الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم.
ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل: غير ذلك. انتهى ملخصا من فتح الباري.
"وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب" أي: صار جنبا، "فأراد أن ينام توضأ أو تيمم" فهذا يؤيد قيام التيمم مقامه، "ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء" لا مطلقا، "وقيل: غير ذلك" في حكمة الوضوء، فقيل: لأنه أنشط إلى العود أو إلى الغسل. "انتهى ملخصا من فتح الباري" أي: جميع ما ذكره في هذا الفصل من التكلم على الأحاديث التي ذكرها بمعنى أنه أتى بما أراده منه لا التلخيص المتعارف.
النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم
اعلم أن الصلاة تحصل تحقيق العبودية، وأداء حق الربوبية، وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة.
وقد جمع الله تعالى للمصلين في ركعة ما فرق على أهل السموات، فلله ملائكة في الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود، والقيام، والقعود.
النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم
أي: ذكر ما يتعلق بها من بيان مواقيتها وفرضها وغير ذلك. "اعلم أن الصلاة تحصل تحقيق العبودية،" أي: كون المصلي عبدا بانقياده لله تعالى في أوامره، كالسجود الذي حقيقته وضع أشرف الأعضاء بالأرض ولو ترابية بلا حائل، "وأداء حق الربوبية"، "بضم الراء" أي الحق الذي وجب للرب تعالى مما أمر به أو نهى عنه، أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، "وسائر" أي باقي "العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة" وهو كمال الانقياد إلى الله، "وقد جمع الله تعالى للمصلين في ركعة ما فرق على أهل السموات" من أنواع العبادات، "فلله ملائكة في الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود والقيام والقعود" كما جاءت به الأخبار، "واجتمع فيها أيضا من العبادات" كذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى من العبوديات، وكأنه سماها بذلك باعتبار القيام بها وانقياد الشخص لها، وإلا فالمذكور من قوله من الطهارة
…
إلخ، كله عبادات، وقد صرح به في قوله:
واجتمع فيها أيضا من العبادات ما لم يجتمع في غيرها، من الطهارة والصمت واستقبال القبلة، والاستفتاح بالتكبير، والقراءة والقيام والركوع والسجود، والتسبيح في الركوع، والدعاء في السجود إلى غير ذلك.
فهي مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة، والقراءة بمجردها عبادة، وكذا كل فرد فرد.
وقد أمر نبيه بالصلاة في قوله سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت: 45] وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] .
وفي ذلك -كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير أمدنا الله بمدده- إشارة إلى
فهي مجموع عبادات، "ما لم يجتمع في غيرها من الطهارة والصمت" عن الكلام الأجنبي "واستقبال القبلة والاستفتاح بالتكبير والقراءة والقيام والركوع والسجود والتسبيح في الركوع والدعاء في السجود إلى غير ذلك، فهي مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة" فاضلة على غيرها، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} "والقراءة بمجردها عبادة، وكذا كل فرد فرد" مما عده كله عبادة، "وقد أمر نبيه بالصلاة في قوله سبحانه:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} " القرآن تقربا إلى الله بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالكرار ما لا ينشكف له أول ما قرع سمعه، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ؛ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث أنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه.
وقد روى أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، قال:"إنه سينهاه ما تقول". ووقع في الكشاف والبيضاوي: روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه، فوصف له عليه السلام، فقال:"إن صلاته ستنهاه". فلم يلبث أن تاب، لكن قال الحافظ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه وتبعه السيوطي.
"وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ} اصبر {عَلَيْهَا} وداوم، روى ابن مردويه عن أبي هريرة، قال: حين نزلت هذه الآية كان صلى الله عليه وسلم يأتي باب علي، فيقول: "الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". "وفي ذلك -كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير" في إسقاط التدبير التاج ابن عطاء الله، مر بعض ترجمته
أن في الصلاة تكليفا للنفوس شاقا عليها، لأنها تأتي في أوقات ملاذ العباد وأشغالهم، فتطالبهم بالخروج عن ذلك كله إلى القيام بين يديه، والفراغ عما سوى الله، فلذلك قال:{وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} .
قال: ومما يدل على أن في القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية، قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج في الصلاة إلى الصبر، صبر على ملازمة أوقاتها، وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها، وصبر يمنع القلوب فيها عن غفلاتها، ولذلك قال تعالى بعد ذلك:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فأفرد الصلاة بالذكر ولم يفرد الصبر به، إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير. فقد يدل على ما قلناه، أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر، كما قال تعالى في الآية الآخرى:
{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . انتهى ملخصا.
ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام:
"أمدنا الله بمدده- إشارة إلى أن في الصلاة تكليفا للنفوس شاقا عليها، لأنها تأتي في أوقات ملاذّ العباد وأشغالهم، فتطالبهم بالخروج عن ذلك كله" أي تكون سببا لخروجهم عن ملاذهم وأشغالهم "إلى القيام بين يديه والفراغ عما سوى الله" بفعل الصلاة قبل خروج وقتها، "فلذلك قال {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ، قال: ومما يدل على أن في القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا} " اطلبوا المعونة على أموركم {بِالصَّبْرِ} : الحبس للنفس على ما يكره {وَالصَّلَاةِ} أفردها بالذكر تعظيما لشأنها، وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وقيل: الخطاب لليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة أمروا بالصبر وهو الصوم، لأنه يكسر الشهوة، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر، {وَإِنَّهَا} أي: الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} ثقيلة {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} الساكنين إلى الطاعة، "فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج في الصلاة إلى الصبر" الكامل، وهو أنواع أشار إليها بقوله:"صبر" بالجر بدل نكرة من معرفة، لكون النكرة موصوفة لفظا بقوله: كائن "على ملازمة أوقاتها"، أو موصوفة في المعنى، "وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها" ومستحباتها، "وصبر يمنع القلوب فيها عن غفلاتها" لاشتغالها بالصلاة وإعراضها عن الدنيا، "ولذلك قال تعالى بعد ذلك:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فأفرد الصلاة بالذكر" بقوله: {وَإِنَّهَا} تعظيما لشأنها، "ولم يفرد الصبر به إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير"؛ لأن الصبر مذكر، "فقد يدل على ما قلناه" قد للتحقيق، "أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر" فوصف الصلاة بالكبر بمنزلة وصف الصبر به لتلازمهما، "كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} بالطاعة، فتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين، وقيل: خبر الله أو رسوله محذوف. "انتهى ملخصا".
القسم الأول: في الفرائض وما يتعلق بها، وفيه أبواب:
الباب الأول: في الصلوات الخمس
وفيه فصول:
الفصل الأول: في فرضها
عن أنس قال: فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به خمسون صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نادى: يا محمد إنه لا يبدل القول لديّ، وإن لك بهذه الخمس خمسين. رواه الترمذي هكذا مختصرا، ورواه البخاري ومسلم من حديث طويل تقدم في مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث.
"ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام: القسم الأول في الفرائض وما يتعلق بها، وفيه أبواب: الباب الأول في الصلوات الخمس وفيه فصول":
"الأول: في فرضها" أي: إيجابها أصلا وقدرا "عن أنس قال: فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به خمسون صلاة، ثم نقصت" بأن حط منها بمراجعته صلى الله عليه وسلم بإشارة موسى عليه الصلاة والسلام خمسا خمسا، "حتى جعلت خمسا ثم نادى" الله تعالى "يا محمد إنه لا يبدل" لا يغير "القول لديّ" في ذلك، "وإن لك بهذه الخمس خمسين".
قال الحافظ: هذا من أقوى ما استدل به على أنه تعالى كلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بلا واسطة، "رواه الترمذي هكذا مختصرا، ورواه البخاري ومسلم من" جملة "حديث طويل" عن أنس، عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، "تقدم في مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث" المنيفة.
وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وقوله: "وفي الخوف ركعة" محمول على أن المراد ركعة مع الإمام وينفرد بالأخرى.
وعن عائشة: فرض الله الصلاة -حين فرضها- ركعتين ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. رواه البخاري.
وعنده -في كتاب الهجرة- من طريق معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا.
فعين في هذه الرواية أن الزيادة في قوله في الحديث الذي قبله "وزيد في صلاة الحضر" وقعت بالمدينة.
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية، وبنوا عليه: أن القصر في السفر
"وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم" بأن أنزله عليه وأمره أن يتكلم به "في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين" في الرباعية "وفي الخوف ركعة".
"رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وقوله: وفي الخوف ركعة محمول على أن المراد ركعة مع الإمام" يقتدى به فيها، "وينفرد بالأخرى" بعدما يفارقه فيصليها وحده، فليس المراد ظاهره وإن ذهب إليه قوم.
"وعن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين" بالتكرار لإفادة عموم التثنية لكل صلاة في الحضر والسفر، هكذا في رواية كريمة للبخاري بالتكرار، فلا إشكال فيها بخلاف ما وقع في رواية غيرها ركعتين بدون تكرار، ويوافق روايتها سائر الروايات في الصحيحين، وغيرهما، زاد في رواية لأحمد إلا المغرب، فإنها كانت ثلاثا "ثم أتمها" أربعا "في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى"، "بضم الهمزة".
"رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "وعنده في كتاب الهجرة من طريق معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا، فعين في هذه الرواية أن الزيادة في قوله في الحديث الذي قبله، وزيد في صلاة الحضر وقعت بالمدينة" لم يتقدم له بهذا اللفظ، نعم هو لفظ البخاري في أول كتاب الصلاة، فقال الحافظ في شرحه هذا الكلام "وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية وبنوا عليه أن القصر في السفر عزيمة"؛ لأنه
عزيمة لا رخصة.
واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] لأن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه، ويدل على أنه رخصة أيضا قوله عليه الصلاة والسلام:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". رواه مسلم. وأما خبر: "فرضت الصلاة
أمر بها في السفر كذلك ولم تغير "لا رخصة" لأنها الحكم المتغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأول، قال المصنف: وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أتم المسافر يكون الشفع الثاني عندنا فرضا وعندهم نفلا لنا أن الوقت سبب للأربع، والسفر سبب للقصر، فيختار أيهما شاء، ولهم قول ابن عباس المتقدم.
"واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، لأن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الإباحة لكن بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ترقت إلى السنة، "والقصر إنما يكون في شيء أطول منه،" وأجاب الحنفية بأنه ليس المراد بالآية قصر الذات، بل قصر الصفة كترك الاستقبال عند الخوف بدليل بقية الآية، ورده ابن جرير بأن الآية من المتصل لفظا المنفصل معنى، فقد ورد أن قوله:{إِنْ خِفْتُمْ} نزل بعد قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} بسنة، فهو متعلق بما بعده، أي: بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} .
"ويدل على أنه رخصة أيضا قوله عليه الصلاة والسلام" كما في مسلم عن يعلى بن أمية، قلت لعمر: إنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صدقة تصدق الله بها عليكم" والصدقة لا يجب قبولها، فالقصر ليس بواجب، وأجاب الحنفية، بأن ذلك في غير صدقة الله تعالى، كيف وقد أمر بقبولها؟ بقوله:"فاقبلوا صدقته" والأصل في الأمر الوجوب.
"رواه مسلم" عن عمر كما رأيت، فأفاد صلى الله عليه وسلم، أن الشرط في الآية لبيان الواقع وقت النزول، فلا مفهوم له، وهذا جاء به المصنف من فتح الباري، وفيه أيضا بعده الذي يظهر لي، وبه تجتمع الأدلة، أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن، زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار. انتهى. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف عنا في السفر عند نزول قوله:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ويؤيده ما ذكره
ركعتين، أي في السفر، فمعناه: لمن أراد الاقتصار عليهما جمعا بين الأخبار. قاله في الجموع.
الفصل الثاني: في ذكر تعيين الأوقات التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس
عن جابر: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم
ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة وهو مأخوذ من قول غيره: إن نزول آية الخوف كان فيها.
وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية، ذكره الدولابي وأورده السهيلي، بلفظ: بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما، فعلى هذا المراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر، أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة.
فائدة: ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل بلا تحديد، وذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ورده جماعة من أهل العلم. انتهى.
"وأما خبر: "فرضت الصلاة ركعتين، أي: في السفر، فمعناه لمن أراد الاقتصار عليهما جمعا بين الأخبار" فليس فيه أنه عزيمة، "قاله في المجموع" هو شرح المهذب للنووي وأوله، وأما خبر وما قبله من الفتح كما علم.
الفصل الثاني: في ذكر تعيين الأوقات التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس
مرتين "عن جابر" بن عبد الله "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة" صبيحة ليلة فرضها في الإسراء كما يأتي، وجابر لم يدرك ذلك، فهو مرسل صحابي، فإما أنه تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي أدرك ذلك، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس" أي: مالت من جانب الشمال إلى اليمي إذا استقبلت القبلة، "وأتاه حين كان الظل مثل ظل شخصه" أي: الشيء المشخص وهو جسم مشخص له شخوص وارتفاع "فصنع كما صنع" في الظهر، وبينه بقوله: "فتقدم جبريل
خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الصبح.
ثم أتاه جبريل في اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان الظل مثلي شخصه فصنع كما
ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر" في أول وقته، "ثم أتاه حين وجبت الشمس" أي: غابت، وأصل الوجوب السقوط، والمراد سقوط قرص الشمس، وفاعل وجبت هنا مذكور، وهو الشمس، وسقط في رواية البخاري عن جابر: "كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت" الحديث، فقال الحافظ: فاعل وجبت مستتر وهو الشمس، ولأبي داود: والمغرب إذا غربت الشمس، ولأبي عوانة: والمغرب حين تجب الشمس، أي تسقط، وفيه أن سقوط قرصها يدخل به المغرب، ومحله ما إذا لم يحل بين رؤيتها عارية وبين الرائي حائل، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى المغرب" لأول وقتها، "ثم أتاه حين غاب الشفق" أي الحمرة التي ترى في أفق المغرب، كما في الموطأ، وعليه أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة إنه البياض الذي يليها، وتعقب بأنه مختص في اللغة والاستعمال بالحمرة، لقول أعرابي: وقد رأى ثوبا أحمر كأنه شفق.
وقال المفسرون في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] إنه الحمرة، وقال الخليل بن أحمد: رقبت البياض فوجدته يبقى إلى ثلث الليل، وقال غيره: إلى نصفه، فلو رتب الحكم عليه لزم أن لا يدخل وقت العشاء حتى يمضي ثلث الليل أو نصفه ولا قائل به، والأحاديث ناطقة بخلافه "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى العشاء" أول وقتها، "ثم أتاه حين انشق الفجر"، أي: ظهر والشق بالفتح انفراج في الشيء، فوصف الفجر به مجاز من إطلاق اسم المحل على الحال، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح" أول وقته، "ثم أتاه جبريل في اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه" لم يقل مثله، لأن الرجل مسماه الماهية، وهي إنما توجد في ضمن الإفراد وليست مرئية ولا ظل لها، والظل إنما هو للصورة الخارجية المعبر عنها بالشخص وهو سواد الإنسان يرى من بعد، ثم استعمل في ذاته، قال الخطابي: ولا يسمى شخصا إلا جسم مؤلف له شخوص وارتفاع، "فصنع كما صنع بالأمس"
صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة. ثم قال:"ما بين هاتين الصلاتين للصلاة وقت". رواه النسائي.
وفي رواية قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفيء قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك، وكان ظل الرجل مثله، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب
من تقدمه والنبي خلفه والناس خلف النبي صلى الله عليه وسلم "فصلى الظهر" في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس، "ثم أتاه حين كان الظل مثلي"، "بالتثنية"، "شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر" في آخر مختارها، "ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى المغرب" في أول وقتها كما صلاها أمس، ففيه دلالة قوية على أن وقتها مضيق، لأن جبريل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين في وقت واحد، "ثم أتاه حين غاب الشفق، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العشاء" صرح في هذه الرواية بأنه صلاها في اليومين بوقت واحد، وفي التالية لها، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل، فيجمع بينهما بأنه أتاه حين غاب الشفق في اليومين، لكن بقي عنده في الثاني بدون صلاة العشاء إلى ثلث الليل، وهذا الجمع متعين، لأن المخرج واحد وهو جابر، ويشهد له حديث ابن عباس بعده: ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، "ثم أتاه حين امتد الفجر" في أفق السماء، "وأصبح" أي: دخل في الصباح "والنجوم بادية" أي: ظاهرة "مشتبكة" مختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها.
وروى أحمد: "لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب انتظارا للظلام مضاهاة لليهود، وما لم يؤخروا الفجر لمحاق النجوم مضاهاة للنصارى". "وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة"، أي: الصبح، ثم قال:"ما بين هاتين الصلاتين" في اليومين "للصلاة وقت"، ويأتي في حديث ابن عباس والوقت فيما بين هاتين الوقتين، "رواه النسائي" والترمذي وغيرهما.
"وفي رواية" له أيضا، عن جابر "قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس" أي: مالت إلى جهة الغروب "وكان الفيء قدر الشراك"، "بكسر المعجمة" أحد سيور النعل التي على وجهها، وقدره هنا ليس على معنى التحديد، "ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك، وكان ظل الرجل مثله" بالإفراد، "ثم صلى المغرب حين غابت الشمس ثم صلى العشاء حين غاب الشفق" الحمرة، "ثم صلى الفجر" أي: الصبح "حين طلع الفجر، ثم
الشفق، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، ثم صلى الغداة -أي الظهر- حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل -شك أحد رواته- ثم صلى الفجر فأسفر.
وعن ابن عباس: قال صلى الله عليه وسلم: "أمَّني جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر بي في الأولى حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين
صلى الغداة، أي الظهر" تفسيرها بهذا يخالف قوله في الحديث السابق: فصلى الغداة، أي: الصبح، وفي المصباح الغداة: الضحوة مؤنثة، وجوز ابن الأنباري تذكيرها على معنى أول النهار، وعلى هذا فإطلاق الغداة على كل من صلاتي الصبح والظهر مجاز علاقته المجاورة لقرب كل من الصلاتين لوقت الضحوة، كذا مشاه شيخنا، والذي يظهر لي أن الغداة اسم لليوم، فإنها تطلق كالغد على اليوم بتمامه تسمية للكل باسم البعض، ونصبها على الظرفية، أو بنزع الخافض، أي: في الغداة، أي: اليوم الثاني بعد اليوم الذي صلى فيه أولا، وقول المصنف، أي: الظهر بيان لمفعول صلى لا تفسير للغداة "حين كان الظل طول الرجل" وقت صلاته العصر في اليوم الأول، "ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه" بالتثنية "ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل، أو نصف الليل شك أحد رواته ثم صلى الفجر"، أي: الصبح "فأسفر" وفي أبي داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبي مسعود الأنصاري: وصلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر.
"وعن ابن عباس" قال: "قال صلى الله عليه وسلم": "أمَّني" بفتح الهمزة والميم الثقيلة صلى بي إماما "جبريل عند البيت" كذا رواه الأكثر، ورواه الشافعي والطحاوي والبيهقي عند باب البيت، وهي مبينة للمراد من الأولى "مرتين، فصلى الظهر في الأولى حين كان الفيء مثل الشراك" وقت الزوال في ذلك اليوم لا أنه أخره عن الزوال إلى أن صار كذلك كما يأتي، وقد جاء في رواية أبي داود وغيره بيان المراد، ولفظه عن ابن عباس:"فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك". فقوله: "وكانت
…
" إلخ، إخبار عن صفتها وقت الزوال يومئذ، "ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله" بالإفرد وفي رواية: "حين كان ظله مثله". "ثم صلى المغرب حين وجبت" أي: غابت "الشمس وأفطر الصائم" أي: جاز له الفطر، "ثم صلى
غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقت الأولى، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إليّ جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين". رواه الترمذي وغيره.
العشاء حين غاب الشفق" الحمرة، "ثم صلى الفجر حين برق الفجر" بموحدة وراء بلا نقط مفتوحتين، أي: لمع، وأما برق بكسر الراء، فمعناه تحير حتى صار لا يطرف، أو دهش حتى لا يبصر كما في القاموس وغيره، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] وقرأ نافع بالفتح، أي: لمع من شدة شخوصه. "وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان" أي: صار "ظل كل شيء مثله" بالإفراد، "كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه"، "بالثتينة"، "ثم صلى المغرب لوقت الأولى" أي: في الوقت الذي صلاها فيه في المرة الأولى، "ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إليّ"، "بشد ياء المتكلم"، "جبريل" فاعل التفت، "فقال: يا محمد هذا" زاد في رواية: "وقتك و". "وقت الأنبياء من قبلك" أي: مثل وقت من فرض عليه منهم صلاة مخصوصة بوقت، لا أنه وقت لكل الأنبياء، فلا ينافي أن الخمس من خصائص هذه الأمة، ولم تجتمع لأحد غيرهم كما مر في الخصائص، "والوقت فيما بين هذين الوقتين" موسع، ففي أي جزء أوقعها فيه لا يأثم.
قال ابن عبد البر: لم أجد قوله: "هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك" إلا في هذا الحديث، يعني حديث ابن عباس، وقال ابن العربي: ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات مشروعة للأنبياء قبله وليس كذلك، وإنما معناه هذا وقتك المشروع لك يعني الوقت الموسع المحدود بطرفين الأول والآخر، ووقت الأنبياء قبلك أي صلاتهم كانت واسعة الوقت وذات طرفين، مثل هذا، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا لهذه الأمة، خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها.
