول: في الطهارة

وفيه فصول:

الفصل الأول: في ذكر وضوئه صلى الله عليه وسلم وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به

اعلم أن الوضوء بالضم: الفعل، وبالفتح: الماء الذي يتوضأ به، على المشهور فيهما، وهو مشتق من الوضاءة، وسمي به لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا.

وقد استنبط بعض العلماء -كما جاء في فتح الباري- إيجاب النية في الوضوء من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤا لأجلها. ومثله قوله: إذا رأيت الأمير فقم، أي، لأجله.

وقال ابن القيم: لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في أول وضوئه نويت رفع الحدث ولا غيرها، لا هو ولا أصحابه ألبتة، ولم يرو عنه لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى.

قلت: أما التلفظ بالنية فلا نعلم أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم، وأما كونه عليه السلام أتي بها فقد قال الإمام فخر الدين الرازي في "المعالم" اعلم أنا إذا أردنا البحث في أمر من الأمور: هل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلنا في إثباته طرق:

النوع الأول: في الطهارة

لغة النظافة، أي النقاء من الدنس والنجس، "وفيه فصول" ستة:

الفصل الأول: في ذكر وضوئه صلى الله عليه وسلم وسواكه

وهو طهارة لغوية، "ومقدار ما ان يتوضأ به" سماه طهارة تجوزا، لأنها لما كانت تفعل به أطلقها عليه.

"اعلم أن الوضوء بالضم" للواو "الفعل وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما" وحكي في كل منهما الأمران، "وهو مشتق من الوضاءة"، "بالهمز" وزن ضخامة الحسن والبهجة، "وسمي به لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا".

"وقد استنبط بعض العلماء كما حكاه في فتح الباري إيجاب النية" القصد، وهو عزيمة القلب، قاله النووي، وقال البيضاوي: هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض صحيح من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا وخص الشرع بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه "في الوضوء، من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا لأجلها" أن ترتيب الوضوء على القيام إليها مشعر بأنه لأجلها، "ومثله قوله" أي القائل، إلا أن لفظ الفتح قولهم:"إذا رأيت الأمير فقم، أي لأجله".

"وقال ابن القيم: لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في أول وضوئه: نويت رفع الحدث ولا غيرها" أي غير هذه النية من النيات المعتبرة، "لا هو ولا أصحابه البتة، ولم يرو لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى".

"قلت: أما التلفظ بالنية، فلا نعلم أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم"، كما قال:"وأما كونه عليه السلام أتى بها، فقد قال الإمام فخر الدين الرازي في المعالم" أي معالم التنزيل اسم تفسيره:

ص: 197

الأول: أنا أردنا أن نقول إنه عليه السلام توضأ مع النية والترتيب، قلنا، لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضروري حاصل بأنه أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العاري عن النية والترتيب، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، فوجب أن يجب علينا مثله.

والطريق الثاني: أن نقول: لو أنه عليه السلام ترك النية والترتيب وجب علينا تركه للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله.

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عمر مرفوعا: "إنما الأعمال بالنية وإنما

"اعلم أنا إذا أردنا البحث في أمر من الأمور أنه هل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم" أم لا؟ "فلنا في" وفي نسخة: إلى "إثباته طرق" أراد ما فوق الواحد، إذ لم يذكر إلا طريقين، أو ترك ما زاد عليهما اختصارا.

"الأول: إذا أردنا أن نقول" جوابا لمن قال "إنه عليه السلام" له "توضأ مع النية والترتيب أم لا؟ "قلنا: لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضروري حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب" يلازم ويدوام "على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي" بالجر صفة"، "ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العاري عن النية والترتيب والشك" الحاصل من عدم ورود دليل على ذلك "لا يعارض اليقين" الحاصل من أنه لا يمكن تركه الأكمل طول عمره، "فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، فوجب أنه يجب علينا مثله" لكن ثبوت إتيانه بذلك لا ينتج الوجوب كما هو ظاهر، إذ قد يتركه لبيان أنه لا يجب، فهذا الدليل ينتج عدم الوجوب.

"والطريق الثاني: أن نقول لو أنه عليه السلام ترك النية والترتيب وجب علينا تركه،" أي المذكور منهما "للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله،" لكن ثبوت ذلك لا يدل على وجوب الفعل، لأنه يفعل السنة، وليس تركه مثل هذا يوجب علينا الترك لما علم أنه يترك ما لم يجب، لإفادة أنه ليس بواجب، كما أنه يفعل المكروه في حق غيره لبيان الجواز، ويثاب على ذلك.

"وفي الصحيحين وغيرهما" كأحمد والترمذي وابن ماجه ومالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن "من حديث عمر، مرفوعا": "إنما الأعمال بالنية" بالإفراد في معظم الروايات

ص: 198

لكل امرئ ما نوى".

قال البخاري: "فدخل في الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم

على الأصل لاتحاد محلها وهو القلب، كما أن مرجعها واحد، وهو الإخلاص للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فمتعلقة بالظواهر وهي متعددة، فناسب جمعها، أو في رواية: بالنيات "بالجمع" باعتبار تنوعها، لأن المصدر إنما يجمع باعتبار تنوع، أو باعتبار مقاصد الناوي، كقصده تعالى، أو تحصيل موعوده، أو اتقاء وعيده.

وفي رواية للبخاري: "الأعمال بالنية"، بالإفراد فيهما وحذف "إنما" ولابن حبان:"الأعمال بالنيات" بحذفها وجمع الأعمال، "وإنما لكل امرئ ما نوى"، أي الذي نواه أو نيته، وكذا لكل امرأة ما نوت، لأن النساء شقائق الرجال.

وفي القاموس: المرء "مثلث الميم" الإنسان أو الرجل، وأتى بهذه الجملة بعد سابقتها مع اتحاد معناهما، لأن التقدير: وإنما لكل امرئ ثواب ما نوى، فالأولى نبهت على أن الأعمال لا تعتبر إلا بالنية، والثانية على أن للعامل ثواب العمل على قدر نيته، ورد بأن الأعمال حاصلة بثوابه للعامل لا لغيره، فهي عين معنى الجملة الثانية، وقيل: معنى الثتنية حصر ثواب الأجر المرتب على العمل لعامله، ومعنى الأول صحة الحكم وإجراؤه، ولا يلزم منه ثواب، فقد يصح العمل ولا ثواب عليه، كالصلاة في الثوب المغصوب على أرجح المذاهب، قاله ابن عبد السلام، وتعقب باقتضائه أن العمل نيتين: نية يصح بها في الدنيا ويحصل بها الاكتفاء ونية بها يحصل الثواب في الآخرة، إلا أن يقدر في ذلك وص النية إن لم يحصل صح ولا ثواب، وإن حصل صح وحصل الثواب، فلا إشكال، وقيل: الثانية تفيد اشتراط تعيين المنوي، فلا يكفي نية الصلاة بلا تعيين بل لا بد من تعيينها بالظهر أو العصر مثلا، أو أنها تفيد منع الاستنابة في النية، لأن الجملة الأولى لا تقتضي منعها بخلاف الثانية، ولا يرد نية ولي الصبي في الحج، فإنها صحيحة، وحج الإنسان عن غيره والتوكيل في تفرقة الزكاة، لأن ذلك وقع على خلاف الأصل في الوضع، وقال القرطبي: الجملة اللاحقة مؤكدة للسابقة، فذكر الحكم بالأولى، وأكده بالثانية تنبيها على سر الإخلاص، وتحذيرا من الرياء المانع منه وقد علم أن الطاعات في أصل صحتها وتضاعفها مرتبطة بالنيات، وبها ترفع إلى خالق البريات.

"قال البخاري" في آخر كتاب الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، "فدخل فيه" أي في الكلام "الإيمان" على رأيه، لأنه عنده عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق، فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب. "والوضوء" لأنه عمل "والصلاة" فتجب نيتها باتفاق، "والزكاة" فلا بد من نيتها. نعم إن أخذها الإمام من الممتنع

ص: 199

والأحكام".

وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لا يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما.

وحجتهم: أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة.

ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية.

واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه، فلا بد من قصد يميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود به.

وقوله: "إنما الأعمال بالنيات". ليس المراد منه نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات

سقطت ولو لم ينو صاحب المال، لأن السلطان قائم مقامه، "والحج"، وإنما ينصرف إلى من حج عن غيره لدليل خاص، وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة، "والصوم" فتلزم نيته عند الأئمة الأربعة إلا أن تعيين الرمضانية لا يشترط عند الحنفية، "والأحكام" أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات.

"وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لا يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما، وحجتهم أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة، كالصلاة" وسجود التلاوة ومس المصحف، "ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية" وأجابوا بأنها طهارة ضعيفة، فتحتاج إلى تقويتها بالنية، ورد بأن قياسه على التيمم غير مستقيم، فإن الماء خلق مطهرا، فتحتاج إلى تقويتها بالنية، ورد بأن قياسه على التيمم غير مستقيم، فإن الماء خلق مطهرا، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، والتراب ليس كذلك، فكان التطهير به تعبدا محضا، فاحتاج إلى النية، أو التيمم ينبئ لغة عن القصد، فلا يتحقق بدونه بخلاف الوضوء ففسد قياسه على التيمم، قاله المصنف.

"واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة، المصرحة بوعد الثواب عليه، فلا بد من قصد ميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود به" ولا يكون ذلك مع عدم النية.

"وقوله: "إنما الأعمال بالنيات"، ليس المراد به نفي ذات العمل، لأنه قد يوجد بغير نية" كأن يأتي بأفعال الوضوء بدونها، "بل المراد نفي أحكامها، كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى، لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه"، لأنه إذا انتفت صحته لم

ص: 200

بالصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة.

وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية، قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوا قدروا كمال الأعمال، ورجح الأول لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى.

يحصل به المقصود من سقوط الطلب عن المكلف، فأشبه ما انتفت ذاته بأن لم يفعل في عدم حصول القصد بكل منهما، بخلاف ما انتفى كماله، كمن ترك تسبيح الصلاة، فالفائت ثوابه الخاص مع سقوط الطلب عن المكلف، "ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل، نفي الذات" لوجود العمل بلا نية، "بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة".

زاد الحافظ: قال شيخنا شيخ الإسلام، يعني البلقيني: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله: فمن كانت هجرته

إلخ، وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل، ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان، فتدخل الأقوال.

قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث بتناولها، وأما التروك، فهي وإن كانت فعل كف، لكن لا يطلق عليها لفظ العمل، وقد تعقب على من سمى القول عملا، لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملا، فقال قولا لا يحنث.

وأجيب: بأن مرجع اليمين إلى العرف والقول لا يسمى عملا في العرف، ولهذا يعطف عليه، والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا، وكذا الفعل، كقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، بعد قوله:{زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ، وأما عمل القلب فالنية، ولا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل والمعرفة، وفي تناولها نظر.

قال بعضهم: هي محال، لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف، يلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة، وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله، إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا.

"وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال" إذ لا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقدر كل ما يوافق رأيه، "ورجح الأول، لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها

ص: 201

وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء كما تقدم، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا، نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات النفقة.

وأما قوله -أي البخاري- "فدخل في الإيمان" فتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة البخاري: أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، من خشية الله وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة لله فلا تحتاج إلى نية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل لله تعالى عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم

أولى" للأكثرية، "وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية" أي وجوبها في شيء من الأعمال، "وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل" كالوضوء، "وأما المقاصد" كالصلاة، "فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء" أي قالوا لا تشترط، "كما تقدم، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا" نظرا لكونه وسيلة، فلم يناقض أصله بخلاف الحنفية، فاشترطوها فيه، فتناقضوا كما مر.

"نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل" هل هو شرط أم لا؟ "كما هو معروف في مبسوطات النفقة" فلا حاجة إلى الإطالة به.

زاد الحافظ: الظاهر أن الألف واللام معاقبة للضمير، والتقدير: الأعمال بنياتها، وعلى هذا، فيدل على اعتبار نية العمل من كونه صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضا أو نفلا، ظهرا مثلا أو عصرا، مقصورة أو غير مقصورة، وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث، والرجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين، لأن ذلك هو مقتضى القصر.

"وأما قوله -أي البخاري- فدخل فيه الإيمان، فتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة البخاري، أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق، فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب من خشية الله" أي الخوف منه "وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة" بكونها "لله" لا لأمر آخر، "فلا تحتاج إلى نية تميزها" بل لا يمكن النية فيها كما أشار إليه بقوله الآتي: ومتى فرضت النية مفقودة استحالت حقيقته، "لأن النية إنما تميز العمل لله تعالى

ص: 202

عن الحمية.

وقوله أيضا: "والأحكام" أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها وكل صورة لم تشترط فيها النية فذلك لدليل خاص.

وقد ذكر ابن المنير ضابطا -لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فيه- فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل فعل ظهرت فائدته، ناجزة، وتقاضته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب.

قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة.

قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه

عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال، كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة، كالصوم عن المحبة" عن الأكل لضره.

"وقوله أيضا: والأحكام أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات، فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها" واستأنف بالرفع قوله: "وكل صورة لم تشترط فيه النية، فذلك لدليل خاص".

"وقد ذكر ابن المنير ضابطا" مميزا "لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فيه" وفي نسخة: وما لا يشترط، فلا يقدر مميزا، لكن الذي في الفتح مما لا يشترط، "فقال: كل عمل لا يظهر له فائدة عاجلة" كالصلاة لا يظهر لفعلها فائدة تترتب عليها حالا، "بل المقصود به طلب الثواب" في الآخرة "فالنية مشترطة فيه" فلا يصح بدونها "وكل فعل ظهرت فائدته ناجزة وتقاضته"، "بقاف وضاد معجمة" أي طلبته "الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما" بين الطبيعة والفعل، كالأكل والشرب والجماع مما منفعته ناجزة، كشبع وري وكسر شهوة، "فلا تشترط فيه النية إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب" لقصد التقوي على العبادة بالأكل والشرب وحصول ولد صالح، أو عفة نفسه، أو المرأة بالنكاح، فيتوقف على النية.

"قال" ابن المنير: "وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة" بين الأمرين، "قال: وأما ما كان من المعاني المحضة، كالخوف والرجاء، فهذا

ص: 203

استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي.

وأما الأقوال، فتحتاج إلى النية في ثلاث مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء، والثاني: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود. والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى، ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري.

وقد اختلف العلماء في الوقت الذي وجب فيه الوضوء.

فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية.

ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وقال: وهذا مما لا

لا يقال باشتراط النية فيه، لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا"، فلا يصح اشتراطها فيه، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي" لا يمكن تخلفه، وحذف من كلام ابن المنير المنقول في الفتح ما لفظه، ويقاربه أنه لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل.

"وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاث مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء "بتحتية"، "والثاني: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود، والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى".

"ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري" آخر كتاب الإيمان وما قبله في شرح أو حديث فيه.

"وقد اختلف العلماء في الوقت الذي وجب فيه الوضوء، فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} محدثين كما قدر الأكثرون، وقال آخرون: الأمر عام بلا تقدير، إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي حق غيره على الندب، وقيل: كان واجبا، ثم نسخ فصار مندوبا، ويدل له حديث عبد الله بن الغسيل الآتي {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية ووجه التمسك من كون الآية نزلت بالمدينة، وهو تمسك ضعيف.

"ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة" بمكة، "وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وقال" ابن عبد البر: "وهذا مما

ص: 204

يجهله عالم بالأخبار.

وقال الحاكم في المستدرك: أهل السنة قامت بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال:"ائتوني بوضوء". فتوضأ.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا يصلح أن يكون ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ.

وقد جزم به الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة.

ورد عليه بما أخرجه عبد الله بن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي

لا يجهله عالم بالأخبار"، وهذا مما يضعف القول بأن الوضوء أول ما فرض بالمدينة.

"وقال الحاكم في المستدرك: أهل السنة قامت بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة" الزهراء سيدة النساء "على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: "ائتوني بوضوء"، "بالفتح" ما أتوضأ به "فتوضأ".

"قال الحافظ ابن حجر: وهذا يصلح أن يكون ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ" فلا يصح ردا عليه، إذ لا يلزم من فعله الوجوب.

"قد جزم" أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد "بن الجهم" المروزي نسب لجد أبيه لشهرته به "المالكي" الفقيه، المحدث.

قال الخطيب: له مصنفات حسان محشوة بالآثار، يحتج لمذهب مالك ويدر على مخالفيه، وكتب حديثا كثيرا وكتبه تنبئ عن مقدار علمه.

روى عن إسماعيل القاضي وجعفر الفريابي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم، وعنه الأبهري والدينوري، مات سنة تسع وعشرين، وقيل: ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، "بأنه كان قبل الهجرة مندوبا".

"وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة" ويرد عليه حديث فاطمة السابق، "ورد عليه" أيضا "بما أخرجه عبد الله بن لهيعة"، "بفتح اللام وكسر الهاء" ابن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري قاضيها، عالم صدوق، احترقت كتبه فاختلط، ورواية ابن المبارك:

ص: 205

الأسود عن عروة أن جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي.

وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال: عن الزهري عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة.

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة. قيل له: كيف كنتم

وابن وهب، عنه: أعدل من غيرهما.

روى له أبو داود والترمذي وله في مسلم بعض شيء مقرون، مات سنة أربع وسبعين ومائة، وقد ناف على الثمانين "في" كتاب "المغازي التي يرويها عن أبي الأسود" محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد بن سد بن عبد العزى الأسدي المدني، يتيم عروة، ثقة من رجال الجميع، مات سنة بضع وثلاثين ومائة "عن عروة" بن الزبير: أن جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي وهو مرسل" لأن عروة تابعي كبير "ووصله "أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه" زيد بن حارثة الصحابي، أحد من قيل أنه أول من أسلم.

"وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين"، "بكسر الراء وسكون المعجمة"، "ابن سعد" ابن مفلح المهري "بفتح الميم وسكون الهاء" أبي الحجاج المصري، ضعيف رجح أبو حاتم عليه ابن لهيعة.

وقال ابن يونس: كان صالحا في دينه، فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث، مات سنة ثمان وثمانين ومائة وله ثمان وسبعون، خرج له الترمذي وابن ماجه "عن عقيل"، "بضم العين" ابن خالد بن عقيل "بالفتح" الأيلي "بفتح الهمزة فتحتية ساكنة فلام" الأموي، مولاهم ثقة، ثبت من رجال الجميع، سكن المدينة، ثم الشام ثم مصر، مات سنة أربع وأربعين ومائة على الصحيح، "عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب "نحو، ولكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند" بل قال عن عروة عن أسامة.

"وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث" بن سعد الإمام "عن عقيل موصولا" عن الزهري، عن عروة، عن أسامة، عن أبيه:"ولو ثبت لكان على شرط الصحيح" للشيخين "لكن المعروف رواية ابن لهيعة" عن أبي الأسود، عن عروة مرسلا "وعن" عمرو بن عامر

ص: 206

تصنعون؟ قال: يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث. رواه البخاري وأبو داود والترمذي.

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. رواه الدارمي. وروى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئا لم تفعله، فقال:"عمدا فعلته يا عمر". يعني لبيان الجواز.

الأنصاري، عن "أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة" وعند النسائي عن عمرو بن عامر أنه سأل أنسا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة؟ قال: نعم، قال الحافظ: أي مفروضة زاد الترمذي من طريق حميد، عن أنس طاهر، أو غير طاهر وظاهره أن تلك كانت عادته، لكن حديث الصحيح عن سويد بن النعمان: خرجنا عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، إلى أن قال: ثم صلى لنا المغرب، ولم يتوضأ يدل على أن المراد الغالب.

وقال الطحاوي: يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه، ثم نسخ يوم الفتح لحديث بريدة، يعني الآتية، ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا، ثم خشي أن يظن وجوبه، فتركه لبيان الجواز.

قال الحافظ: وهذا هو الأقرب، وعلى تقدير، الأول، فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد، فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان، "قيل له" لفظ البخاري، قلت:"كيف كنتم تصنعون"، قال الحافظ: القائل عمرو بن عامر، والمراد الصحابة، "قال" أنس:"يجزي"، "بضم أوله" من أجزأ، أي يكفي، وللإسماعيلي: يكفي "أحدنا"، "بالنصب" مفعول فاعله "الوضوء ما لم يحدث" ولابن ماجه: وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد "رواه البخاري وأبو داود والترمذي" والنسائي وابن ماجه، "وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة" استحبابا، وإلا لما وسعه ولا وسع غيره أن يخالفه، ولأن الأصل عدم الوجوب قاله المصنف "رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي الحافظ، صاحب المسند، ثقة، فاضل، متقن، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي.

"وروى مسلم" وأبو داود والترمذي "عن بريدة"، "بضم الموحدة" مصغر، بن الحصيب "بمهملتين" مصغر، أبي سهل الأسلمي رضي الله عنه "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح" فتح مكة "صلى الصلوات" الخمس، كما زاده في رواية أبي داود والترمذي، فأغرب من قال، أي جمع بين صلاتين "بوضوء واحد فقال له عمر" بن الخطاب: "فعلت شيئا لم تكن تفعله".

ص: 207

وفي رواية أحمد وأبي داود، من حديث عبد الله بن أبي عامر الغسيل، أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء، لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عند الوضوء إلا من حدث.

واختلف العلماء في موجب الوضوء:

فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا: ورجحه جماعة من الشافعية وقيل إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس مرفوعا:"إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة".

وفي رواية: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، "فقال: عمدا" أي قصدا "فعلته" وفي لفظ: صنعته "يا عمر، يعني لبيان الجواز" للناس، وخوف أن يعتقد وجوب ما كان يفعل من الوضوء لكل صلة، وقيل: إنه ناسخ لوجوب ذلك، وتعقب بقول أنس: كان خاصا به دون أمته، وأنه كان يفعله للفضيلة، كذا في شرح المصنف لمسلم.