وقد روى أبو داود في حديث العشاء: "أعتموا بهذه الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم". ولا يرد عليه ما ورد أن العشاء ليونس، لأنه أجيب بأنها كانت له نافلة ولم تكتب على أمته، كالتهجد وجب على نبينا دوننا، وبغير ذلك كما مر في الخصائص. "رواه الترمذي وغيره" كأبي داود وأحمد والشافعي، وصححه الحاكم وضعفه ابن بطال، بحديث
وقوله: "صلى بي الظهر حين كان ظله مثله" أي فرغ منها حينئذ، كما شرع في العصر في اليوم الأول، وحينئذ فلا اشتراك بينهما في وقت، ويدل له حديث مسلم:"وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم تحضر العصر".
وقوله في حديث جابر: "فصلى الظهر حين زالت الشمس". يقتضي جواز فعل الظهر إذا زالت الشمس، ولا ينتظر بها وجوبا ولا ندبا مصير الفيء مثل الشراك، كما اتفق عليه أئمتنا ودلت عليه الأخبار الصحيحة، وأما حديث ابن عباس فالمراد
الصحيحين أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر، فأنكر عليه عروة بن الزبير، وروى له حديث صلاة جبريل بالمصطفى مرة واحدة، قال: فلو كان هذا الحديث صحيحا لم ينكر عروة على عمر صلاته آخر الوقت محتجا بصلاة جبريل مع أنه قد صلى في اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال:"الوقت ما بين هذين". وأجبت باحتمال أن صلاة عمر خرجت عن وقت الاختيار وهو مصير ظل كل شيء مثليه، لا عن وقت الجواز وهو مغيب الشمس، فصحة إنكار عروة لا يلزم منها ضعف الحديث، وبأن عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصلاة في أول الوقت، ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضا.
وقد روى سعيد بن منصور عن طلق بن حبيب مرسلا، أن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها خبر له من أهله وماله، "وقوله":"صلى بي الظهر حين كان ظله مثله". "أي: فرغ منها حينئذ" أي: حين فراغه منها، "وقوله: كما شرع في العصر في اليوم الأول"، وهذا تأويل "وحينئذ فلا اشتراك بينهما في وقت" بقدر إحداهما كما تقول المالكية، ثم اختلفوا هل في آخر وقت الظهر، أو في أول وقت العصر، مبناه: هل معنى صلى فرغ أو شرع؟ وهو ظاهر الحديث.
وقال ابن العربي: بالله ما بينهما اشتراك، ولقد زلت فيه أقدام العلماء، "ويدل له حديث مسلم" عن عبد الله بن عمرو، مرفوعا:"وقت الظهر إذا زالت الشمس" زاد في رواية لمسلم: "عن بطن السماء". "ما لم تحضر العصر". "وقوله في حديث جابر: فصلى الظهر حين زالت الشمس يقتضي جواز فعل الظهر" أي: صلاتها "إذا زالت الشمس، ولا ينتظر بها وجوبا ولا ندبا مصير الفيء مثل الشراك"، "بالكسر سير النعل"، "كما اتفق عليه أئمتنا ودلت عليه الأخبار الصحيحة" وكذا اتفق عليه أئمة غيرهم إلا الكوفيين، فقالوا: لا تجب بأول الوقت.
ونقل ابن بطال أن الفقهاء بأسرهم على خلاف ما نقل الكرخي عن أبي حنيفة، أن الصلاة في أول الوقت تقع نفلا.
قال الحافظ: والمعروف عند الحنفية تضعيف هذا القول، قال: والحديث يقتضي أيضا أن
به أنه حين زالت الشمس كان الفيء حينئذ مثل الشراك، لأنه أخر إلى أن صار مثل الشراك. ذكره في المجموع.
وقد بين ابن إسحاق في المغازي أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء. ولفظه:
قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت "الأولى" -أي صلاة الظهر- فأمر فصيح بأصحابه:"الصلاة جامعة" فاجتمعوا فصلى به جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه. فذكر الحديث وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما
الزوال أول وقت الظهر إذ لم ينقل أنه صلى قبله، وهذا هو الذي استقر عليه الإجماع وكان فيه خلاف قديم عن بعض الصحابة أنه جوز صلاة الظهر قبل الزوال، ومثله عن أحمد وإسحاق في الجمعة. انتهى.
"وأما حديث ابن عباس، فالمراد به أنه حين زالت الشمس كان الفيء حينئذ مثل الشراك، لأنه أخر إلى أن صار مثل الشراك" وإن كان ذلك ظاهره لمخالفة غيره من الأحاديث، وهي يفسر بعضها بعضا، "ذكره في المجموع" شرح المهذب للنووي، "وقد بين" محمد "بن إسحاق" بن يسار "في المغازي أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، ولفظه" كما في الفتح: حدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير.
وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج، قال:"قال نافع بن جبير"، "بضم الجيم" ابن مطعم بن عدي النوفلي "وغيره" فسقط من قلم المصنف أو نساخه بعض الكلام:"لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به" فيها "لم يرعه"، "بفتح الياء وضم الراء وإسكان العين" لم يفزعه "إلا جبريل نزل حين زاغت" بغين معجمة" أي: مالت "الشمس ولذلك سميت الأولى، أي صلاة الظهر" لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء على المشهور في الأحاديث، ولابن أبي خيثمة والدارقطني وابن حبان في الضعفاء بإسناد ضعيف عن ابن عباس: لما فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فصلى به الصبح حين طلع الفجر.
وفي حديث أبي هريرة عند النسائي، قال صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم". فصلى الصبح حين طلع الفجر "فأمر" صلى الله عليه وسلم، "فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة" برفعهما ونصبهما، ورفع الأول ونصب الثاني وعكسه، "فاجتمعوا وصلى به جبريل، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فذكر
وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما دعاهم بقوله: "الصلاة جامعة" لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ.
واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره.
ويجاب عنه بما يجاب عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط، كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر والشمس في حجرة عائشة لم يظهر الفيء من
الحديث، وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل" صبيحة المعراج "وبعدها بيان النبي صلى الله عليه وسلم" كما دلت عليه الأحاديث، "وإنما دعاهم بقوله: "الصلاة جامعة"؛ لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ" وإنما شرع بالمدينة.
"واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلاة الناس خلفه"، أي: أبي بكر، "فإنه محمول على أنه" أي: أبا بكر "كان مبلغا فقط" والإمام النبي صلى الله عليه وسلم "كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى" في الإمامة هكذا قال الحافظ وتعقبه السيوطي بأنه واضح في قصة أبي بكر، وأما هنا ففيه نظر، لأنه يقتضي أن الناس اقتدوا بجبريل لا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف الظاهر والمعهود مع ما في رواية نافع بن جبير من التصريح بخلافه، أي بقوله وصلى به جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، قال: والأولى أن يجاب بأن ذلك كان خاصا بهذه الواقعة؛ لأنها كانت للبيان المعلق عليه الوجوب، زاد الحافظ: واستدل به أيضا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس، قاله ابن العربي وغيره، وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة وأجاب باحتمال أن الوجوب كان معلقا بالبيان، فلم يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة، قال: وأيضا لا نسلم أن جبريل كان متنفلا، بل كانت تلك الصلاة واجبة عليه، لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض خلف مفترض، وقال ابن المنير: قد يتعلق به من يجوز صلاة مفترض بمفترض آخر، كذا قال: وهو مسلم له في صورة المؤداة مثلا. خلف المؤداة لا في صورة الظهر خلف العصر مثلا. انتهى رحمه الله.
"وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر والشمس" أي ضوءها "في حجرة"، "بضم المهملة وسكون الجيم"، "بيت" عائشة لم يظهر الفيء" أي: الظل في الموضع الذي كانت الشمس فيه
حجرتها. رواه البخاري ومسلم.
وقال أنس: كان صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال. رواه البخاري ومسلم.
"من حجرتها" ولا يعارضه رواية الصحيحين أيضا: والشمس في حجرتها قبل أن تظهر، أي: ترتفع، لأن المراد بظهور الشمس خروجها من الحجرة، وبظهور الفيء انبساطه في الحجرة، وذلك لا يكون إلا بعد خروج الشمس، فلا خلف بين الروايتين، "رواه البخاري ومسلم" بطرق عديدة عن عائشة، "وقال أنس: كان صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية" هو من باب الاستعارة، والمراد بقاء حرها وعدم تغير لونها، والواو للحال، "فيذهب الذاهب إلى العوالي" جمع عالية ما حول المدينة من القرى جهة نجدها، أما من جهة تهامتها فيقال: السافلة. "فيأتيهم والشمس مرتفعة" دون ذلك الارتفاع لكن لم تصل إلى الحد الذي توصف فيه بأنها منخفضة، وكأن أنسا أراد بالذاهب نفسه كما يشعر بذلك رواية النسائي والطحاوي، واللفظ له عن أبي الأبيض، عن أنس، قال: كان صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر والشمس بيضاء محلفة، ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة، فأقول لهم: قوموا فصلوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى.
قال الطحاوي: نحن نعلم أن قوم أنس لم يكونوا يصلونها إلا قبل اصفرار الشمس، فدل ذلك على أنه صلى اله عليه وسلم كان يعجلها، وقال السيوطي: بل أراد أعم من ذلك، رواه الدارقطني والطبراني عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان أبعد رجلين من الأنصار من رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أبو لبانة وأهله بقباء، وأبو عيسى ومسكنه في بني حارثة، فكانا يصليان معه صلى الله عليه وسلم ثم يأتيان قومهما وما صلوا لتعجيله صلى الله عليه وسلم بها، "وبعض العوالي" هذا مدرج من الزهري، كما بينه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في هذا الحديث، فقال: قال الزهري وبعض العوالي "من المدينة على أربعة أميال" كذا وقع هنا، أي: بين بعض العوالي والمدينة هذه المسافة، وللبيهقي موصولا، والبخاري تعليقا، وبعد العوالي، "بضم الموحدة ودال مهملة"، وللبيهقي أيضا أربعة أميال أو ثلاثة، ولأبي عوانة وأبي العباس السراج عن الزهري العوالي من المدينة على ثلاثة أميال، ووقع عند المحاملي على ستة أميال، ولعبد الرزاق عن معمر عن الزهري على ميلين أو ثلاثة، فتحصل أن أقرب العوالي مسافة ميلين، وأبعدها ستة إن كانت رواية المحاملي محفوظة، وفي المدونة عن مالك أبعد العوالي مسافة ثلاثة أميال، كأنه أراد معظم عمارتها، وإلا فأبعدها ثمانية أميال، قاله عياض، وبه جزم ابن عبد البر وخلق آخرهم صاحب النهاية، ويحتمل أنه أراد أنه أبعد الأمكنة التي كان يذهب إليها الذاهب في هذه الواقعة، قاله الحافظ ملخصا، "رواه البخاري ومسلم" من
وفي ذلك دليل على تعجيله صلى الله عليه وسلم بصلاة العصر، لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضي مسافة أميال، والمراد بالشمس ضوءها.
وعن سلمة بن الأكوع أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب. رواه البخاري ومسلم والترمذي.
وعن رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب معه صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا، وإنه ليبصر مواقع نبله. رواه البخاري ومسلم. والنبل -بفتح النون: السهام العربية.
طرق مدارها على ابن شهاب عن أنس، "وفي ذلك دليل على تعجيله صلى الله عليه وسلم بصلاة العصر لوصف الشمس بالارتفاع" العلو "بعد أن تمضي مسافة أربعة أميال" إذ لا يمكن أن يذهب الذاهب أربعة أميال، والشمس لم تتغير إلا إذا صلى حين صار ظل كل شيء مثله، "والمراد بالشمس ضوءها" لا عينها، إذ لا يتصور دخولها في الحجرة حتى يخرج، فهو من باب المجاز، وكذا المراد في حديث أنس، إذ الذي يوصف بالارتفاع والحياة إنما هو الضوء، أما عينها فلا تزال بيضاء نقية إلى أن تغرب.
"وعن سلمة بن الأكوع" الصحابي الشهير "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت" أي: استترت "بالحجاب" شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها "رواه البخاري" من ثلاثياته، فقال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة "ومسلم" واللفظ له، فأما لفظ البخاري، فقال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب إذا توارت بالحجاب.
قال الحافظ: المراد الشمس، ولم يذكرها اعتمادا على إفهام السامعين، كقوله في القرآن حتى توارت بالحجاب، قاله الخطابي، وقد رواه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بلفظ: إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، فدل على أن الاختصار في المتن من شيخ البخاري، وبه صرح الإسماعيلي، ورواه عبد بن حميد عن صفوان بن عيسى، وأبو عوانة والإسماعيلي من طريق صفوان أيضا، عن يزيد، عن سلمة بلفظ: كان يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس حين يغيب حاجبها، والمراد حاجبها الذي يبقى بعد أن يغيب أكثرها، ورواية توارت أصرح في المراد، "والترمذي" وأبو داود وابن ماجه، "وعن رافع"، "بالراء"، "ابن خديج"، "بفتح المعجمة وكسر المهملة وإسكان التحتية وجيم"، قال:"كنا نصلي المغرب معه" اختصارا لقوله مع النبي "صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا" من المسجد، "وإنه ليبصر" بضم التحتية واللام" للتأكيد "مواقع" محل وقع "نبله" لبقاء الضوء، أي: المواضع التي تصل إليها سهامه إذا رمى بها، وروى أحمد بإسناد حسن عن ناس من الأنصار، قالوا: كنا نصلي مع
أي يبصر مواقع سهامه إذا رمى بها، ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل، رواه النسائي من حديث أنس.
ويؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية. رواه أبو داود من حديث علي بن شيبان.
وقال عليه السلام: "إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا
النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم نرجع فنترامى حتى نأتي ديارنا، فما يخفى علينا مواقع سهامنا.
"رواه البخاري ومسلم" وابن ماجه "والنبل بفتح النون" وسكون الموحدة "السهام العربية" وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، قاله ابن سيده، وقيل: واحدها نبلة مثل تمر وتمرة، "أي: يبصر مواقع سهامه إذا رمى بها" لأنهم كانوا يترامون بها في رجوعهم كما علم، "ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها، بحيث أن الفراغ منها يقع، والضوء باق" من قوله: ليبصر مواقع نبله، وفيه أيضا دلالة على عدم تطويلها، وأما الأحاديث الدالة على التأخير لقرب الشفق، فلبيان الجواز.
"وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة" الباء للتعدية أو زائدة، أي: أخرها حتى تنكسر شدة الحر، والمراد بها الظهر، لأنها التي يشتد الحر غالبا في أول وقتها، وقد صح أبردوا بالظهر، فيحمل المطلق على المقيد، وحمل بعضهم الصلاة على عمومه بناء على أن المفرد المعرف يعم، فقال به أشهب: في العصر، وأحمد في رواية عنه في العشاء، حيث قال: تؤخر في الصيف دون الشتاء، ولم يقل به أحد في المغرب وا في الصبح لضيق وقتهما، "وإذا كان البرد عجل" الصلاة في أول وقتها" رواه النسائي من حديث أنس" بن مالك "و" كان "يؤخر العصر" أحيانا "ما دامت الشمس بيضاء نقية" بنون فقاف، أي خالصة صافية لم يتغير لونها، "رواه أبو داود من حديث علي بن شيبان" بن محرز بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم الحنفي السحيمي اليمامي أبو يحيى أحد وفد بني حنيفة له أحاديث عند البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود "وابن حبان وابن خزيمة، منها من طريق عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان" عن أبيه وكان أحد الوفد، قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه كما في الإصابة، وفي التقريب صحابي تفرد عنه ابنه عبد الرحمن.
"وقال عليه السلام": "إذا قدم" بضم القاف وكسر الدال المشددة، وفي رواية: إذا وضع، وأخرى إذا حضر "العشاء" بفتح العين والمد الطعام المأكول عشية وهو ضد الغداء، زاد في رواية لابن حبان والطبراني:"وأحدكم صائم". "فابدءوا به قبل صلاة المغرب" ثم
عن عشائكم". رواه البخاري ومسلم.
وعند أبي داود: "ولا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره".
وأعتم صلى الله عليه وسلم بالعشاء ليلة، حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان،
صلوها ليكون القلب فارغا لمناجاة الرب، "ولا تعجلوا".
قال الحافظ: بضم الفوقية وفتحها والجيم مفتوحة فيهما، ويروى بضم أوله وكسر الجيم "عن عشائكم" لئلا يشتغل قلبكم به، "رواه البخاري ومسلم" من حديث أنس.
"وعند أبي داود" عن جابر، مرفوعا:"لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره". ولا معارضة بينهما إذ هو محمول على من لم يشتغل قلبه بالطعام جمعا بين الأحاديث، وروته عائشة بلفظ:"إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء". وفي رواية عنها بلفظ: "إذا حضر"، وابن عمر بلفظ:"إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه". وكلها في الصحيحين، لكن الذي رووه في حديث عائشة، بلفظ:"وضع" أكبر كما قاله الإسماعيلي.
قال الحافظ: والفرق بينهما أن الحضور أعم من الوضع، فيحمل قوله حضر، أي بين يديه لتأتلف الروايتان لاتحاد المخرج، ويؤيده حديث أنس رضي الله عنه، بلفظ: إذا قدم، ولمسلم: إذا قرب، وعلى هذا فلا يماط الحكم بما إذا حضر العشاء، لكن لم يقرب، كما لو لم يعرف، وظن قوم أن هذا من تقديم حق العبد على حق الله.
قال ابن الجوزي: وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الله ليدخل الخلق عبادته بقلوب مقبلة، ثم إن طعام القوم كان قليلا لا يقطع عن لحاق الجماعة غالبا، هذا وما يقع في بعض كتب الفقه:"إذا حضر العشاء والعشاء فابدءوا بالعشاء" فلا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ، كما في شرح الترمذي لشيخنا أبي الفضل، لكن رأيت بخط الحافظ قطب الدين، يعني: الحلبي أخرج ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، مرفوعا:"إذا حضر العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء". قال: كان ضبطه فذاك، وإلا فقد رواه أحمد في مسنده عن إسماعيل، بلفظ:"وحضرت الصلاة" ثم راجعت مصنف ابن أبي شيبة، فرأيت الحديث فيه كما أخرجه أحمد. انتهى.
"وأعتم"، "بفتح الهمزة والفوقية وإسكان المهملة بينهما"، "صلى الله عليه وسلم بالعشاء" أي: أخر صلاتها "ليلة" من الليالي، وكانت عادته تقديمها "حتى ناداه عمر" بن الخطاب "الصلاة" بالنصب على الإغراء، قاله المصنف، وقال الحافظ: بالنصب بفعل مضمر تقديره مثلا صل الصلاة، وساغ هذا الحذف لدلالة السياق عليه "نام النساء والصبيان" أي: الحاضرون في المسجد، وإنما خصهم بذلك لأنهم مظنة قلة الصبر عن النوم، ومحل الشفقة والرحمة بخلاف الرجال.
فخرج صلى الله عليه وسلم فقال: "ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم". قال: ولا تصلي يومئذ بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول.
زاد في رواية: وذلك قبل أن يفشو الإسلام.
وفي رواية: فخرج ورأسه يقطر ماء يقول: "لولا أن أشق على أمتي -أو: على الناس- لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة". رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أبي داود من حديث أبي سعيد: فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال:"خذوا مقاعدكم" فأخذنا مقاعدنا، فقال:"إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل".
وفي حديث أبي هريرة: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء
وفي حديث ابن عمر في هذه القصة: حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ونحوه في حديث ابن عباس، وهو محمول على أن الذي رقد بعضهم لا كلهم، ونسبة الرقاد إلى الجميع مجاز، "فخرج صلى الله عليه وسلم فقال" لأهل المسجد:"ما ينتظرها" أي: الصلاة في هذه الساعة "من أهل الأرض أحد غيركم"، "بالرفع" صفة أحد "والنصب" على الاستثناء، قاله المصنف، "قال" أي: الراوي وهو عائشة: "ولا تصلى"، "بضم الفوقية وفتح اللام المشددة" أي: العشاء في جماعة "يومئذ إلا بالمدينة" لأن من كان بمكة من المستضعفين لم يكونوا يصلون إلا سرا، وأما غير مكة والمدينة من البلاد فلم يكن الإسلام دخلها، "وكانوا" أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه "يصلون فيما بين أن يغيب الشفق" الأحمر المنصرف إليه الاسم "إلى ثلث الليل الأول"، "بالجر صفة لثلث"، وفي هذا بيان الوقت المختار لصلاة العشاء لما يشعر به السياق من المواظبة على ذلك، وقد ورد بصيغة الأمر في هذا الحديث عند النسائي، بلفظ: ثم قال: "صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل". وليس بين هذا وبين قوله في حديث أنس أنه أخرها إلى نصف الليل معارضة، لأن حديث عائشة محمول على الأغلب من عادته صلى الله عليه وسلم كما في الفتح.
"زاد في رواية" عن عائشة أعتم صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء، "وذلك قبل أن يفشو الإسلام" أي في غير المدينة، وإنما فشا الإسلام في غيرها بعد فتح مكة.
"وفي رواية" عن ابن عباس: أعتم صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا، ورقدوا واسيتقظوا، فقام عمر، فقال: الصلاة، "فخرج" نبي الله "ورأسه يقطر ماء" تمييز محول عن الفاعل، أي ماء رأسه، قال الحافظ: وكأنه اغتسل قبل أن يخرج، "يقول":"لولا أن أشق على أمتي -أو: على الناس " شك الراوي "لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة" ليقل حظ النوم وتطول مدة
إلى ثلث الليل أو نصفه". صححه الترمذي.
فعلى هذا: من وجد به قوة على تأخيرها ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين فالتأخير في حقه أفضل.
وقد قرر ذلك النووي في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم.
وقال الطحاوي: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد.
الصلاة فيكثر أجرهم، لأنهم في صلاة ما داموا ينتظرون الصلاة، "رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري ومسلم" الرواية الأولى عن عائشة، والثانية عن ابن عباس، وزاد مسلم عقب حديث عائشة، قال ابن شهاب: وذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وما كان لكم أن تنزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة". وذلك حين صاح عمر، وقوله:"تنزروا"، "بفتح الفوقية وسكون النون وضم الزاي بعدها راء" أي: تلحوا، وروي بضم أوله فموحدة فراء مكسورة فزاي، يعني: تخرجوا.
"وفي رواية أبي داود" والنسائي وأحمد وابن خزيمة وغيرهم "من حديث أبي سعيد" صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة "فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل" أي: قريب من نصفه، "فقال":"خذوا مقاعدكم" أي اجلسوا، "فأخذنا مقاعدنا، فقال: "إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم". أي ناموا، "وإنكم لن تزالوا في صلاة" أي: ثوابها "ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف" خلفه، "وسقم السقيم" مرض المريض أسقط من حديث أبي سعيد المذكور: "وحاجة ذي الحاجة". "لأخرت هذه الصلاة" أي: العشاء "إلى شطر الليل" أي: نصفه.
"وفي حديث أبي هريرة": "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" يحتمل الشك وغيره "صححه الترمذي" وخوف المشقة إنما يرفع طلب الراجحية، لأن الحكم باق لمن تكلفها، ففيه فضل التأخير، لأنه نبه على تفضيله بتصريحه أن ترك الأمر به إنما هو للمشقة، "فعلى هذا من وجد به قوة على تأخيرها ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين، فالتأخير في حقه أفضل، وقد قرر ذلك النووي في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث، من الشافعية وغيرهم" ونقل ابن المنذر عن الليث، وإسحاق أن المستحب تأخير العشاء إلى قبل الثلث.
"وقال الطحاوي: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك" في رواية "وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد" أي: الذي قاله بمصر، "وقال في القديم" الذي قاله
وقال في القديم: التعجيل أفضل. وكذا قال في "الإملاء" وصححه النووي وجماعة، وقالوا: إنه مما يفتى به على القديم.
وتعقب: بأنه ذكره في "الإملاء" وهو من كتبه الجديدة.
والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، قاله في فتح الباري.
الفصل الثالث: في ذكر كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم
وفيه فروع:
الفرع الأول: في صفة افتتاحه صلى الله عليه وسلم
روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة،
بالعراق: "التعجيل" أو الوقت "أفضل".
"وكذا قال في الإملاء وصححه النووي وجماعة، وقالوا: إنه مما يفتي به على القديم، وتعقب بأنه ذكره في الإملاء، وهو من كتبه الجديدة" فليس على القديم فقط وحاصله أنه قال بالقولين في الجديد، فيترجح التعجيل بموافقة القديم، "والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير" ولا يعارضة فضيلة أول الوقت لما في الانتظار من الفضل "قاله في فتح الباري" وأسقط منه ومن حيث، أي: والمختار من حيث النظر التفصيل والله أعلم انتهى.
والمعتمد عند المالكية والشافعية تفضيل التقديم، وقد جاء ما يدل على نسخ التأخير، روى أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي بكرة، قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء تسع ليال، فقال له أبو بكر، أي: الصديق، يا رسول الله! لو أنك عجلت بنا لكان أمثل لقيامنا بالليل، فكان بعد ذلك يعجل.
وقال ابن بطال: لا يصلح التأخير الآن للأئمة، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، وقال:"إن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة". فترك التطويل عليهم بالانتظار أولى.
الفصل الثالث: في ذكر كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم
أي: الصفة المتعلقة بها أعم من كونها قائمة بالصلاة أو مقدمة عليها، فلا يرد عدة من جملة الصفة أقامها الله وأدامها، "وفيه فروع الأول في صفة افتتاحه صلى الله عليه وسلم" أي: وما يفعله من التكبير والتعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين، ولعله تجوز بالافتتاح عن مطلق السنن التي تفعل في الصلاة.
"روى أبو داود" عن أبي أمامة، أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا
قال: "أقامها الله وأدامها".
وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير. رواه عبد الرزاق من حديث عائشة.
وروى البخاري عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير في الصلاة.
واستدل به على تعين لفظ "التكبير" دون غيره من ألفاظ التعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف.
وعن الحنفية: تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم.
وقد روى البزار بإسناد صحيح، على شرط مسلم، عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال:"الله أكبر".
يقيم الصلاة" لفظ أبي داود، أن بلالا أخذ في الإقامة، "فلما قال: قد قامت الصلاة، قال" النبي صلى الله عليه وسلم:"أقامها الله وأدامها" دعاء أو خبر، والظاهر الأول، قال الشارح: وفيه دلالة على أن بلالا أقامها بمعرفته عليه الصلاة والسلام، لأنه لا يفعلها بدون إشارة منه، كذا قال. "وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير" أي: قول: الله أكبر، فلا يجزي غيرها، ولو قال: الله الكبير. لفوت مدلول أفعل التفضيل بناء على أن معناه أكبر من أن يدرك كنه عظمته، وقيل: إنه بمعنى الكبير، فلا فرق بينهما إلا بأن المسموع المعروف في عرف الشرع واللغة: الله أكبر، والمحل محل اتباع؛ لحديث:"صلوا كما رأيتموني أصلي". كما قرره عياض وغيره، "رواه عبد الرزاق من حديث عائشة" رضي الله عنها.
"وروى البخاري عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير" نصب بنزع الخافض، أي: بالتكبير "في الصلاة، واستدل به على تعين لفظ التكبير دون غيره من ألفاظ التعظيم" كالعظيم والرحمن، "وهو قول الجمهور، وافقهم أبو يوسف" صاحب أبي حنيفة.
"وعن الحنفية تنعقد" الصلاة "بكل لفظ يقصد به التعظيم" ومن حجة الجمهور حديث رفاعة في قصة المسيء صلاته عند أبي داود، بلفظ: لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر، ورواه الطبراني، بلفظ: ثم يقول: الله أكبر، وحديث أبي حميد: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، فاعتدل قائما ورفع يديه، ثم قال:"الله أكبر". رواه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
"وقد روى البزار بإسناد صحيح على شرط مسلم عن علي" رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال": "الله أكبر". وهذا كخبر أبي حميد وابن عمر فيه بيان
ولأحمد والنسائي من طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر كلما وضع ورفع.
وليعلم أن تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل: شرط، وهو مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل: سنة، قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غير الزهري.
ولم يختلف أحد في إيجاب النية للصلاة. قال البخاري في أواخر الإيمان: باب ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: "الأعمال بالنية" فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة.
وقال ابن القيم في الهدي النبوي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: "الله أكبر". ولم يقل شيئا قبلها، ولا تلفظ بالنية، ولا قال: أصلي صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما، ولا أداء ولا قضاء، ولا فرض الوقت. قال:
أن التكبير قول: الله أكبر، فلو قال: أكبر الله أو غيره مما يخالف هذا اللفظ لم يعتد به، "ولأحمد والنسائي من طريق واسع بن حبان"، "بفتح المهملة والموحدة الثقيلة"، "أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال": كان يقول: "الله أكبر"، "كلما وضع ورفع، وليعلم أن تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل: شرط وهو مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل: سنة".
"قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غير الزهري" قال الحافظ، ونقله غيره عن سعيد بن المسيب الأوزاعي ومالك ولم يثبت عن أحد منهم صريحا، وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعا: تجزئه تكبيرة الركوع، نعم نقله الكرخي من الحنفية عن إبراهيم بن علية وأبي بكر بن الأصم، ومخالفتهما للجمهور كثيرة، "ولم يختلف أحد في إيجاب النية للصلاة،" أي وجوبها تجوز الآن الإيجاب خطاب الشارع والوجوب ما يتعلق بالمكلف، وهو المراد.
"قال البخاري في أواخر" كتاب "الإيمان باب ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: "الأعمال بالنية"، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة" إلى آخر كلامه، وقد سبق في أول هذا المقصد.
"قال ابن القيم في الهدي النبوي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: "الله أكبر". ولم يقل شيئا قبلها، ولا تلفظ بالنية" هذه واحدة، والثانية قوله:"ولا قال: أصلي" والثالثة "صلاة" والرابعة "كذا" أي: الصبح مثلا، والخامسة "مستقبل القبلة" والسادسة "أربع ركعات" والسابعة
وهذه عشر بدع لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أحد قط بإسناد صحيح، ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة ألبتة بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة. وقول الشافعي في الصلاة:"إنها ليست كالصيام فلا يدخل أحد فيها إلا بذكر" أي تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة، ولا أحد من الصحابة.
وعبارة الشافعي في كتاب المناسك: "ولو نوى الإحرام بقلبه، ولم يلب أجزأه، وليس كالصلاة، لأن في أولها نطقا واجبا" هذا نصه.
قال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص، وابن الرفعة في المطلب، والزركشي في الديباج وغيرهم: إنما أراد الشافعي بذلك تكبيرة الإحرام قطعا، انتهى.
وبالجملة: فلم ينقل أحد أنه عليه السلام تلفظ بالنية، ولا علم أحدًا من أصحابه التلفظ بها ولا أقره على ذلك، بل المنقول عنه في السنن أنه قال: "مفتاح
"إماما أو مأموما" والثامنة "ولا أداء" والتاسعة "ولا قضاء" والعاشرة "ولا فرض الوقت، قال: وهذه عشر بدع" علم عدها، "لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أحد قط بإسناد صحيح، ولا ضعيف ولا مسند" أي: موصول، "ولا مرسل لفظة واحدة ألبتة"، "بقطع الهمزة"، "بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة".
"وقول الشافعي في الصلاة: إنها ليست كالصيام، فلا يدخل أحد فيها إلا بذكر. أي: تكبيرة الإحرام" لأنها ذكر "ليس إلا"، أي: ليس شيء غير ذلك وهذا جواب إيراد على قوله ولا الأئمة الأربعة، يخالف قول الشافعي: لا يدخل فيها إلا بذكر، فأجاب بما حاصله أن التنوين للنوعية، أي: نوع خاص منه، وهو تكبيرة الإحرام، "وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله صلى الله عليه وسلم في صلاة واحة، ولا أحد من الصحابة" استبعاد لحمل كلام الشافعي على شيء من ذلك مع جلالته ومعرفته بالسنة وأقوال الصحابة وأفعالهم، "وعبارة الشافعي في كتاب المناسك: ولو نوى الإحرام بقلبه، ولم يلب أجزأه" يعني: انعقد "وليس كالصلاة، لأن في أولها نطقا واجبا. هذا نصه".
"قال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص، وابن الرفعة في المطلب، والزركشي في الديباج" أي: شرحه الصغير على المنهاج "وغيرهم: إنما أراد الشافعي بذلك" أي: قوله في أولها نطقا "تكبيرة الإحرام قطعا" لقوله واجبا "انتهى".
"وبالجملة: فلم ينقل أحد أنه عليه السلام تلفظ بالنية، ولا علم أحدًا من أصحابه التلفظ بها ولا أقره على ذلك، بل المنقول عنه في السنن" لأبي داود والترمذي وابن ماجه
الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لما علم المسيء صلاته قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن". فلم يأمره بالتلفظ بشيء قبل التكبير.
نعم اختلف العلماء في التلفظ بها: فقال قائلون: هو بدعة؛ لأنه لم ينقل فعله.
وقال آخرون: هو مستحب؛ لأنه عون على استحضار النية القلبية، وعبادة
بإسناح حسن عن علي "أنه" صلى الله عليه وسلم "قال": "مفتاح الصلاة" أي: مجوز الدخول فيها "الطهور"، "بضم الطاء وفتحها" روايتان، كما أفاد الولي العراقي، قال: والأظهر الفتح، لأن الماء مفتاح واستعماله فتح، وقال غيره: بضمها الفعل، وبفتحها آلته، لأن الفعل لا يمكن بدون آلته "وتحريمها التكبير" أي سبب كون الصلاة محرمة ما ليس منها التكبير، وأصل التحريم المنع، سمى الدخول فيها تحريما لأنه يحرم الكلام وغيره، وتمسك به الحنفية على أن التكبير ليس من الصلاة، إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه.
وأجيب بأنه قد يضاف الجزء إلى الجملة، كدهليز الدار، "وتحليلها" وهو جعل المحرم حلالا "التسليم" لتحليله ما كان حراما على المصلي، أي أنها صارت بهما كذلك، فهما مصدران مضافان إلى الفاعل.
قال الخطابي فيه: إن التسليم ركن للصلاة كالتكبير، وإن التحلل إنما يكون به دون الحدث والكلام، لأنه عرف بأل، وعينه كما عين الطهور، وعرفه فانصرف إلى الطهارة المعروفة، والتعريف بأل مع الإضافة يوجب التخصيص، ففيه رد على الحنفية.
وقال الطيبي: شبه الشروع في الصلاة بالدخول في حريم الملك المحمي عن الأغيار، وجعل فتح باب الحريم بالتطهير عن الأدناس والأوضار، وجعل الالتفات إلى الغير والشغل به تنبيها على التكمل بعد الكمال.
"وفي الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، "أنه صلى الله عليه وسلم لما علم المسيء صلاته" هو خلاد بن رافع الزرقي، "قال له":"إذا قمت إلى الصلاة فكبر" تكبيرة الإحرام، "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" أي: الفاتحة، لأنها متيسرة لكل أحد، وعند أبي داود:"ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله"، ولأحمد وابن حبان:"ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت، ثم اركع". "فلم يأمره بالتلفظ بشيء قبل التكبير" وذلك دليل على أنه ليس بمطلوب.
"نعم اختلف العلماء في التلفظ بها، فقال قائلون: هو بدعة، لأنه لم ينقل فعله" كما سبق، "وقال آخرون: هو مستحب، لأنه عون على استحضار النية القلبية وعبادة اللسان،
اللسان، كما أنه عبودية القلب، والأفعال المنوية عبودية الجوارح. وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقي الدين السبكي والحافظ عماد الدين بن كثير.
وأطنب ابن القيم -في غير الهدي- في رد الاستحباب، وأكثر في الاستدلال بما ذكره طول يخرجنا عن المقصود، لا سيما والذي استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها.
وقاسه بعضهم على ما في الصحيحين، من حديث أنس: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا، يقول:"لبيك عمرة وحجا". وفي البخاري من حديث عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وهو بوادي العقيق: "أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة". وهذا
كما أنه عبودية القلب، والأفعال المنوية عبودية الجوارح، وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقي الدين" علي بن عبد الكافي "السبكي والحافظ عماد الدين بن كثير، وأطنب ابن القيم في غير الهدي في رد الاستحباب، وأكثر من الاستدلال بما في ذكره طول يخرجنا عن المقصود" من الاختصار، "لا سيما والذي استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها" بأن يقول: أصلي الظهر مثلا فرضا لله أربع ركعات: أداء أو قضاء مستقبل القبلة، هذا جملة ما يستحب النطق به عند الشافعية، "وقاسه بعضهم على ما في الصحيحين من حديث أنس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا، يقول:"لبيك عمرة وحجا"، والجامع بينهما وبين الصلاة أن كلا عبادة لها نية، وقد نطق به في الإحرام، فيقاس عليه إحرام الصلاة.
"وفي البخاري" في الحج والمزارعة والاعتصام "من حديث عمر" بن الخطاب: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بوادي العقيق" أي: فيه وهو بقرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال: "أتاني الليلة آت" هو جبريل "من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك" أي: وادي العقيق، وعند ابن عدي عن عائشة مرفوعا:"تخيموا العقيق، فإنه مبارك". "بخاء معجمة وتحتية" أمر بالتخييم، أي النزول به، لكن حكى ابن الجوزي عن حمزة الأصبهاني أنه تصحيف، والصواب بالفوقية وله اتجاه، لأن في معظم الطرق ما يدل على أنه من الخاتم، وقد وقع في حديث عمر:"تختموا بالعقيق، فإن جبريل أتاني به من الجنة". الحديث وأسانيده ضعيفة، "وقل عمرة في حجة" برفع عمرة للأكثر، وبنصبها لأبي ذر على حكاية اللفظ، أي: قل جعلتها عمرة، وأبعد من قال معناه عمرة مدرجة في حجة، أي: أن عمل العمرة يدخل في عمل الحج فيجزي لهما طواف واحد، ومن قال: معناه أنه معتمر في تلك السنة بعد
تصريح باللفظ، والحكم كما ثبت بالنص يثبت بالقياس.
لكن تعقب هذا بأنه عليه السلام قال ذلك في ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك، وامتثالا للأمر الذي جاءه من ربه تعالى في ذلك الوادي، ولقد صلى عليه السلام أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال: نويت أصلي صلاة كذا وكذا، وتركه سنة، كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوي بين ما فعله وتركه، فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله، والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما على الآخر. انتهى ما قاله هذا المتعقب فليتأمل.
فراغ حجه، وهذا أبعد مما قبله، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، نعم يحتمل أنه أمر أن يقول ذلك لأصحابه ليعلمهم مشروعية القرآن، وهو كقوله: دخلت العمرة في الحج، قاله الطبري واعترضه ابن المنير، بأنه ليس نظيره، لأنه تأسيس قاعدة، وقوله: عمرة في حجة بالتنكير يستدعي الوحدة، وهو إشارة إلى الفعل الواقع من القرآن إذ ذاك، ويؤيده رواية البخاري في الاعتصام، بلفظ: عمرة وحجة بواو العطف، قاله كله الحافظ، وعلى رواية رفع عمرة، فهي خبر مبتدأ محذوف، أي قل هذه عمرة في حجة كما في شرح المصنف، "وهذا تصريح باللفظ، والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس" إذ هو من الأدلة.
"ولكن تعقب هذا بأنه عليه السلام قال ذلك في ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك" لأن الأصح أنه كان مفردا "وامتثالا للأمر الذي جاءه من ربه تعالى في ذلك الوادي، ولقد صلى عليه السلام أكثر من ثلاثين ألف صلاة، فلم ينقل عنه أنه قال: "نويت أصلي صلاة كذا وكذا" أي: الصبح أو الظهر مثلا، "وتركه سنة" في حقنا، يعني: أن ما تركه يسن لنا تركه إن لم يقم دليل آخر على طلبه منا، "كما أن فعله سنة" يسن لنا اتباعه فيه إلا لدليل على أنه من خصائصه، "فليس لنا أن نسوي بين ما فعله وتركه، نأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتي به في الموضع الذي فعله" لأنه خلاف السنة، "والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما على الآخر" لاختلاف أحكامهما، فلا يصح القياس.
"انتهى ما قاله هذا المتعقب فليتأمل" فإن في منعه القياس نظرا، فالجامع بينهما أن كلا عبادة، وعدم نقل ذلك عنه لا ينهض لاحتمال أنه كان يسير بالنية، إذ لا يطلب الجهر بها، هذا وجه أمره بالتأمل، وفيه أن كل عبادة أشار هو إلى منعه بالفرق، بينهما واحتمال إسراره يلزم
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك. وفي رواية: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، وقال:"سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد".
منه الاحتجاج بالاحتمال مع أنه لا يحتج به عند أحد، "وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة" أي: شرع فيها "رفع يديه حتى يكونا" بتحتية، ولأبي ذر بفوقية "حذو" بحاء مهملة وذال معجمة ساكنة، أي مقابل، "منكبيه" تثنية منكب، وهو مجمع عظم العضد والكتف، وبهذا قال الجمهور ومالك والشافعي، وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن حويرث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كبر، ثم رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، رواه مسلم، وفي لفظ له: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه، ورجح الأول بأنه أصح إسنادا، واتفق عليه الشيخان، "ثم يكبر" للإحرام، وهذا لفظ مسلم، وبه قال الحنفية، وقال غيرهم: ثم للترتيب في الذكر لرواية البخاري يرفع يديه حين يكبر، وهو حديث واحد، وقد رواه الشيخان: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، فالرفع مقارن للتكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، كما هو قضية المقارنة، وهذا هو الأصح عند المالكية والشافعية وبه صرح أيضا في رواية أبي داود عن وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه مع التكبير، وقال صاحب الهداية من الحنفية: الأصح يرفع ثم يكبر، لأن الرفع صفة نفي الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك له، والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة.
قال الحافظ: وهو مبني على أن ذلك حكمة الرفع، وقيل: حكمة اقترانهما أن يراه الأصم ويسمعه الأعمى وقيل: الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة، وقيل: إلى الاستسلام والانقياد ليناسب فعله قوله: الله أكبر، وقيل: إلى استعظام ما دخل عليه، وقيل: إلى تمام القيام، وقيل: إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود، وقيل: ليستقبل بجميع بدنه.