"وفي رواية أحمد وأبي داود من حديث عبد الله" بن حنظلة "بن أبي عامر" الراهب الأنصاري، له رؤية وأبوه غسيل الملائكة، قتل يوم أحد وأم عبد الله جميلة بنت عبد الله بن أبي، استشهد عبد الله يوم الحرة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وكان أمير الأنصار بها، كما في التقريب كغيره، فكأنه سقط من قلم المصنف أو نساخه: ابن حنظلة، ولا يعتذر له بأنه نسبه إلى جده، لأن قوله "الغسيل" صفة لحنظلة لا لابنه عبد الله الراوي، وإسقاطه يوهم أنه صفة له كما ظنه من لم يراجع غزوة أحد، "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا" كان "أو غير طاهر فلما شق" صعب "ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عند الوضوء إلا من حدث"، أي ناقض للوضوء، لكن نومه ليس بناقض كما مر في الخصائص.

"واختلف العلماء في موجب الوضوء" وكذا الغسل، واقتصر على الوضوء، لأن الكلام فيه، "فقيل: يجب بالحدث" أي الناقض "وجوبا موسعا" إلى القيام إلى الصلاة، "وقيل" يجب "به وبالقيام إلى الصلاة معا" فلا يجب بالحدث وحده، ولا بالقيام لها وهو متوضئ، "ورجحه جماعة من الشافعية" وغيرهم، "وقي: بالقيام إلى الصلاة حسب" أي فقط، وأورد عليه أنه لو دخل وقت الصلاة ولم يرد فعلها، بل قصد تركها أو أخرها إلى خروج الوقت، لا يجب عليه الوضوء تلك المدة لعدم قيامه إلى الصلاة.

وأجيب بأن المراد القيام لها بالفعل أو بالخطاب، وهو بدخول الوقت يخاطب بالصلاة، وبكل ما تتوقف عليه، "ويدل له ما رواه أصحاب السنن، عن ابن عباس، مرفوعا: "إنما أمرت

ص: 208

وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبي عامر هذا من قال بوجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم، لكن في إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح.

وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في السنن عن عائشة مرفوعا: "ثلاث هي علي فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل".

وقد روى أحمد في مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي".

وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا. لكن حكي عن بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة ونوزع فيه.

بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية، "وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبي عامر هذا" المذكور آنفا: "من قال بوجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم" من قوله: فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، "لكن" لا متمسك فيه، لأن "في إسناده محمد بن إسحاق" بن يسار صاحب المغازي، "وقد رواه بالعنعنة، وهو مدلس، وإن كان صدوقا فلا يقبل منه حتى يصرح بالسماع، "والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح".

"وأخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي في السنن، عن عائشة مرفوعا: "ثلاث هن علي فرائض وهن لكن سنة: الوتر والسواك وقيام الليل"، فهذا شاهد لحديث ابن حنظلة، وقد صححه ابن خزيمة وغيره إما تساهلا وإما لأنهم وقفوا على طريق صرحت بالسماع، ولذا اعتمد المالكية والشافعية وجوبه عليه.

"وقد روى أحمد في مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة"، "بمثلثة"، "ابن الأسقع"، "بالقاف"، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت" على لسان جبريل، أو بإلهام، أو برؤيا المنام "بالسواك" أمر ندب "حتى خشيت أن يكتب" أي يفرض "علي" وهذا وإن كان إسناده حسنا، لكن قال المنذري وغيره: فيه ليث بن أبي سليم، وهو ثقة مدلس، وقد رواه بالعنعنة، وقد جعله المصنف في مقصد الخصائص من حجج، من لم يجعل السواك واجبا عليه، لأنه ظاهر في عدم الوجوب، وحاول شيخنا الجمع بينه وبين الحديث قبله:"ثلاث هي علي فرائض" بما حاصله أنه واجب عليه لكل صلاة، مستحب له فيما عدا ذلك، والذي خشي أن يكتب عليه وجوبه عند القيام من نوم ودخول منزل ونحوهما مما يطلب فيه، وهو محتمل على بعده.

"وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا" معشر الأمة "لكن حكي عن

ص: 209

واتفقوا على أنه يستحب مطلقا، ويتأكد في أحوال:

منها: عند الوضوء وإرادة الصلاة.

ومنها: عند القيام من النوم، لما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، لكن قد يقال: المراد، قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك للصلاة وعند الوضوء.

ومنها: عند قراءة القرآن، كما جزم به الرافعي.

ومنها: عند تغير الفم، سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان، كما ذكره الرافعي.

ومنها: عند دخول المنزل، كما جزم به النووي في زوائد الروضة، لما روى

بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة، ونوزع فيه" بأنه لا دليل عليه.

"واتفقوا على أنه يستحب مطلقا" في كل وقت فعل فيه أراد الصلاة أم لا، "ويتأكد" استحبابه "في أحوال منها عند الوضوء" والغسل والتيمم "وإرادة الصلاة، ومنها عند القيام من النوم لما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة" بن اليماني "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص"، "بفتح التحتية وضم المعجمة وسكون الواو وصاد مهملة" يدلك "فاه بالسواك، لكن قد يقال المراد قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك، أو عند الوضوء" فلا يدل على أنه للقيام من النوم، ويدل على ذلك أن في رواية لمسلم كان إذا قام للتهجد.

وقال الولي العراقي: يحتمل وجهين، أحدهما: أن معناه إذا قام للصلاة بدليل الرواية الأخرى، الثاني: إذا انتبه وفيه حذف، أي من نوم الليل، ويحتمل أن من لابتداء الغاية من غير تقدير حذف نوم. انتهى.

وقد يؤيد الثاني رواية أحمد وأبي داود عن عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل ولا نهار إلا تسوك قبل أن يتوضأ" فإن ظاهره أنه كان يتسوك قبل شروعه في الوضوء، إذ يستحب في السواك للوضوء كونه قبل المضمضة، وهذا غير الاستياك عند الاستيقاظ.

وقال بعضهم: الكلام في مقتضى هذا الحديث، فإن نظر إليه مع قطع النظر عن رواية مسلم، أفاد ندبه بمجرد الانتباه، وإن روعيت الرواية الأخرى، لأن الروايات تفسر بعضها لم يفد ذلك لكن له دليل آخر، "ومنها عند قراءة القرآن كما جزم به الرافعي، ومنها عند تغير الفم" بأكل أو شرب أو كثرة كلام، ولو بذكر الله، "سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان كما ذكره الرافعي، ومنها عند دخول المنزل كما جزم به النووي في زوائد الروضة

ص: 210

مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك.

ومنها: عند إرادة النوم، كما ذكره الشيخ أبو حامد في "الرونق" وروى فيه ما رواه ابن عدي في الكامل من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه. وفيه: حرام بن عثمان، متروك.

ومنها: عند الانصراف من صلاة الليل، لما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد صحيح قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك.

لما روى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه" كلهم في الطهارة "من حديث" شريح بن هانئ عن "عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك" لأجل السلام على أهله، إذ السلام اسم شريف، وليطيب فمه الطيب لتقبيل أهله زيادة في حسن العشرة وتعليم الأمة، لا لتغير فمه بصمت أو كلام كما زعم، لأنه صلى الله عليه وسلم المنزه المبرأ عن أن يلحقه شيء من ذلك، ولأنه كان يبدأ بالنافلة أول دخوله بيته، ولأنه كما قال عياض والقرطبي: لا يفعله ذو مروءة بحضرة الناس، ولا ينبغي فعله في المسجد ولا في المحافل، قيل: المراد بالدخول ليلا، ففي مسند أحمد بإسناد صحيح عن شريح بن هانئ: سألت عائشة بأي شيء كان يبدأ صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليك بيتك ليلا، قالت: بالسواك، ويختم بركعتي الفجر، وألفاظ الخبر الواحد يفسر بعضها بعضا.

وقد حكى ابن منده الإجماع على صحة هذا الحديث، وتعقبه مغلطاي بأنه إن أراد إجماع العلماء قاطبة فمتعذر، أو إجماع الأئمة فغير صواب، لأن البخاري لم يخرجه، فأي إجماع مع مخالفته، كذا قال ولا طائل تحته، فالمراد إجماع علماء الحديث، وعدم إخراج البخاري له ليس فيه أنه لم يقل بصحته، فإنه لم يخرج في جامعه كل ما صح عنده، فقد صح عنه: أحفظ من الصحيح مائة ألف حديث، والذي في جامعه لم يبلغ نصف عشرها "ومنها عند إرادة النوم كما ذكره الشيخ أبو حامد "الإسفراييني "في الرونق" اسم كتاب، "وروى فيه ما رواه ابن عدي في الكامل من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه"، "بزنة مقعد" كما في القاموس، "وفي حرام"، "بمهملتين مفتوحتين"، كما في التبصير "ابن عثمان" المدني "متروك" هالك، "ومنها عند الانصراف من صلاة الليل لما رواه ابن ماجه" والنسائي وأحمد "من حديث ابن عباس بإسناد صحيح" كما قال الحافظ، وقال المنذري: رواته ثقات، وقال الحاكم على شرطهما، وتعقبه مغلطاي، "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين ركعتين" بالتكرير، "ثم ينصرف فيستاك" وعند أبي نعيم بإسناد جيد عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يستاك بين

ص: 211

ويجزئ بكل خشن، ولو بأصبع غيره الخشنة، وقد جزم النووي في شرح المذهب ودقائق المنهاج أنه يجزئ بها قطعا. قال في شرح تقريب الأسانيد: وما أدري ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره وكونه جزءا منه لا يظهر منه ما يقتضي منعه، بل كونها أصبعه أبلغ في الإزالة، لأنه لا يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم. قال النووي في شرح المذهب: المختار إجزاؤه مطلقا. قال: وبه قطع القاضي حسين والمحاملي في اللباب والبغوي واختاره في البحر. انتهى.

وقد أطبق الشافعي على استحباب "الأراك". روى الطبراني من حديث أبي خيرة الصنابحي -وله صحبة- حديثا قال فيه: ثم أمر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأراك فقال: "استاكوا بهذا".

كل ركعتين من صلاة الليل.

قال الولي العراقي: ومقتضاه أنه لو صلى صلاة ذات تسليمات كالضحى والتراويح، يستحب أن يستاك لكل ركعتين، وبه صرح النووي:"ويجزئ بكل خشن ولو بأصبع غيره الخشنة" المتصلة لا المنفصلة، لا بأصبعه، ولو متصلة على الأصح في المنهاج.

"وقد جزم النووي في شرح المذهب ودقائق المنهاج، أنه يجزئ بها قطعا".

"قال" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد: وما أدري ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره، وكونه جزءا منه لا يظهر منه ما يقتضي منعه، بل كونها أصبعه أبلغ في الإزالة" التي هي المقصود بالسواك من أصبع غيره، "لأنه لا يتمكن بها" أي أصبعه "أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم" أي حقا.

"قال النووي في شرح المذهب المختار" عنده من حيث الدليل وإن كان خلاف ما اعتمده في المنهاج "إجزاؤه مطلقا" بأصبع غيره أو بأصبعه، "قال: وبه قطع القاضي حسين والمحاملي في الباب والبغوي واختاره في البحر" للروياني. "انتهى".

"وقد أطبق أصحاب الشافعي" وغيرهم "على استحباب الأراك روى الطبراني والدولابي وأبو أحمد الحاكم "من حديث أبي خيرة"، "بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية فراء فتاء تأنيث"، قال الخطيب: لا أعلم أحدًا سماه وهو العبدي، ثم "الصنابحي"، "بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة الخفيفة نسبة إلى صنابح بن كثير بن أقصى بطن من عبد القيس كما في الإصابة والفتح، "وله صحبة حديثا" أوله كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس، وكنا أربعين رجلا نسأله على الدباء والنقير

الحديث. ثم "قال

ص: 212

وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة في دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر في مرضه صلى الله عليه وسلم ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة فطيبته ثم أعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به أسنانه. والحديث في الصحيحين وليس فيه ذكر الأراك. وفي بعض طرقه عند البخاري: ومعه سواك من جريد النخل.

وقد روى أبو نعيم في كتاب السواك، من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا، وروى البيهقي أيضا من حديث ربيعة بن أكثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا. الحديث.

فيه: ثم أمر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأراك، فقال:"استاكوا بهذا" فقلنا: يا رسول الله عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك، فقال:"اللهم اغفر لعبد القيس، أسلموا طائعين غير مكرهين، إذ قعد قوم لم يسلموا إلا خزايا موتورين".

"وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة في" قصة "دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر "الصديق "في مرضه صلى الله عليه وسلم" الذي توفي فيه "ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة" لما نظر صلى الله عليه وسلم إليه، "فطيبته" بمضغة ونفضه، "ثم أعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به"، "بهمزة فمهملة فوقية دلك "أسنانه، والحديث في الصحيحين، وليس فيه ذكر الأراك"، فذكره في رواية الحاكم وهو وهم أو شذوذ.

"وفي بعض طرقه عند البخاري: ومعه سواك من جريد النخل" فصرح بخلاف ما روى الحاكم والحديث واحد، ولفظ البخاري في هذه الطريق، عنها: توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذ مرض، فذهبت أعوذه، فرفع رأسه إلى السماء وقال:"في الرفي الأعلى، في الرفيق الأعلى". ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فظننت أن له حاجة، فأخذتها، فمضغت رأسها ونفضتها، فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولينها، فسقطت يده، أو سقطت من يده فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة.

"وقد روى أبو نعيم في كتاب السواك من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله" وفي نسخة: النبي "صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا" بقية رواية أبي نعيم، ولا يستاك طولا، هذا وفي إسناده عبد الله بن حكيم وهو متروك كما في المقاصد، وعورض بذكر الطول في خبر آخر، وجمع بأنه في اللسان والحلق طولا وفي الأسنان عرضا.

"وروى البيهقي" في السنن "أيضا" وكذا العقيلي "من حديث" سعيد بن المسيب عن "ربيعة بن أكثم"، "بمثلثة" الخزاعي "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا الحديث" بقيته

ص: 213

قال أصحابنا: والمرد بقوله: "عرضا" عرض الأسنان في طول الفم.

وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم بيمينه، لحديث: كان يعجبه التيمن في ترجله وتنعله وطهوره وسواكه.

وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطييب، أو من باب إزالة القاذورات. فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمين، وإن قلنا بالثاني فبشماله لحديث عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى. رواه أبو داود بإسناد صحيح.

قال في شرح تقريب الأسانيد: وما استدل به على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن في الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهير، والبداءة بالجانب الأيمن في الاستياك، وأما كونه يفعل

ويشرب مصا ويتنفس ثلاثا، ويقول:"هو أمنا وأمرأ وأبرأ"، قال في الإصابة: إسناده إلى ابن المسيب ضعيف.

وقال ابن السكن: لم يثبت حديثه، وفي المقاصد سنده ضعيف جدا، بل قال ابن عبد البر: ربيعة. قتل بخيبر، فلم يدركه سعيد، وقد رواه البيهقي والبغوي والعقيلي وابن عدي وابن منده وابن قانع والطبراني من حديث ثبيت بن كثير، وهو ضعيف، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن بهز بدل ربيعة.

قال ابن عبد البر في التمهيد: ولا يصحان من جهة الإسناد.

"قال أصحابنا: والمراد بقوله عرضا عرض الأسنان" ظاهرا وباطنا كما قال بعضهم "في طول الفم وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم: بيمينه لحديث: كان" صلى الله عليه وسلم "يعجبه التيمن في ترجله" تسريح شعره "وتنعله" لبس نعله، "وطهوره" وضوئه وغسله، فيبدأ بالعضو الأيمن من اليدين والرجلين، والشق الأيمن في الغسل، "وسواكه" فيسوك الجهة اليمنى قبل اليسرى، "وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطييب، أو من باب إزالة القاذورات، فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمين، وإن قلنا بالثاني، فبشماله لحديث عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه"، "بالمد"، "وما كان من أذى، رواه أبو داود بإسناد صحيح".

"قال" الولي بن العراقي "في شرح تقريب الأسانيد وما استدل به" من حديث كان يعجبه التيمن "على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن في الترجل" أي يسرحه قبل الأيسر "والبداءة بلبس النعل" للرجل اليمنى قبل اليسرى، "والبداءة

ص: 214

ذلك بيمينه فيحتاج إلى نقل، والظاهر أنه من باب إزالة الأذى كالامتخاط ونحوه فيكون باليسرى. وقد صرح بذلك أبو العباس القرطبي فقال في "المفهم" حكاية عن مالك: أنه لا يتسوك في المساجد لأنه من باب إزالة القذر والله أعلم.

وأما مقدار ما كان عليه الصلاة والسلام يتوضأ ويغتسل به من الماء:

فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، وفي رواية: كان يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك.

بأعضاء" الجهة "اليمنى في التطهير" فيغسل اليد اليمنى، والرجل اليمنى قبل اليسرى فيهما، وشق جسده الأيمن قبل الأيسر في الغسل، "والبداءة بالجانب الأيمن" من الفم "في الاستياك، وأما كونه يفعل ذلك بيمينه، فيحتاج إلى نقل" إذ لا تعرض فيه لليد التي كانت يفعل بها، لكنه الظاهر منه لا سيما مع قوله في الحديث وفي شأنه كله، ولذا اعتمد الشافعية والمالكية أنه باليد اليمنى خلافا لقوله: "والظاهر أنه من باب إزالة الأذى كالامتخاط ونحوه، فيكون باليسرى".

"وقد صرح بذلك أبو العباس القرطبي فقال في المفهم" في شرح مسلم "حكاية عن مالك" الإمام "أنه لا يتسوك في المساجد، لأنه من باب إزالة القذر،" لكن لا دلالة فيه على التسوك بالشمال، إذ لا يلزم من كراهة مالك السواك بالمساجد لئلا تتقذر بالخارج من الفم بالسواك وإن كان طاهرا، كون التسوك نفسه بالشمال، بل باليمين إكراما للفم، كإدخال الأكل وإن كان ذا رائحة كريهة كثوم، "والله أعلم" بالحكم فيه.

"وأما مقدار ما كان عليه الصلاة والسلام يتوضأ ويغتسل به من الماء، فعن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع" لفظ مسلم.

وفي البخاري: كان يغسل جسده، أو كان غتسل بالصاع، قال الحافظ: الشك من البخاري أو من شيخه أبي نعيم لما حدثه به، فقد رواه الإسماعيلي من طريق أبي نعيم، فقال: كان يغتسل، ولم يشك، ثم إنه ربما اقتصر على الصاع، وهو أربعة أمداد، وربما زاد "إلى خمسة أمداد" فكأن أنسا لم يطلع على أنه اغتسل بأكثر، لأنه جعلها النهاية، وفي مسلم عن عائشة، أنها كانت تغتسل والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وهو الفرق.

قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع، وفي مسلم أيضا، عنها: كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد، فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة، "ويتوضأ بالمد" وهو إناء يسع رطلا وثلثا بالبغدادي، قاله جمهور العلماء، وقال بعض الحنفية: رطلين.

"وفي رواية" عن أنس "كان" صلى الله عليه وسلم "يغتسل بخمس مكاكيك"، "بميم فكاف فألف فكافين

ص: 215

رواه البخاري ومسلم وأبو داود وعنده:

يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع. ورواه الترمذي وعنده أيضا:

أنه صلى الله عليه وسلم قال: يجزئ في الوضوء رطلان من ماء.

وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد رواه أبو داود.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد.

والصاع: خمسة أرطال وثلث، برطل بغداد، وهو على ما قاله النووي مائة

بينهما تحتية ساكنة جمع مكوك "ويتوضأ بمكوك"، "بفتح الميم وتشديد الكاف المضمومة وسكون الواو آخره كاف مجرور بالباء" أي مد كما تفسره الرواية قبله، "رواه البخاري ومسلم وأبو داود وعنده: يتوضأ بإناء يسع رطلين،" فقوله: أولا يتوضأ بالمد أغلبي، إذ الرطلان أزيد من المد عند الجمهور، "ويغتسل بالصاع".

"ورواه الترمذي وعنده أيضا؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: يجزئ"، "بضم أوله، أي يكفي"، "في الوضوء رطلان من ماء" أي فأقل بدليل فعله، "وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" بضم الميم "رواه أبو داود".

وفي مسلم عن سفينة مثله، ولأحمد بإسناد صحيح عن جابر مثله، وفي الباب عن أم سلمة وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وهو أكثر ما جاء عن الصحابة في تقدير وضوئه وغسله صلى الله عليه وسلم.

وروى أبو يعلى والطبراني بإسناد ضعيف، عن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بنصف مد.

وروى ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن زيد أنه رآه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلث مد، فجعل يدلك ذراعيه، ودلك أذنيه، يعني حين مسحهما وثلث بالإفراد، ولأبي داود عن أم عمارة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد بالتثنية وجمع بين هذه الروايات بأنها كانت اغتسالات ووضوءات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله، فليس المراد التحديد بالصاع والمد خلافا لمن حدد بهما، كابن شعبان من المالكية وبعض الحنفية، وهو أيضا في حق من يكون خلقه معتدلا.

"و" في البخاري والترمذي وابن ماجه، "عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم وميمونة" أم المؤمنين "كانا يغتسلان من إناء واحد" من الجنابة، ورواه مسلم عن ابن عباس، قال: أخبرتني ميمونة أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، لكن قال البخاري: كان ابن عيينة يقول أخيرا عن ابن عباس، عن ميمونة، والصحيح ما رواه أبو نعيم، يعني شيخه

ص: 216

وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم.

وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الإسراف فيه. ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال:"ما هذا الإسراف يا سعد"؟. قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم، وإن كانت على نهر جار". رواه أحمد بإسناد لين، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء". رواه الترمذي من حديث أبي بن كعب.

الفضل أنه من مسند ابن عباس لا من مسند ميمونة، "والصاع خمسة أرطال وثلث برطل بغداد، وهو على ما قاله النووي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم،" وقيل: ثمانية أرطال، وقيل: أربعة، وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الإسراف فيه، ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال:"ما هذ الإسراف يا سعد؟ ". قال" مستفهما: "أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم. وإن كنت على نهر جار".

"رواه أحمد" وابن ماجه "بإسناد لين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي" السهمي، "وقال صلى الله عليه وسلم:"إن للوضوء شيطانا يقال له: الولهان"، "بفتح الواو وسكون الواو" وهو في الأصل وصف معناه المتحير من شدة العشق، سمي به هذا الشيطان لإغوائه الناس في التحير في الوضوء حتى لا يعلموا هل مس الماء العضو أم لا؟ وكم غسل مرة أو أكثر؟ ونحو ذلك من الشكوك والأوهام "فاتقوا وسوا الماء" أي احذروا وسوسة الولهان، فوضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال وسواسه في شأن الماء وإيقاع الناس في التحير، والوسواس "بالفتح اسم من وسوست إليه نفسه": إذا حدثته "وبالكسر اسم مصدر"، ويقال لما يخطر بالقلب ولما لا خير فيه وسواس.