قال القرطبي: هذا أشبهها، "فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك" أي: رفع يديه حذو منكبيه مع التكبير "وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك".
"وفي رواية: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما" أي: يديه، "كذلك أيضا" حذو منكبيه "وقال":"سمع الله لمن حمده" معنى سمع هنا أجاب، والمعنى أن من حمده متعرضا لثوابه أجابه وأعطاه ما تعرض له "ربنا ولك الحمد" الرواية بثبوت الواو أرجح، وهي زائدة وعاطفة على محذوف، أي: حمدناك، أو هي واو الحال، ورجحه ابن الأثير، وفيه أن الإمام يجمع بينهما، لأن غالب أحواله صلى الله عليه وسلم الإمامة وبه قال الشافعي وجماعة أن المصلي مطلقا يجمع بينهما.
وفي أخرى: نحوه، وقال: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع من السجود. رواه البخاري ومسلم.
وعند أبي داود من حديث علقمة: كان إذا قام من سجدتين، كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح وهو قطعة من حديث رواه الترمذي أيضا.
وكان يكبر في كل خفض ورفع. رواه مالك.
وقال مالك وأبو حنيفة: يقول الإمام: سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم: ربنا لك الحمد فقط، لحديث إذا قال الإمام:"سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد". فقصر الإمام على قول ذلك، والمأموم على قول الآخر، وهذه قسمة منافية للشركة، كحديث "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وأجابوا عن هذا الحديث بحمله على صلاته صلى الله عليه وسلم منفردا، أو على صلاته النافلة جمعا بين الحديثين، والمنفرد يجمع بينهما على الأصح، "وفي أخرى نحوه" نحو ما ذكر، لأنه حديث متحد المخرج اختلف ألفاظ رواته.
"وقال" أي زاد، "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع من السجود" فقوله في رواية: ولا يفعل ذلك في السجود، أي: لا في الهوي إليه ولا في الرفع منه بدليل هذه الرواية.
قال الحافظ: وهذا يشمل ما إذا نهض من السجود إلى الثالثة والرابعة والتشهدين، ويشمل ما إذا قام إلى الثالثة بلا تشهد، لأنه غير واجب، وإذا قلنا باستحباب جلسة الاستراحة، لم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عن القيام منها إلى الثالثة والرابعة.
لكن روى الدارقطني بإسناد حسن عن ابن عمر هذا الحديث، وفيه:"ولا يرفع بعد ذلك"، فظاهره يشمل النفي عما عدا المواطن الثلاثة، "رواه البخاري ومسلم" من طرق تدور على ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر.
"وعند أبي داود من حديث علمقة: كان إذا قام من سجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح" أي: إذا قام من السجدتين في الركعة الثانية عند القيام من التشهد الأول، فيوافق حديث ابن عمر الآتي قريبا، ولا يخالف ظاهره ما قبله، "وهو قطعة من حديث رواه الترمذي أيضا، وكان يكبر في كل خفض" للركوع والسجود، "ورفع" لرأسه من السجود لا من الركوع، لأنه كان يقول:"سمع الله لمن حمده". كما مر في حديث ابن عمر، "رواه مالك" عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين مرسلا، وزاد: فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله، وأخرجه أيضا عن ابن شهاب، عن أبي سلمة أن أبا هريرة كان يصلي لهم، فكبر كلما
وقال النووي: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها.
فقال: الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة: يستحب أيضا رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه. وهو رواية عن مالك.
وللشافعي قول: أنه لا يستحب رفعهما في موضع رابع وهو: إذا قام من التشهد الأول. وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم
خفض ورفع، فلما انصرف قال: والله إني لأشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه من طريقه الشيخان، والحكمة فيه تجديد العهد في أثناء الصلاة بالتكبير الذي هو شعار النية المأمور بها في أول الصلاة المقرونة بالتكبير، التي كان من حقها أن تستصحب إلى آخر الصلاة، قاله الناصر بن المنير.
"قال النووي: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام" واعترض عليه، بأن اللخمي حكى في التبصرة رواية عن مالك أنه لا يستحب، وحكاه الباجي عن كثير من متقدمي المالكية، وبأن الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري، وابن خزيمة وداود وبعض الشافعية والمالكية قالوا بوجوبه، فأين الإجماع؟ ولذا كان أسلم العبارات قول ابن عبد البر: أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وقول ابن المنذر: ولم يختلفوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة.
قال ابن عبد البر: وكل من نقل عنه الوجوب لا يبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي، وهذا شذوذ وخطأ، "واختلفوا فيما سواها، فقال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء: يستحب أيضا رفعهما عند الركوع وعند الرفع عنه" عملا بحديث ابن عمر، "وهو رواية عن مالك" رواها عنه ابن وهب وأشهب وأبو مصعب وغيرهم بل قال محمد بن عبد الحكم: لم يرو أحد عن مالك تلك الرفع فيهما إلا ابن القاسم، والذي نأخذ به الرفع لحديث ابن عمر، وأجاب الأصيلي بأن مالكا لم يأخذ به، لأن نافعا وقفه على ابن عمر، وهو أحد الأحاديث الأربعة، التي وقفها نافع ورفعها سالم، يعني: فلما اختلفا وهما ثقتان جليلان ترك مالك في المشهور عنه القول باستحباب ذلك في المحلين، لأن الأصل صيانة الصلاة عن الأفعال، وبهذا تعلم تحامل الحافظ في قوله: لم أر للمالكية دليلا ولا متمسكا إلا قول ابن القاسم، "وللشافعي قول أنه لا يستحب رفعهما في موضع رابع، وهو: إذا قام من التشهد الأول، وهذا القول هو الصواب" أي: المشهور، لكن الحافظ نازع النووي في أن الشافعي نص عليه، بأنه قال في الأم لا نأمره برفع يديه في شيء من الذكر في الصلاة التي لها ركوع وسجود إلا في
أنه كان يفعله. رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى، رواه أبو داود.
ومذهب الشافعي والأكثرين: أن المصلي يضع يديه تحت صدره فوق سرته.
وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي تحت سرته.
هذه المواضع الثلاثة، وقال الخطابي: لم يقل به الشافعي وهو لازم على أصله في قبول الزيادة، "فقد صح فيه حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله رواه البخاري" من رواية عبد الأعلى، عن عبيد الله، عن نافع، وأبو داود من رواية محارب بن دثار، كلاهما عن ابن عمر.
لكن قال أبو داود: رواه الثقفي، يعني: عبد الوهاب والليث وابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا وهو الصحيح، وحكى الإسماعيلي أن بعض شيوخه أومأ إلى أن عبد الأعلى أخطأ في رفعه، لكن له شواهد منها حديث علي وحديث أبي حميد، رواهما أبو داود وصححهما ابن خزيمة وابن حبان، وقال البخاري في جزء اليدين ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة صحيح لم يحكموا صلاة واحدة، فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم.
"وكان صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى" في الصلاة، "رواه أبو داود" عن وائل بن حجر، بلفظ: ثم وضع يديه اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ من الساعد، وصححه ابن خزيمة وغيره، والرسغ:"بضم الراء وسكون المهملة، فمعجمة" المفصل بين الساعد والكف.
"ومذهب الشافعي والأكثرين أن المصلي يضع يديه تحت صدره فوق سرته" لرواية ابن خزيمة عن وائل أنه وضعهما على صدره، وللبزار عند صدره.
"وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي: تحت سرته" لما في زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة وإسناده ضعيف.
قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع، ومن اللطائف، قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل عليه يديه.
قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف، وقاله جمهور الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك وغيره، وروى ابن القاسم عنه الرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه: التفرقة بين الفريضة، فيكره القبض والنافلة فيجوز،
وكان عليه الصلاة والسلام يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، فقال له أبو هريرة: بأبي أنت وأمي، إسكاتتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج
"وكان عليه الصلاة والسلام يسكت بين التكبير والقراءة".
قال الحافظ: ضبطناه "بفتح أوله" من السكوت، وحكى الكرماني عن بعض الروايات "بضم أوله من الإسكان" قال الجوهري: يقال تكلم الرجل ثم سكت بغير ألف، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم، قيل: أسكت "إسكاتة"، "بكسر أوله وزن إفعالة" من السكوت، وهو من المصادر الشاذة نحو أتيته إتيانه.
قال الخطابي: معنا سكوت يقتضي بعده كلاما مع قصر المدة فيه، وسياق الحديث يدل على أنه أراد السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو السكوت عن القراءة لا عن الذكر، "فقال له أبو هريرة: بأبي أنت وأمي"، "الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل" أي: أنت مفدي، أو أفديك فيه جواز قول ذلك، وزعم بعضهم، أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم "إسكاتتك"، "بكسر أوله والرفع على الابتداء".
وقال المظهري "بالنصب مفعول بفعل مقدر" أي: أسألك إسكاتتك، أو على نزع الخافض، والذي في روايتنا بالرفع للأكثر وللمستملي والسرخسي "بفتح الهمزة وضم السين" على الاستفهام.
وفي رواية الحميدي: ما تقول في سكتك "بين التكبير والقراءة"؟ ولمسلم: أرأيت سكوتك، وكله مشعر بأن هناك قولا، لأنه قال:"ما تقول" أي: فيه، ولم يقل: هل تقول، ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم، كما استدل غيره على القراءة بحركة اللحية، قاله ابن دقيق العيد، "قال":"أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب" المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي منها، وهو مجاز، لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنه أراد أن لا يبقى لها منه اقتراب بالكلية.
وقال الكرماني: كرر لفظ بين، لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض، "اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" نقني مجاز عن زوالها ومحو أثرها، ولما كان الدنس في الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به، قاله ابن دقيق العيد:"اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد".
والبرد". رواه البخاري ومسلم.
وعن علي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة -وفي رواية: إذا افتتح الصلاة- كبر، ثم قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من
قال الخطابي: ذكرهما تأكيدا، ولأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال، وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، قال: ويحتمل أن المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو، وكأنه كقوله تعالى:{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة: 286] ، وأشار الطيبي إلى هذا بحثا، فقال: يمكن أن المطلوب من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم: برد الله مضجعه، أي رحمه ووقاه عذاب النار. انتهى.
ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أوفى عند مسلم، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه.
وقال التوربشتي: خص هذه الثلاثة بالذكر، لأنها منزلة من السماء، وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي. انتهى.
وكان تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل، وهذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل: قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بأنه لو أراد ذلك بالجهر به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحواله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين، وفيه مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافا للمشهور عن مالك انتهى من فتح الباري.
"رواه البخاري ومسلم" من حديث أبي هريرة "وعن علي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة" المكتوبة "وفي رواية" لمسلم أيضا عن علي: كان "إذا افتتح الصلاة كبر" تكبيرة الإحرام، "ثم قال" قبل الشروع في الفاتحة، وللترمذي: وقال حسن صحيح عن علي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة المكتوبة رفع يديه، ويقول حين يفتتح الصلاة بعد التكبير:"وجهت وجهي" أي: صرفت جملتي وأخلصت نيتي في العبادة "للذي فطر السموات والأرض حنيفا" حال كوني مائلا عن جميع الأديان غير الإسلام بريئا عن كل المعبودات.
المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك". الحديث
زاد الدارقطني في روايته مسلما، وكأنه تفسير حنيفا "وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي" الذبح في الحج والعمرة، أو الحج نفسه أو عبادتي كلها، "ومحايي ومماتي" حياتي وموتي، يعني: جميع طاعتي في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح خالصا "لله رب العالمين لا شريك له وبذلك" القول والإخلاص، "أمرت وأنا من المسلمين" المتمكنين في الإسلام، وفوضوا أمروهم لله تعالى، وفي الطريق الثانية عند مسلم، وأنا أول المسلمين كما في التنزيل لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته، وكذا في رواية جابر عند النسائي والدارقطني، "اللهم أنت الملك".
زاد في بعض طرق الحديث: الحق "لا إله إلا أنت" إثبات الإلهية المطلقة لله تعالى على سبيل الحصر بعد إثبات الملك له، كذلك في قوله: أنت الملك لما دل عليه تعريف الخبر باللام ترقيا من الأدنى إلى الأعلى زاد أبو رافع عند الطبراني: سبحانك وبحمدك، وإنما أخر الربوبية في قوله:"أنت ربي" لتخصيص الصفة وتقييدها بالإضافة إلى نفسه، "وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي" حال مؤكدة مقررة لمضمون الجملة السابقة اعترافا بالتقصير، "فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت" قدم قوله: ظلمت نفسي على سؤال المغفرة أدبا، كقول آدم وحواء:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف: 23] وقال ذلك تعليما وإرشادا لأمته، أو تواضعا، أو بحسب المقام، فإنه يرى مقامه بالأمس دون ما ارتقى إليه اليوم، فيستغفر من مقامه بالأمس، "واهدني لأحسن الأخلاق" أي: أرشدني لأفضلها وأكملها، "لا يهدي لأحسنها إلا أنت" وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجمع له ما تفرق في العالمين، حتى قال:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، "واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت" وقد أجابه عز وجل فلم يكن له خلق سيئ قط، "لبيك" إجابة لك بعد إجابة "وسعديك" مساعدة بعد مساعدة، وهما من المصادر التي لا تستعمل إلا مضافة مثناة، "والخير كله في يديك، والشر ليس إليك" أي: لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة تأدبا، لأنه وإن كان بقضائه وقدره وخلقه واختراعه، لكن ليس بمحبته ورضاه بخلاف الخير، فإنه بتقديره وإرادته ورضاه
رواه مسلم.
وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: "سبحانك الله وبحمدك،
ومحبته جميعا، فبالنظر إلى جانب المحبة والرضا يضاف إليه الخير، كما قال بيدك الخير وبالنظر إلى جانب القدرة والخلق والإرادة، يضاف إليه كلاهما، كما قال سبحانه:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه} [النساء: 78] ، والمقام يقتضي ذلك، فإنه طلب للهداية لأحسن الأخلاق والصرف عن سيئها، فناسب أن يقول: الخير كله في قبضة قدرتك ليس شيء منها في يد غيرك، فأنت الهادي إليها لا يهدي إليه إلا أنت، وبهدايتك يحصل الاهتداء الذي هو العمدة في الأمور وهو الوسيلة للتقرب إليك، والشر ليس يتقرب به إليك.
وقد زاد الشافعي في روايته حديث علي والمهدي من هديته، وفيه تلميح إلى ما ذكر:"أنا بك وإليك" أي: أنا أستعين بك في أداء ما وجب علي، وأتقرب بعد القيام به إليك، وقول النووي معناه التجائي وانتمائي وتوفيقي بك، تعقب بأن تقديره هذا يومئ إلى أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والأصل وأنا إليك وبك، وهذا لا يحتاج إليه فالوجه ما سبق وأيضا سياق الكلام يدل على أنه طلب الهداية إلى أحسن الأخلاق والصرف عن مساويها، وذكر أن الخير من عنده وكله في يده، والشر ليس مضافا إليه محبة ورضا، ث ذكر أن استعانته في الأخذ بمحاسن الأخلاق والاجتناب عن الرذائل به تعالى وتقربه بتحصيل ذلك إليه، فهذا بمنزلة النتيجة لما تقدمه من الكلام، ولهذا ترك العاطف وأخرجه مخرج الاستثناء، فكأنه قيل له: إذا أعطيناك ما طلبته ما تعمل به، فقال: أستعين بك في التحصيل وأتقرب به إليك، بعد الحصول، زاد الشافعي:"لا ملجأ منك إلا إليك". وكذا في رواية أبي رافع عند الطبراني. "تباركت" تعاظمت "وتعاليت" عما تتوهمه الأوهام وتتصوره العقول "أستغفرك وأتوب إليك". الحديث. ذكر في بقيته دعاءه في الركوع والرفع منه، وفي السجود وما بين التشهد والسلام، "رواه مسلم" باللفظ الذي ساقه المصنف بالحرف من حديث علي، ورواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن علي أيضا، والنسائي والدارقطني عن جابر، والنسائي عن محمد بن مسلمة، والطبراني عن أبي رافع، وفي روايتهم بعض زيادة ونقص وعجب قول القائل، ما ذكره المصنف بيان لمجموع رواياتهم من غير بيان ما لكل واحد على انفراده مع أن المصنف إنما عزا لصحابي واحد وراو واحد، فإنما يتأتى ما زعمه لو عزا لمتعدد وأجمل، قال النووي: فيه استحباب الاستفتاح بما في هذا الحديث إلا أن يكون إماما لقوم لا يؤثرون التطويل.
"وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال" بعد تكبيرة الإحرام: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك" تنزه جلاله وعظمته عما نسب إليه، "ولا إله غيرك".
وتبارك اسم وتعالى جدك ولا إله غيرك" رواه الترمذي وأبو داود.
وعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال: "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، أعوذ بالله من الشيطان، من نفخه ونفثه وهمزه" قال ابن عمر: نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزه الموتة. رواه أبو داود.
قال: حدثنا عمرو بن مرزوق قال: أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن جبير بن مطعم عن أبيه وأخرجه أيضا من وجه آخر عن عمرو بن مرة بإسناده عن جبير سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في التطوع، وذكر نحوه. انتهى.
وعن محمد بن مسلمة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعا
رواه الترمذي وأبو داود" ونقل الساجي عن الشافعي استحباب الجمع بينه وبين التوجه، واختاره ابن خزيمة وجماعة من الشافعية، وحديث أبي هريرة أصح ما ورد في ذلك، قاله الحافظ.
"وعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة" قال عمرو: ولا أدري أي صلاة هي، كذا في أبي داود، وهو محتمل أنه شيخه عمرو بن مرزوق، أو شيخ شيخه عمرو بن مرة، وكل بفتح العين، "قال" في افتتاحها:"الله أكبر كبيرا والحمد لله كثير، وسبحان الله بكرة" بالضم أول النهار "وأصيلا" ثلاثا كما في أبي داود، وذكرها ثلاثا باللفظ في الجملتين قبلها "أعوذ" أعتصم "بالله من الشيطان من نفخه"، "بفاء وخاء معجمة"، "ونفثه وهمزه".
"قال ابن عمر" مفسرا كذا في النسخ وصوابه عمرو كما في أبي داود، أي شيخه أو شيخ شيخه، ما ابن عمر فلا ذكر له في هذا الحديث:"نفخه الكبر" أي حمله عليه "ونفثه الشعر" سمي نفثا كالشيء ينفثه الإنسان من فيه، كالرقية، قاله الهروي "وهمزه الموتة""بضم الميم وإسكان الواو" بلا همز ضرب من الجنون كما صرح به السهيلي وغيره.
قال الهروي: سمي الجنون همزا لأنه جعله من النخس والهمز، وكل شيء دفعته فقد همزته، "رواه أبو داود قال: حدثنا عمرو بن مرزوق، قال: أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي، عن جبير بن مطعم، عن أبيه، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن عمرو بن مرة بإسناده عن جبير: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في التطوع، وذكر نحوه. انتهى".
"وعن محمد بن مسلمة" الأنصاري: أكبر من اسمه محمد من الصحابة "قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعا" لا ينافي ذلك رواية الترمذي عن علي: كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة؛ لإمكان الجمع بأنه كان يقوله في المكتوبة والتطوع عملا بالحديثين،
قال: "الله أكبر، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين". وذكر الحديث مثل حديث جابر إلا أنه قال: "وأنا من المسلمين"، ثم قال:"اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك". ثم يقرأ. رواه النسائي.
الفرع الثاني: في ذكر قراءته عليه الصلاة والسلام للبسملة في أول الفاتحة
روي عن ابن عباس قال: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رواه أبو داود. وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك.
ورواه الحاكم عن ابن عباس قال: كان صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قال: صحيح.
وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة، وعدها آية، لكن روايه عمر بن هارون البلخي، وفيه ضعف عن
"قال": "الله أكبر وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين". "وذكر" محمد بن مسلمة "الحديث مثل حديث جابر" عند النسائي والدارقطني بنحو حديث علي المتقدم لفظه، فأحال عليه وإن لم يتقدم نقله عن جابر "إلا أنه قال":"وأنا من المسلمين" بدل قوله: "وأنا أول المسلمين". وهما روايتان عن علي في مسلم كما مر، "ثم قال:"اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك". ثم يقرأ. رواه النسائي" في سننه.
"الفرع الثاني: في ذكر قراءته عليه الصلاة والسلام للبسملة أو الفاتحة" أي: هل كان يقرأ بها أم لا، أو هل يجهر بها أو يسر "روي عن ابن عباس، قال: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، رواه أبو داود" وضعفه كما يأتي، "وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك" أي: لا يحتج به لضعفه، "ورواه الحاكم عن ابن عباس، قال: كان صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " بدل قوله يفتتح الصلاة، "ثم قال" الحاكم "صحيح" على عادته في التساهل، إذ كيف يصح مع ضعف إسناده، ولذا ضعفه أبو داود والترمذي.
"وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة هند بنت أبي أمية، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية، لكن روايه عمر"، "بضم العين" ابن هارون بن يزيد الثقفي مولاهم "البلخي" المتوفى سنة أربع وتسعين ومائتين "وفيه ضعف" بل قال في التقريب متروك وكان حافظا، "عن ابن جريج" عبد الملك بن عبد العزيز، "عن ابن أبي مليكة" بالتصغير هو عبد الله، بفتح العين ابن عبيد الله، بضمها ابن أبي مليكة، يقال: اسمه زهير، "عنها"،
ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنها.
وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله رب العالمين سبع آيات، إحداهن، البسملة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب".
ورواه الدارقطني عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله وقال: رواته كلهم ثقات.
وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها.
وعن شعبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون
أي: أم سلمة: فهذا تساهل مفرط من ابن خزيمة، إذ كيف يدخل في الصحيح من في إسناده ضعيف متروك.
"وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه" بفتح الميم وتكسر "في تفسيره، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله رب العالمين سبع آيات، إحداهن البسملة وهي السبع المثاني" في قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} عطف عام على خاص، أو مبتدأ حذف خبره، أي: الذي أوتيته ورجحه الحافظ المجيء رواية بذلك، ومر في الخصائص بسطه "وهي أم الكتاب، ورواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه" أي: بما يقرب منه "أو مثله" أي: بما يماثله، "وقال: رواته كلهم ثقات.
"وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة، أنهم فسروا قوله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها" وخالفهم غيرهم في العد من الصحابة وغيرهم فلم يعدوها منها، وإنما يكون قوله الصحابي حجة إذا لم يخالفه غيره من الصحابة خصوصا، وقد تأيد بنص النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى:"قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفي، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين". الحديث. وعدها سبعا، ولم يذكر البسملة، والحديث في مسلم وغيره: ولا عطر بعد عروس، "وعن شعبة" ابن الحجاج "عن قتادة" بن دعامة، "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة" الذي في البخاري الصلاة، قال الحافظ: أي القراءة في الصلاة، وقد رواه ابن المنذر والجوزقي بلفظ: كانوا يفتتحون القراءة، وكذا رواه
القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . رواه البخاري، أي كانوا يفتتحون بالفاتحة.
وفي رواية مسلم: فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . كذا أخرجه مسلم وغيره. لكنه حديث معلول أعله الحفاظ. كما هو في كتب علوم الحديث.
وفي شرح ألفية العراقي لشيخنا الحافظ أبي الخير السخاوي في باب العلل ما نصه: وعلة المتن القادحة فيه كحديث نفي قراءة البسملة في الصلاة المروي
البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وقال: إنها أبين من رواية القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "بضم الدال" على الحكاية، "رواه البخاري" حدثنا حفص بن عمر عن شعبة به، "أي: كانوا يفتتحون بالفاتحة" هذا قول من أثبت البسملة في أولها، ورد بأنها إنما تسمى الحمد فقط.
وأجيب: بمنع الحصر وسنده حديث: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني" رواه البخاري، وقيل: المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكا بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة وتجويز أنهم يقرءون البسملة سرا ممنوع، أنه محل النزاع.
وقد اختلف الرواة عن شبعة في لفظ الحديث. فرواه جماعة من أصحابه بلفظ البخاري.
"وفي رواية مسلم" من طريق أبي داود الطيالسي ومحمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة، عن قتادة عن أنس قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، "فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".
وفي مسلم من رواية الطيالسي عن شعبة: فقلت لقتادة: أنت سمعته من أنس؟ قال: نعم نحن سألناه "كذا أخرجه مسلم وغيره" كالخطيب من رواية حفص بن عمر شيخ البخاري فيه عن شعبة، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال هذا اضطراب من شعبة، لأنا نقول قد رواه جماعة من أصحاب قتادة باللفظين، ولا يرد أنه اضطراب من قتادة، لأن جماعة من أصحاب أنس رووه، كذلك قاله الحافظ ملخصا، "لكنه حديث معلول أعله الحفاظ كما هو" مذكور "في كتب علوم الحديث، وفي شرح ألفية العراقي" الحافظ عبد الرحيم زين الدين "لشيخنا الحافظ أبي الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي في باب العلل ما نصه" شرحا لقول النظم:
وعلة المتن كنفي البسملة
…
إذ ظن رواو نفيها فنقله
وصح أن أنسا يقول لا
…
احفظ شيئا فيه حين سئلا
"وعلة المتن" أي: لفظ الحديث "القادحة فيه، كحديث نفي قراءة البسملة في
عن أنس، إذ ظن راو من رواته حين سمع قول أنس: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، نفس البسملة، فنقله مصرحا بما ظنه وقال: ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها. وفي لفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا. والراوي لذلك مخطئ في ظنه.
ولذا قال الشافعي رحمه الله في الأم، ونقله عنه الترمذي في جامعه: المعنى أنهم يبدءون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرءون بعدها، لا أنهم يتركون البسملة أصلا.
ويتأكد بثبوت تسمية أم القرآن بجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} في صحيح البخاري، وكذا حديث قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة
الصلاة، المروي عن أنس" في صحيح مسلم وغيره، "إذ ظن راو من رواته حين سمع قول أنس: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان. فكانوا يفتتحون" القراءة أو الصلاة كما مر "بالحمد لله رب العالمين"، "بضم الدال" على الحكاية "نفي البسملة، فنقله مصرحا بما ظنه، وقال: ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها" مبالغة في نفيها، إذ لا قائل بأنها إذ لم تقرأ في أول الفاتحة تقرأ في آخرها، أو أراد لا تقرأ أول السورة التي بعد الفاتحة.
"وفي لفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا" لأن فيه النبي صلى الله عليه وسلم "والراوي لذلك مخطئ في ظنه ولذا" أي: خطئه في ظنه.
"قال الشافعي رحمه الله في الأم، ونقله عند الترمذي في جامعه: المعنى أنهم يبدءون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرءون بدها، لا أنهم يتركون البسملة أصلا" وهو تأويل مخالف لظاهر الحديث، وبعد ذلك يحتاج لإثبات أنهم كانوا يبسملون، إذ غاية ما في هذا التأويل أنه لا دليل فيه على تركها، فكذا لا دليل فيه على فعلها، "ويتأكد" يتقوى "بثبوت تسمية أم القرآن بجملة الحمد لله رب العالمين في صحيح البخاري" جواب عن سؤال بسطه في فتح الباري، فقال وتعقب، يعني هذا التأويل، بأنها إنما تسمى الحمد فقط.
وأجيب: بمنع الحصر، وسنده ثبوت تسميتها بجملة الحمد لله رب العالمين في البخاري، عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن". الحديث،
النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت مدا، ثم قرأ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يمد "بسم الله" ويمد "الرحمن" ويمد "الرحيم". أخرجه البخاري في صحيحه، وكذا صححه الدارقطني والدارمي وقال: إنه لا علة له، لأن الظاهر -كما أشار إليه أبو شامة- أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح في الصلاة بأي سورة وأجابه بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، سأله عن كيفية قراءته فيها، وكأنه لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة خصوصا وهو
وفيه: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني". انتهى.
لكن ولو سلم أنها تسمى بذلك أيضا، فليس فيه أن البسملة منها الذي هو المدعي، وقد روى مالك في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب:"إني لأرجو أن تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها". الحديث، وفيه أنه قال لأبي:"كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة" قال: فقرأت عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتيت على آخرها، فقال صلى الله عليه وسلم:"هي هذه السورة وهي السبع المثاني". الحديث، وقد قرأها أبي بلا بسملة بحضرته، فتأكد قول من قال: المراد يفتتحون بهذا اللفظ، "وكذا حديث قتادة قال: سئل أنس" "بضم السين" والسائل قتادة كما في رواية قبل هذه في البخاري عن قتادة، قال: سألت أنس بن مالك "كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كانت مدا" بغير همز، أي: ذات مد، أي: بمد الحرف الذي يستحق المد، "ثم قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد بسم الله" أي: اللام التي قبل هاء الجلالة، "ويمد الرحمن" أي: الميم التي قبل النون، "ويمد الرحيم" أي الحاء المد الطبيعي الذي لا يمكن النطق بالحرف إلا به من غير زيادة عليه لا كما يظن بعضهم من الزيادة عليه. نعم إذا كان حرف المد يتصل بكلمة أو سكون لازم، كأولئك والحاقة وجب زيادة المد، أو ينفصل عنها، أو سكون عارض كيا أيها والوقف على الرحيم جاز.
وقد أخرج ابن أبي داود عن قطبة بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر: {ق} ، فمد هذا الحرف {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فمد {نَضِيدٌ} ، قاله المصنف.
"أخرجه البخاري في صحيحه" في أواخر كتاب التفسير، "وكذا صححه الدارقطني والدارمي" في نسخه بدله والحازمي "وقال: إنه لا علة له" إطناب لعله جاء به دفعا لتوهم أن البخاري انفرد بتصحيحه، وأن مسلما لم يخرجه لعلة، وإلا فتصحيح البخاري كاف ولما كان الحديث ليس نصا في قراءة البسملة أول الفاتحة في الصلاة، إذ لا تصريح فيه بذلك، وقد قام الإجماع على استحباب ابتداء القراءة بها في غير الصلاة، فلا معنى لذكره هنا، أشار لبيان وجهه بقوله: "لأن الظاهر كما أشار إليه أبو شامة أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح في الصلاة بأي سورة وأجابه: بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، سأله عن كيفية قراءته فيها" ولا نسلم أن هذا الظاهر، إذ
السائل أولا.
وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه، وصحح الدارقطني أن أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أو بـ {بِسْمِ اللَّهِ} ؟ فقال: لا أحفظ فيه شيئا. قال وهذا مما يتأيد به خطأ النافي.
لا دليل في اللفظ عليه، بل الظاهر أنه سأله عن كيفية قراءته للقرآن من حيث هي، لا بقيد افتتاح الصلاة، وسأله أيضا عما كان يفتتح به الصلاة كما هو مدلول الحديثين، وإن أحدهما ليس مرتبا على الأول، ولو سلمنا ذلك فغايته التشبث بالاحتمال، فلا يفيد الدعوى أنها آية من الفاتحة تجب في الصلاة، "وكأنه" أي: أبا شامة "لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة، خصوصا وهو السائل أولا" عن حديث الافتتاح، وهذا مما يتعجب منه من مثل السخاوي، ثم من المصنف في إقراره، فإنه يعطي أن السائل المبهم لم يبين مع أنه مبين في رواية قبل هذه بلصقها في البخاري، بأنه قتادة كما مر، وليس هذا مراد أبي شامة، إنما مراده ترتب السؤال الثاني على الأول توصلا إلى مراده من إثبات الابتداء بالبسملة.
"وقد أخرج ابن زيمة" محمد بن إسحاق "في صحيحه، وصحح الدارقطني" أيضا "أن أبا مسلمة"، "بفتح الميم" سعيد "بكسر العين"، "بن يزيد"، "بتحتية قبل الزاي" ابن مسلمة الأزدي، البصري القصير، ثقة، من رجال الجميع، سأل أنسا: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أو بـ {بِسْمِ اللَّهِ} ؟ فقال: لا أحفظ فيه شيئا، قال: وهذا مما يتأيد به خطأ النافي"، لكن في فتح الباري، وأما من قدح في صحته، بأن أبا مسلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا عن هذه المسألة، فقال: إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك، ودعوى أبي شامة أن أنسا سأل عن ذلك سؤالين، فسؤال أبي مسلمة: هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمد؟ وسؤال قتادة: هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها؟ قال: ويدل عليه قول قتادة في مسلم: نحن سألناه. فليس بجيد، لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي مسلمة، والذي في مسلم، إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة ولم يبين صورة المسألة، وقد بينها أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد في روايتهم عن الطيالسي، عن شعبة، أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر، عن أبي جابر، عن شعبة، عن قتادة: سألت أنسا: أيقرأ الرجل في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فظهر اتحاد سؤال أبي مسلمة وقتادة، وغايته أن أنسا أجاب قتادة بالحكم دون أبي مسلمة، فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي مسلمة: ما سألني عنه أحد قبلك، أو قاله لهما معا، فحفظه قتادة
ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة منهم حميد وقتادة، والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة، إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم عن مالك عنه، بل ومن بعض أصحاب حميد عنه، فإنها في سائر الموطآت عن مالك: صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، لا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكذا الذي عند سائر أصحاب حميد عنه، إنما هو في الوقف خاصة. وبه صرح ابن معين عن ابن أبي عدي حيث قال: إن حميدًا كان إذا رواه عن أنس لم يرفعه، وإذا قال فيه: عن قتادة عن أنس رفعه.
وأما رواية قتادة، وهي من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعي: أن قتادة كتب إليه أن أنسا حدثه قال: صليت، فذكره بلفظ: لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لا في أول قراءة ولا في آخرها، فلم يتفق أصحابه عنه على هذا
دونه، فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع. انتهى.
"ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة، منهم: حميد" الطويل البصري "وقتادة" ابن دعامة، "والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة" لا رواية قتادة كما قاله الجماعة، "إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم" الدمشقي ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، "عن مالك" الإمام "عنه" أي: حميد، "بل ومن بعض أصحاب حميد" كابن عيينة وعبيد الله بن عمر، "عنه" أي: حميد، "فإنها في سائر الموطآت" المروية "عن" الإمام "مالك" عن حميد، عن أن:"صليت" لفظ الموطأ، قال: قمت "وراء أبي بكر وعمر وعثمان".
قال الباجي: أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعا، فيقرنهما ولا يحركهما، "فكلهم كان لا يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " إذا افتتح الصلاة.
قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفا، "لا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكذا الذي عند سائر" أي باقي "أصحاب حميد عنه إنما هو في الوقف خاصة، وبه صرح" يحيى "بن معين عن ابن أبي عدي" محمد بن إبراهيم البصري، ثقة، من رجال الجميع، "حيث قال: إن حميدًا كان إذا رواه عن أنس" بلا واسطة "لم يرفعه، وإذا قال فيه: عن قتادة عن أنس رفعه، وأما رواية قتادة، وهي من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو "أن قتادة كتب إليه" أي: إلى الأوزاعي "أن أنسا حدثه" أي: قتادة "قال: صليت" خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "فذكره" عقب هذا "بلفظ: لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، لا في أول قراءة ولا في آخرها" أخرجه مسلم، "فلم يتفق أصحابه عنه على هذا اللفظ، بل أكثرهم لا ذكر
اللفظ، بل أكثرهم لا ذكر عندهم للنفي فيه، وجماعة منهم بلفظ: فلم يكونوا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
وممن اختلف عليه فيه أصحابه شعبة، فجماعة منهم "غندر" لا ذكر عندهم للنفي عنه، وأبو داود الطيالسي فقط حسبما وقع من طريق غير واحد عنه بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وهي موافقة للأوزاعي.
وأبو عمر الدوري وكذا الطيالسي وغندر بلفظ: فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
بل كذا اختلف غير قتادة من أصحاب أنس، كإسحاق بن أبي طلحة وثابت البناني باختلاف عليهما، ومالك بن دينار ثلاثتهم عن أنس بدون نفي، وإسحاق وثابت أيضا ومنصور بن زاذان وأبو قلابة وأبو نعامة كلهم عنه باللفظ النافي للجهر خاصة. ولفظ إسحاق منهم: يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
عندهم للنفي فيه"، ويقتصرون على: فكانوا يفتتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، "وجماعة منهم" يروونه، "بلفظ: فلم يكونوا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيأتي احتمال أنهم كانوا يسرون بها، "وممن اختلف عليه فيه أصحابه شعبة" بن الحجاج راوي الحديث عن قتادة عن أنس، "فجماعة منهم غندر" لقب لمحمد بن جعفر في إحدى الروايتين، عنه:"لا ذكر عندهم للنفي عنه وأبو داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي فقط حسبما وقع من طريق غير واحد، عنه، بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وهي موافقة للأوزاعي، و" رواه "أبو عمر" حفص بن عمر بن عبد العزيز "الدوري" شيخ البخاري، "وكذا الطيالسي" أبو داود "وغندر" محمد بن جعفر في الرواية الثانية، عنه "بلفظ: فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، بل كذا اختلف" فيه "غير قتادة من أصحاب أنس، كإسحاق" بن عبد الله "بن أبي طلحة" الأنصاري نسبة إلى جده "وثابت البناني"، "بضم الموحدة ونونين بينهما ألف"، "باختلاف عليهما ومالك بن دينار، ثلاثتهم عن أنس بدون نفي، وإسحاق وثابت أيضا" في الرواية الثانية عنهما، "ومنصور بن زاذان"، "بزاي فألف فذال معجمة" الواسطي، الثقفي، ثقة، ثبت، عابد، "وأبو قلابة"، "بكسر القاف والتخفيف" عبد الله بن زيد الجرمي "وأبو نعامة"، "بنون ومهملة" قيس بن عباية "بفتح المهملة وخفة الموحدة فألف فتحتية"، "كلهم عنه" أي: أنس "باللفظ النافي للجهر خاص، ولفظ: إسحاق منهم يفتتحون القراءة
وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الروايات -كما قال شيخنا، يعني شيخ الإسلام ابن حجر- ممكن بحمل نفي القراءة على نفي السماع، على نفي الجهر. ويؤيده: أن لفظ رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ} . وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس -عند ابن خزيمة- بلفظ كانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ} .
وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب.
كما أنه ظهر أن الأوزاعي -الذي رواه عن قتادة مكاتبة مع كون قتادة ولد أكمه، وكاتبه مجهول لعدم تسميته- لم ينفرد به، وحينئذ فيجاب عن قول أنس:"لا أحفظه" بأن المثبت مقدم على النافي، خصوصا وقد تضمن النفي عدم استحضار أنس لأهم شيء يستحضر. وبإمكان نسيانه حين سؤال أبي مسلمة له وتذكره له بعد، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله: أيقرأ الرجل في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ} ؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ} .
ويحتاج إذا استقر محصل حديث أنس على نفي الجهر إلى دليل له، وإن
بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " يعني: في إحدى الروايتين عن إسحاق كما قدمه، "وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الرويات، كما قال شيخنا، يعني" السخاوي "شيخ الإسلام ابن حجر" في فتح الباري: "ممكن بحمل نفي القراءة على نفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
"وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة، بلفظ: كانوا يسرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، "وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب" لفظ الفتح فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر، لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه، "كما أنه ظهر أن الأوزاعي الذي رواه عن قتادة مكاتبة مع كون قتادة ولد أكمه وكاتبه مجهول لعدم تسميته، لكن لم ينفرد به" الأوزاعي، بل تابعه جماعة عن قتادة، "وحينئذ فيجاب عن قول أنس: لا أحفظه، بأن المثبت مقدم على النافي خصوصا، وقد تضمن النفي عدم استحضار أنس لأهم شيء يستحضره، وبإمكان نسيانه حين سؤال أبي مسلمة له وتذكره له بعد، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله" أي أنسا:"أيقرأ الرجل في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ} ؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" وعثمان "فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ} " فظهر أن سؤال أبي مسلمة وقتادة سواء خلافا لدعوى أبي شامة كما قدمته، "ويحتاج إذ استقر محصل
لم يكن من مباحثنا.
وقد ذكر له الشارح دليلا، وأرشد شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- لما يؤخذ منه ذلك.
بل قال: إن قول نعيم المجمر ثم "صليت وراء أبي هريرة فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} ، وقال الناس: آمين، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس في الاثنتين يقول: الله أكبر، ويقول
حديث أنس على نفي الجهر إلى دليل له وإن لم يكن من مباحثنا" يعني: في مصطلح الحديث إذ بحثهم هنا إنما هو في التعليل، وفي فتح الباري بعد رده دعوى أبي شامة، وجمعه بين جواب أنس لأبي مسلمة وقتادة بأنه أجاب قتادة بالحكم دون أبي مسلمة، أو قاله لهما معا، فحفظه قتادة دونه، فإنه أحفظ منه بلا نزاع، وإذا انتهى البحث بنا إلى أن محصل نفي الجهر بالبسملة رواية أنس على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الروايات عنه، فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه لا لمجرد تقديم رواية المثبت على النافي، لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين، ثم يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة، فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعترف أنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به، ثم تذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهرا، ولم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر. ا. هـ. فسبحان الله تؤدي حمية العصبية إلى دعوى مثل هذا في أنس بمجرد انفراد أبي مسلمة بقوله عنه: لا أحفظ ما سألتني عنه، ويقدم على روايات غيره، وينسى قوله قبله بأسطر قليلة، أو قاله لهما معا، فحفظه قتادة دون أبي مسلمة، فإنه أحفظ من أبي مسلمة بلا نزاع، ثم بعد هذا التعسف الرائد غاية ما فيه نفي دلالة الحديث على نفي البسملة لا على ثبوتها، إذ الاحتمال قائم مع ما لزم على ذلك التعسف من جره إلى إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو لا يثبت به.
"وقد ذكر له الشارح" للألفية مصنفها العراقي "دليلا" فقال: "وأرشد شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر لما يؤخذ منه ذلك، بل قال: إن قول نعيم"، "بضم النون" ابن عبد الله المدني مولى آل عمر "المجمر"، "بسكون الجيم وضم الميم الأولى وكسر الثانية" صفة لنعيم، ولأبيه، لأن كلا منهما كان يجمر، أي: يبخر المسجد، "ثم صليت وراء أبي هريرة، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قرأ بأم القرآن" فيه دليل ظاهر على أن البسملة ليست من أم القرآن "حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} سقط من المصنف أو نساخه، فقال: آمين: "وقال الناس: آمين، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس في الاثنتين" أي: الركعتين الأوليين بعد التشهد الأول
إذا سلم: "والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم" أصح حديث ورد فيه، ولا علة له.
وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه النسائي والحاكم، وقد بوب عليه النسائي: الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
ولكن تعقب الاستدلال به، لاحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله:"أشبهكم" في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها، لا سيما وقد رواه عنه جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة.
وأجيب: بأن نعيما ثقة، فزيادته مقبولة، والخبر ظاهر في جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصه. ومع ذلك فيطرقه احتمال أن يكون سماع نعيم لها من أبي هريرة حال مخافتته لقربه منه. وقد قال الإمام فخر الدين الرازي في تصنيف له في الفاتحة روى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة
"يقول: الله أكبر، ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم". وخبر قوله أن قول نعيم هو "أصح حديث ورد فيه ولا علة له، وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه النسائي والحاكم" والسراج وغيرهم، "وقد بوب عليه النسائي الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".
ولكن تعقب الاستدلال به لاحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله: أشبهكم في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها، لا سيما وقد رواه عنه" أي: أبي هريرة "جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة" في الصحيحين وغيرهما، فيقدم على رواية الواحد.
"وأجيب" عن الثاني: "بأن نعيما ثقة، فزيادته مقبولة"، ورد بأن محل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزد أوثق وأكثر عدا، كما قيده به ابن عبد البر وغيره وهو هنا، كذلك وأجيب عن الأول بقوله:"والخبر ظاهر في جميع الأجزاء، فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصه" وجوابه أن مادة الجواب يكفي فيها الاحتمال، وهو قائم بخلاف مادة النقض، فلا بد من التحقق، تم إلى هنا كلام الحافظ في الفتح وما بعده زيادة من السخاوي وهو:"ومع ذلك"، أي: كون زيادة الثقة مقبولة، "فيطرقه احتمال أن يكون سماع نعيم لها" أي: البسملة "من أبي هريرة" حصل "حال مخافتته،" أي: إسراره "لقربه منه" يعني: فلا يخالف رواية الجماعة عنه بدون البسملة، لكن يدفع هذا الاحتمال ما يأتي أن أبا هريرة كان يرى الجهر بها.
"وقد قال الإمام فخر الدين الرازي في تصنيف له في الفاتحة: روى الشافعي بإسناده
فصلى بهم ولم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولم يكبر عنده الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت الصلاة، أين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، أين التكبير عند الركوع والسجود، فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير. ثم قال الشافعي: وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية والتكبير كان الأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب قوته. انتهى.
وهو حديث حسن أخرجه الحاكم في صحيحه والدارقطني وقال: إن رجاله ثقات.
ثم قال الإمام بعد: وقد بينا أن هذا -يعني الإنكار المتقدم- يدل على أن الجهر بهذه الكلمة كالأمر المتواتر فيما بينهم.
أن معاوية" بن أبي سفيان "قدم المدينة" في خلافته، "فصلى بهم ولم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار" أي: الحاضرون منهم ساعتئذ: "يا معاوية سرقت الصلاة" أي: نقصت منها شيئا، وفي نسخة أسرقت بالاستفهام وعدمه أظهر هنا، لأنه توبيخ له فيما فعله، "أين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ أين التكبير عند الركوع والسجود؟، فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير"؛ لأنه مجتهد، فأداه اجتهاده إلى موافقتهم حينئذ، "ثم قال الشافعي" بعد روايته هذه القصة:"وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية والتكبير كان الأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب قوته. انتهى" كلام الرازي.
ولا دليل في القصة لما ذكر، إذ المسألة ذات خلاف، فأنكروا عليه بمذهبهم، فأداه اجتهاده إلى موافقتهم، وأعاد الصلاة دفعا لما قد يحصل مما يؤدي إلى التقاطع، خصوصا وهو يريد أن يزيل ما في نفوسهم له، إذ كان بعد الحروب الواقعة له معهم في صفين، "وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم في صحيحه" يعني: المستدرك "والدارقطني، وقال: إن رجاله ثقات" لكنه ليس بمرفوع كما ترى، "ثم قال الإمام" الرازي "بعد"، "بضم الدال"، "وقد بينا أن هذا يعني الإنكار المتقدم" على معاوية "يدل على أن الجهر بهذه الكلمة" أي: البسملة "كالأمر المتواتر فيما بينهم" لكن تركه، أي الجهر لا يلزم منه بطلان الصلاة، إذ هو سنة، فإعادة معاوية والجماعة الصلاة لا يقول بها المستدلون بهذه القصة.
وكذا قال الترمذي عقب إيراده، بعد أن ترجم بالجهر بالبسملة حديث معتمر بن سليمان عن إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان عن أبي خالد الوالبي الكوفي عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
ووافقه على تخريجه الدارقطني، وأبو داود وضعفه، بل وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك. والبيهقي في المعرفة، واستشهد له بحديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد بها صوته. الحديث، وهو عند الحاكم في مستدركه أيضا، ما نصه:
وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب رسول الله منهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، ومن بعدهم من التابعين رأوا الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وبه يقول الشافعي. انتهى.
وقال الشيخ أبو أمامة بن النقاش: والذي يروم تحقيق هذه المسألة ينبغي أن
"وكذا قال الترمذي عقب إيراده بعد أن ترجم بالجهر بالبسملة حديث" مفعول إيراده "معتمر بن سليمان" التيمي البصري "عن إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان" الأشعري، مولاهم الكوفي، صدوق، "عن أبي خالد الوالبي"، "بلام مكسورة فموحدة"، "الكوفي" اسمه هرمز، ويقال: هرم.
"عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووافقه" أي: الترمذي "على تخريجه الدارقطني وأبو داود وضعفه، بل وقال الترمذي" نفسه الذي ترجم عليه بذلك "ليس إسناده بذاك" أي: لا يحتج به لضعفه، "و" رواه "البيهقي في المعرفة، واستشهد له بحديث سالم" بن عبد الله "الأفطس" الأموي، مولاهم الحراني، ثقة، رمي بالإرجاء.
"عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد بها صوته. الحديث، وهو عند الحاكم في مستدركه أيضا ما نصه" مقول قوله وكذا قال الترمذي: وما بين ذلك اعتراض، "وقد قال بهذا عدة" أي: جماعة "من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو هريرة وابن عمر وابن الزبير ومن بعدهم من التابعين رأوا الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وبه يقول الشافعي" أي: باستحباب الجهر بها. "انتهى" كلام شارح الألفية.
"وقال الشيخ أبو أمامة بن النقاش: والذي يروم تحقيق هذه المسألة" بحثه عنها،
يعرف أن هذه المسألة بعلم القراءات أمس، وذلك أن من القراء الذين صحت قراءتهم وتواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان يقرأ بها آية من الفاتحة منهم عاصم وحمزة والكسائي وابن كثير وغيرهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من لا يعدها آية من الفاتحة كابن عامر، وأبي عمرو، ونافع في رواية عنه.
وحكم قراءتها في الصلاة حكم قراءتها خارجها، فمن قرأ على قراءة من جعلها من أم القرآن، لزمه فرضا أن يقرأ بها. ومن قرأ على قراءة من لم يرها من أم
"ينبغي أن يعرف أن هذه المسألة بعلم القراءات أمس" من بحثه عنها في الأحاديث، لأنها آحاد فلا يتمسك بها هنا، إذ القرآن لا يثبت إلا بالقطع، حتى قيل: إن كان الحق الثبوت، فالنافي أسقط آية، وإن كان النفي، فالمثبت زاد آية، والزيادة والنقص في القرآن كفر، لكن قال ابن الحاجب: قوة الشبهة من الجانبين منعت من التكفير، "وذلك أن من القراء الذين صحت قراءتهم وتواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم، منهم من كان يقرأ بها آية من الفاتحة، منهم عاصم" بن بهدلة وهو ابن أبي النجود "بنون وجيم" الأسدي، مولاهم الكوفي، أبو بكر المقرئ، صدوق في الحديث، له أوهام وهو حجة في القراءة، روى له الستة، لكن حديثه في الصحيحين مقرون، مات سنة ثمان وعشرين ومائة، "وحمزة" بن حبيب الزيات القارئ أبو عمارة الكوفي، التميمي، مولاهم صدوق، زاهد، ولد سنة ثمانين ومات سنة ست أو ثمان وخمسين ومائة، روى له مسلم والأربعة، "والكسائي" علي أبو الحسن المشهور "وابن كثير" عبد الله الداري المكي أبو سعيد القارئ، أحد الأئمة، صدوق، مات سنة عشرين ومائة، "وغيرهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من لا يعدها آية من الفاتحة، كابن عمر" عبد الله بن عامر بن يزيد الدمشقي، المقرئ تابعي، ثقة، روى له مسلم والترمذي، مات سنة ثماني عشرة ومائة وله سبع وتسعون سنة على الصحيح، "وأبي عمرو" بن العلاء بن عمار بن العريان المازني، النحوي، اسمه زيان على الأشهر، أو العريان، وهو الأصح عند الصولي، مات سنة أربع وخمسين ومائة، "ونافع" بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، وقد ينسب لجده، صدوق في الحديث، ثبت في القراءة، مات سنة تسع وستين ومائة "في رواية عنه" وهي رواية ورش، وروى عنه قالون إثباتها قال السيوطي: فدل على أن القراءتين تواترتا عنده فقرأ بهما معا كل بأسانيد متواترة وقد قرأ نصف القراء السبعة بإثباتها، ونصفهم بحذفها، فمن قرأ بها فهي متواترة في حرفه إليه، ثم منه إلينا، ومن قرأ بحذفها، فحذفها في حرفه متواتر إليه، ثم منه إلينا، "وحكم قراءتها في الصلاة حكم قراءتها خارجها، فمن قرأ على قراءة من جعلها من أم القرآن، لزمه فرضا أن يقرأ بها" في الصلاة "ومن قرأ على قراءة من لم يرها من أم القرآن، فهو مخير بين القراءة والترك" بمعنى: أن قراءتها لا تبطل الصلاة،
القرآن فهو مخير بين القراءة والترك.
فحينئذ الخلاف فيها كالخلاف في حرف من حروف القرآن، وكلا القولين صحيح ثابت لا مطعن على مثبته ولا على منفيه.
ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم تارة قرأها، وتارة لم يقرأها، هذا هو الإنصاف.
ثم قال: والمتيقن الذي يجب المصير إليه، أن كلا من القولين ثابت، لأنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام أن هذه القراءات السبع كلها حق مقطوع بها من عند الله، وليست هذه أول كلمة ولا أول حرف اختلف في إثباته وحذفه، وقل سورة في القرآن ليس فيها ذلك، كلفظ "هو" في سورة الحديد {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ولفظ، "من" في سورة التوبة، في قوله:"جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"، وألفات عديدة وواوات، وهاءات كذلك، وكل هذا من نتيجة كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذا هو الذي يدل على بطلان قول من لم يجعلها من الفاتحة لموضع اختلاف الناس، وقوله: "إن الاختلاف لا يثبت معه قرآن، فما
فلا ينافي أن مشهور مذهب مالك كراهتها في صلاة الفرض، "فيحنئذ الخلاف فيها كالخلاف في حرف من حروف القرآن وكلا القولين صحيح ثابت لا مطعن على مثبته، ولا على منفيه" عبر به للمشاكلة، وإلا فالظاهر نافيه، قال القاموس: نفاه ينفيه، وينفوه، عن أبي حيان: نحاه فنفي هو وانتفى تنحى، "ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم تارة قرأها، وتارة لم يقرأها، هذا هو الإنصاف" ويؤيده ما جاء عن ابن عباس، قال: نزلت الفاتحة مرة بمكة ومرة بالمدينة ببسملة في واحدة وبدونها في الأخرى، "ثم قال" أبو أمامة:"والمتيقن" وفي نسخة: والمستيقن بسين التأكيد لا الطلب، وحذفها ظاهر "الذي يجب المصير إليه أن كلا من القولين ثابت، لأنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام أن هذه القراءات السبع كلها حق مقطوع بها من عند الله" نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم "وليست هذه" أي: البسملة "أول كلمة ولا أول حرف اختلف في إثباته وحذفه، وقل سورة في القرآن ليس فيه ذلك، كلفظ: هو في سورة الحديد {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} بيان لما في السورة، فإن بعضهم قرأ: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، ومنهم من قرأ بحذف هو، "ولفظ "من" في سورة التوبة" براءة، "في قوله: "جَنَّاتٍ تَجْرِي من تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"، فإنها قراءة ابن كثير وقراءة غيره بدون من، "وألفات عديدة وواوات وهاءات كذلك" قرئ بإثباتها ونفيها في السبع، "وكل هذا من نتيجة كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذا هو الذي يدل على بطلان قول من لم يجعلها من الفاتحة لموضع اختلاف
أدري ما هذا الظن.
وهذا الذي ذكرناه هو الذي يريحك من تلك الضرورات من الحالتين.
ثم قال: ولا ريب أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين، الجهر والإسرار، فجهر وأسر، غير أن إسراره كان أكثر من جهره، وقد صح في الجهر أحاديث، لا مطعن فيها لمنصف نحو ثلاثة أحاديث، كما أنه قد صح في الإسرار بها أحاديث لا مطعن فيها لعار من العصبية، ولا يلتفت لمن يقول: إن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان الجهر فقط. انتهى.
وقيل لبعض العارفين: بماذا ترى ظهر الإمام الشافعي وغلب ذكره؟ فقال: أرى ذلك لإظهار البسملة لكل صلاة.
الناس، وقوله" بالجر عطف على بطلان، "إن الاختلاف لا يثبت معه قرآن" لأن شرطه الاتفاق، وهذا إشارة إلى قول أبي بكر بن العربي: يكفيك أنها ليست من الفاتحة اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه.
"فما أدري ما هذا الظن" لثبوت القراءة المتواترة بالوجهين، "وهذا الذي ذكرناه هو الذي يريحك من تلك الضرورات من الحالتين" من أن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفى بالظن، "ثم قال: ولا ريب أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين: الجهر والإسرار" وترك القراءة بها أصلا، كما صرح به أولا بقوله: وتارة لم يقرأها "فجهر وأسر، غير أن إسراره كان أكثر من جهره" وكذا خلفاؤه، "وقد صح في الجهر أحاديث لا مطعن فيها لمنصف، نحو: ثلاثة أحاديث، كما أنه قد صح في الإسرار بها أحاديث لا مطعن فيها لعار" أي: خال "من المعصية، ولا يلتفت لمن يقول: إن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان الجهر فقط،" لأنه خلاف الواقع. "انتهى" كلام أبي أمامة.
وذكره بنحوه الحافظ ابن حجر، كما نقله عنه تلميذه البقاعي في معجمه وأشار إليه باختصار أستاذ القراء المتأخرين الشمس ابن الجزري.
"وقيل لبعض العارفين: بماذا ترى ظهر الإمام الشافعي وغلب ذكره، فقال: أرى ذلك لإظهار البسملة لكل صلاة" وعلوم الشافعي وعباداته وورعه وتقواه أجل من أن يقصر سبب ظهوره على إظهار مسألة مختلف فيها قديما وحديثا، بل قصره عليها كالتنقيص له، والله أعلم.
الفرع الثالث: في قراءته الفاتحة وقوله آمين بعدها
كان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: "آمين". ومد بها صوته، وفي رواية: وخفض بها صوته، رواه الترمذي.
وفي رواية أبي داود: ورفع بها صوته، وفي رواية له: جهر بآمين.
وقال ابن شهاب: وكان صلى الله عليه وسلم إذ قال: {وَلا الضَّالِّينَ} جهر بآمين، أخرجه السراج.
وهو ضعيف ولابن حبان من رواية الزبيدي عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته وقال: آمين.
"الفرع الثالث: في قراءته الفاتحة، وقوله: آمين بعدها" معناه: اللهم استجب عند الجمهور، وقيل: غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى، كما بسطه في الفتح "كان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال:"آمين". ومد" أي: رفع "بها صوته".
"وفي رواية: وخفض بها صوته" ولو صحت لأمكن الجمع بينهما بأنه كان يجهر في الجهرية ويخفض في السرية، كما هو المندوب عند الشافعية، لكن خطأ البخاري رواية خفض بها صوته "رواه الترمذي" أي: ما ذكر من الروايتين.
"وفي رواية أبي داود: ورفع بها صوته" وهي مبينة لرواية مد بها، "وفي رواية له جهر بآمين، وقال ابن شهاب" محمد بن مسلم: "وكان صلى الله عليه وسلم إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} جهر بآمين، أخرجه السراج" بشد الراء نسبة إلى عمل السروج أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي، مولاهم النيسابوري الحافظ الإمام الثقة، روى عن إسحاق بن راهويه وغيره، وعنه الشيخان وغيرهما، مات في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة عن بعض وستين سنة، وهذا أخرجه السراج من رواية روح بن عبادة عن مالك عن ابن شهاب بهذا اللفظ وهو في الموطأ والصحيحين، بلفظ: قال ابن شهاب: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "آمين". لم يقل: يجهر، فرواية روح شاذة، ثم هو مرسل وقد وصله حفص بن عمر العدني، عن مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أخرجه الدارقطني وقال: تفرد به حفص "وهو ضعيف، ولابن حبان من رواية الزبيدي"، "بضم الزاي بعدها موحدة" محمد بن الوليد الحمصي، ثقة، ثبت، من كبار أصحاب الزهري، مات سنة بضع وأربعين ومائة.
"عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال": "آمين" مرة واحدة،
وللحميدي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه بلفظ: إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} .
ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حجر نحو رواية الزبيدي.
وفيه رد على من أومأ إلى النسخ فقال: إنما كان صلى الله عليه وسلم يجهل بالتأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم في أواخر الأمر.
الفرع الرابع: في ذكر قراءته بعد الفاتحة في صلاة الغداة
عن أبي برزة: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة. رواه
وفي رواية: ثلاث مرات.
قال الحافظ: الظاهر أنه يعني أنه رآه في ثلاث صلوات، فعل ذلك لا أنه ثلث التأمين، "وللحميدي من طريق سعيد" بن أبي سعيد كيسان "المقبري"، "بفتح الموحدة وضمها"، "عن أبي هريرة نحوه، بلفظ: إذا قال {وَلا الضَّالِّينَ} ولأبي داود من طريق أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة، عن أبي هريرة مثله، وزاد: حتى يسمع من يليه من الصف الأول، "ولأبي داود: وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حجر"، "بضم المهملة وسكون الجيم" ابن سعد الحضرمي، صحابي جليل، وكان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة ومات زمن معاوية "نحو رواية الزبيدي"، فاعتضد مرسل الزهري بمسند أبي هريرة ووائل، "وفيه رد على من أومأ إلى النسخ، فقال: إنما كان صلى الله عليه وسلم يجهر بالتأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم في أواخر الأمر" وأجيب: بأنه كان يجهر أحيانا لبيان الجواز.
"الفرع الرابع: في ذكر قراءته بعد الفاتحة في صلاة الغداة" أي الصبح "عن أبي برزة" بفتح الموحدة فراء ساكنة فزاي مفتوحة فهاء، الأسلمي نضله، بنون مفتوحة فضاد معجمة ساكنة، فلام ابن عبيد، بضم العين: صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة وغزا خراسان، ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح، قال:"كان صلى الله عليه سلم يقرأ في صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة" من الآيات، وقدرها في رواية الطبراني بالحاقة ونحوها، ولمسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالصافات، وللحاكم بالواقعة، وللسراج بسند صحيح بأقصر سورتين في القرآن، وهذا الاختلاف وغيره يرجع إلى اختلاف الأحوال.
قال الكرماني: القياس أن يقول ما بين الستين والمائة، لأن لفظ بين يقتضي الدخول على
النسائي.
وعن عمرو بن حريث: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] .
وعن جابر بن سمرة قال كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] ونحوها، وكانت قراءته بعد تخفيفا. رواه مسلم.
وعن عبد الله بن السائب قال: صلى صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين، حتى جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى -شك الراوي، أو اختلف عليه-
متعدد، ويحتمل أن التقدير بين الستين وفوقها، فحذف لفظ فوقها لدلالة الكلام عليه، "رواه النسائي" فيه تقصير كبير، فقد رواه الشيخان معا عن أبي برزة بهذا اللفظ، ولعله أراد أن يكتب، رواه البخاري فطغى عليه القلم.
"وعن عمرو"، "بفتح العين"، "ابن حريث"، "بضم المهملة ومثلثة" ابن عمرو القرشي، المخزومي، صحابي صغير مات سنة خمس وثمانين "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر" أي: الصبح، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} " أقبل بظلامه أو أدبر، "رواه مسلم" والمراد يقرأ السورة التي منها هذه الآية، بدليل أن "رواية النسائي" عن عمرو بن حريث أنه سمعه "يقرأ في الفجر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} لففت وذهب بنورها.