قال في النصائح: الوسوسة من آفات الطهارة، وأصلها جهل بالسنة أو خبال في العقل، ومتبعها متكبر مدل بنفسه، سيئ الظن بعبادة الله، معتمد على عمله، معجب به وبقوته، وعلاجها بالتلهي عنها والإكثار من سبحان الملك الخلاق، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} .

قال الحكيم الترمذي: أما القلوب التي ولجها عظمة الله وجلاله فهامت واستقرت، فقد انتفى عنهم وسواس عدوهم، ومن هنا أنب صلى الله عليه وسلم الوسوسة، فقال:"هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل حتى شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم". ثم روى حديثا أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أدخل في صلاتي، فلا أدري أعلى شفع أم على وتر من وسوسة أجدها في صدري، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن وجدت ذلك فاطعن بأصبعك هذه، يعني السبابة في فخذك اليسرى، وقل: بسم الله، فإنها سكين الشيطان أو مدية الشيطان". "رواه الترمذي من حديث أبي بن كعب" وقال غريب: ليس إسناده بالقوي لا نعلم أحدًا أسنده غير خارجة بن مصعب. انتهى.

وخارجة ضعيف جدا، كما قال الحافظ وغيره، وأخرجه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما من طريق خارجة، وتعجب من ذلك ابن سيد الناس، فقال: لا أدري كيف دخل هذا في الصحيح، والله أعلم.

ص: 217

الفصل الثاني: في وضوئه صلى الله عليه وسلم مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا

عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة. رواه البخاري وأبو داود وغيرهما. وهو بيان لمجمل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة للإيجاب، وما زاد على ذلك للاستحباب.

الفصل الثاني: في وضوئه صلى الله عليه وسلم

"مرة مرة" لكل عضو من أعضاء الوضوء، "ومرتين مرتين" كذلك، "وثلاثا ثلاثا" كذلك، "عن ابن عباس، قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم" فغسل كل عضو من أعضاء الوضوء "مرة مرة"، "بنصبهما على المفعول المطلق المبين للكمية" أو على الظرفية، أي: توضأ في زمان واحد، لأن كل غسلة واقعة في زمان واحد، فلو تعدد الغسل لتعدد الزمن أو على الصدر، أي توضأ مرة من التوضؤ، أي غسل الأعضاء غسلة واحدة.

"رواه البخاري وأبو داود وغيرهما" كالنسائي وابن خزيمة، وهو مجمل جاء بيانه في رواية أخرى عند البخاري والنسائي وأبي داود والنسائي، وأبي داود عن ابن عباس: أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء، فأخذ غرفة من ماء، فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها، هكذا أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليسرى، ثم قبض قبضة من الماء، ثم نفض يده، ثم مسح رأسه، زاد النسائي: وأذنيه مرة واحدة، ثم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى، فغسل بها رجله، يعني اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، "وهو بيان لمجمل" الأمر في "قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة، ولا يتعين بعدد، فبين الشارع" بفعله "أن المرة الواحدة للإيجاب وما زاد على ذلك للاستحباب" إذ

ص: 218

وأما حديث أبي بن كعب أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". ففيه بيان بالقول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قاله في فتح الباري.

وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين وقال: "هو نور على نور". ذكره رزين.

وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا. رواه أحمد ومسلم عنه.

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من

هو المبين لمراد الله تعالى.

"وأما حديث أبي بن كعب، أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". ففيه بيان القول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قاله في فتح الباري" ومن تلك الطرق ما رواه الطيالسي وأحمد وأبو يعلى وابن ماجه، عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وقال:"هذه وظيفة الوضوء الذي لا تحل الصلاة إلا به"، ثم توضأ مرتين مرتين، فقال:"هذا وضوء من أراد أن يضعف له الأجر مرتين"، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال:"هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي".

"وعن عبد الله بن زيد" بن عاصم بن كعب الأنصاري، المازني، شهد أحدا وما بعدها، واختلف في شهوده بدرا، له عدة أحاديث، استشهد يوم الحرة سنة ثلاث وستين، وهو غير صاحب رؤيا الأذان، وغلط البخاري وغيره من زعم أنه هو واستم جد رائي الأذان عبد ربه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين"، "بالنصب فيهما على المفعول المطلق، أو الظرف، أو المصدر السابق"، "وقال:"هو نور على نور". ذكره رزين" بن معاوية الأندلسي، وإنما نسبه له لزيادة، وقال: هو نور

إلخ، وهي ضعيفة، وإلا فالحديث في البخاري عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، وفي أبي داود والترمذي وصححه وابن حبان عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين، مرتين، "عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا" لكل عضو "رواه أحمد ومسلم" هكذا مختصرا، أن عثمان قال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، زاد في رواية لمسلم وعنده رجال من الصحابة، أي فلم يخالفوه، وعند البيهقي: أن عثمان توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا؟ قالوا: نعم.

ص: 219

قبلي ووضوء إبراهيم". ذكره رزين، وضعفه النووي في شرح مسلم كما حكاه في مشكاة المصابيح.

ولم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه زاد على الثلاث، بل ورد عنه ذم من زاد عليها فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال:"من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" رواه أبو داود وإسناده جيد، لكن عده مسلم في جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب، لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة.

وأجيب: بأمر نسبي، والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة عن الثلاث وقيل: فيه حذف تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه أبو نعيم بن حمد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من

"وعنه" أي عثمان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء إبراهيم"، "عطف خاص على عام لشرفه"، "ذكره رزين"، "بفتح الراء وكسر الزاي" ابن معاوية في كتابه المسمى تجريد الصحاح، "وضعفه النووي في شرح مسلم كما حكاه في مشكاة المصابيح" أي ضعف زيادة، وقال: هذا وضوئي

إلخ، "ولم يأت" كما أشار إليه البخاري بقوله: ولم يزد على الثلاث.

قال الحافظ: أي لم يأت "في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه زاد على الثلاث، بل ورد عنه ذم من زاد عليها فعن عمرو" بفتح العين "ابن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي "عن أبيه" شعيب ثبت سماعه "عن جده" عبد الله الصحابي فضمير جده لشعيب أو لابنه عمرو ويحمل على الجد الأعلى فالحديث متصل على الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثم قال: من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم رواه أبو داود وإسناده جيد" أي مقبول "لكن عده مسلم في جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة" والنقص عنها جائز وفعله المصطفى فكيف يعبر عنه بأساء وظلم "وأجيب بأمر نسبي والإساءة تتعلق بالنقص" أي أساء من نقص عن الثلاث بالنسبة لمن علا لا حقيقة الإساءة "والظلم بالزيادة عن الثلاث" لفعله مكروها أو حراما "وقيل: فيه حذف تقديره من نقص" شيئا "من" غسله "واحدة" بأن ترك لمعة في الوضوء مرة، "ويؤيده ما رواه نعيم" بضم النون "ابن حماد" بن معاوية بن الحارث الخزاعي أبو عبد الله المروزي نزيل مصر صدوق فقيه عارف بالفرائض مات سنة ثمان وعشرين ومائتين على الصحيح، "من طريق المطلب" بشد الطاء ابن عبد الله بن المطلب "بن حنطب" بن الحارث المخزومي صدوق كثير

ص: 220

واحدة أو زاد على ثلاثة فقد أخطأ"، وهو مرسل رجاله ثقات.

وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم يقتصر على قوله: فمن زاد. فقط، كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره.

قال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه، أي لم أحرمه، لأن قوله: لا أحب، يقتضي الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره كراهة تنزيه.

وحكى الدارمي من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء، كالزيادة في الصلاة، وهو قياس فاسد.

وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث.

وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم.

التدليس والإرسال فنسبه إلى جده حنطب بسكون النون ووقع ليحيى الأندلسي في الموطأ تسميته حويطب وغلطوه "مرفوعا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثا" أي كل منها جائز "فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاثة فقد أخطأ وهو مرسل" لأن المطلب تابعي صغير "رجاله ثقات" ففيه بيان ما أجمل في حديث عمرو بن شعيب "وأجيب عن الحديث أيضا" أي حديث عمرو: "بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه بل أكثرهم يقتصر على قوله فمن زاد فقط كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره" ومن الغرائب ما حكاه أبو حامد الإسفراييني من بعض العلماء أنه لا يجوز النقص من الثلاث كأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور وهو محجوب بالإجماع، وأما قول مالك في المدونة لا أحب الواحدة إلا من العالم فليس فيه إيجاب زيادة عليها قاله الحافظ.

"قال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث فإن زادكم لم أكرهه أي لم أحرمه لأن قوله لا أحب يقتضي الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره" الزيادة على الثلاث "كراهة تنزيه" وقيل يحرم، والقولان مشهوران على حد سواء عند المالكية، "وحكى الدارمي من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء كالزيادة في الصلاة وهو قياس فاسد" لأن الصلاة كلها شيء واحد تفسد بدخول ما ليس منها فيها فبطلت بالزيادة، بخلاف الوضوء فكل واحد من أفعاله مستقل ولو فعل معه أجنبيا عنه لم يبطل كأكل وشرب وكلام "وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث" وقال بعض الحنفية: إن اعتقد أن الزيادة سنة أخطأ ودخل في الوعيد وإلا فلا ولا سيما إذا قصد القربة لحديث: "الوضوء

ص: 221

ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق.

على الوضوء نور على نور". وهو حديث ضعيف، "وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم" من زاد على الثلاث "ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق" أي بلا قيد بل إنما يندب إن صلى بالأول فرضا أو نفلا أو فعل به فعلا يتوقف عليه كمس المصحف وسجدة تلاوة وقيل: الفرض فقط وقيل: غير ذلك.

ص: 222

الفصل الثالث: في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم

عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه دعا بإناء فأفرغ على يديه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا إلى المرفقين، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث

الفصل الثالث: في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم

"عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه دعا بإناء" فيه ماء.

وفي روية: دعا بوضوء "بفتح الواو" اسم للماء المعد للوضوء، "بالضم الذي هو الفعل، "فأفرغ" بفاء التعقيب، أي صب "على يديه" وفي رواية: على كفيه "ثلاث مرات"، "بفوقية آخره"، وفي رواية مرار "فغسلهما" قبل إدخالهما في الإناء، وهذا يحتمل أنه غسلهما مجموعتين، وهو أفضل عند الشافعية أو مفترقتين، وهو الأفضل عند المالكية، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء وإن لم يكن عقب نوم احتياطا "ثم أدخل يمينه في الإناء" وأخذ منه الماء وأدخله في فيه "فمضمض" بأن أدار الماء فيه.

وفي رواية: فتمضمض "بتاء بعد الفاء" واستنشق" بأن أدخل الماء في أنفه، وفي رواية: بدله، واستنثر "بفوقية فمثلثة بينهما نون ساكنة"، أي أخرج الماء من أنفه بعد الاستنشاق وثبتت الثلاثة في رواية للبخاري، وعند أبي داود وابن المنذر: فتمضمض ثلاثا، واستنثر ثلاثا واتفقت الروايات على تقديم المضمضة "ثم غسل وجهه" غسلا "ثلاثا و" غسل "يديه" لك واحدة "ثلاثا إلى" أي مع "الموفقين".

وفي رواية: ثلاث مرار، "ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات" لكل رجل، "إلى" أي مع "الكعبين ثم قال" عثمان: زاد في رواية للبخاري: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو

ص: 222

فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري.

وضوئي هذا، و"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه" بشيء من الدنيا، كما زاده الحكيم الترمذي في روايته لهذا الحديث، وفي مسند أحمد والأوسط للطبراني:"لا يحدث نفسه فيهما إلا بخير". فلا يضر حديث نفسه بمعاني ما يتلوه من القرآن أو غيره، أو بأمور الآخرة، كما قرره العز بن عبد السلام وغيره.

قال القاضي عياض: أي بحديث يجتلبه، لأنه أضافه إليه، فهو من كسبه، فلا تؤثر الخطرات التي لا يقدر على دفعها، وقال بعضهم: المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا. انتهى.

قال الحافظ: ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد، بلفظ:"لم يسر فيهما". ورده النووي وقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طيران الحوادث العارضة غير المستقرة، نعم من لم يحصل له حديث النفس أصلا أعلى درجة بلا ريب. ا. هـ.

وقال ابن دقيق العيد: يصح أن يحمل على النوعين، لأن الحديث ليس في التكليف حتى يرفع فيه العسر، وإنما فيه ترتيب ثواب مخصوص على علم مخصوص فمن حصل له ذلك العمل، حصل له ذلك الثواب، وغير بعيد أن يحصل ذلك لمن تجرد عن شواغل الدنيا وعمر قلبه بذكر الله تعالى، وقد ذكر ذلك عن بعضهم. انتهى.

وروي عن سعيد: ما قمت في صلاة فحدثت نفسي فيها بغيرها، قال الزهري: رحم الله سعدا إنه كان لمأمونا على هذا ما ظننت أن يكون هذا إلا في نبي "غفر له ما تقدم من ذنبه" قال الحافظ: ظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن خصه العلماء بالصغائر، لوروده مقيدا بالصغائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر زاد في حسناته بنظير ذلك.

"رواه البخاري" ومسلم وغيرهما من طرق تدور على ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن حمران، عن عثمان، ووقع في مسند ابن أبي شيبة ومصنفه معا من وجه آخر، إسناد صحيح عن حمران عن عثمان زيادة وما تأخر.

قال الحافظ: وأصل الحديث في الصحيحين من أوجه ليس في شيء منها زيادة ما تأخر، وأخرجه أيضا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي سعيد المروزي، شيخ النسائي في مسند عثمان، له قال: ووقع للبخاري في الرقاق في آخر هذا الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تغتروا". أي فتستكثرا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر الخطايا هي التي

ص: 223

وقد استدل بعضهم بقوله: "ثم أدخل يمينه" على عدم اشتراط نية الاعتراف، ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. قال الغزالي: مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع في المغترف منه. وبهذا قطع البغوي.

وقد ذكروا في حكمة تأخير غسل الوجه، أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم بالفم، والريح بالأنف. فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة.

وقال النووي في قوله: "نحو وضوئي"، هذا إنما لم يقل: مثل؛ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره.

لكن تعقبه في "فتح الباري" بأنه ثبت التعبير بها في رواية البخاري في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه: "من توضأ مثل

يقبلها الله، وأنى للعبد بالاطلاع على ذلك.

"وقد استدل بعضهم بقوله: ثم أدخل يمينه على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا" لأن النية أمر قلبي لا يطلع عليه، وقوله:"وإما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها، ولا ما ينفيها" تكرار محض، إذ هو مدلول ما قبله.

"قال الغزالي: مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع في المغترف منه" أما ما أخذه في يده فطهور يرفع الحدث عن اليد التي أخذ بها، "وبهذا قطع البغوي، وقد ذكروا في حكمة تأخير غسل الوجه أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم بالفم، والريح بالأنف، فقدمت المضمضة والاستنشاق"، وهما مسنونان "قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة" وحكمة الاستنثار تنظيف ما بداخل الأنف إعانة على القراءة، لأن تنقية مجرى النفس تصحح مخارج الحروف.

"وقال النووي في قوله: نحو وضوئي هذا: إنما لم يقل: مثل، لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، لكن تعقبه في فتح الباري بأنه ثبت التعبير بها في رواية البخاري في الرقاق"، "بكسر الراء وقافين" جمع رقيق وهو الذي فيه رقة وهي الرحمة ضد الغلظة.

قال الكرماني: أي كتاب الكلمات المرققة للقلوب، ويال لكثير الحياء رق وجهه.

وفي رواية النسفي عن البخاري كتاب الرقائق، والمعنى واحد "من طريق معاذ بن عبد الرحمن" بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي، ذكره ابن سعد وابن حبان في ثقات التابعين

ص: 224

هذا الوضوء". وفي الصيام من رواية معمر: "من توضأ وضوئي هذا". ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا". قال: وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة، لأنها تطلق على المثلية مجازا، ولأن "مثل" وإن كانت تقتضي المساواة ظاهر، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. انتهى.

وأبوه صحابي، وذكره ابن السكن في ترجمة والده، وقال لهما صحبة، وذكره ابن فتحون في الصحابة، ونسبه لخليفة، وقال البخاري: وسمع أبان، وروى الزهري عنه: يعد في أهل الحجاز، وقال بعضهم: سمع معاذ عمر بن الخطاب ولا يصح، وكذا قال أبو حاتم: لا يصح سماعه من عمر.

قال الحافظ: فإذا لم يسمع من عمر، فكيف يدرك العصر النبوي، وحديثه في الصحيحين والنسائي "عن حمران" بضم المهملة ابن أبان مولى عثمان اشتراه زمن أبي بكر الصديق، ثقة من رجال الجميع، مات سنة خمس وسبعين، وقيل: غير ذلك.

"عن عثمان ولفظه": "من توضأ مثل هذا الوضوء". وفي" كتاب "الصيام" من البخاري "من رواية معمر" عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن حمران: "من توضأ وضوئي هذا". ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا".

"قال" الحافظ: "وعلى هذا، فالتعبير بنحو من تصرف الرواة" أي الرواية بالمعنى، "لأنها" أي لفظة نحو "تطلق على المثلية مجازا" والحامل لهم على ذلك أن المثل ليس هنا عبارة عن المساواة من كل وجه لتعذره، إذ هو كما قال الأبي المساوي لمثله في جميع صفات المثل، ولا يقدر على مثل وضوئه غيره، فلفظ نحو يقتضي المقاربة دون المماثلة من كل وجه، فالثواب يترتب في ذلك على المقاربة لا على المماثلة لتعذرها، وذلك مما تقتضيه الشريعة السمحة من التوسعة وعدم التضييق. انتهى.

"ولأن مثل وإن كانت تقتضي المساواة ظاهر، لكنها تطلق على الغالب" أي تطلق على ما إذا اشترك شيئان في أمر، وكان في أحدهما أكثر، وفي الآخر مستغرقا لجميع أجزائه، فيجوز إطلاق المثل على ما غلب فيه ذلك المعنى وإن لم يساو الآخر، "فبهذا تلتئم الروايتان" أي رواية: نحو، ورواية: مثل، أما رواية:"من توضأ وضوئي"، فلا منافاة بينها وبين واحدة من الروايتين، فلم تظهر نسخة الروايات بالجمع على أن الذي في الفتح الروايتان "بالتثنية"، "ويكون المتروك" مما تحصل به المماثلة "بحيث لا يخل بالمقصود" إذ لو أخل به لم يكن شيئا. "انتهى" كلام الحافظ.

ص: 225

وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري، أنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء، فدعا بماء فأكفأ على يديه فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده

قال المصنف: نعم علمه عليه السلام بحقائق الأشياء وخفيات الأمور لا يعلمها غيره، وحينئذ يكون قوله: مثل بمقتضى الظاهر.

قال البرماوي في شرح العمدة، وإنما حمل نحو على معنى مثل مجازا، أو على جل المقصود، لأن الكيفية المترتب عليها ثواب معين باختلال شيء منها، يختل الثواب بخلاف ما يفعل لامتثال الأمر مثل فعله صلى الله عليه وسلم، فيكتفي فيه بأصل فعل الصادق عليه الأمر.

"وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري أنه قيل له:" اختلف رواة الموطأ في تعيينه، فأكثرهم قال: إن رجلا قال لعبد الله بن زيد بإبهام القائل، وبعضهم قال: إن يحيى بن عمارة المازني قال لعبد الله بن زيد. وبعضهم قال: عن عمرو، عن أبيه يحيى بن عمارة أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد، وللبخاري من طريق وهيب، عن عمرو، عن أبيه شهدت عمرو بن أبي حسن، سأل عبد الله بن زيد، وجمع الحافظ بأنه اجتمع عند ابن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن، فسألوه عن صفة الوضوء، وتولى السؤال منهم عمرو بن أبي حسن، فنسبته له حقيقة، وإلى أبي حسن مجاز، لأنه الأكبر وكان حاضرا، وكذا نسبته ليحيى بن عمارة مجازا لأنه ناقل الحديث، وحضر السؤال.

ويؤيده رواية الإسماعيلي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: قلنا لعبد الله. فإنه يشعر بأنهم اتفقوا على سؤاله، لكن تولاه عمرو بن أبي حسن، ويزيد ذلك وضوحا رواية أبي نعيم عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن، قال: كنت كثير الوضوء فقلت لعبد الله بن زيد: "توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي وضوءا مثل وضوئه، "لأن الإرادة بالفعل أبلغ في التعليم، أو أطلق عليه وضوءه مبالغة، "فدعا بإناء" وللبخاري: فدعا بتور من ماء "بفوقية مفتوحة" الطست، أو يشبهه، أو مثل القدر من صفر أو حجارة، وللبخاري رواية في أول هذا الحديث: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تور من صفر، "بضم المهملة، وقد تكسر" صنف من جيد النحاس، قيل: سمي بذلك لأنه يشبه الذهب، ويسمى أيضا الشبه "بفتح المعجمة والموحدة".

قال الحافظ: والتور المذكور هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد حين سئل، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها، ولفظ رواية مالك: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فقال عبد الله بن زيد: نعم. "فدعا بماء فأكفأ"، "بهمزتين" وفي رواية للبخاري: فكفأ "بفتح الكاف" وهما لغتان بمعنى: والمراد أفرغ الماء منه، أي الإناء، كما صرح به في رواية مالك، بلفظ: فأفرغ "على يديه"، "بالتثنية"، وفي رواية مالك: يده بالإفراد على

ص: 226

فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحد ففعل ذلك ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين

الجنس، والمراد بهما الكفان لا غير، "فغسلهما ثلاثا".

هكذا في رواية خالد بن عبد الله عند مسلم، ووهيب، وسليمان بن بلال عند البخاري، والدارودي عند أبي نعيم، كلهم عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، وفي رواية مالك، عن عمرو مرتين.

قال الحافظ: وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا، فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد، وقد ذكر مسلم عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو إملاء، فتأكد ترجيح روايته، ولا يحمل على واقعتين لاتحاد المخرج، والأصل عدم التعدد، "ثم أدخل يده" في الإناء، "فاستخرجها" منه، "فمضمض واستنشق من كف واحد"، وفي رواية: واحدة.

زاد في رواية وهيب: واستنثر، "ففعل ذلك ثلاثا" بأن تمضمض واستنشق من غرفة، ثم ثانية وثالثة كذلك، وهذا المرجح عند المالكية والشافعية.

وقال عياض في شرح مسلم: اختلف في المستحب عند مالك فقيل: هذه الصفة، وهو ظاهر الحديث، وقيل: أن يتمضمض ثلاثا نسقا بثلاث غرفات، ثم يستنشق كذلك، لأنهما عضوان فيأتي لكل عضو بثلاث نسقا.

ويؤيده رواية أبي داود: فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق، وقيل: يفعلهما ثلاث مرات بغرفة واحدة، وهو دليل قوله في رواية للبخاري: فمضمض واستنشق من غرفة واحدة، ثم هو محتمل، لأن يكون جمعهما أو فصل، فمضمض ثلاثا ثم استنشق ثلاثا والجميع من غرفة.

وقال الأبي: الحديث يحتمل جميع الصور، وهو أظهر في الأولى، يعني كما قال عياض هو ظاهر الحديث، وقد سقط من غالب نسخ المصنف، ثم أدخل يده إلى هنا مع ثبوته عند من عزاه لهم، "ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه" غسلا "ثلاثا" لم تختلف الروايات في هذا، ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم المسح بالرأس، أن يستدل به على وجوب الترتيب لوله: ثم في الجميع، لأن كلا من الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل، كذا قال الحافظ: ولا يلزم ذلك، لأن إسقاط الباء في قوله مسح رأسه في رواية مالك وغيره مع كونها في الآية ظاهرة في وجوب مسح جميعه، ولا سيما وقد أكده في رواية بلفظ: كله بخلاف لفظ ثم لا يفيد وجوب الترتيب، بل يتحقق بالسنية، وإلا لزم أن التثليث ونحوه واجب، لأنه مجمل في الآية أيضا.

"ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين" أي مع عند الجمهور كما بينته السنة، ففي الدارقطني بإسناد حسن عن عثمان: فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف

ص: 227

مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما، إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي.

العضدين، وله بإسناده ضعيف عن جابر كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، وللبزار والطبراني عن ثعلبة بن عباد، عن أبيه مرفوعا: ثم يغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق، وللطحاوي، عنه: ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، "مرتين مرتين" بالتكرار، لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في ذلك.

وفي مسلم عن حبان بن واسع، عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، وفيه: ويده اليمنى ثلاثا، ثم الأخرى ثلاثا، فيحمل على أنه وضوء آخر لاختلاف مخرج الحديثين، "ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه"، "بالباء" في رواية خالد هذه

وفي رواية مالك وغيره بدونها، وزاد بعضهم: كله، "فأقبل بيديه"، "مثنى إلى قفاه"، "وأدبر" بهما، زاد في رواية وهيب عند الشيخين مرة واحدة، "ثم غسل رجليه إلى" أي مع "الكعبين" الناتئين في جنبي الرجل، على الصحيح المعروف عند أهل اللغة، "ثم قال" عبد الله بن زيد:"هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا السياق لفظ مسلم من طريق عبد الله بن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد.

"وفي رواية" يعني رواية مالك، عن عمرو عن أبيه، عن ابن زيد:"فأقبل بهما" إلى جهة قفاه "وأدبر"، أي رجع، كما فسره بقوله:"بدأ بمقدم"، "بفتح الدال المشددة" رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه.

قال الحافظ: الظاهر أن قوله بدأ

إلخ، من الحديث: وليس مدرجا من كلام مالك فهو حجة على القائل: يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه، لظاهر قوله: أقبل وأدبر، ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب، وللبخاري رواية: فأدبر بيديه وأقبل، فلم يكن ظاهره حجة، لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطريقين متحد، فهما بمعنى واحد، وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم، فيحمل قوله أقبل على أنه من تسمية الفعل بابتدائه، أي بدأ يقبل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك.

"رواه" بنحوه "البخاري" من طرق "ومسلم" بلفظه: كما بينته أولا "ومالك" في الموطأ

ص: 228

وفي رواية لأبي داود: ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وفي أخرى له وأدخل أصابعه في صماخي أذنيه.

وفي رواية أبي داود والترمذي والنسائي عن عبد خير، أبي عمارة بن زيد بن خولي -بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء- الهمداني، وهو من كبار أصحاب علي بن أبي طالب، قال: أتانا علي وقد صلى، فدعا بطهور، فقلنا ما يصنع بالطهور، وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا، فمضمض ونثر من

بنحوه، ومن طريقه رواه الشيخان أيضا، "وأبو داود والترمذي والنسائي" من طريق مالك وغيره.

"وفي رواية لأبي داود: ثم مسح برأسه وأذنيه، ظاهرهما وباطنهما، وفي أخرى له"، أي أبي داود:"وأدخل أصابعه"، "بالجمع على إرادة الجنس"، والمراد السبابتين، لكن الذي في أبي داود: أدخل أصبعيه "بالتثنية"، "في صماخي أذنيه"، "بضم الصاد" الخرق الذي يفضي إلى الرأس، وهذا ينادي بالقصور على القرطبي في قوله: لم يجئ في حديث عبد الله بن زيد ذكر الأذنين، ويمكن أن ذلك لأن اسم الرأس يغمهما، وقد رد عليه أيضا بما رواه الحاكم والبيهقي، وصححاه عن عبد الله بن زيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه.

"وفي رواية أبي داود، والترمذي والنسائي عن عبد خير" بلفظ: ضد شر، ويقال: اسمه عبد الرحمن، حكاه الخطيب، قال الحافظ: لعله غير في الإسلام "أبي عمارة"، "بضم العين بدل منه"، "ابن زيد بن خولي"، "بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء"، "الهمداني" الكوفي، أدرك الجاهلية وأسلم في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يره، ولم يصح له صحبة، روى عن الصديق وابن مسعود، وعائشة وعي وغيرهم، "وهو من كبار أصحاب علي بن أبي طالب" وعمر أزيد من مائة وعشرين سنة، كما رواه الدولابي، وذكر الإمام أحمد في الإثبات عن علي، ووثقه ابن معين والنسائي والعجلي، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من التابعين.

وروى عنه ابن المسيب والشعبي وآخرون، "قال: أتانا علي وقد صلى، فدعا بطهور"، "بالفتح" ما يتطهر به، "فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا" بأن يتوضأ ونحن نراه، "فأتى بإناء فيه ماء وطست" يحتمل أنه عطف تفسير لإناء، ويحتمل أنه أتى بالماء في قدح أو إبريق ونحو ذلك، وبطست يلاقي فيه ما ينزل من الماء، "فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثا" من المرات، "ثم تمضمض واستنثر" بيده اليسرى، كما في رواية النسائي: استفعل من النثر "بنون ومثلثة" وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ أي يجذبه

ص: 229

الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله اليسرى ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا.

قال ابن القيم: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكرر مسح رأسه.

وقال النووي: الأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة، وفي بعضها الاقتصار على قوله: مسح.

واحتج الشافعي بحديث عثمان رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاث، وبالقياس على باقي الأعضاء، انتهى.

وأجيب: بأنه مجمل مبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب ويخص بالمغسول، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا

بريح أنفه لتنظيف داخله، ثم يخرجه بيده اليسرى، ويكره فعله بغيرها عند مالك لأنه يشبه فعل الدابة، والمشهور عند الشافعية: لا كراهة "ثلاثا فمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ" الماء "فيه ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده في الإناء، فمسح برأسه" جميعه "مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ورجله اليسرى ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا" أي مثله، أو أطلقه عليه مبالغة.

"قال ابن القيم: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكرر مسح رأسه" وبه قال أكثر العلماء، إذ ليس في شيء من طرق الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أنه كرر، بل في بعضها كحديث ابن زيد، وعلى التصريح بمرة واحد، ولذا قال ابن المنذر: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح مرة واحدة، وقال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح، كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة، "وقال النووي: الأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة، وفي بعضها الاقتصار على قوله مسح" بدون ذكر عدد.

"واحتج للشافعي" في قوله باستحباب تكرير مسحه ثلاثا، "بحديث عثمان رضي الله عنه" المروي "في صحيح مسلم" في بعض طرقه، "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا" فإن ظاهره يغم مسح الرأس "وبالقياس على باقي الأعضاء. انتهى".

"وأجيب: بأنه" أي حديث مسلم المذكور "مجمل مبين في الروايات الصحيحة" في

ص: 230

يقاس على الغسل الذي المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء.

واحتج الشافعية أيضا لما رواه أبو داود في سننه من حديث عثمان من وجهين، صحح أحدهما ابن خزيمة: أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا والزيادة من الثقة مقبولة، وفي رواية أبي داود أيضا والترمذي من حديث الربيع بنت معوذ: فغسل كفيه ثلاثا ثلاثا، ووضأ وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة واحدة، ووضأ يديه ثلاثا، ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما

مسلم وغيره "أن المسح لم يتكرر، فيحمل" ظاهر هذه الرواية "على الغالب، ويخص بالمغسول" لأن الحديث واحد، والمخرج وهو عثمان واحد وإن تعددت الطرق، فهذا مختصر مبين في الروايات المبسوطة، فيحمل عليها.

"و" أجيب عن القياس، "بأن المسح مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل الذي المراد منه المبالغة في الإسباغ" فلم يتم القياس، "وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل" لأنه إذا كرر قرب من الغسل، "إذ حقيقة الغسل جريان الماء" لا سيما عند من لم يوجب الدلك، وقد اتفق عل كراهة غسل الرأس بدل المسح وإن كان مجزئا،

وأجيب، بأن الخفة تقتضي عدم الاستيعاب، وهو مشروع باتفاق، فليكن العدد كذلك، ويرد بأن الاستيعاب أخف من التكرار بالمشاهدة، وإنما اتفق على الاستيعاب لاتفاق الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم استوعب.

"واحتج الشافعية أيضا بما رواه أبو داود في سننه، من حديث عثمان من وجهين" أي طريقين، "صحح أحدهما ابن خزيمة، أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا، والزيادة من الثقة مقبولة،" لكن محل ذلك كما قال ابن عبد البر وغيره: ما لم يكن من لم يزد أوثق ممن زاد، فتكون الزيادة شاذة وإن صح إسنادها، وهو هنا كذلك، أو هي ما يأتي محمولة إن صحت على إرادة استيعاب المسح، لا أنها مسحات مستقلة.

"وفي رواية أبي داود أيضا، والترمذي من حديث الربيع"، "بضم الراء وفتح الموحدة وكسر التحتية الشديدة، مهمة"، "بنت معوذ" بضم الميم وفتح المهملة وكسر الواو ثقيلة وذال معجمة" ابن عفراء الأنصارية النجارية، من صغار الصحابة وأبوها من شهداء بدر: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، "فغسل كفيه ثلاثا ثلاثا، ووضأ" أي غسل "وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة واحدة،" لبيان الجواز أو المراد فعل الست بغرفة لبيان الجواز أيضا، والمتبادر الأول، "ووضأ يديه ثلاثا، ومسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخر رأسه، ثم بمقدمه" بيان لمرتين، فليستا مسحتين،

ص: 231

وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا.

وقد أجاب العلماء عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه.

وقال ابن السمعاني -كما حكاه في فتح الباري-: اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا، فليس في رواية مسح مرة حجة على منع التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول، لأن الوضوء طهارة حكمية، ولا فرق في الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح.

قال: ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد، الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصي في صفة الوضوء بعد أن

بدليل أنها لم تقل: وبدأ بالواو، وثم بدؤه بالمؤخر لبيان الجواز إن صحت هذه الرواية، وقال الأبي: هذا كان لأمر أو في وقت "و" مسح "بأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما"، "بدل أو عطف بيان لأذنيه"، "ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا" لكل رجل، "وقد أجاب العلماء" الشافعية، عن أحاديث المسح مرة واحدة، بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه" ولا تأييد فيها، لأنه بين فيها معنى مرتين، بقوله: بدأ

إلخ، وتقدير بدأ في كل مرة بعيد، فالأصل عدم التقدير ولو سلم، فهو مشترك الإلزام، فمسح مرتين لبيان الجواز، أي عدم الحرمة، لأنه يفعل المكروه في حق غيره للجواز.

"وقال ابن السمعاني" في كتاب الاعتصام "كما حكاه في فتح الباري: اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا فليس في رواية مسح مرة حجة على منع" أي كراهة "التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول لأن الوضوء طهارة حكمية" ليس مقصورا على محل الحدث، بل يكون في غيره بخلاف الطهارة العينية، لا تجاوز محل حلول موجبها، كإزالة النجاسة، "ولا فرق في الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح" إشارة إلى أن الجامع بينهما الطهارة، ورد ما سبق من منع القياس وليس بشيء، لأنه لما ورد نص القرآن بالغسل في الأعضاء والمسح في الرأس، ظهر أنه للتخفيف، فيمتنع قياسه عليها وإن اجتمعا في مطلق الطهارة الحكمية، وإلى هذا أشار ابن السمعاني نفسه، فقال كما في الفتح عقب قوله بين الغسل ولمسح ما نصه: وأجيب بما تقدم أن المسح مبني على التخفيف بخلاف الغسل، ولو شرع التكرار لصارت صوره صور المغسول إلى آخر ما مر.

"قال:" أي صاحب الفتح لا ابن السمعاني، لأنه بعد أن انفصل عن كلام ابن السمعاني،

ص: 232

فرغ: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم" فإن في رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح -إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة متعددة لجميع الرأس، جمعا بين الأدلة. انتهى.

وفي حديث عبد الله بن زيد المتقدم عند البخاري الذي ذكرته قبل: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر.

وفي رواية: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.

وزاد ابن الطباع بعد قوله: "ثم مسح رأسه" كله، كما هو رواية ابن خزيمة.

قال: "ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق" أي حديث "عبد الله بن عمرو بن العاصي في صفة الوضوء" النبوي حيث قال صلى الله عليه وسلم "بعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم" لاستظهاره على الشارع، "فإن في رواية سعيد بن منصور" للحديث المذكور: "التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة" بل مكروهة، إذ لو استحبت، لم يقل من زاد على هذا فقد أساء وظلم مع كونه مسح مرة واحدة.

"ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا إنها مسحات مستقلة متعددة لجميع الرأس جمعا بين الأدلة. انتهى" كلام الحافظ وهو في غاية الظهور.

"وفي حديث عبد الله بن زيد المتقدم" عن البخاري وغيره في بعض طرقه، "عند البخاري الذي ذكرته قبل، ثم مسح رأسه بيديه"، "بالتثنية" وفي رواية: بالإفراد على إرادة الجنس، "فأقبل بهما" أي يديه، وفي رواية: بها بالإفراد، "وأدبر".

"وفي رواية للبخاري وغيره من طريق مالك "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما" أي يديه "إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه" وهذا تكرار أعاده لزيادة قوله، "وزاد" إسحاق بن عيسى بن نجيح البغدادي، أبو يعقوب "بن الطباع"، "بفتح الطاء المهملة والموحدة المشددة، فألف فعين مهملة"، ثقة من رواة الموطأ، روى له مسلم وأصحاب السنن، مات سنة أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة ومائتين "بعد قوله: ثم مسح رأسه كله".

ص: 233

وفي رواية غيره كما قدمته: "برأسه"، بزيادة الباء، الموافقة لقوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] .

قال البيضاوي: "الباء" أي في الآية مزيدة، وقيل: للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك، مسحت المنديل، وبالمنديل، ووجهه أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه يقول: وألصقوا المسح برءوسكم، وذلك لا يقتضى الاستيعاب، بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رءوسكم فإنه كقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، انتهى.

قال البخاري: سئل مالك أيجزئ أن يمسح بعض الرأس، فاحتج بحديث عبد الله بن زيد، قال الحافظ: السائل له عن ذلك إسحاق بن عيسى بن الطباع، بينه ابن خزيمة من طريقه، ولفظه: سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه، أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم رد يده إلى ناصيته، فمسح رأسه كله، فقوله "كما هو رواية ابن خزيمة"، أي زيادة كله، وإلا فرواية الموطأ والشيخين وغيرهما من طريقه، مسح رأسه بدون باء خلاف ما يوهمه قوله "وفي رواية غيره: كما قدمته برأسه بزيادة الباء" بل لم تقع زيادة الباء إلا في رواية خالد، كما يفيده كلام الحافظ: "الموافقة لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ".

"قل البيضاوي: الباء في الآية مزيدة" للتعدية، وبه تمسك من أوجب الاستيعاب، وقيل: موضع الدلالة من الآية والحديث، أن الآية تحتمل الكل على أن الباء زائدة، والبعض على أنها تبعيضية، فبان بفعله صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته كما في مسلم، وذلك أيضا من أدلة الاستيعاب، إذ لو م يكن واجبا ما مسح على العمامة مع الناصية، فكان ذلك لعذر، لأنه كان في سفر، وهو مظنة العذر.

"وقيل: للتبعيض" وأنكره جماعة، حتى قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه وأجيب بأنه منقول عن الأصمعي والفارسي والمتنبي وجماعة: "فإنه" أي التبعيض "الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ووجهه"، أي دلالتها على التبعيض؛ "أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه يقول:"وألصقوا"، "بفتح الهمزة وكسر الصاد"، "المسح برءوسكم، وذلك لا يقتضي الاستيعاب" لصدقه بإلصاقه ببعض الرأس، "بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رءوسكم" بدون باء، "فإنه" يفيد الاستيعاب، "كقوله:

ص: 234

وقال الشافعي رضي الله عنه: احتمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ والفرق بينه وبين قوله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم، أن المسح فيه بدل عن الغسل، ومسح الرأس أصل فافترقا. ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجين، لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع.

وقد روي من حديث عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، لكن اعتضد كل

{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . انتهى".

وقال القرطبي: الباء للتعدية، يجوز حذفها وإثباتها، كقولك: مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه، وقيل: دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برءوسكم الماء، فهو على القلب والتقدير وامسحوا رءوسكم بالماء.

"وقال" الإمام "الشافعي رضي الله عنه: احتمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، جميع الرأس"، "بناء على أن الباء للتعدية"، "أو بعضه"، "بناء على أنها للتبعيض"، "فدلت السنة أن بعضه يجزئ" وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته، هذا أسقطه من كلام الشافعي، "والفرق بينه وبين قوله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم" إذ المجزئ فيه مسح جميع الوجه اتفاقا، "إن المسح فيه بدل عن الغسل" فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل، "ومسح الرأس أصل فافترق" فلا يقاس عليه "ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجلين" فقياسه استيعاب مسح أعلاه وأسفله، وبطلان صلاة تارك مسح أسفله، مع أنها صحيحة "لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع" وأصله قوله علي: لو كان الدين يؤخذ بالقياس، لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على أعلاه.

"وقد روى" الشافعي "من حديث عطاء" بن أبي رباح "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه" وهذا محتمل أنه فعل ذلك حين مسح على الناصية في السفر فيكون للعذر، فسقط به الاستدلال "وهو مرسل" فلا حجة فيه بمفرده "لكنه اعتضد" تقوى "بمجيئه من وجه آخر" حال كونه "موصولا، أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله" أي مجهول، ولا اسمه.

ص: 235

من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند.

وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه.

وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك. قاله ابن حزم.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره. انتهى.

واختلف في القدر الواجب في مسح الرأس، فذهب الشافعي في جماعة إلى أن الواجب ما ينطلق عليه اسم ولو شعرة واحدة أخذا باليقين.

قال في التقريب أبو معقل، عن أنس: في المسح على العمامة مجهول من الخامسة، "لكن اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة،" لكن قد علم أن حديث أنس في المسح على العمامة، وحديث عطاء في مسح مقدم الرأس من غير تعرض لمسح على العمامة، ولا لكونه في سفر، فإن لم يقل باحتمال أن حديث عطاء مختصر من هذا، كانا حديثين، فلا يعتضد أحدهما بالآخر، والشافعي لا يحتج بالمرسل وحده، وإن قلنا به سقط الاستدلال بمرسل عطاء، كما أشرت إليه آنفا، بل يكون من أدلة وجوب الاستيعاب، إذ لو لم يكن واجبا ما مسح على العمامة والناصية "وهذا مثال لما ذكره الشافعي، من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند" أي موصول.

"وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور وفيه: خالد بن يزيد بن أبي مالك" الدمشقي، "مختلف فيه" قال في التقريب: ضعيف. مع أنه كان فقيها، وقد اتهمه ابن معين، أي بالكذب، "وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم" ولا حجة فيه، إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره، "قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله مما يقوي المرسل المتقدم ذكره. انتهى".

وقد علم ما فيه، "واختلف في القدر الواجب في مسح الرأس" بعد الاتفاق على طلب استيعابه، "فذهب الشافعي في جماعة، إلى أن الواجب ما ينطلق عليه الاسم، ولو شعرة

ص: 236

وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب الاستيعاب أخذا بالاحتياط.

وقال أبو حنيفة في رواية: الواجب ربعه، لأنه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. والله أعلم.

وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. رواه أبو داود.

وعنه أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد. رواه ابن ماجه.

واحدة أخذا باليقين" بناء على أن الباء للتبعيض.

"وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب الاستيعاب أخذا بالاحتياط"، ولأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة، وقد كان في سفر، وهو مظنة العذر، فلعله فعل ذلك لعذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية، كما هو ظاهر من سياق مسلم، فلو لم يكن الاستيعاب واجبا ما مسح على العمامة بعد الناصية، فهو من أدلة فرضية الاستيعاب كما قدمته، وإليه أشار القرطبي نقلا عن علمائنا.

"وقال أبو حنيفة في رواية الواجب ربعه، لأنه عليه السلام مسح على ناصيته، وهو" أي ما مسح "قريب من الربع، والله أعلم" بالحق من ذلك.