"وعن جابر بن سمرة" بن جنادة السوائي صحابي ابن صحابي، "قال: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر" أي: الصبح "بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} " ونحوها، كالنجم وتبارك، "وكانت قراءته بعد" بموحدة وضم الدال، أي: بعد ذلك "تخفيفا، رواه مسلم" قال الأبي: ليس معناه أنه صار بعد ذلك يخفف، بل ظاهره أن {ق} من التخفيف، فالمعنى: ثم استمر على نحو ذلك من التخفيف، ويشهد لذلك قوله في الرواية الأخرى: كان يخفف يقرأ في الفجر بـ {ق} . ا. هـ. وصحف من قرأه بفوقية من العد، وقال: أي: لا تطويلا وإن أطالها، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس صوتا وأصدقهم قلبا، فقراءته يوقع سماعها في قلوب الناس رغبة.
"وعن عبد الله بن السائب" القرشي، المخزومي المكي، له ولأبيه صحبة، وكان قارئ أهل مكة، مات سنة بضع وستين، "قال: صلى" بنا النبي "صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة" زاد في رواية النسائي في فتح مكة، "فاستفتح سورة المؤمنين" وفي نسحة: المؤمنون، وكلاهما صحيح "حتى جاء ذكر موسى وهارون" أي: قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} [المؤمنون: 45]
أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع. الحديث رواه مسلم.
قال النووي: فيه جواز قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السورة. وكرهه مالك.
وتعقب: بأن الذي كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر في أنه كان للضرورة فلا يرد عليه. وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، لأن كل من الموضعين يقع في وسط آية، نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل.
"أو ذكر عيسى" أي: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً} "شك الراوي" محمد بن عباد بن جعفر راوي الحديث، عن رجال ثلاثة، عن عبد الله بن السائب كما في مسلم، "أو اختلف عليه" من رواته، فمنهم من قال: موسى وهارون، ومنهم من قال: عيسى "أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة" بفتح السين وسكون العين المهملتين من السعال، ويجوز ضم السين، ولابن ماجه: فلما بلغ ذكر عيسى وأمه أخذته سعلة، أو قال: شهقة.
وفي رواية له: أخذته شرقة "بمعجمة وراء وقاف""فركع، الحديث رواه مسلم" وغيره، وعلقه البخاري بلفظ يذكر لاختلاف في إسناده وإن لم يقدح.
"قال النووي: فيه جواز قطع القراءة،" بل قال في الفتح يؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال، ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال أو التنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما يستحب فيه تطويلها قال: وقوله في رواية مسلم، فحذف، أي ترك القراءة، وفسره بعضهم برمي النخامة الناشئة عن السعلة، والأول أظهر لقوله: فركع ولو كان أزال ما عاقه عن القراءة لتمادى فيها، "وجواز القراءة ببعض السورة" ولو اختيارا، "وكرهه مالك. ا. هـ".
"وتعقب بأن الذي كرهه مالك" كراهة تنزيه "أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر في أنه كان للضرورة فلا يرد عليه، وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، لأن كلا من الموضعين يقع في وسط آية" يعني: فيرد عليه، بأنه ظاهر في الضرورة، كما أشار إليه الحافظ بقوله: وفيه ما تقدم "نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل" ذكر الحافظ بعد هذا بنحو صفحة دليله، فقال: سبب الكراهة فيما يظهر أن السورة يرتبط بعضها ببعض، فأي موضع قطع فيه لم يكن كانتهائه إلى آخر السورة، فإنه إن قطع في وقف غير تام كانت الكراهة ظاهرة، وإن
وأدلة الجواز كثيرة: وفي حديث زيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الأعراف في ركعتين، وأم أبو بكر بالصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة قرأها في الركعتين. وهذا إجماع منهم. وقرأ صلى الله عليه وسلم في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الركعتين كلتيهما، قال الراوي: فلا أدري أنسي أم قرأ ذلك عمدا. روه أبو داود.
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صبح يوم الجمعة {الم} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى
قطع في وقف تام فلا يخفى أنه خلاف الأولى.
وقد تقدم في الطهارة قصة الأنصاري الذي رماه العدو بسهم فلم يقطع صلاته، وقال: كنت في سورة فكرهت أن أقطعها وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. ا. هـ.
"وأدلة الجواز كثيرة، وفي حديث زيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الأعراف في ركعتين" أي: ركعتي المغرب.
روى ابن خزيمة عن عروة، قال: قال زيد بن ثابت لمروان: إنك لتخفف القراءة في الركعتين من المغرب، فوالله لقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعا، وأصله في الصحيح:"وأم أبو بكر" الصديق "بالصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة قرأها في الركعتين.
أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر، "وهذا إجماع منهم" أي: الصحابة، "وقرأ صلى الله عليه وسلم في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الركعتين كلتيهما، أي: أتمها في الأولى، وأعادها في الثانية كما جاء في رواية أخرى.
"قال الراوي" يعني الصحابي وهو رجل من جهينة، "فلا أدري أنسي؟ " لأنه مخالف لعادته في أنه لا يعيد السورة في الركعة الثانية "أم قرأ ذلك عمدا؟ " لإفادة أن ذلك لا يضر في الصلاة، "رواه أبو داود" عن معاذ بن عبد الله الجهني أن رجلا من جهينة أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} وحاصل اختلاف الأحاديث بتطويل القراءة، وبتخفيفها يدل على السعة، وأنه لا حد، والتخفيف هو المشروع للأئمة والتطويل إنما أخذ من فعله صلى الله عليه وسلم وقد عارضه وقضى عليه أمره بالتخفيف، وعلله بما يوجب تأويل فعله، لأنه صلى الله عليه وسلم شرعه في معرض البيان، فيحمل تطويله على أنه لبيان الجواز، أو لأنه علم أن من وراءه ومن يدخل بعده لا يشق ذلك عليهم، ولذلك إنما فعله في بعض الأحيان، أو لأنه مأمور بتبليغ القرآن وقراءته على الناس، فحاله في ذلك مخالف لحال غيره، نقل ذلك أبو عبد الله الأبي "وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صبح الجمعة {الم} السجدة "بالنصب عطف بيان في الركعة الأولى"، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} في الركعة الثانية كما في رواية لمسلم في نفس
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 15] رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة.
وإنما كان يقرأهما كاملتين، وقراءة بعضها خلاف السنة. وإنما كان يقرأ بهما لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار، وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك كان يقع يوم الجمعة. ذكره ابن دحية في "العلم المشهور" وقرره تقريرا حسنا، كما أفاده الحافظ ابن حجر.
وقال: قد ورد في حديث ابن مسعود التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم على قراءتها في صبح الجمعة. أخرجه الطبراني، ولفظه "يديم ذلك" وأصله في ابن ماجه لكن بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم إرساله.
قال: وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه فقال في الكلام على حديث الباب: "ليس فيه ما يقتضي فعل ذلك دائما اقتضاء قويا"، وهو كما قال بالنسبة
هذا الحديث، ويأتي مثله من حديث علي.
"رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي" كلهم "من حديث" سفيان الثوري عن سعد بن إبراهيم عن أبيه، عن الأعرج، عن "أبي هريرة" ومسلم من حديث ابن عباس مثله، وكذا ابن ماجه من حديث ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص والطبراني من حديث علي، "وإنما كان يقرأهما كاملتين" كما هو ظاهر الأحاديث "وقراءة بعضه خلاف السنة" الكاملة المطلوبة وإن كان يحصل به أصل السنة كما هو مقرر عند الشافعية، "وإنماكان يقرأ بهما" أي: حكمة تخصيصهما "لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد وخلق آدم ودخول الجنة والنار وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك كان ويقع يوم الجمعة" كذا في نسخ وفي بعضها: كائن ويقع. وفي بعضها: لأن ذلك يقع بإسقاط كان أو كائن والواو، ومعنى الأولى على التوزيع، أي: لأن بعض ذلك وهو المبدأ وخلق آدم كن، أي: وجد والباقي يقع يوم الجمعة.
"ذكره ابن دحية في العلم المشهور" اسم كتاب "وقرره تقريرا حسنا كما أفاده الحافظ ابن حجر" في فتح الباري، "وقال قد ورد" لفظه وفيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم لما تشعر به الصيغة من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك أو إكثاره منه، بل ورد "في حديث ابن مسعود التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم على قراءتها في صبح يوم الجمعة، أخرجه الطبراني، ولفظه يديم ذلك وأصله في ابن ماجه، لكن بدون هذه الزيادة ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم" الرازي "إرساله قال" أي الحافظ: "وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه، فقال في الكلام على حديث الباب ليس فيه ما يقتضي فعل ذلك دائما
لحديث الباب، فإن الصيعة ليست نصا في المداومة، لكن الزيادة المذكورة تنص في ذلك، ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس بلفظ:"كل جمعة" أخرجه الطبراني في الكبير.
وأما تعيين السورة للركعة فورد من حديث علي -الطبراني- بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة {الم، تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] ، وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} .
وقد اختلف تعليل المالكية لكراهة قراءة السورة السجدة في الصلاة.
فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض. قال القرطبي: وهو تعليل فاسد، بشهادة هذا الحديث.
وقيل: لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية
اقتضاء قويا" لأن كان مع المضارع لا تقتضيه على الأصح، "وهو كما قال بالنسبة لحديث الباب، فإن الصيغة ليست نصا في المداومة لكن الزيادة المذكورة تنص في ذلك" منعه شيخنا بأن الدوام يحمل على الأكثر، لأن في رواية أنه قرأ في الثانية بـ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} فليست بنص، وفي نسخة: نصا بنصبه معمول لمحذوف مثل تكون نصا، "ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس، بلفظ: كل جمعة أخرجه الطبراني في الكبير، وأما تعيين السورة للركعة، فورد من حديث علي" بن أبي طالب "عند الطبراني" في الأوسط، بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة {الم، تَنْزِيلُ} بضم اللام على الحكاية، "وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ، وعلى المؤلف مؤاخذة لاقتضائه أن التعيين لم يقع في حديث أبي هريرة مع أنه في مسلم من طريق إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صبح يوم الجمعة بـ {الم، تَنْزِيلُ} في الركعة الأولى، وفي الثانية:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} وباستحباب ذلك قال أكثر العلماء من الصحابة والتابعين والشافعي وأحمد، وكره مالك في المدونة أن يقرأ بسورة فيها سجدة.
"وقد اختلف تعليل المالكية لكراهة قراءة السورة السجدة في الصلاة" صبح يوم الجمعة أو غيرها من بقية الصلوات جهرية أو سرية، "فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض، قال القرطبي" أبو العباس في المفهم:"وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث، وقيل: لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية" فلا كراهة،
والسرية، لأن الجهرية يؤمن معها التخليط. لكن صح من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فيها سجدة في صلاة الظهر فسجد بهم فيها. رواه أبو داود والحاكم، فبطلت التفرقة.
ومنهم من علل الكراهية بخشية اعتقاد العوام أنها فرض. قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهة مطلق فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغي أن يترك أحيانا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك في بعض الأوقات. انتهى.
وقال صاحب "المحيط" من الحنفية: يستحب قراءتهما في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أر في شيء من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم سجد
"والسرية" فيكره، "لأن الجهرية يؤمن معها التخليط" وبه قال ابن وهب عملا بهذا الحديث "لكن صح من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فيها سجدة في صلاة الظهر فسجد بهم فيها رواه أبو داود والحاكم فبطلت التفرقة" لا بطلان لأنه صلى الله عليه وسلم يفعل المكروه لغيره لبيان الجواز، "ومنهم من علل الكراهية" بالتخفيف بزنة طواعية وفي نسخة الكراهة بلا ياء "بخشية اعتقاد العوام أنها فرض" وهذا مشاهد حتى أنهم يسألون عن صحة صلاة تاركها في صبح الجمعة.
"قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهة مطلقا فيأباه الحديث لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة" وهي اعتقاد المستحب فرضا، "فينبغي أن يترك أحيانا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة وهو" أي: الدفع "يحصل بالترك في بعض الأوقات. انتهى".
وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: ينبغي أن يفعل ذلك في الأغلب للقدوة ويقطع أحيانا لئلا يظنه العامة سنة.
"وقال صاحب المحيط من الحنفية: يستحب قراءتهما في صبح الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره" زاد الحافظ: وأما صاحب الهداية منهم، فذكر أن علة الكراهة هجران الباقي وإيهام التفضيل، وقول الطحاوي يناسب قول صاحب المحيط، فإنه خص الكراهة بمن يراه لا يجزئ غيره أو يرى القراءة بغيره مكروهة.
"قال الحافظ ابن حجر: ولم أر في شيء من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة
لما قرأ سورة {الم، تَنْزِيلُ} في هذا المحل، إلا في كتاب "الشريعة" لابن أبي داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد. الحديث، وفي إسناده من ينظر في حاله. انتهى.
وعن علي عند الطبراني في المعجم الأوسط: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في الصبح يوم الجمعة في {الم، تَنْزِيلُ} وهذه الزيادة حسنة تدفع احتمال أن يكون قرأ السورة ولم يسجد.
الفرع الخامس: في ذكر قراءته في صلاتي الظهر والعصر
عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم
{الم، تَنْزِيلُ} في هذا المحل إلا في كتاب الشريعة لابن أبي داود" عبد الله ابن الحافظ الكبير سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب التصانيف، رحل وسمع وبرع وساد الأقران، وكان فقيها عالما، حافظا متقنا "من طريق أخرى عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: غدوت على النبي صلى الله عليه وسلم" أي: ذهبت، فعلى بمعنى إلى أو ضمنه معنى نزلت أو نحوه "يوم الجمعة في صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد. الحديث، وفي إسناده من ينظر في حاله. انتهى".
"وعن علي عند الطبراني في المعجم الأوسط" الذي في الفتح، وتبعه المصنف في الشرح في المعجم الصغير "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في الصبح يوم الجمعة في {الم، تَنْزِيلُ} وهذه الزيادة حسنة تدفع احتمال أن يكون قرأ السورة ولم يسجد" في قوله: حسنة نظر، فإن الحافظ قال: في إسناده ضعف، وتبعه المصنف في شرح البخاري، وقيل: حكمة اختصاص يوم الجمعة بقراءة سورة السجدة، فضل السجود الزائد حتى قيل: إنه يستحب لمن لم يقرأ هذه السورة بعينها أن يقرأ سورة غيرها فيها سجدة، لكن عاب ذلك على قائله غير واحد من العلماء، ونسبهم صاحب الهدى إلى قلة العلم ونقص المعرفة، لكن ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، الكوفي التابعي، وابن عون وابن سيرين من أهل البصرة، فلا ينبغي القطع بتزييفه، كما في الفتح والله أعلم.
الفرع الخامس: في ذكر قراءته في صلاتي الظهر والعصر": عن أبي قتادة" الحارث أو النعمان بن ربعي "بكسر الراء وسكون الموحدة"، "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر
الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح. رواه البخاري ومسلم.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: كان السبب في تطويله الأولى على الثانية أن النشاط في الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرا من الملل. انتهى.
في الركعتين الأوليين"، "بضم الهمزة وتحتيتين تثنية الأولى "بأم الكتاب".
وفي رواية: بأم القرآن وأخرى بفاتحة الكتاب، "وسورتين" في كل ركعة منهما بسورة، ففي رواية: بأم الكتاب وسورة سورة "وفي الركعتين الأخريين"، "بضم الهمزة وتحتيتين" بأم الكتاب" فقط "ويسمعنا"، "بضم أوله من أسمع" الآية أحيانا" أي: في أحيان جمع حين، وهو يدل على تكرر ذلك منه، وفيه جواز قليل الجهر في السرية وليس فيه ما يفيد، أنه قرأ بعد الفاتحة شيئا في الأخريين، لأنه ينابذ ما قبله، أنه كان يقرأ بأم الكتاب، فإنما هو عائد للسورتين المقروءتين في الأوليين، ويقطع بذلك أن قوله: ويسمعنا الآية ثابت في جميع الطرق عند الشيخين، وأما قوله: وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب فثابت عندهما في طريق واحدة، "ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية" كذا لكريمة من التطويل وما نكرة موصوفة، أي: تطويلا لا يطيله في الثانية، أو مصدرية، أي: غير إطالته في الثانية، فتكون هي مع ما في حيزها صفة لمصدر محذوف، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر ما لا يطيل، ولأبي ذر عن المستملي والحموي بما لا بموحدة، كذا في الفرع وأصله، قاله المصنف، وقال الحافظ: قوله ما لا يطيل، كذا للأكثر، ولكريمة ما لا يطول، وما نكرة موصوفة أو مصدرية.
وفي رواية المستملي والحموي بما لا يطيل، "وهكذا" يقرأ في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الأخريين بها فقط ويطول في الأولى "في" صلاة "العصر وهكذا" يطيل في الركعة الأولى "في" صلاة "الصبح" فالتشبيه في تطويل المقروء بعد الفاتحة فقط بخلاف تشبيه العصر فأعم، "رواه البخاري ومسلم" من طريق همام عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه به، وعندهما من طريق شيبان عن يحيى بن أبي كثير بإسناده، بلفظ: وكان يقرأ في صلاة العصر بفاتحة الكتاب وسورتين وكان يطول في الأولى، أي: ويقصر في الثانية وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية وتقاس المغرب والعشاء عليها.
"قال الشيخ تقي الدين السبكي"، كذا هنا، والذي في الفتح تقي الدين فقط والظاهر أنه ابن دقيق العيد، لأنه علم بالاستقراء أنه إذا أطلقه فهو المراد "كان السبب في تطويله الأولى على الثانية أن النشاط في الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرا من
وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى في آخر هذا الحديث: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى.
وعن أبي سعيد الخدري قال: كنا نحزر -أي نقدر- قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر {الم، تَنْزِيلُ} السجدة، وفي رواية: في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من العصر على النصف من ذلك. رواه مسلم.
وعن جابر بن سمرة: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ،
الملل" السآمة "انتهى".
"وروى عبد الرزاق" بن همام "عن معمر" ابن راشد "عن يحيى" بن أبي كثير "في آخر هذا الحديث فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى" ولأبي داود وابن خزيمة نحوه من رواية أبي خالد عن سفيان عن معمر وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، قال: إني لأحب أن يطول الإمام الركعة الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس وفيه استحباب تطويل الأولى على الثانية، ولا يخالف حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيح، حيث قال: أحمد، أي: طول في الأوليين، لأن المراد تطويلهما على الأخيرتين إلا التسوية بينهما في الطول.
"وعن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سنان "قال: كنا نحزر" بكسر الزاي وضمها ضبطه النووي وغيره "أي نقدر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر {الم، تَنْزِيلُ} بضم اللام على الحكاية "السجدة" بالجر بدل والنصب بأعني والرفع خبر، أي: وهي السجدة.
"وفي رواية" عن أبي عدي كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الأوليين "في كل ركعة قدر ثلاثين آية وحزرنا قيامه في" الركعتين "الأخريين قدر النصف من ذلك"؛ لأنه كان يرتل الفاتحة كما في مسلم عن حفصة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، فلا حجة فيه لمن استدل به على استحباب زائد عن الفاتحة في الأخريين، "وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من العصر على النصف من ذلك"؛ لأنه يرتل أم القرآن، وفي رواية لابن ماجه أن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة، "رواه مسلم" أي: المذكور من الروايتين.
"وعن جابر بن سمرة كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] أي
وفي رواية بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي العصر نحو ذلك. رواه مسلم.
وعنه: كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ، رواه أبو داود والترمذي.
وعن البراء: كنا نصلي خلفه صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من لقمان والذاريات. رواه النسائي.
قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية. وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها. ويحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدا. انتهى.
وعن أنس: قرأ صلى الله عليه وسلم في الظهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] رواه النسائي.
بهذه السورة "وفي رواية" عنه بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ويقرأ "في العصر نحو ذلك" أي أقل منه، "رواه" أي: المذكور من الروايتين "مسلم" أيضا، "وعنه" أي: جابر بن سمرة: "كان يقرأ في الظهر والعصر" أي في الركعتين الأوليين منهما بعد الفاتحة "بـ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} " أي: بهاتين السورتين.
"رواه أبو داود والترمذي، وعن البراء" بن عازب الصحابي ابن الصحابي، "كنا نصلي خلفه صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من لقمان والذاريات رواه النسائي، قال ابن دقيق العيد فيه" أي: في قوله في حديث أبي قتادة: ويسمعنا الآية أحيانا "دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الإخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين" أي تيقن "ذلك لو كان في الجهرية وكأنه"، أي إخباره بأنه يقرأ سورتين في الأوليين من الظهر والعصر "مأخوذ من سماع بعضها" لا بمجرده، بل "مع قيام القرينة على قراءة باقيها" لأن سماع البعض لا يعطي ذلك بدون قرينة، "ويحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين وهو بعيد جدا انتهى" لأنه ليس ثم ما شهد له.
"وعن أنس: قرأ صلى الله عليه وسلم في الظهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أي: بالسورتين، "رواه النسائي" وابن خزيمة وصححه.
وعن أبي سعيد الخدري كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. رواه مسلم.
الفرع السادس: في ذكر قراءته في صلاة المغرب
عن أم الفضل بنت الحارث قالت: سمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] . رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود
"وعن أبي سعيد الخدري: كانت صلاة الظهر تقام" في المسجد النبوي: "فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ، ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى" لأنه كان يبادر أول الوقت، فيطيل الأولى لتتوافر الجماعة، لأنها تأتي والناس في قائلتهم وتصرفاتهم، ولهذا استحب تأخير الظهر إلى أن يفيء الفيء ذراعا، وقد ورد هذا المعنى نصا في أبي داود، قال: مظننا أنه يريد أن يدرك الناس الركعة الأولى، وعنده أيضا: كان يقوم حتى لا نسمع وقع قدم، أي: حتى يتكامل الناس، قاله أبو عبد الله الأبي، "رواه مسلم" في الصحيح والله أعلم.