"وعن طلحة بن مصرف"، "بضم الميم وفتح الصاد المهملة، وشد الراء" اليامي "بتحتية" الكوفي، ثقة، فاضل، مات سنة ثنتي عشرة ومائة أو بعدها، "عن أبيه" مصرف بن عمرو بن كعب، أو ابن كعب بن عمرو اليامي، الكوفي، مجهول، قاله في التقريب، "عن جده" كعب بن عمرو بن مصرف اليامي، وقيل: هو عمرو بن كعب بن مصرف حديثه، عند أبي داود، قاله في الإصابة والتقريب.

"قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق" أي يفعل ثلاثة المضمضة نسقا، ثم ثلاثة الاستشاق كذلك، لأنهما عضوان، فيأتي لكل عضو بثلاثة نسقا، ثم فصله بغرفة واحدة كما في حديثه التالي، "رواه أبو داود" في سننه، "وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد" تذكير الكف لغة قليلة، وقيل: لا يعرف تذكيرها من يوثق به، ويجمع بين هذا وما قبله بأنه رآه فصل بينهما بغرفة واحدة، بأن تمضمض منها ثلاثا على الولاء،

ص: 237

وفي حديث مسلم أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاث مرات.

وفي حديث عبد الله بن زيد عند البخاري: أنه أفرغ من الإناء على يديه فغسلهما ثم غسل ومضمض واستنشق من كفة واحدة ثم قال: هكذا وضوء

ثم استنشق منها ثلاثا، كذلك وإن اقتضى كلام عياض أنه فصل بينهما بست غرفات، وعليه يكون رآه مرتين، "رواه ابن ماجه" محمد القزويني.

"وفي حديث مسلم، أن عثمان" بن عفان "دعا بإناء" فيه ماء للوضوء، "فأفرغ على كفيه"، "بالتثنية معطوف على دعا، والفاء للتعقيب" لكن، ثم فعل مقدر مفهوم من فحوى الكلام، تقديره دعا بإناء فأحضر، فأفرغ، والجار والمجرور متعلق بأفرغ "ثلاث مرار"، "بكسر الميم وتكرير الراء مرتين"، "فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء" الذي أفرغ منه على كفيه بعد غسلهما "فمضمض" بغير تاء بعد الفاء، "واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاث مرات"، "بفتح الميم آخره فوقية" قاله المصنف في شرح مسلم.

"وفي حديث عبد الله بن زيد عند البخاري" ومسلم، كلاهما من طريق خالد بن عبد الله عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد "أنه أفرغ من الإناء على يديه، فغسلهما ثم غسل" أي فمه "ومضمض واستنشق" لفظ البخاري: أو مضمض.

قال الحافظ: بالشك أي هل قال غسل، أي فمه، أو قال: مضمض؟ قال: وأخرجه مسلم عن محمد بن الصباح عن خالد بسنده هذا من غير شك، ولفظه ثم أدخل يده، فاستخرجها، فمضمض واستنشق، وأخرجه الإسماعيلي من طريق وهيب، عن خالد بلا شك أيضا، فالظاهر أن الشك من مسدد شيخ البخاري، وأغرب الكرماني، فقال: الظاهر أن الشك فيه من التابعي. انتهى.

فلو عزاه المصنف لمسلم، أو لهما لاستقام "من كفة واحدة" قال الحافظ: كذا في رواية أبي ذر، وفي نسخة: من غرفة واحدة، وللأكثر من كف بغير ها.

قال ابن بطال: المراد بالكف الغرفة، فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى، ولا يعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في الكف، ومحصله أن المراد بقوله: كفة فعلة، لا أنها تأنيث الكف، وقال صاحب المشارق، قوله: من كفة "بالضم والفتح" كغرفة وغرفة، أي من ماء ملأ كفه من الماء.

زاد المصنف: وفي رواية ابن عساكر: من كف واحدة، "ثم قال" عبد الله بن زيد بعد أن

ص: 238

رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال النووي: فيه أن السنة في المضمضة، والاستنشاق، أن يأخذ الماء لهما بيمينه، ثم قال: وفي الأفضل في كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه:

الأصح: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق.

والثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا.

والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق.

والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من أحدهما ثلاثا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا.

والخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.

فرغ من وضوئه، "هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم".

"قال النووي فيه" أي الحديث من الفوائد "إن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يأخذ الماء لهما بيمينه،" كما فعل صلى الله عليه وسلم كما فعل صلى الله عليه وسلم "ثم قال" النووي: "وفي الأفضل في كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه، الأصح يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة، ثم يستنشق،" كما في رواية خالد المذكورة بلفظ: من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثا، فإنها صريحة في الجمع في كل غرفة، بخلاف رواية وهيب: فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات، فإنه يطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية، كما نبه عليه ابن دقيق العيد.

"والثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثا، ثم يستنشق منها ثلاثا" على ما في حديثي أبي داود وابن ماجه، "والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق" على ما في بعض الروايات "والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من أحدهما ثلاثا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا، والخامس: يفصل بست غرفات" بأن يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق

ص: 239

قال: والصحيح الأول، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة.

وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق، وهو أن يبلغ الماء إلى خياشيمه، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة:"إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر". لظاهر الأمر.

وحمله الجمهور ومالك والشافعي وأهل الكوفة على الندب، لقوله عليه السلام للأعرابي: توضأ كما أمرك الله، وليس في الآية ذكر الاستنشاق، والله أعلم.

بثلاث غرفات".

وقال بعض المالكية: إنه الأفضل "قال" النووي: "والصحيح الأول" أعاده مع قوله أولا، الأصح لقوله:"وبه جاءت الأحاديث الصحيحة" وهو أيضا الأصح عند المالكية، بحيث حكى ابن رشد الاتفاق على أنه الأفضل.

"وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور" إبراهيم بن خالد الكلبي، الفقيه:"إلى وجوب الاستنشاق وهو أن يبلغ الماء إلى خياشيمه، مستدلين بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة" في البخاري ومسلم وغيرهما": "إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر"، "بوزن يفتعل"، كذا لأبي ذر والأصيلي ولغيرهما، ثم لينتثر "بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة"، والروايتان لأصحاب الموطأ أيضا.

قال الفراء: يقال: نثر وانتثر واستنثر، إذا حرك النثرة، وهي طرف الأنف في الطهارة، قاله الحافظ.

وقال النووي: لينثر "بكسر المثلثة بعد النون الساكنة" على المشهور، وحكى ضمها "لظاهر الأمر" إذ الأصل فيه الوجوب، "وحمله الجمهور ومالك والشافعي وأهل الكوفة" ومنهم أبو حنيفة.

وفي نسخة: مالك بلا واو، على أنه بدل من الجمهور "على الندب لقوله عليه السلام" للأعرابي:"توضأ كما أمرك الله". أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، فأحاله على الآية، "وليس في الآية ذكر الاستنشاق".

قال الحافظ: وأجيب باحتمال أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله باتباع نبيه، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء، أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهذا يرد على من لا يوجب المضمضة أيضا، وقد ثبت الأمر بهما أيضا في سنن أبي داود، بإسناد صحيح.

وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به،

ص: 240

وعند أبي داود: كان عليه الصلاة والسلام يمسح الماقين.

وعن عثمان أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، رواه الترمذي وابن ماجه. وعنده من حديث ابن عمر: كان عليه الصلاة والسلام إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها.

وعن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا من ماء فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: بهذا أمرني ربي عز وجل. رواه أبو داود.

إلا لكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، قال: وهذا دليل فقهي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عطاء وثبت عنه أنه رجع عن وجوب الإعادة "والله أعلم" بالحكم.

"وعند أبي داود: وكان عليه الصلاة والسلام يمسح الماقين"، "بقاف قبلها ألف" لغة في مؤق العين "بهمزة ساكنة" ويجوز إبدالها واوا مؤخرها، فلعل المراد بمسحهما غسلهما غسلا خفيفا.

وقال الأزهري: أجمع أهل اللغة على أن الموق والماق لغتان، بمعنى المؤخر، وهو ما يلي الصدغ "وعن عثمان أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته" أي يدخل الماء في خلالها بأصابعه، "رواه الترمذي وابن ماجه، وعنده" أي ابن ماجه بإسناد ضعيف "من حديث ابن عمر: كان عليه الصلاة والسلام إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك" يعني عركا خفيفا "ثم شبك لحيته" أي خللها "بأصابعه" أي أدخل أصابعه مبلولة فيها "من تحتها" والعارض: ما نبت على عرض اللحى فوق الذقن، وقيل: عارضا الإنسان صفحتا خديه، كذا في الفائق، قال ابن الكمال: وقول ابن المعتز:

كأن خط عذار شق عارضه

عيدان آس على ورد ونسرين

يدل على صحة الثاني وفساد الأول، وكأن قائله لم يفرق بين العذار والعارض.

"وعن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا"، "بفتح الكاف" غرفة "من ماء، فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: "بهذا" الفعل "أمرني ربي عز وجل". رواه أبو داود والحاكم بإسناد فيه مقال.

وقد قال أحمد وأبو حاتم: لا يثبت في تخليل اللحية شيء لكن قيل: أراد أن أحاديثه ليس شيء منها يرتقي درجة الصحة بذاته، وإلا فقد جاء عن أكثر من عشرة من الصحابة: لو كان كل طريق منها ضعيفا لقامت الحجة بمجموعها، فكيف وبعضها لا ينزل عن درجة الحسن، إلا أن البخاري قال: لم تثبت المواظبة، بل مجرد الفعل إلا في شذوذ من الطرق. انتهى.

ص: 241

وعن أبي رافع: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ حرك خاتمه. رواه ابن ماجه والدارقطني وضعفه.

وعن المستورد بن شداد: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره، رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه.

وعن عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى.

وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وأنه عليه الصلاة والسلام ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ. رواه

وقد كره مالك في المدونة تخليل اللحية الكثيفة، وهو المشهور، فتخليله صلى الله عليه وسلم مع أن لحيته كثيفة لبيان الجواز.

"وعن أبي رافع:" أسلم، أو إبراهيم أو غير ذلك أقوال عشرة، أصحها أسلم:"كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ" زاد في رواية: وضوءه للصلاة "حرك خاتمه" زاد في رواية: في أصبعه، أي عند غسل اليد التي هو فيها ليصل الماء إلى ما تحته يقينا.

"رواه ابن ماجه والدارقطني وضعفه"، وكذا ضعفه ابن عدي والبيهقي وعبد الحق وابن القطان وغيرهم، ومن ثم لم يأخذ به مالك.

"وعن المستورد"، "بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح الفوقية وكسر الراء ومهملة"، "ابن شداد" بن عمر القرشي، الفهري، حجازي نزل الكوفة، ولأبيه صحبة، مات سنة خمس وأربعين:"كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره" أي بخنصر إحدى يديه، والظاهر أنها اليسرى، قاله بعض الشراح، "رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه" وقال الترمذي: حسن غريب، قال اليعمري: يشير بالغرابة إلى تفرد ابن لهيعة به عن يزيد بن عمرو وليس كذلك، فقد رواه الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن يزيد، كرواية ابن لهيعة، وناهيك بهما جلالة ونبلا، فالحديث إذا صحيح مشهور.

"وعن عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه" فيأكل باليمين، زاد في رواية: وشرابه، "وكانت اليسرى لخلائه"، "بالمد"، "وما كان من أذى"، قال الأبي: هو ما تكرهه النفس، ومنه سمي الحيض أذى. انتهى.

وهذا أصل في أن ما كان من باب التكريم يفعل باليمنى، وما كان بخلاف ذلك يفعل باليسرى.

"وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" هو سفره لغزوة تبوك في

ص: 242

البخاري ومسلم.

وعن صفوان بن عسال قال: صببت على النبي صلى الله عليه وسلم الماء في السفر والحضر في الوضوء. رواه ابن ماجه.

وفي ذلك جواز استعانة الرجل بغيره في صب الماء في الوضوء من غير كراهة، وكذا إحضار الماء من باب أولى، ولا دليل في هذين الحديثين لجواز الإعانة بالمباشرة.

وقد روى الحاكم في المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فقال: "اسكبي". فسكبت عليه.

رجب سنة تسع "وأنه عليه الصلاة والسلام ذهب لحاجة له" هي التبرز "وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ" جملة اسمية وقعت حالا "رواه البخاري ومسلم" في الطهارة.

"وعن صفوان بن عسال"، "بمهملتين" مثقل المرادي، صحابي، معروف، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، نزل الكوفة "قال: صببت على النبي صلى الله عليه وسلم الماء في السفر، والحضر في الوضوء".

"رواه ابن ماجه وفي ذلك المذكور من حديثي المغيرة وصفوان "جواز استعانة الرجل بغيره في صب الماء من غير كراهة" خلافا لمن قال: مكروه، أو خلاف الأولى، لأنها ترفه لا تليق بالمتعبد، ورد بأنه إذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله، لا يكون خلاف الأولى.

وأجيب بأنه يفعله لبيان الجواز، فلا يكون في حقه خلاف الأولى بخلاف غيره.

وقال الكرماني: إذا كان الأولى تركه كيف ينازع في كراهته، وأجيب، بأن كل مكروه فعله خلاف الأولى من غير عكس، إذ المكروه يطلق على الحرام بخلاف الآخر، "وكذا إحضار الماء من باب أولى" لا كراهة فيه أصلا.

قال الحافظ: لكن الأفضل خلافه "ولا دليل في هذين الحديثين لجواز الإعانة بالمباشرة" أي مباشرة المعين لغسل الأعضاء خلافا لاستدلال البخاري بحديث المغيرة على الإعانة بالمباشرة.

وقد تعقبه ابن المنير بما حاصله أنه فرق بين الإعانة بالصب وبين الإعانة بمباشرة الغير لغسل الأعضاء فدل الحديثان على الأول دون الثاني، وأقره الحافظ.

"وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث الربيع"، "بضم الراء وفتح الموحدة وتحتية ثقيلة"، "بنت معوذ" بن عفراء "أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء"، "بفتح الواو ما

ص: 243

وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، والله أعلم.

وفي الترمذي، من حديث معاذ بن جبل: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه.

وعن عائشة: كانت له عليه السلام خرقة يتنشف بها بعد الوضوء. قال الترمذي: هذا الحديث ليس بالقائم، وأبو معاذ الرازي ضعيف عند أهل الحديث.

يتوضأ به" فقال: "اسكبي" صبي، "فسكبت عليه، وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين، لكونه في الحضر" فيه، أنه قال في حديث صفوان في السفر والحضر، لكن هذه العبارة جاء بها من الفتح، وإنما قالها في الحديثين اللذين أوردهما البخاري، وهما حديث المغيرة وحديث أسامة، لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب، فقضى حاجته، قال أسامة بن زيد: فجعلت أصب عليه وهو يتوضأ، وكلاهما في السفر، فلذا قال الحافظ: إن حديث الربيع أصرح، لكونه في الحضر، "ولكونه بصيغة الطلب" الأمر، بقوله: "اسكبي".

قال الحافظ: لكنه ليس على شرط البخاري، نعم الأفضل أن لا يستعين أصلا "والله أعلم".

وفي شرح المهذب حديث: أن عمر بادر لصب الماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أنا لا أستعين في وضوئي بأحد". باطل لا أصل له.

"وفي الترمذي من حديث معاذ بن جبل: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه" يتنشف به.

قال الترمذي: غريب وإسناده ضعيف، وبه جزم الحافظان العراقي والعسقلاني.

"و" في الترمذي أيضا، والحاكم "عن عائشة: كانت له عليه السلام خرقة يتنشف بها بعد الوضوء" وفي لفظ: بعد وضوئه، فيجوز التنشف بلا كراهة، وعليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم ومالك وغيره، وذهب آخرون إلى كراهته لحديث ميمونة أنها أتته صلى الله عليه وسلم بمنديل فرده، ولقول الزهري: إن ماء الوضوء يوزن، وأجاب الأولون، بأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، وبأجوبة أخرى تأتي في فصل الغسل.

"قال الترمذي: هذا الحديث ليس بالقائم" ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء هذا أسقطه من كلام الترمذي قبل قوله "وأبو معاذ" سليمان بن أرقم "الرازي" البصري راويه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:"ضعيف عند أهل الحديث" كالبخاري وأبي حاتم ويحيى

ص: 244

وقد احتجم صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه، رواه الدارقطني.

وأكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. رواه البخاري ومسلم.

وللنسائي: قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار.

وشرب صلى الله عليه وسلم لبنا ولم يتمضمض ولم يتوضأ فصلى. رواه أبو داود.

وأتي صلى الله عليه وسلم بسويق فأمر به فثري فأكل منه، ثم قام إلى المغرب فتمضمض.

والنسائي وابن حبان، وبقية كلام الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم من الصحابة، ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كرهه إنما كرهه لما قيل: إن الوضوء يوزن، روي ذلك عن سعيد بن المسيب والزهري.

"وقد احتجم صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه" جمع محجم بزنة جعفر موضع الحجامة، "رواه الدارقطني" فدل على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، "وأكل" صلى الله عليه وسلم " كتف شاة" أي لحمه.

وفي رواية للبخاري: معرق شاة، أي أكل ما على العرق "بفتح المهملة وسكون الراء"، وهو العظيم، ويقال له أيضا العراق "بالضم".

وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهي بنت عمه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة، ففي الصحيحين، عنها أنه صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفا، ثم صلى ولم يتوضأ، ولا مانع من التعدد كما في الفتح، "ثم صلى ولم يتوضأ، رواه البخاري ومسلم" عن ابن عباس، وهو صريح في أنه لا وضوء مما مست النار.

وأما أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة: "توضئوا مما مست النار". رواها مسلم، فمحولة على الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد، أو منسوخة كما أشار إليه بقوله "وللنسائي" وأبي داود، وصححه ابن خزيمة عن جابر "قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار"، وفي رواية: مست النار، "وشرب صلى الله عليه وسلم لبنا فلم يتمضمض" لبيان الجواز، فلا ينافي استحباب المضمضة لحديث الصحيحين، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا، ثم دعا بماء فمضمض، وقال: إن له دسما، ولبيان أن أمره في رواية ابن ماجه: "مضمضوا من اللبن، فإن له دسما". للاستحباب. "ولم يتوضأ، فصلى، رواه أبو داود" بإسناد حسن عن أنس "وأتي صلى الله عليه وسلم" وهو سائر إلى غزاة خيبر بعدما صلى العصر "بسويق" قمح أو شعير، أو سلت مقلو، وصفه أعرابي، فقال: عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض. "فأمر به فثري"، "بضم المثلثة وشد الراء"، ويجوز

ص: 245

رواه البخاري ومالك والنسائي.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم ربما توضأ. وربما لم يتوضأ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه كما في البخاري وغيره.

وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره. قال الخطابي: إنما منع قلبه ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه.

تخفيفها، أي بل بالماء ليبسه، "فأكل منه" في الرواية: وأكلنا، "ثم قام إلى المغرب فتمضمض" قبل الدخول في الصلاة وفي الرواية: وتمضمضنا، وفائدتها وإن كان لا دسم في السويق أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم، فيشغله بلعه عن الصلاة.

وبقية الحديث: ثم صلى ولم يتوضأ، "رواه البخاري" في ستة مواضع، "ومالك" في الموطأ، وعن عبد الله بن يوسف عنه، رواه البخاري في الطهارة، "والنسائي" وابن ماجه، كلهم من حديث سويد بن النعمان "وكان صلى الله عليه وسلم إذ قام من النوم ربما توضأ وربما لم يتوضأ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه،" وكذلك الأنبياء، وفي مسلم، مرفوعا:"رؤيا الأنبياء وحي". "كما في البخاري وغيره" في قصة بيات ابن عباس عنده في بيت ميمونة، إذ توضأ لما قام من النوم الأول ثم تهجد، ثم نام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي، فناداه بالصلاة، فقام معه فصلى ولم يتوضأ.

"وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا، بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك" لعدم نوم قلبه، "فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره".

"قال الخطابي: إنما منع قلبه النوم ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه"، وكذلك الأنبياء، ولذا جاز لإبراهيم الإقدام على ذبح ولده برؤيا المنام، والله أعلم.

ص: 246

الفصل الرابع: في مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين

اعلم أنه قد صرح جمع من العلماء الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روي عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا. وثانيهما: للمسافر دون المقيم، وهذا الثاني مقتضى ما في "المدونة"، وبه جزم ابن الحاجب.

وقال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل، المسح أو الغسل والذي أختاره: أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج

الفصل الرابع: في مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين

"اعلم أنه قد صرح جمع من العلماء الحفاظ، بأن المسح على الخفين" وهو خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه، بالإجماع كما في الفتح "متواتر" أي نقله جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب بلا قيد عدد على الأصح.

"وجمع بعضهم: رواته، فجاوزوا الثمانين" بيان لتواتره "منهم العشرة" المبشرة بالجنة، وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين، ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك، قال ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من روى عنه منهم إنكاره، فقد روى عنه إثباته.

"وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روي عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك" في رواية أنكرها أكثر أصحابه، "مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وموطؤه يشهد للمسح في الحضر والسفر، وعليها جميع أصحابه وجميع أهل السنة، هذا بقية كلام ابن عبد البر.

"وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية" الذين نقلوا إنكاره عن مالك لأن الشافعي من أصحابه، وقد قال أبو عمر: أنكرها أكثر الصحابة، وقال الباجي: رواية الإنكار وقعت في العتبية، وظاهرها المنع، وإنما معناها أن الغسل أفضل منه.

قال ابن وهب: آخر ما فارقت مالكا على المسح في الحضر والسفر، وقال نحوه ابن نافع، وأن مالكا إنما كان يتوقف فيه في خاصة نفسه مع افتائه بالجواز، وهذا مثل ما صح عن أبي أيوب الصحابي "والمعروف المستقر عندهم" أي المالكية "الآن قولان: الجواز مطلقا" للحاضر والمسافر وهو المشهور، "وثانيهما للمسافر دون المقيم، وهذا الثاني مقتضى ما في المدونة، وبه جزم ابن الحاجب" وهو ضعيف، والمشهور الإطلاق، وصرح الباجي بأنه الأصح، وقال: قال أصبغ: المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أكابر أصحابه أثبت عندنا من أن نتبع مالكا على خلافه، يعني في هذه الرواية. انتهى.

وقد حكى الإجماع على جوازه إلا أن قوما ابتدعوا كالخوارج، فقالوا: لم يرد به القرآن والشيعة، لأن عليا امتنع منه، ورد بأنه لم يثبت عن علي بإسناد موصول يثبت بمثله كما قاله البيهقي.

وقال الكرخي من الحنفية: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين "وقال ابن

ص: 247

والروافض.

وقال النووي: مذهب أصحابنا أن الغسل أفضل من المسح لكن بشرط أن لا يترك المسح.

وقد تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} عطفا على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين، وحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة، والثابت عنه خلافه.

وعن عكرمة والشعبي وقتادة: الواجب الغسل أو المسح.

وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما.

المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل المسح أو الغسل" للرجلين، "والذي أختاره" أنا "أن المسح أفضل لأجل" الرد على "من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض" وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه، هذا بقية كلام ابن المنذر.

"وقال النووي: مذهب أصحابنا" الشافعية، وكذا المالكية "أن الغسل" للرجلين "أفضل من المسح" على الخف، "لكن بشرط أن لا يترك المسح" رغبة عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الإتمام، هذا بقية كلام النووي كما في الفتح، وهو متعين، "وقد تمسك من اكتفى بالمسح" على الرجلين نفسهما، ولم يوجب غسلهما بقوله تعالى:"وَأَرْجُلِكُمْ"، "بالجر"، "عطفا على" رءوسكم، من "قوله:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين" إذ التقدير وامسحوا بأرجلكم.

"وحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة والثابت عنه خلافه" أن المسح لا يجزئ، "وعن عكرمة والشعبي"، "بموحدة بعد المهملة"، "وقتادة: الواجب الغسل" عملا بقراءة: {وَأَرْجُلَكُمْ} "بالنصب"، "أو المسح" لنفس الرجلين، عملا بقراءة الخفض، فالفرض التخيير عند هؤلاء، وليس المعنى مسح الخف بدليل سابق الكلام ولاحقه، لكن هذا الذي نقله المصنف عن الثلاثة مخالف لنقل القرطبي، عنهم أن الواجب المسح لا الغسل، وعبارته: كان عكرمة يمسح على رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل.

وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح، ثم قال: ألا ترى أن اتيمم يمسح فيه ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا، وقال قتادة: افترض الله غسلين ومسحين، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين. انتهت، فإنما نقل التخيير عن ابن جرير، فلعل للثلاثة قولين.

"وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما" بين مسح نفس الرجلين ثم غسلهما.

ص: 248

وحجة الجمهور: الأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة:

منها: أنه قرئ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفا على {أَيْدِيَكُمْ} .

وقيل: إنه معطوف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} ، كقوله تعالى:{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] .

وقيل: المسح في الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة "الجر" على مسح الخفين، وقراءة "النصب" على غسل الرجلين.

قال القرطبي: قال النحاس، ومن أحسن ما قيل أن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة الخفض، والغسل واجب على قراءة النصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. انتهى.

فليس المراد الجمع بين غسل الرجلين، ثم المسح على الخفين، "وحجة الجمهور" القائلين بأن الواجب غسل الرجلين، ولا يصح مسحهما، "الأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي" قريبا إن شاء الله تعالى، فإنه بيان المراد" في الآية.

زاد القرطبي: وهو اللازم من قوله في غير ما حديث وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته:"ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء"، وفي رواية:"ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار". فخوفنا بالنار من مخالفة مراد الله، ومعلوم أنه لا يعذب بالنار إلا من ترك الواجب، وأن المسح ليس شأنه الاستيعاب.

"وأجابوا عن الآية بأجوبة، منها أنه قرئ" عند حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم:" {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفا على {أَيْدِيَكُمْ} " وذلك نص في وجوب الغسل، وإنما قدم عليه مسح الرأس لإفادة أنه يفعل قبل غسل الرجلين، ولذا اختلف في أن الترتيب سنة أو واجب، وقد جاء عن علي أن هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.

"وقيل: إنه معطوف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} " لأن محله النصب مفعول {َامْسَحُوا} ، لكن عطفه عليه لا يعطي الغسل الذي هو المطلوب، فلا يصح جوابا للجمهور عن الآية الذي الكلام فيه، "كقوله تعالى:{يَا جِبَالُ أَوِّبِي} " فـ {جِبَالُ} مبني على الضم في محل نصب، فعطف عليه "{وَالطَّيْرَ} بالنصب" بإجماع القراء سوى الجرمي، باعتبار المحل، وعلى القول، بأنه عطف على {فَضْلًا} من قوله:{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} لا شاهد فيه.

"وقيل: المسح في الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة الجر" ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وشعبة عن عاصم، "على مسح الخفين وقراءة

ص: 249

وجعل البيضاوي "الجر" على الجواز، قال: ونظيره كثير في القرآن كقوله تعالى: {عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26]{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالجر في قراة حمزة والكسائي. وقولهم: "جحر ضب خرب" وللنحاة باب في ذلك.

وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليهما ويغسلا

النصب على غسل الرجلين" جمعا ين القراءتين، فأفاد الجر مسحهما، لكن إذا كانا عليهما خفان.

قال القرطبي: وتلقينا هذا القيد من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يمسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين بفعله الحال التي تغسل فيها الرجل، والحال التي تمسح فيه وهذا حسن.

"وجعل البيضاوي" تبعا لطائفة "الجر على الجواز، قال: ونظيره كثير في القرآن، كقوله تعالى"{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] أي مؤلم، فأليم في الحقيقة صفة لعذاب، لا ليوم فجر للمجاورة.

وقال في سورة هود: يوصف به العذاب وزمانه للمبالغة، كجد جده ونهارك صائم، " {وَحُورٌ عِينٌ} بالجر في قراءة حمزة والكسائي" للمجاورة لأكواب وأباريق وما بعده وإن كان عطفا على {وِلْدَانٌ} المرفوع في قوله:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} ، وقيل: عطفا على {جَنَّاتِ} بتقدير مضاف، أي هم في جنات ومصاحبة حور، أو على أكواب؛ لأن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ} ينعمون بأكواب، وقرأ غيرهما:{وَحُورٌ} بالرفع عطفا على {وُلْدَانٌ} ، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي وفيها، أو ولهم حور، وقرئ "بالنصب" على تقدير ويؤتون حورا، ولا شاهد فيما عدا الجوار "وقولهم" أي العرب "جحر ضب خرب" بالجر لمجاورة ضب وإن كان بالرفع صفة لحجر، إذ هو الذي وصف بخرب دون ضب، "وللنحاة باب في ذلك" يعبر عنه بعضهم بالعطف على اللفظ دون المعنى، فيكون دليلا على غسل الرجلين، إذ المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار، وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة وغيرهما، وجعلوا منه أيضا قوله:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} ، بالجر، لأن النحاس الدخان، وقوله:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] للجوار، فالمعنى محفوظ بالخفض في لوح، وقول امرئ القيس:

كبير أناس في بجاد مزمل

فخفض مزمل للجوار، فالمزمل الرجل وهو مرفوع، وقال زهير:

لعب الزمان بها وغيرها

بعدي سوى في المزن والقطر

قال أبو حاتم: الوجه القطر بالرفع، فجر للمجاورة "وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن

ص: 250

غسلا يقرب من المسح. انتهى.

وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، قال فتبرز صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة -قبل الفجر- فلما رجع أخذت أهريق الماء على يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن

يقتصد"، أي يتوسط "في صب الماء عليهما، ويغسلا غسلا يقرب من المسح" دفعا لتوهم المبالغة في غسلهما بالزيادة على الثلاث لملاقاتهما الأوساخ، ورد ذلك النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم، لأن الجوار لا يكون في كلام يقاس عليه، وإنما هو غلط، ونظيره الأقواء. "انتهى".

يعني: فلا ينبغي أن يحمل عليه أفصح الكلام، وقد أمكن غيره، وأجاب قوم عن قراءة الخفض بأن المسح في الرجلين هو الغسل حكاه ابن عطية، قال القرطبي: وهو الصحيح فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح، وبمعنى الغسل كما حكاه أبو زيد عن العرب، فيترجح أن المراد بقراءة الخفض الغسل لقراءة النصب التي لا احتمال فيها، ولكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل والتوعد على ترك غسلهما في أخبار صحاح لا تحصى كثرة، أخرجها الأئمة. انتهى.

"وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك" بعدم الصرف على المشهور لوزن الفعل كتقول، "قال: فتبرز" بالتشديد، أي خرج "صلى الله عليه وسلم" لقضاء حاجته، ولابن سعد عن مغيرة: لما كنا بين الحر وتبوك ذهب لحاجته "قبل" بكسر ففتح، أي جهة "الغائط" أي المكان المطمئن الذي تقضى فيه الحاجة، فاستعمل في أصل حقيقته اللغوية، فليس المراد الفضلة، "فحملت معه إداوة" بكسر الهمزة، أي مطهرة من جلد وكان حملها بأمره.

ففي رواية للشيخين، فقال: يا مغيرة خذ الإداوة "قب الفجر" أي الصبح، ولابن سعد: فتبعته بماء بعد الفجر، ويجمع بأن خروجه كان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح، زاد في رواية للشيخين: فانطلق حتى توارى عني، ثم قضى حاجته، وعند أحمد أن الماء أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة من جلد ميتة، فقال له صلى الله عليه وسلم:"سلها، فإن كانت دبغتها فهو طهورها". فقالت: إي والله لقد دبغتها. "فلما رجع أخذت أهريق الماء على يديه"، "بضم الهمزة وفتح الهاء وإسكانها" أي أصب، وفي رواية: فصببت عليه "من الإداوة، فغسل يديه"، زاد في رواية أحمد: فأحسن غسلهما، وللبخاري: تمضمض واستنشق، "ووجهه" زاد أحمد ثلاث مرات، "وعليه جبة" هي ما قطع من الثياب مشمرا، قاله في المشارق:"من صوف" وللبخاري ومسلم: وعليه جبة شامية ضيقة الكمين، زاد أبو داود: من جباب الروم، "ذهب يحسر" بكسر السين المهملة، كما للمصنف على مسلم، وكأنه الرواية، وإلا ففي لغة "بضم السين أيضا"

ص: 251

ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال:"دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين". فمسح عليهما، ثم ركب وركبت. الحديث رواه مسلم.

"عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده" بإفراد كم ويد على إرادة الجنس، ففي الموطأ: ثم ذهب يخرج يديه من كمي جبته، فلم يستطع من ضيق كمي الجبة فأخرجهما "من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه" لأنه كان عليه إزار تحتها، "وغسل ذراعيه"، "بالتثنية"، ولأحمد: فغسل يديه اليمنى ثلاث مرات ويده اليسرى ثلاث مرات، "ثم مسح بناصيته وعلى العمامة" لعله للعذر، إذ السفر مظنته، ففيه دلالة على وجوب الاستيعاب، إذ لو كفى البعض ما مسح على العمامة.

قال المازري: استدل به الحنفية على أن الواجب الناصية، وأحمد على جوازه على العمامة، وهو رد عليهما، فيقال لأبي حنيفة: لم تقتصر على الناصية، ويقال لأحمد: لو جاز الاقتصار عليه فلم مسح الناصية، "ثم أهويت" أي مددت يدي، أو قصدت، أو أشرت، أو أومأت "لأنزع خفيه، فقال: "دعهما، فإني أدخلتهما" أي الرجلين حال كونهما "طاهرتين" من الحدثين، ولأبي داود: فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتين "فمسح عليهما" وفي هذا الرد على من زعم أن المسح عليهما منسوخ بآية المائدة، لأن هذه القصة في غزوة تبوك، وهي آخر مغازيه، وكانت سنة تسع بعد المائدة باتفاق، لأنها نزلت في غزوة المريسيع سنة ست.

وقد روى الجماعة عن جرير بن عبد الله البجلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ومسح على خفيه.

زاد الترمذي في رواية، فقيل له: قبل المائدة أم بعدها، فقال: ما أسلمت إلا بعد المائدة.

قال الأعمش: قال إبراهيم النخعي، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.

قال النسائي: كان إسلامه قبل موته صلى الله عليه وسلم بيسير، وقال غيره: بأربعين ليلة وفيه نظر، لأنه شهد حجة الوداع، وهي قبل الوفاة النبوية بنحو ثلاثة أشهر، "ثم ركب" راحلته "وركبت" راحلتي "الحديث" ذكر فيه أنهما انطلقا، فوجدا الناس قدموا ابن عوف، فأدرك صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية، وقضى الأولى بعد سلام عبد الرحمن، وتقدم في الأذان من المقصد الأول مبسوطا، "رواه مسلم" وأبو داود وغيرهما مطولا، وروى بعضه البخاري، وفيه فوائد كثيرة، ذكر جملة منها صاحب الفتح وغيره.

ص: 252

وعند الترمذي من حديث المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين على ظاهرهما.

وعند أبي داود من حديثه أيضا: ومسح على الجوربين والنعلين.

وعنه قال: مسح صلى الله عليه وسلم على الخفين، فقلت يا رسول الله: نسيت، فقال:"بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل". رواه أبو داود وأحمد.

وعن عمرو بن أمية الضمري قال: رأيته عليه السلام يمسح على عمامته وخفيه. رواه البخاري وأحمد.

"وعند الترمذي من حديث المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين على ظاهرهما"، فأفاد أنه لا يكفي مسح أسفله، وروي عن المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسح على أعلى الخف وأسفله، فأفادت هذه الرواية أن ذلك عادته، ورواية الترمذي: فعلها مرة في السفر، لإفادة أن ترك مسح الأسفل لا يبطل المسح بخلاف الأعلى.

وقد روى أبو داود والدارقطني عن علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلاه".

"وعند أبي داود من حديثه" أي المغيرة "أيضا: ومسح على الجوربين"، "مثنى جورب وزن فوعل معرب" ما كان على شكل الخف من صوف ونحوه، وحمله الفقهاء على ما إذا جلد ظاهره وهو ما يلي السماء، وباطنه وهو ما يلي الأرض، "والنعلين" أي الخفين، ولعل المعنى أنه لبسهما فوق الجوربين، ولذا قال المالكية: يجوز مسح الخف ولو على خف أو خف على جورب، قال أبو داود: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، "وعنه قال: مسح صلى الله عليه وسلم على الخفين، فقلت: يا رسول الله نسيت" همزة الاستفهام مقدرة، "فقال: "بل أنت نسيت" يشعر بعلم المغيرة قبل رؤيته يمسح، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم بأنه رآه قبل ذلك يمسح، أو علم بأنه بلغه من الصحابة قبل لانتشار المسح بينهم. "بهذا أمرني ربي عز وجل" بالوحي، أو بلا واسطة أو في القرآن على قراءة الخفض، "رواه أبو داود وأحمد، وعن عمرو بن أمية الضمري"، "بفتح الضاد المعجمة وإسكان الميم"، "قال: رأيته عليه السلام" اختصار لقوله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم "يمسح على عمامته"، أي كمل عليها بعد مسح الناصية، ففي مسلم عن المغيرة: ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، وإلى هذا ذهب الجمهور، وذهب أحمد والأوزاعي وجماعة إلى جواز الاقتصار في المسجد على العمامة تمسكا بظاهر هذا الحديث، وقياسا على الخفين فإن الرأس عضو يسقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين.

ص: 253

وقال علي بن أبي طالب: جعل صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم. رواه مسلم.

وأجاب الخطابي بأن الله فرض مسح الرأس، وحديث مسح العمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، وقياسه على الخف بعيد لمشقة نزعه دونها، وتعقب بأن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح على العمامة، لا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه لأن من قال قبلت رأس فلان يصدق ولو على حائل، وبأن المجيزين الاقتصار على مسح العمامة شرطوا مشقة نزعها بأن تكون محنكة كعمائم العرب، ورد الأول بأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ما لم يرد نص صريح بخلافه، والنصوص وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا وفعلا بمسح الرأس، فتحمل رواية مسح العمامة على أنه كان لعذر بدليل المسح على الناصية معا كما في مسلم: سلمنا أنه حديث آخر لاختلاف المخرج، فيحتمل أنه فعله لعذر لم يمكنه مسح رأسه ولا شيء منه أصلا، وبالجملة فيه قضية فعلية تتطرق إليها الاحتمالات، ورد الثاني بأنهم ولو شرطوا مشقة نزعها لا يجامع الخف، لأنه مأخوذ من الآثار من القياس ولو كان منه لجاز المسح على القفازين في اليدين، فلا يقاس على الخفين شيء، "وخفيه رواه البخاري وأحمد" وغيرهما وأعل الأصيلي إسناده بما رده عليه فتح الباري.

"وقال علي بن أبي طالب: جعل صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين" أي مدته "ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر" سفر قصر "ويوما وليلة للمقيم" وقال به الجمهور والأئمة الثلاثة، ونسب لمالك مثله في كتاب البشر، لكن أنكر أهل المذهب ذلك الكتاب، والمشهور عنه يمسح بلا توقيت ما لم يخلعه أو يجب عليه غسل أو يختل شرط من شروطه، وروى مثله عن عمرو وعن مالك أيضا من الجمعة إلى الجمعة، وحملت لى أنه ينزعه لغسلها إلا أنه أراد التأقيت، "رواه مسلم" عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاسأله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ له، فقالت: ائت عليا، فإنه أعلم بذلك مني، فأتيت عليا، فقال. فذكره، واختلف في رفع هذا الحديث ووقفه على علي.

قال ابن عبد البر: من رفعه أثبت وأحفظ ممن وقفه، وقال ابن العربي: أحاديث التوقيت صحيحة وأحاديث عدمه ضعيفة، وعند ابن خزيمة عن صفوان بن عسال، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، قال الحافظ: صحيح، لكن ليس على شرط البخاري، وفي الباب عن أبي بكر صححه الشافعي وغيره.

ص: 254

الفصل الخامس: في تيممه صلى الله عليه وسلم

واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو من خصائص هذه الأمة.

وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر، وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها.

واختلفوا في كيفية: فمذهبنا ومذهب الأكثرين، أنه لا بد من ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.

وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها

الفصل الخامس: في تيممه صلى الله عليه وسلم

هو لغة القصد، وشرعا: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين فقط، "واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب" بقوله:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، "والسنة" لثبوت تيممه صلى الله عليه وسلم "والإجماع" عليه من الأمة، "وهو من خصائص هذه الأمة" المحمدية، "وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر" وما نقل عن ابن مسعود وعمر أنهما منعا تيمم الجنب واستدلا بقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فثبت عنهما أنهما رجعا عن ذلك، "وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها".

"واختلفوا في كيفية" التيمم، "فمذهبنا ومذهب الأكثرين" وأبي حنيفة "أنه لا بد من ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" لأحاديث وردت بذلك لا تخلو من مقال، وذهب مالك وأحمد والشافعي في القديم إلى أن الواجب ضربة واحدة، والمسح إلى الكوعين، واعترف النووي والحافظ وغيرهما بأنه الأقوى دليلا لصحة الأحاديث بذلك، وتحمل أحاديث الضربتين وإلى المرفقين على السنية جمعا بينهما.

"وعن حذيفة" بن اليمان "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "فضلنا"، "بفتح الفاء والضاد وسكون اللام" أي: زدنا في الفضل أو "بضم الفاء وكسر الضاد مشددة" أي: فضلنا الله "على الناس بثلاث" من الخصال: "جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" قال الزين العراقي المراد به التراص وإتمام الصف الأول فالأول في الصلاة، فهو من خصائص هذه الأمة، وكانت الأمم السابقة يصلون منفردين، وكل واحد على حدة، "وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها

ص: 255

طهورا إذا لم نجد الماء". رواه مسلم.

وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا".

وهذا عام، وحديث حذيفة خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فيختص الطهور بالتراب.

ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ "التربة" على خصوصية التيمم بالتراب، بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب: بأنه ورد في الحديث بلفظ التراب، أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي:"وجعل لي التراب طهورا".

طهورا إذا لم نجد الماء" هذه الخصلة الثانية.

قال في رواية مسلم وذكر خصلة أخرى، يعني: أبهما نسيانا أو نحوه، "رواه مسلم" وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة والنسائي، وهي:"وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطها نبي قبلي" والنص على عدد لا يدل على نفي ما عداه، فلا ينافي حديث مسلم عن أبي هريرة:"فضلت على الأنبياء بست"، أو لعله أطلع أولا على بعض ما خص به، ثم أطلع على الباقي، فإن خصائصه كثيرة جدا.

"وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا" فزاد: ولأمتي، "وهذا عام" لقوله: "الأرض كلها" فهو حجة لمالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية، ومن وافقهم في جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض وإن لم يكن ترابا، "و" لكن "حديث حذيفة" المذكور "خاص" لقوله: تربتها، "فينبغي أن يحمل العام عليه، فيختص الطهور بالتراب" كما ذهب إليه الشافعي وأحمد في رواية.

وأجاب الأولون بأن شرط المخصص أن يكون منافيا للعام، ولفظ تربة أو تراب لا ينافيه، فالنص عليه ليس تخصيصا، بل من باب النص على بعض أفراد العام، كقوله تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ، فخصه لبيان أفضليته على غيره، وقد قلنا به لا لأنه لا يجزئ غيره، "ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ التربة" المذكورة في حديث حذيفة "على خصوصية التيمم بالتراب بأن قال: تربة كل ما فيه من تراب أو غيره" فيكون من أدلة التعميم.

"وأجيب بأنه ورد في الحديث بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: "وجعل لي التراب طهورا" بفتح الطاء على المشهور "أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد

ص: 256

أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن.

وعن عمارة: قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا في سفر، أنا وأنت، فأما أنت فلم

حسن" فصح الاستدلال به على التخصيص، وقد علم منع التخصيص لفقد شرطه، والصعيد اسم لوجه الأرض، وهو نص القرآن، وليس بعد بيان الله تعالى بيان.

وقد قال صلى الله عليه وسلم للجنب: "عليك بالصعيد" فإنه يكفيك، فنص له على العام في وقت البيان، ودعوى أن الحديث سيق لإظهار التخصيص أو التشريف -فلو جاز بغير التراب لما اقتصر عليه في حديث حذيفة وعلي- ممنوعة، وسند المنع أن شأن الكريم الامتنان بالأعظم والسكوت عن الأدون، على أنه امتن بالكل في حديث جابر في الصحيحين، بقوله:"وجعلت الأرض مسجدا وطهورا". فقد حصل الامتنان بها تارة، وبالآخر أخرى لمناسبة اقتضاء الحال.

وأما زعم أن اقتران اللفظ بالتأكيد في رواية، بقوله: كلها في المسجد دون الآخر، يدل على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر بلا تأكيد، كما في رواية جابر، فمدفوع بأن حديث جابر دل على عدم الافتراق، إذ لو أريد افتراق الحكم ما تركه فيه، وقد يكون المقام اقتضى تأكيد كون الأرض مسجدا ردا على منكر ذلك دون كونها صعيدا لثبوته بالقرآن، فلا دلالة فيه على افتراق الحكم البتة.

"وعن عمارة" كذا في النسخ، والذي في الصحيحين من عدة طرق، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، "قال: جاء رجل" قال الحافظ: لم أقف على تسميته، وفي رواية للطبراني، أنه من أهل البادية، وفي رواية للبخاري، أن عبد الرحمن بن أبزى شهد ذلك "إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت"، "بفتح الهمزة" أي صرت جنبا، "فلم أصب الماء"، "بضم الهمزة" أي لم أجده.

قال الحافظ: هذه الرواية اختصر فيها جواب عمر وليس ذلك من البخاري، فقد أخرجه البيهقي من طريق آدم شيخه، فيه بدونها أيضا، وقد أورده البخاري في الباب الذي بعده من رواية ستة أنفس عن شعبة بالإسناد المذكور، ولم يسقه تاما من رواية واحد منهم، نعم ذكر جواب عمرَ مسلمٌ من طريق يحيى بن سعيد، والنسائي من طريق حجاج بن محمد، كلاهما عن شعبة، ولفظهما، فقال: لا تصل زاد السراج حتى تجد الماء، وللنسائي نحوه، وهذا مذهب مشهور عن عمر وافقه عليه ابن مسعود، ووقعت فيه مناظرة بين ابن مسعود وأبي موسى، وقيل: إن ابن مسعود رجع عن ذلك، "فقال عمار" بن ياسر أحد السابقين الأولين، هو وأبوه شهد المشاهد كلها "لعمر: أما"، "بفتح الهمزة والميم المخففة"، "تذكر" زاد في رواية: يا أمير المؤمنين "أنا"

ص: 257

تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إنما كان يكفيك هكذا". وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه إلى كوعيه. رواه البخاري ومسلم.

واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب، وسقوط استحباب تكرار

وفي رواية: إذ "كنا في سفر" وفي رواية للشيخين: في سرية، وزاد: فأجنبنا "أنا وأنت" تفسير بضمير الجمع في كنا، "فأما أنت فلم تصل"، لأنه كان يعتقد أن التيمم عن الحدث الأصغر لا الأكبر، بدليل قوله للسائل: لا تصل حتى تجد الماء، "وأما أنا فتمعكت" في رواية: فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة "بغين معجمة" أي: تقلبت، كأنه استعمل القياس لأنه رأى أن التيمم إذا وقع بدل الوضوء وقع على هيئة الوضوء، فرأى أنه إذا وقع عن الغسل يقع على صفة الغسل، "فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" لما عدت من السرية، "فقال":"إنما كان يكفيك هكذا"، "بكاف بعد الهاء"، "وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما"، وفي رواية: ثم أدناهما من فيه، وهي كناية عن النفخ، وفيها إشارة إلى أنه نفخ نفخا خفيفا "ثم مسح بهما وجهه وكفيه إلى كوعيه" ففيه دلالة على أن هذه الصفة هي الواجبة في التيمم، والزيادة عليها لو ثبتت بالأمر دلت على النسخ ولزم قبولها، لكن إنما وردت بالفعل، فتحمل على الأكمل وهذا هو الأظهر من حيث الدليل.

قال النووي في شرح المهذب: هذا القول وإن كان مجروحا عند الأصحاب، فهو القوي في الدليل، وأجاب في شرح مسلم، بأن المراد بيان صورة الضرب للتعليم، وليس المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم، وتعقب بأن سياق القصة يدل على أن المراد جميع ذلك، لأن ذلك هو الظاهر من قوله: إنما كان يكفيك، وقياسه على الوضوء قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار، وقد عارضه من لم يشترط ذلك بقياس آخر، وهو الإطلاق في آية السرقة، ولا حاجة لذلك مع وجود النص، ثم سياق هؤلاء، يعني: الستة الذين رووه عن شعبة عن البخاري، يدل على أن التعليم وقع بالفعل.

ولمسلم من طريق يحيى بن سعيد، والإسماعيلي من طريق يزيد بن هارون وغيره، كلهم عن شعبة، أن التعليم وقع بالقول، ولفظهم:"إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض". زاد يحيى: "ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك". قاله كله الحافظ، يعني: فجمع له صلى الله عليه وسلم بين التعليم بالقول والفعل، غايته أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، أو تركه اكتفاء بالفعل، لأنه أبلغ.

"رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة، "واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب و" على "سقوط استحباب تكرار التيمم، لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف".

ص: 258

التيمم لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف.

وعن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة قال: مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد عليّ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليّ، رواه البغوي في شرح

زاد في الفتح: وعلى أن غسل رأسه بدل المسح أجزأه أخذا من كون عمار تمرغ في التراب للتيمم وأجزأه ذلك، ويستفاد من الحديث وقوع اجتهاد الصحابة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وأن المجتهد لا لوم عليه إذا بذل وسعه وإن لم يصب الحق، وإنه إذا عمل بالاجتهاد لا يجب عليه الإعادة، وفي تركه أمر عمر بقضائها متمسك لمن قال: إن فاقد الطهورين لا يصلي ولا قضاء عليه. انتهى.

"وعن أبي الجهيم"، "بضم الجيم وفتح الهاء مصغر": قال الحافظ، قيل اسمه عبد الله، وحكى ابن أبي حاتم، عن أبيه، قال: ويقال هو الحارث بن الصمة، فعلى هذا لفظ ابن في قوله:"ابن الحارث" زائد "ابن الصمة"، "بكسر المهملة وشد الميم" ابن عمرو بن عتيك الخزرجي، لكن صحح أبو حاتم أن الحارث اسم أبيه لا اسمه، أي: فليست ابن زائدة.

وقال ابن منده: عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة، فجعل الحارث اسم جده ولم يوافق عليه، وكأنه أراد أن يجمع الأقوال المختلفة فيه.

وفي مسلم أبي الجهم "بإسكان الهاء" والصواب أنه بالتصغير، وفي الصحابة شخص آخر، يقال له أبو الجهم، وهو صاحب الانبجانية، وهو غير هذا، لأنه قرشي وهذا أنصاري، ويقال في كل منهما بحذف الألف واللام وبإثباتها. ا. هـ. من فتح الباري "قال: مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد" بالحركات الثلاث في الدال: الكسر لأنه الأصل والفتح لأنه أخف وهو الذي في الفرع وغيره، والضم لاتباع الراء، قاله المصنف. "عليّ حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على لجدار فمسح وجهه وذراعيه" كذا في هذه الرواية، والذي في الصحيحين: ويديه، قال الحافظ والدارقطني والشافعي: وذراعيه، وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود، لكن خطأ الحافظ رواية في رفعه، وصوبوا وقفه، وأخرجه مالك موقوفا بمعناه، وهو الصحيح، والثابت في حديث أبي جهيم، بلفظ: يديه لا ذراعيه، فإنها رواية شاذة مع ما في أبي الحويرث راويها عند الشافعي، وأبي صالح عن الليث راويها عند الدارقطني من الضعف. انتهى.

"ثم رد علي" السلام، زاد في رواية الطبراني في الأوسط، وقال:"إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير طهر". أي: أنه كره أن يذكر الله على غير طهارة.

ص: 259

السنة وقال: حديث حسن.

وهذا محمول على أن الجدار كان مباحا، أو كان مملوكا لإنسان يعلم رضاه.

قال ابن الجوزي: لأن السلام من أسماء الله، لكنه منسوخ بآية الوضوء، أو بحديث عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، قال النووي: والحديث محمول على أنه كان عادما للماء حال التيمم لامتناعه حال القدرة، سواء كان لفرض أو لنفل.

قال الحافظ: وهو مقتضى صنيع البخاري، يعني: ترجمته بقوله: التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء لكن تعقب استدلاله به على جواز التيمم في الحضر بأنه ورد على سبب، وهو ذكر الله، فلم يرد به استباحة الصلاة.

وأجيب بأنه لما تيمم في الحضر، لرد السلم مع جوازه بدون الطهارة، فمن خشي فوات الصلاة في الحضر جاز له التيمم بطريق الأولى، وقيل: يحتمل أنه لم يرد بذلك التيمم رفع حدث ولا استباحة محظور، وإنما أراد التشبه بالمتطهرين، كما يشرع الإمساك في رمضان لمن يباح له الفطر، أو أراد تخفيف الحدث بالتيمم، كما يشرع تخفيف الجنب بالوضوء، وهذا الاحتمال بعيد.

"رواه البغوي في شرح السنة، وقال: حديث حسن" ورواه أيضا الشافعي والدارقطني والطبراني، وأصله في الصحيحين وأبي داود والنسائي، عن أبي الجهيم قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، يعني: نفسه، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد السلام.

وفي مسلم عن ابن عمر أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه، "وهذا" أي: حته للجدار "محمول على أن الجدار كان مباحا، أو كان مملوكا لإنسان يعلم رضاه" بحته كما قاله النووي، وتبعه الحافظ وغيره، قال بعض شراح البخاري: وهو تكلف بلا فائدة لما تقرر أنه صلى الله عليه وسلم إذ احتاج إلى شيء وجب على مالكه بذله له، وإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كذا قال.

ص: 260

الفصل السادس: في غسله صلى الله عليه وسلم

والغُسل -بضم الغين- اسم للاغتسال.

وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح، حكاه ابن سيدة وغيره.

وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم.

وقيل: الغَسل بالفتح: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذي يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء كالإشنان.

وحقيقة الغسل: جريان الماء على الأعضاء.

وحقيقة الاغتسال: غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية.

ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ، [النساء: 43] .

ففي الآية الأولى إجمال، وهو قوله تعالى:{فَاطَّهَّرُوا} بينه قوله في الآية

الفصل السادس: في غسله صلى الله عليه وسلم

"والغسل -بضم الغين- اسم للاغتسال" أي: فهو اسم مصدر "وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم وأما المصدر" أي الفعل الواقع من المغتسل، ولفظ الفتح: وإذا أريد به الفعل، "فيجوز فيه" أي: الاسم المعبر عنه "الضم والفتح، حكاه بن سيده" بكسر السين المهملة وإسكان التحتية"، "وغيره".

"وقيل: المصدر بالفتح والاغتسال" الحاصل بالمصدر "بالضم" فصب الماء على البدن غَسل "بالفتح"، والأثر الحاصل منه للبدن غُسل "بالضم" ويقال فيه: اغتسال.

"وقيل: الغسل بالفتح فعل المغتسل، وبالضم الماء الذي يغتسل به، وبالكسر ما يجعل مع الماء كالإشنان"، "بضم الهمزة وكسرها لغة".

وفي شرح المصنف للبخاري: الغسل "بفتح الغين" أفصح وأشهر من ضمها مصدر بمعنى الاغتسال، وبكسرها اسم لما يغسل به وهو لغة سيلان الماء على الشيء "وحقيقة الغسل جريان الماء على الأعضاء وحقيقة الاغتسال غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية" إذ هي المميزة لذلك، "ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي: اغتسلوا، ووجه الاستفادة أن صيغة التفعل تدل عليه صريحا؛ لأن الوضوء هو الطهارة لا التطهر.

"وقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} أي: اجتنبوها حالة السكر، "ففي الآية الأولى إجمال، وهو قوله:{فَاطَّهَّرُوا} لأن الطهر فيها محتمل للوضوء والغسل وغيرهما،

ص: 261

الثانية {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . ويؤيده قوله تعالى في الحائض: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] المفسر بـ"اغتسلن" اتفاقا.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه بغسل واحد. رواه مسلم من حديث أنس.

وعن أبي رافع: طاف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: قلت يا رسول الله! ألا تجعله غسلا واحدًا آخرا؟ قال: "هكذا

فهي من المجمل الذي لم تتضح دلالته، لكن منع ذلك بعض شراح البخاري بأن صيغة التفعل تدل على الغسل صريحا، لأن الوضوء هو الطهارة لا التطهر، وعلى الإجمال فقد "بينه قوله في الآية الثانية" في الذكر:{حَتَّى تَغْتَسِلُوا} لأن الاغتسال لغة تعميم البدن بالماء، "ويؤيده قوله تعالى في" شأن المرأة "الحائض:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} من الدم بانقطاعه، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} المفسر" هذا الثاني:"باغتسلن اتفاقا".

زاد الحافظ: ودلت آية النساء على أن استباحة الجنب الصلاة، وكذا اللبث في المسجد تتوقف على الاغتسال، "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه" يجامعهن "بغسل واحد".

قال النووي: يحتمل أنه كان يتوضأ بينهما، ويحتمل أن لا؛ ليدل على جواز ترك الوضوء. انتهى.

وفيه دلالة على أن القسم ليس بواجب عليه، إذ وطء المرأة في يوم الأخرى ممنوع، لكن قل: إنه وإن لم يجب عليه، لكنه التزمه تطييبا لنفوسهن، فيحتمل أن يكون بإذن صاحبة اليوم، أو في يوم لم يثبت فيه قسم، كيوم قدومه من سفر، أو في اليوم الذي بعد كمال الدور، لأنه يستأنف القسم بعد، أو من خصائصه ساعة يطوف فيها من ليل أو نهار لا حق لواحدة منهن، ثم يدخل عند صاحبة النوبة.

وفي حديث أنس عند البخاري: كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار، وهن إحدى عشرة امرأة، وفي رواية: وله يومئذ تسع نسوة، وجمع بأنه ضم إلى التسع أمتيه مارية وريحانة، وأطلق عليهما نساءه تغليبا وبغير ذلك، كما مر بسط ذلك في الخصائص، "رواه مسلم من حديث أنس" فزاد على رواية البخاري بغسل واحد فلذا عزاه له دونه.

"وعن أبي رافع" اسمه أسلم على المشهور من عشرة أقوال سبقت، قال:"طاف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه" أي: كل من جامعها اغتسل عندها، "قال" أبو رافع:"قلت: يا رسول الله ألا تجعله غسلا واحدا آخرا"، "بكسر الخاء"، "قال:"هكذا أزكى وأطيب وأطهر". رواه أحمد وأبو داود والنسائي" وفيه استحباب الغسل.

ص: 262

أزكى وأطيب وأطهر". رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

وقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الغسل بين الجماعين وأما الوضوء فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف: إنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر، لحديث:"إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا". رواه مسلم وحمله بعضهم على الوضوء اللغوي، فقال: المراد به غسل الفرج.

وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ

"وقد أجمع العلماء على أنه لا يستحب بين الجماعين" سواء كان للجامعة أولا أو لغيرها، "وأما الوضوء فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف: أنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر لحديث" أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله" أي: جامعها "ثم أراد أن يعود" إلى جماعها "فليتوضأ بينهما وضوءا" كاملا.

زاد في رواية ابن خزيمة: "فإنه أنشط للعود". فدل على أن الأمر للندب والإرشاد. انتهى.

ويدل له أيضا ما رواه الطحاوي عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ. "رواه مسلم" وأبو داود والترمذي وابن خزيمة، كلهم عن أبي سعيد، وحمله بعضهم على الوضوء اللغوي، فقال: المراد به غسل الفرج" ورده ابن خزيمة بما رواه في هذا الحديث، بلفظ: "فليتوضأ وضوءه للصلاة".

وقال القاضي عياض: الجمهور على غسل الفرج خوف أن تدخل النجاسة في الفرج دون ضرورة مع ما فيه من النظافة التي بنيت عليها الشريعة وتكميل اللذة، لأن ما تعلق به من بلل الفرج وانتشر عليه من المني مفسد للذة الجماع المستأنف، ورطوبة الفرج عندنا نجسة لما يخالطها من النجاسة الجارية عليها كالحيض، والمني.

وتعقبه الزواوي بأن تعليله باختلاطه بالحيض وغيره من النجاسات ليس بمحل خلاف، وإنما الخلاف لو كان مغسولا نظيفا ليس فيه إلا الرطوبة والبلة خاصة، "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل" أي: شرع في الغسل، أو أراد الغسل "من الجنابة" أي: لأجلها، فمن سببية "بدأ فغسل يديه"، "بالتثنية" قبل إدخالهما في الإناء "ثم يتوضأ" ولأبي ذر: ثم توضأ "كما يتوضأ للصلاة" احترازا عن الوضوء اللغوي، وهو غسل اليدين، وظاهره أنه يتوضأ وضوءا

ص: 263

كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. رواه البخاري.

ويحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم. ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام "قبل أن يدخلهما في الإناء" رواه الشافعي والترمذي وزاد أيضا:"ثم يغسل فرجه" وكذا لمسلم وأبي داود.

وهي زيادة جليلة، لأن تقديم غسله يحصل به الأمن من مسه في أثناء

كاملا ولا يؤخر غسل رجليه، وهو المشهور عن مالك والشافعي "ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها،" أي بأصابعه التي أدخلها في الماء، ولمسلم: ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، وللبيهقي: ثم يشرب شعره الماء "أصول الشعر" أي شعر رأسه، "ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه"، "بفتح الراء" جمع غرفة على المشهور في جمع القلة، والأصل في مميز الثلاثة أنه من جموع القلة، وهذه رواية الكشميهني والأصيلي ولغيرهما: ثلاث غرف، "بضم الغين وفتح الراء" جمع كثرة، إما لقيامه مقام جمع القلة، أو بناء على قول الكوفيين إنه جمع قلة، كعشر سور وثماني حجج، "ثم يفيض"، "بضم الياء من أفاض"، أي: يسيل "الماء على جلده" أي: بدنه، وقد يكنى بالجلد عن البدن، قاله الرافعي، "كله" أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزا، واستدل به من لم يشترط الدلك، لأن الإفاضة الإسالة.

قال المازري: لا حجة فيه، لأن أفاض بمعنى غسل، فالخلاف فيه قائم قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه. انتهى.

ولم يظهر فيه شيء "رواه البخاري" في أول الغسل من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به ورواه مسلم من طرق عن غيره بنحوه "و" قوله: بدأ فغسل يديه: "يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما" مما قد يستقذر ويقويه حديث ميمونة كما في الفتح "ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه زيادة ابن عيينة" سفيان "في هذا الحديث عن هشام" عن أبيه عن عائشة: "قبل أن يدخلهما في الإناء. رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضا: ثم يغسل فرجه، وكذا لمسلم" من رواية أبي معاوية "وأبي داود" من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام ولفظ مسلم: كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، وله من طريق زائدة عن هشام: فغسل يديه قبل أن يدخل يديه في الإناء، "وهي زيادة جليلة لأن تقديم غسله يحصل به إلا من مسه

ص: 264

الغسل.

ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو.

وإنما قدم أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى.

ونقل ابن بطال: الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل.

وهو مردود، فقد ذهب جماعة، منهم: أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث.

وقوله: "فيخلل بها أصول الشعر" أي شعر رأسه ويدل عليه رواية حماد بن سلمة عن هشام -عند البيهقي- يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها أصول

في أثناء الغسل" فينتقض الوضوء، "ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء" بعد ذلك "مع بقية الجسد" إذ لم يغسلهما بنية الفرض.

قال الحافظ: ويؤيده التأكيد بقوله: كله، وعليه فينوي المغتسل الوضوء إن كان محدثا، وإلا فسنة الغسل، "ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته" في الغسل، "وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو" من أعضاء الوضوء ليقع غسله عن الجنابة، فهو جواب عما يقال: لا يصح هذا الاحتمال لانتفاء نية الجنابة فيه بناء على وجوب نيته.

قال الحافظ: وإليه جنح الداودي شارح المختصر من الشافعية، فقال: يقدم غسل أعضاء الوضوء لكن بنية غسل الجنابة، "وإنما قدم أعضاء الوضوء" على هذا الاحتمال تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى" الوضوء "والكبرى" الغسل.

"ونقل ابن بطال" وتلميذه ابن عبد البر: "الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل" لأنه وضوء وزيادة، "وهو مردود، فقد ذهب جماعة، منهم: أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث".

"وقوله: فيخلل بها أصول الشعر، أي: شعر رأسه، ويدل عليه رواية حماد بن سلمة" بن دينار، "عن هشام" بن عروة عن أبيه، عن عائشة "عند البيهقي" بلفظ: "يخلل بها شق

ص: 265

الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك.

وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل. إما لعموم قوله: "أصول الشعر" وإما بالقياس على شعر الرأس.

وفائدة التخليل، إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحل تعمميه بالماء، وهذا التخليل غير واجب اتفاقا، إلا إن كان الشعر متلبدا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله.

واختلف في وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر.

ونقل عن مالك والمزني وجوبه، واحتج له ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما.

وتعقب: بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة.

رأسه الأيمن، فيتتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك" كما فعل في الأيمن،

"وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله أصول الشعر" بقطع النظر عن رواية البيهقي المذكورة، أو لأنها تعطي التخصيص، "وإما بالقياس على شعر الرأس" بجامع أن كلا شعر، "وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة" أي: الجلد، "و" فائدة "مباشرة" فهو "بالجر عطف" على التخليل "الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء" وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به، كما في كلام عياض، وهو في الفتح متصلا بقوله:"وهذا التخليل غير واجب اتفاقا إلا إن كان الشعر متلبدا بشيء يحول" يمنع "بين الماء وبين الوصول إلى أصوله" كصمغ ونحوه.

"واختلف في وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر، ونقل عن مالك" وهو مشهور مذهبه، "والمزني" إسماعيل تلميذ الشافعي "وجوبه" لذاته تعبدا عند مالك.

"واحتج له ابن بطال: بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما" إذ كل طهارة ترفع الحدث.

"وتعقب بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة" التي ادعاها البطلان.

ص: 266

وفي قوله في هذا الحديث: "ثلاث غرفات" استحباب التثليث في الغسل.

قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما انفرد به الماوردي: فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري -ومنه لخصت ما ذكرته- قلت: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي وكذا قال القرطبي.

وقالت ميمونة: وضعت له صلى الله عليه وسلم ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثا، ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق

"وفي قوله في هذا الحديث: ثلاث غرفات استحباب التثليث في الغسل، قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا" يعني: في مذهبه بدليل قوله: "إلا ما انفرد به الماوردي" من الشافعية، "فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل" وإلا فمشهور مذهب مالك أن استحباب التثليث خاص بالرأس، كما هو مدلول قول الحديث: ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات.

"قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ومنه لخصت ما ذكرته" من أول هذا الفصل، "قلت: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي" في شرح الفروع، "وكذا قال القرطبي" وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية القاسم عن عائشة فإن مقتضاها أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس، هذا بقية كلام الحافظ، وقوله: وحمل، يعني: القرطبي.

"وقالت ميمونة" أم المؤمنين: "وضعت له" لفظها للنبي "صلى الله عليه وسلم ماء للغسل" متعلق بمحذوف، أي: كائنا أو معدا، وقولها للنبي ظرف لغو متعلق بوضعت، فلم يتعلق حرفا جر متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد، "فغسل يديه""بالتثنية" للكشميهني، وللمستملي وغيره: يده "مرتين أو ثلاثا" الشك من الأعمش، كما سيأتي من رواية أبي عوانة عنه، وغفل الكرماني، فقال: الشك من ميمونة، قاله الحافظ: ورده العيني بأن الذي يأتي مرة أو مرتين، ففيه خلط رواية بأخرى، كذا قال: وهو مردود بأن مجيء ذلك عنه في رواية أخرى، وإن بلفظ آخر يعين كون الشك منه دون غيره، فإنه حديث واحد، وقد رواه ابن فضيل عن الأعمش، فصب على يديه ثلاثا ولم يشك، أخرجه أبو عوانة في مستخرجه.

قال الحافظ: فكأن الأعمش كان يشك فيه، ثم تذكر فجزم، لأن سماع ابن فضيل منه متأخر، "ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره" مع ذكر على غير قياس، وقيل: واحده مذكار، كأنهم فرقوا بين العضو وبين خلاف الأنثى.

قال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، وقال ابن خروف: إنما جمعه مع أنه ليس

ص: 267

وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه. رواه البخاري.

ولم يقيد في هذه الرواية بعدد، فيحمل على أقل مسمى وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها.

وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، لقوله:"ثم مضمض واستنشق" وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما.

وأجيب: بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، إلا إذا كان بيانا لمجمل

في الجسد إلا واجد بالنظر إلى ما يتصل به، يعني: من الخصيتين وحواليهما معا، وأطلق على الكل اسمه، فكأنه جعل كل جزء من المجموع، كالذكر في حكم الغسل، "ثم مسح يده بالأرض" لما لعله تعلق بها من رائحة أو لزوجة، وبدأ بالفرج لتكون طهارة الحدث بعد طهارة الخبث، وليسلم من نقض طهارة الوضوء لو مسه أثناء اغتساله.

قال الحافظ: وفيه تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف لئلا يدخلهما في الماء، وفيهما ما لعله يستقذر، أما إذا كان الماء في إبريق، مثلا، فالأولى تقديم غسل الفرج لتتوالى أعضاء الوضوء، وفي رواية: ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكا شديدا، "ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه""بالتثنية""ثم أفاض" الماء "على جسده، ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه".

قال القرطبي: كالمازري حكمة تأخيرهما ليصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء "رواه البخاري" بطرق عديدة مدارها على الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، وكذا أخرجه مسلم وأصحاب السنن، "ولم يقيد في هذه الرواية" أي رواية: عبد الواحد عن الأعمش "بعدد" بل قال: أفاض الماء على جسده، "فيحمل على أقل مسمى، وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها" ولذا ترجم عليه البخاري الغسل مرة واحدة، قاله ابن بطال وأقره الحافظ، وزعم العيني أن فيه تكلفا، قال شيخنا البابلي: ولعل وجهه أن فيه بأخرة الأمر قصر الحديث على مرة واحدة، مع أنه يتناول المرة فالأكثر، ورده شيخنا لما ذكرته له، بأنه لا تكلف فيه، والتوجيه المذكور ليس بشيء إذ المرة محققة وما زاد عليها مشكوك فيه.

"وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، لقوله: ثم مضمض واستنشق وتمسك به الحنفية للقول" أي: لقلهم "بوجوبهما" في الغسل.

"وأجيب بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب" لتحققه بغيره، "إلا إذا كان بيانا

ص: 268

تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك.

وعنها توضأ صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه فغسلهما. رواه البخاري.

وفيه التصريح بتأخير غسل الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة.

ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز، أو بحمله على حالة أخرى، وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء، فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين. وعن مالك: إن كان المكان غير

لمجمل تعلق به الوجوب" فيدل عليه من هذه الجهة لا من مجرد الفعل "وليس الأمر هنا كذلك" بل مجرد فعل، "وعنها" من رواية سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: "توضأ صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة" احترازا عن اللغوي الذي هو غسل اليدين "غير رجليه" فأخرهما لتكون البداءة والتمام بأعضاء الوضوء، قاله المازري: "وغسل فرجه وما أصابه من الأذى" من رطوبة فرج المرأة والبول وغيرهما.

قال الحافظ: فيه تقديم وتأخير، لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء، إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بين ذلك ابن المبارك عن الثوري عند البخاري، فأتى بثم الدالة على الترتيب في الجميع، ويأتي في المتن قريبا لفظ رواية ابن المبارك، "ثم أفاض عليه الماء" أي على جسده، وللدارقطني: ثم غسل سائر جسده، ولابن ماجه: ثم أفاض على سائر جسده، "ثم نحى رجليه فغسلهما، رواه البخاري" ومسلم وأصحاب السنن، "وفيه التصريح بتأخير غسل الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة" السابقة، حيث قالت: ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، فإن ظاهره أنه لم يؤخر غسل رجليه كما في الفتح، لا من قولها: ثم يفيض الماء على جلده كله كما وهم فيه الشارح.

"ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز" بأن أطلقت الوضوء مريدة ما عدا غسل رجليه تعبيرا بالكل عن البعض، وفي شرح المصنف للبخاري حمله القائل بالتأخير على أكثر الوضوء حملا للمطلق على المقيد.

وأجيب بأنه ليس من المطلق والمقيد، لأن ذلك في الصفات لا في غسل جزء وتركه، "أو بحمله على حالة أخرى" بأن يكون فعل عند كل واحدة ما روته، إذ ليس هو غسلا واحدا "وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء" في أيهما أفضل، "فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين" مطلقا.

ص: 269

نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية: في الأفضل قولان، قال النووي: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه.

قال: ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفي فيه بغسلهما.

وعن جبير بن مطعم قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا". وأشار

"وعن مالك" في رواية: "إن كان المكان غير نظيف، فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم" وله وجه، وبه يجمع بين الحديثين.

قال المصنف: وكذا نقل عن الشافعية أيضا، "وعند الشافعية"، وكذا المالكية "في الأفضل قولان".

"قال النووي: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه" وكذا هو المشهور عن مالك كما صرح به الفاكهاني وغيره، وبقية كلام النووي، لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك، كذا قال وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة، كرواية: توضأ وضوءه للصلاة، أو ظاهرة في تأخيرهما، كروية أبي معاوية عن هشام، عن أبيه، عن عائشة عند مسلم، بلفظ: ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه.

وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام والمحفوظ في حديث عائشة: توضأ كما يتوضأ للصلاة، يعني: فرواية أبي معاوية شاذة، قال: لكن لها شاهد عند أبي داود، عن أبي سلمة، عن عائشة بلفظ: فإذا فرغ غسل رجليه، ويوافقها أن أكثر الروايات عن ميمونة ظاهرة، أو صريحة في تأخيرهما، كحديث الباب، ورواتها مقدمون في الحفظ والثقة على جميع من رواه عن الأعمش، وقوله من "قال" إنما فعل ذلك لبيان الجواز، متعقب برواية أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، بلفظ: كان إذا اغتسل من الجنابة. الحديث، وفي آخره: ثم يتنحى فيغسل رجليه، ففيه ما يدل على المواظبة، قاله الحافظ ملخصا.

"ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء" للغسل، "وتمسك به المالكية، لقولهم: إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفى فيه بغسلها" أي الرأس أنثه وهو مذكر، باعتبار أنه قطعة من البدن، وهو تمسك ظاهر، "و" عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق، قال: حدثني سليمان بن صرد "عن جبير""بضم الجيم وفتح الموحدة""ابن مطعم" بن عدي الصحابي من سادات قريش "قال: قال صلى الله عليه وسلم". وفي مستخرج

ص: 270

بيديه، كلتيهما رواه البخاري.

وفيه عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا:"مكانكم". ثم

أبي نعيم: ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة، فقال:"أما"، "بالفتح وشد الميم"، "أنا فأفيض"، "بضم الهمزة"، "على رأسي ثلاثا"، أي: ثلاث أكف، وعند أحمد:"فآخذ ملء كفي، فأصب على رأسي". "وأشار بيديه كلتيهما" كذا للأكثر، وللكشميهني: كلاهما، وحكى ابن التين أن في بعض الروايات: كلتاهما، وهي مخرجة على من يراها تثنية، وأنها لا تتغير، كقوله:

قد بلغا في المجد غايتاها

وهكذا القول في رواية الكشميهني، وهو مذهب الفراء في "كلا" خلافا للبصريين، ويمكن أن يخرج الرفع فيهما على القطع، وقسيم أما محذوف، وهو في مسلم من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سليمان، عن جبير، قال: تماروا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعض القوم: أما أنا فأغسل رأسي بكذا وكذا، فذكر الحديث، وله من وجه آخر أن السائلين عن ذلك وفد ثقيف، قاله الحافظ لثبوت القسيم في بعض طرق الحديث، لأنه حديث واحد، طوله بعض روته واختصره بعضهم، لا لأن أما تقتضي القسيم، إذ هو لا يجب لها، فقد تكون للتأكيد كما قاله الزمخشري وغيره، فلا تحتاج إلى قسيم، إذ مثله لا يجهل ذلك حتى يعترض عليه به، كما فعل العيني، لا سيما والكرماني بيده، وقد قال: إنه لا يجب لها، بل لأن الطرق يفسر بعضها بعضا كما أشار إليه، ثم قال: ودل قوله: ثلاثا على أن المراد بكذا وكذا أكثر منها، والسياق يشعر بأنه كان لا يفيض إلا ثلاثا، وهي محتملة لأن تكون للتكرار، ولأن تكون للتوزيع على جميع البدن، لكن يقوي الأول حديث جابر في البخاري: كان صلى الله عليه وسلم يأخذ ثلاث أكف، فيفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده.

قال الحافظ: إن الثلاث للتكرار، ويحتمل أن لكل جهة من الرأس غرفة، كما في حديث القاسم عن عائشة، "رواه البخاري" ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، "وفيه" أي: البخاري، وكذا مسلم وأبو داود والنسائي، "عن أبي هريرة" قال: أقيمت الصلاة وعدلت" أي: سويت "الصفوف قياما" جمع قائم نصب حال من مقدر، أي: حال كونهم قائمين، أو مصدر على التمييز المفسر للإبهام، أي: عدلت الصفوف من حيث القيام، "فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" صريحه أنه بعد الإقامة والتعديل مع أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني".

وأجيب بأنه محمول على الغالب، فما هنا من النادر أو النهي متأخر عنه، فيمكن أنه سبب النهي، "فلما قام في مصلاه"، "بضم الميم"، أي موضع صلاته "ذكر" قبل أن يكبر للصلاة كما

ص: 271

رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه.

وقوله: "ذكر" أي تذكر، لا أنه قال ذلك لفظا، وعلم الراوي بذلك من قرائن، أو بإعلامه بعد ذلك.

وظاهر قوله: "فكبر" الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة.

وعنده أيضا من حديث ميمونة: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا فسترته بثوب،

في رواية أخرى للبخاري "أنه جنب، فقال لنا: "مكانكم"، "بالنصب"، أي الزموه، وفيه إطلاق القول على الفعل، ففي رواية الإسماعيلي، فأشار بيده أن مكانكم، ويحتمل أن يكون جمع بين الكلام والإشارة، قاله الحافظ "ثم رجع" إلى الحجرة "فاغتسل، ثم رجع إلينا ورأسه يقطر" من ماء الغسل، ونسبة القطر إلى الرأس مجاز من باب ذكر المحل وإرادة الحال، "فكبر فصلينا معه".

"وقوله: ذكر، أي تذكر لا أنه قال ذلك لفظا و" حيث لم يلفظ به "علم الراوي بذلك من قرائن" الحال "أو بإعلامه" صلى الله عليه وسلم "بعد ذلك" أي: بعد السلام من الصلاة، وهذا الثاني متعين، ففي رواية الدارقطني: فصلى بهم، فقال: إني كنت جنبا، فنسيت أن أغتسل، وإنما يصار إلى القرائن مع عدم النص، "وظاهر قوله: فكبر الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة".

وقال النووي: هو محمول على قرب الزمان، فإن طال فلا بد من إعادتها، قال: ويدل على قرب الزمان في هذا الحديث قوله: "مكانكم" وقوله: خرج إلينا ورأسه يقطر.

وقال القرطبي في المفهم: مذهب مالك أن التفريق إن كان لغير عذر ابتدأ الإقامة طال الفصل أم لا، وإن كان لعذر فإن طال استأنف الإقامة، وإلا بنى عليها. انتهى.

"وعنده" أي: البخاري "أيضا من حديث ميمونة، قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا"، "بضم الغين" أي ماء للاغتسال، كما سبق في الرواية التي ساقها المصنف أولا عن ميمونة، بلفظ: ماء للغسل "فسترته بثوب" أي: غطيت رأس الماء، أي: ظرفه، وفيه خدمة الزوجة لزوجها وتغطية الماء، كذا أعاد ضمير سترته للماء الكرماني، وتبعه البرماوي والعيني والمصنف وغيرهم.

وال المولى حسين الكفوي: الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في رواية للبخاري عن ميمونة: سترت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل من الجنابة، والحديث واحد، فترجيعهم الضمير للماء غير صحيح.

ص: 272

وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب الماء على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوبا فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه.

وقد استدل بعضهم بقولها: "فناولته ثوبا فلم يأخذه" على كراهة التنشف بعد الغسل.

ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشف، بل يتعلق بالخرقة أو غير ذلك. قال

انتهى.

بل هو صحيح، ولا ينافيه الرواية المذكورة، لأنها سترت الماء أولا حين وضعته لئلا يصيبه غبر ونحوه، فلما اغتسل صلى الله عليه وسلم سترته، فذكر بعض الرواة ما لم يذكر الآخر، فكشفه، فأخذ الماء "وصب".

وفي رواية: فصب "بالفاء""على يديه" وفي رواية: يده بالإفراد على إرادة الجنس، "فغسلهما ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه""الفاء" هنا للتعقيب.

وأما قوله في روية أخرى للبخاري إن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، فذكر الحديث، فقال الحافظ: هذه الفاء تفسيرية وليست تعقيبية، لأن غسل الفرج لم يكن بعد الفراغ من الاغتسال، "فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها فتمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه" مع مرفقيه، "ثم صب الماء على رأسه وأفاض على جسده" الماء "ثم تنحى" عن مكانه "فغسل قدميه" قالت ميمونة:"فناولته ثوبا فلم يأخذه" وفي روية: فناولته خرقة، فقال: هكذا ولم يردها "بضم أوله وسكون ثالثه" من الإرادة "مجزوم بحذف الياء" والأصل يريدها، ومن فتح أوله وشد الدال فقد صحف وأفسد المعنى، وفي المطالع، أنها رواية ابن السكن، قال: وهي وهم، وقد رواه أحمد بلفظ، فقال: هكذا، وأشار بيده أن لا أريدها، "فانطلق" أي ذهب "وهو ينفض يديه" من الماء جملة اسمية وقعت حالا.

"وقد استدل بعضهم بقولها: فناولته ثوبا فلم يأخذه على كراهة التنشف بعد الغسل ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال" فعلية "يتطرق إليها الاحتمال" وبينه بقوله: "فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشف، بل يتعلق بالخرقة أو غير ذلك"، إذ لم يتعين في الكراهة.

ص: 273

المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ.

وقد وقع عند أحمد في هذا الحديث عن الأعمش قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة.

وقال التيمي في شرحه: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل.

وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشف لأن كلا منهما إزالة.

وقال النووي: اختلف أصحابنا في ذلك على خمسة أوجه، أشهرها: أن

"قال المهلب" بن أحمد بن أسيد بن صفرة التميمي الأندلسي، من العلماء الراسخين، المتقنين في الفقه والعبادة والنظر، روى عن الأصيلي والقابسي وأبي ذر الهروي وغيرهم، وعنه ابن المرابط وابن الحذاء وغيرهما، وولي قضاء مالقة، وأحيا صحيح البخاري بالأندلس، فقرأه تفقها وشرحه، ومات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، كما في الديباج وغيره، وليس هو المهلب ابن أبي صفرة التابعي، كما يوهمه نقل ترجمته هنا من التهذيب، إذ معلوم أن التابعي لم يشرح البخاري، فإنما هو شارح البخاري المهلب بن أحمد، إذ قال في شرحه:"يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع" ولا يلزم منه كراهة التنشف، "أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ" فتركه لذلك لا كراهة.

"وقد وقع عند أحمد" والإسماعيلي "في هذا الحديث" من رواية أبي عوانة "عن الأعمش" سليمان بن مهران: "قال: ذكرت ذلك" الحديث "لإبراهيم النخعي، فقال: لا بأس بالمنديل" أي: لا يكره، "وإنما رده مخافة أن يصير عادة" فيشق عند عدمه تركها.

"وقال التيمي" أبو القاسم أحمد بن محمد بن عمر بن ورد، بلفظ المشموم "في شرحه" للبخاري، وهو واسع جدا:"في هذا الحديث دليل على أنه" صلى الله عليه وسلم "كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل"، وهذا استدلال جيد.

"وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشف، لأن كلا منهما إزالة"، وهذا قياس ظاهر، وقد اعتل من قال بالكراهة أيضا بما جاء عن سعيد بن المسيب والزهري أنه يوزن، وتعقب بأن وزنه إنما هو في الآخرة، ولا بد من مفارقته الجسد.

"وقال النووي: اختلف أصحابنا في ذلك على خمسة أوجه: أشهرها أن المستحب

ص: 274

المستحب تركه، وقيل: مكروه، وقيل: مباح، وقيل: مستحب، وقيل: مكروه في الصيف مباح في الشتاء.

وفي هذا الحديث جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء، لكن فيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه: "لا تنفضوا أيديكم في

تركه" وأن فعله خلاف الأولى، "وقيل: مكروه"؛ لأنه عبادة يكره إزالة أثرها، كدم الشهيد وخلوف فم الصائم.

قال القرطبي: ولا يتم قياس ذلك على دم الشهيد، لأن إزالة دمه حرام، وإزالة الخلوف بالسواك جائزة.

وقال الزواوي: القياس على الشهيد غير بين، لأن الشهيد سقط عنه التكليف بالموت، ولو جرح أحد في سبيل الله وعاش لزمه غسل دمه، مع أنه أثر عبادة، "وقيل: مباح" بلا كراهة، وهو مذهب مالك.

قال النووي: في شرح مسلم وهو الذي نختاره ونعمل به لاحتياج المنع والاستحباب إلى دليل، "وقيل: مستحب" للسلامة من غبار نجس ونحوه، "وقيل: مكروه في الصيف" للترفه، "مباح في الشتاء" لضرورة البرد، وعن ابن عباس: يكره في الوضوء دون الغسل.

قال المازري: حجته ما روي أن أم سلمة ناولت النبي صلى الله عليه وسلم الثوب ليتنشف به فلم يأخذه، وقال:"إني أحب أن يبقى عليّ أثر الوضوء". ولم يثبت عنده نص قاطع على الكراهة في الغسل. انتهى.

أو لأن الوضوء لا يكون إلا عبادة بخلاف الغسل، فيكون لتدفٍ وتبردٍ وتنظفٍ ونحو ذلك.

قال النووي: وهذا كله إذا لم تكن حاجة كبرد أو التقاء نجاسة فإن كان فلا كراهة قطعا. انتهى.

وفي الذخائر: وإذا تنشف فالأولى أن لا يكون بذيله وطرف ثوبه ونحوهما، يعني: لما يقال أنه يورث الفقر والنسيان، "وفي هذا الحديث" أيضا "جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء" بالقياس عليه، ورجحه في الروضة وشرح المهذب، إذ لم يثبت في النهي عنه شيء، لكن الأشهر تركه، لأن النفض كالتبري من العبادة، فهو خلاف الأولى، ورجحه في التحقيق، وبه جزم في المنهاج، قال المصنف.

"لكن فيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان"، قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووي" قال الحافظ: وقد

ص: 275

الوضوء فإنها مراوح الشيطان". قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووي.

وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ للصلاة. رواه البخاري.

وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف.

وقوله: "وتوضأ للصلاة" أي توضؤا كما يتوضأ للصلاة، أي وضوءا شرعيا لا لغويا، وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة.

والحكمة فيه أنه يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة.

وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقد

أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي هريرة، ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحا لأن يحتج به، "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب" جملة حالية "غسل فرجه" مما أصابه من الأذى، "وتوضأ للصلاة".

"رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف" هو الطحاوي محتجا بأن ابن عمر راوي حديث:"إذا توضأ أحدكم فليرقد". كان يتوضأ وهو جنب، ولا يغسل رجليه كما في الموطأ عن نافع عنه.

وأجيب بأنه ثبت تعقيب الوضوء بالصلاة من روايته، ومن رواية عائشة: فيحمل تركه على أنه كان لعذر.

"وقوله: وتوضأ للصلاة، أي: توضؤا كما يتوضأ للصلاة، أي: وضوءا شرعيا لا لغويا" كان الأنسب أن يؤخر قوله: فيه رد. إلى هنا، "وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة" إذ لا يصح مع الجنابة، "والحكمة فيه أن يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه، فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح".

"ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة" عبد الله بن محمد بن إبراهيم وهو أبو شيبة "بسند رجاله ثقات عن شداد""بفتح المعجمة والدال الثقيلة""ابن أوس الصحابي، قال: إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة".

"وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه".

ص: 276