الفرع السادس: في ذكر قراءته في صلاة المغرب
نحو قول البخاري باب القراءة في المغرب، أي: تقديرها لا إثباتها، لأنها جهرية، بخلاف ما تقدم في باب القراءة بالظهر، فالمراد إثباتها، قاله الحافظ، أي: أن الجهرية يعلم بها جميع من صلى خلفه صلى الله عليه وسلم، بل ومن صلى خلف غيره، فلا حاجة للتنبيه على أصلها، وإنما المحتاج إليه مقدارها بخلاف السرية يحتاج إلى إثباتها لخفائها على المقتدي به صلى الله عليه وسلم.
"عن أم الفضل" لبابة بضم اللام وموحدتين خفيفتين "بنت الحارث" الهلالية، يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، والصحيح فاطمة بنت الخطاب أخت عمر زوج سعيد بن زيد، "قالت: سمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ"المرسلات عرفا" أي: بهذه السورة "روه البخاري ومسلم" في الصلاة، كلاهما من طريق مالك "ومالك" في الموطأ "وأبو داود والترمذي والنسائي" في الصلاة من رواية ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن أم الفضل، يعني لبابة أمه سمعته، وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فقالت: يا بني والله لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب، فاقتصر المصنف على حاجته من الحديث، لكن يوهم قوله.
والترمذي والنسائي. وفي رواية أنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصرح عقيل في روايته عن ابن شهاب: أنها آخر صلاته صلى الله عليه وسلم ولفظه: ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله. أورده البخاري في باب الوفاة.
وعنده في باب: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" من حديث عائشة: أن الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته كان الظهر.
وجمع بينهما: بأن الصلاة التي حكتها عائشة كانت في المسجد، والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته، كما رواه النسائي.
لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب، الحديث رواه الترمذي.
"وفي رواية، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم" إنها رواية ثانية ولا كذلك كما ترى، فكان الصواب إسقاط في رواية، ويقول: وإنها لآخر، "وصرح عقيل" بضم العين ابن خالد بن عقيل بالفتح الأيلي، ثقة، من رجال الجميع "في روايته عن ابن شهاب" الزهري لهذا الحديث بسنده المذكور "إنها آخر صلاته صلى الله عليه وسلم، ولفظه" عن ابن عباس، عن أم الفضل، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} "ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله أورده" أي: رواه "البخاري" مختصرا فلو ذكره المصنف بلفظه، وعقبه بقوله وفي رواية لاتجه "في باب الوفاة" النبوية آخر كتاب المغازي، وقيدت بقوله: ما صلى لنا، لإفادة أنها ليست آخر صلاته مطلقا، فلا يخالف ما صححه الترمذي عن جابر، والنسائي عن أنس أن آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر، وأفاد البيهقي أنها صلاة صبح يوم الاثنين وهي آخر صلاة صلاها، "وعنده" أي البخاري "في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به" من كتاب الصلاة "من حديث عائش أن الصلاة التي صلاه النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته كانت الظهر، وجمع بينهما بأن الصلاة التي حكتها عائشة كانت في المسجد" وأبو بكر خلفه يسمع الناس، "والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته كما رواه النسائي" في حديث أم الفضل هذه "لكن يعكر عليه" أي: الجمع المذكور "رواية" محمد "بن إسحاق" بن يسار، "عن ابن شهاب" بسنده "في هذا الحديث،" أي: حديث ابن عباس عن أمه، "بلفظ: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، الحديث رواه الترمذي" فإن
ويمكن حمل قوله: "خرج إلينا" أي من مكانه الذي كان راقدا فيه إلى من في البيت فصلى بهم فتلتئم الروايات.
وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور. رواه البخاري ومسلم. زاد البخاري في "الجهاد": وكان جبير بن مطعم جاء في أسرى بدر. وزاد الإسماعيلي: وهو يومئذ مشرك. وللبخاري في "المغازي": وذلك
ظاهر قوله خرج من البيت إلى المسجد هذا وجه العكر، "ويمكن حمل قوله: خرج إلينا، أي من مكانه الذي كان راقدا فيه إلى من في البيت، فصلى بهم" في مكان آخر من البيت، فالذي خرج منه والذي خرج إليه كلاهما من البيت، "فتلتئم الروايات" عن عائشة وأم الفضل، فأريد بالجمع ما فوق الواحد، ولا يشكل على حديث أم الفضل حديث عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب، قال: آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، فقرأ في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} لأنه صلى الله عليه وسلم مرض أياما، فسمعه عبد الله يقرأ بالسورتين، ثم لم يسمعه بعدها، فأطلق عليها آخر بالنظر لما سمعه، أو مراده آخر صلاة صلاها بالمسجد قبل مرضه، فانساغ هذا، وإلا فما في الصحيحين والموطأ أصح.
"وعن جبير" بضم الجيم وفتح الموحدة، "ابن مطعم" بن عدي بن نوفل بن عبد مناف أسلم يوم فتح مكة، وقيل: قبله وكان أحد الأشراف، ومن حلماء قريش وساداتهم عارفا بالأنساب، مات سنة ثمان أو تسع وخمسين، "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، أي: بسورة الطور كلها، وقال ابن الجوزي: يحتمل أن الباء بمعنى من، كقوله:{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} ، واستدل الطحاوي لذلك بما رواه، بلفظ: فسمعته يقول: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٍ} قال: فأخبر أن الذي سمعه هو هذه الآية خاصة، فلا دليل فيه على تطويل القراءة في المغرب، قال الحافظ: وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة مع أن هذه الرواية بخصوصها مضعفة، وقد جاء في روايات أخر ما يدل على أنه قرأ السورة كلها، فعند البخاري في التفسير، فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} إلى قوله {الْمُسَيْطِرُونَ} ، كاد قلبي يطير، ونحوه لقاسم بن أصبغ، وللطبراني وابن حبان: سمعته يقرأ {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1، 2] مثله لابن سعد، وزاد: فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد. انتهى.
"رواه البخاري" في الصلاة والجهاد والمغازي والتفسير "ومسلم" في الصلاة، وكذا الموطأ وأبو داود والنسائي فيها وفي التفسير وابن ماجه فيه "زاد البخاري في الجهاد وكان، أي: "جبير بن مطعم جاء في أسرى بدر" ولابن حبان في فداء أهل بدر، "وزاد الإسماعيلي، وهو يومئذ مشرك وللبخاري في المغازي" في آخر الحديث، "وذلك أول ما وقر" أي: دخل
أول ما وقر الإيمان في قلبي. وللطبراني: فأخذني من قراءته الكرب، ولسعيد بن منصور: فكأنما صدع قلبي.
وفي قوله: "سمعته صلى الله عليه وسلم" دليل على الجهر بها،
وعن مروان بن الحكم: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل؟ وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين. رواه البخاري.
زاد أبو داود: قلت وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف.
"الإيمان في قلبي" أي: مقدماته من لين القلب وظن حقيقته، "وللطبراني: فأخذني من قراءته الكرب" المشقة والصعوبة لما في السورة من النداء على الكفار وتوبيخهم "ولسعيد بن منصور، فكأنما صدع" بالتخفيف "قلبي" أي: شقه وفيه صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر بعدما أسلم، وكذا الفسق إذا أداه حال العدالة.
"وفي قوله: سمعته صلى الله عليه وسلم دليل على الجهر بها" وهو مما لا خلاف فيه، "وطعن عروة بن الزبير، "عن مروان بن الحكم" بفتحتين الأموي أمير المدينة من جهة معاوية قال: "قال لي زيد بن ثابت" الأنصاري "ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل" كذا للكشميهني، وكذا في جميع الروايات عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وفي رواية للنسائي بقصار السور، ورواه الأكثر في البخاري بقصار بالتنوين عوض عن المضاف إليه، وعند النسائي من رواية أي الأسود عن عروة، عن زيد بن ثابت أنه قال لمروان يا أبا عبد الملك: القراءة في المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وصرح الطحاوي من هذا الوجه بالإخبار بين عروة وزيد، فكان عروة سمعه من مروان عن زيد، ثم لقي زيد فأخبره، قاله الحافظ والاستفهام للإنكار، "وقد سمعت" بضم التاء وفي بعضها بفتحها كذا للمصنف وفتحها لا يصح إذ مروان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقا إنما اختلف هل له رؤية فيعد بها في الصحابة، والصحيح أنه لا صحبة له، "النبي صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية البيهقي والإسماعيلي: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقرأ بطولى الطوليين" بتحتانيتين تثنية طولى تأنيث أطول، وهذه رواية الأكثر، ولكريمة بطول بضم الطاء وسكون الواو وجهه الكرماني، بأنه أطلق المصدر وأراد الوصف، أي: كان يقر بمقدار طول الطولين وفيه نظر، لأنه يلزم منه أنه قرأ بقدر السورتين وليس هو المراد، "رواه البخاري" وأبو داود والنسائي.
"زاد أبو داود" قال: قلت "وما طولى الطوليين، قال الأعراف" وبين النسائي في رواية له، أن التفسير من قول عروة، ولفظه قال: قلت: يا أبا عبد الله وهي كنية عروة، وللبيهقي قال: فقلت لعروة وللإسماعيلي، قال ابن أبي مليكة، أي: لعروة، ولأبي داود عن ابن أبي مليكة المائدة
وفي رواية النسائي من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين.
وعن عبد الله بن عتبة: قرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب بـ"حم" الدخان. رواه النسائي.
وهذه الأحاديث في القراءة مختلفة المقادير، لأن "الأعراف" من السبع الطوال، "والطور" من طوال المفصل، و"المرسلات" من أوساطه. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار
والأعراف وللجوزقي عنه الأنعام والأعراف، ولأبي مسلم الكجي عن أبي عاصم النبيل يونس والأعراف، فاتفقوا على تفسير الطولى بالأعراف، وفي الأخرى ثلاثة والمحفوظ الأنعام.
قال ابن بطال: البقرة أطول السبع، فلو أرادها لقال: طولى الطول، فلما لم يردها دل على أنه أراد الأعراف، لأنها أطول السور بعد البقرة، وتعقب بأن النساء أطول من الأعراف اعتبارا بعدد الكلمات، لأن كلمات النساء تزيد على الأعراف بمائتي كلمة، وأجيب بأنه اعتبر عدد الآيات وعدد آيات الأعراف أكثر من عدد النساء وغيرها من السبع بعد البقرة، وقال ابن المنير تسمية الأعراف والأنعام بالطوليين إنما هو لعرف فيهما لا أنهما أطول من غيرهما، قاله الحافظ.
"وفي رواية النسائي من حديث عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين" واستدل به الخطابي وغيره على امتداد وقت المغرب إلى الشفق وفيه نظر، لأن القائلين بأن لها وقتا واحدا لم يحددوه بقراءة، بل قالوا له أن يطول إلى الشفق، ومنهم من قال: ولو غاب الشفق وحمله الخطابي على أنه يوقع ركعة في أول الوقت ويديم الباقي ولو غاب الشفق، ولا خفى ما فيه، لأن تعمد إخراج الصلاة عن الوقت ممنوع ولو أجزأت، فلا يحمل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك.
"وعن عبد الله بن عتبة""بالفوقية" ابن مسعود الهذلي ابن أخي عبد الله بن مسعود كان صغيرا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له عنه رواية، وذكره العقيلي في الصحابة اتفقوا على ثقته وكان رفيع القدر كثير الحديث والفتيا فقيها مات سنة أربع، وقيل: ثلاث وسبعين كما في الإصابة، قال:"قرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب بـ"حم" الدخان، رواه النسائي" مرسلا كما علم وفي ابن حبان من حديث ابن عمر أنه قرأ بهم في المغرب بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحديد: 1]"وهذه الأحاديث في القراءة مختلفة المقادير، لأن الأعراف من السبع الطوال" أي: سادستها وفي السابعة خلاف مر في الخصائص، "والطور من طوال المفصل والمرسلات من أوساطه" على قول، "قال الحافظ ابن حجر: ولم أر حديثا مرفوعا فيه
المفصل، إلا حديثا في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص. ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدارقطني: أخطأ بعض رواته فيه، وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعد بن سماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب.
واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: ما رأيت أحدا أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان: فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل. رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره.
وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن في الاستدلال به نظر، نعم حديث رافع أنهم كانوا ينتظرون بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها.
التنصيص على القراءة فيها" أي: المغرب "بشيء من قصار المفصل إلا حديثا في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون" بالرفع حكاية "والإخلاص، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة، فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول".
"قال الدارقطني: أخطأ بعض رواته فيه"، أي: في قوله قرأ بهما في المغرب إنما قرأ بهما في الركعتين بعده على المحفوظ "وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعيد بن سماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما" أي: بالسورتين "في الركعتين بعد المغرب" لا في المغرب، "واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم" كالمالكية ممن قال باستحباب القراءة فيها بقصار المفصل "حديث سليمان بن يسار" أحد الفقهاء "عن أبي هريرة قال: ما رأيت أحدا أشبه" صلاة "بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان: فكان" فلان "يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل، رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، وهذا يشعر بالموظبة على ذلك" بناء على أن كان مع المضارع تفيد الدوام، "لكن في الاستدلال به نظر" إذ غاية ما قال أشبه ولم يقل مثلها، فقراءته ذلك لا تستلزم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما نصا إنما هو احتمال "نعم حديث رافع" بن خديج الأنصاري "إنهم كانوا ينتظرون" بفتح التحتية فنون ساكنة ففوقية مفتوحة فضاد معجمة مكسورة، أي يلعبون بالنضال، أي السهام "بعد صلاة المغرب" مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم راجعون إلى ديارهم، فما يخفى عليهم مواضع سهامهم كما مر في الأوقات، "يدل على تخفيف القراءة فيها" بحيث يقع الفراغ منها والوضوء باق، إذ لو طول فيها لما أبصروا مواضع سهامهم في عودهم، ومن فسر التناضل بالتسابق في المجيء للاقتداء به صلى الله عليه وسلم، لأنه لو كان يطول فيها لما تسابقوا في المجيء إليه لعلمهم بأنهم وإن تأخروا
وطريق الجمع بين الأحاديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس في حديث جبير دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أنه صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه -فيما يظهر- المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات، لكونه كان في حال شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف.
وهو يرد على أبي داود ادعاء نسخ الطويل في المغرب، لأنه روى عقب
قليلا يدركونه في الركعة الأولى فقد سها، لأنه خلاف نص الحديث أن التناضل بعد صلاة المغرب معه وهم راجعون إلى ديارهم، وتعلقه بقول المختار انتضل القوم وتناضلوا وهو السبق زيادة سهو، لأن معناه اللعب بالسهام لا السرعة في المشي إلى الصلاة المنهي عنها، ثم بهذا علم أن نسخة ينتفلون من التنفل تحريف، "وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز،" إذ لو واظب على التقصير لتوهم عدمه، "وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين" فيفيد جواز ذلك أيضا، "وليس في حديث جبير" ابن مطعم السابق "دليل على أن ذلك تكرر منه" لأنه إنما قال سمعته يقرأ في المغرب بالطور.
"وأما حديث زيد بن ثابت، ففيه إشعار بذلك، لكونه أنكر على مراون المواظبة على القراءة بقصار المفصل ولو كان مروان يعلم" من غيره "أنه صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد" وهو لم يحتج "لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال وإنما أراد منه" أي: مروان "أن يتعاهد ذلك" بقراءته أحيانا "كما رآه" زيد "من النبي صلى الله عليه وسلم" لئلا ينسى فعله "وفي حديث أم الفضل" السابق "إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ" في المغرب "في الصحة" خلاف المرض "بأطول من المرسلات" فيوافق حديث زيد بطولى الطوليين "لكونه كان في حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف" وقد قرأ بالمرسلات وهي طويلة هكذا رأيته في الفتح بلفظ في الصحة خلاف المرض وهو الذي يدل عليه السياق كما هو واضح، ويقع في كثير من نسخ المصنف في الصبح فإن صحت فلعل وجه الإشعار أنه لما قر فيها مع شدة مرضه وضيق وقتها بالمرسلات أشعر بأنه يقرأ بأطول منها في غيرها لسعة وقته وخص الصبح للنشاط فيها أكثر من غيره "وهو يرد على أبي داود ادعاء نسخ الطويل في المغرب لأنه
حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة.
وكيف يصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات.
قال ابن خزيمة في صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف القراءة. انتهى.
والراجح عند النووي: أن المفصل من "الحجرات" إلى آخر القرآن.
روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة" بن الزبير "أنه" أي: عروة "كان يقرأ في المغرب بالقصار".
"قال" أبو داود: "وهذا يدل على نسخ حديث زيد، ولم يبين وجه الدلالة" قال الحافظ: وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه حمله على أنه اطلع على ناسخه، ولا يخفى بعد هذا الحمل، "وكيف يصح دعوى النسخ" بمجرد فعل عروة "وأم الفضل تقول إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ" فيها "بالمرسلات" فليس ضمير إنه للنبي صلى الله عليه وسلم كما توهمه من قال ليس فيه تصريح بأنها من قصار المفصل، فلا ينافي ما مر عن الحافظ بل الضمير لعروة، لأنه أقرب مذكور به أفصح الحافظ في توجيه الدلالة.
ما رأيت "قال ابن خزيمة في صحيحه وهذا من الاختلاف المباح فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف القراءة. انتهى" كلام الحافظ، وزاد بعده، وهذا أي: كلام ابن خزيمة أولى من قول القرطبي ما ورد من تطويل القراءة فيما استقر عليه التطويل أو عكسه فهو متروك. انتهى.
ونقل الترمذي عن مالك كراهة القراءة في المغرب بالطور والمرسلات ونحوهما، وعن الشافعي استحباب ذلك غريب، فالمعروف في مذهبهما أنه لا كراهة ولا استحباب، بل هو جائز كما قاله ابن عبد البر وغيره.
نعم المستحب تقصيرها للعمل بالمدينة، بل وبغيرها، "والراجح عند النووي" وكذا عند المالكية "أن المفصل" أوله "من الحجرات إلى آخر القرآن" يعني من الخلاف في المراد به مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن هل هو من أول الصافات أو الشورى أو الجاثية أو الفتح أو الحجرات أو ق أو الرحمن أو النجم أو الصف أو تبارك أو سبح أو الضحى إلى آخر القرآن.
أقول: قال الحافظ أكثرها مستغرب، والراجح الحجرات، ونقل المحب قولا شاذا أن
الفرع السابع: في ذكر ما كان يقرؤه في صلاة العشاء
عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فما سمعت أحدًا أحسن صوتا أو قراءة منه صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ومسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتى على آية عذاب وقف وتعوذ، رواه الترمذي من حديث حذيفة.
وكان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "سبحان ربي الأعلى". رواه
المفصل جميع القرآن، وأما ما رواه الطحاوي عن أبي موسى أن عمر كتب إليه اقرأ في المغرب آخر المفصل وآخر المفصل من لم يكن، فليس تفسيرا للمفصل، بل لا آخره، فدل على أن أوله قبل ذلك.
الفرع السابع: في ذكر ما كان يقرؤه في صلاة العشاء
"عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في" صلاة "العشاء والتين" بالواو" على الحكاية، وفي رواية: بالتين "والزيتون" أي: بهذه السورة في الركعة الأولى، ففي رواية للشيخين أيضا عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ، وللنسائي فقرأ في الركعة الأولى، وفي كتاب الصحابة لابن السكن في ترجمة ورقة بن خليفة رجل من أهل اليمامة، قال: سمعنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه، فعض علينا الإسلام، فأسلمنا، وأسهم لنا وقرأ في الصلاة بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} .
قال الحافظ: يمكن أن كانت، أي: القراءة في الصلاة التي عين البراء أنها العشاء أنه قرأ في الأولى بالتين، وفي الثانية بالقدر، وإنما قرأ فيها بقصار المفصل، لكونه مسافر والسفر يطلب فيه التخفيف، وحديث أبي هريرة في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} محمول على الحضر، فلذا قرأ فيها من أوساط المفصل.
قال البراء:"فما سمعت أحدًا أحسن صوتا أو قراءة" شك الراوي "منه صلى الله عليه وسلم" بل هو الأحسن على مدلول اللفظ عرفا وإن صدق بالمساواة لغة، "رواه البخاري ومسلم" وأصحاب السنن كلهم في الصلاة، "وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتى" في قراءته "على آية عذاب وقف" عن القراءة "وتعوذ" من العذاب، ثم يعود للقراءة، "رواه الترمذي من حديث حذيفة" بن اليمان وهو في مسلم والسنن الأربع ومسند أحمد، عن حذيفة قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بآية خوف تعوذ، وإذا مر بآية رحمة سأل الله، وإذا مر بآية فيها تنزيه سبح الله، "وكان" صلى الله عليه وسلم "إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
أحمد وأبو داود من رواية ابن عباس.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فانتهى إلى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فانتهى إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى، ومن قرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ} فبلغ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقل: آمنا بالله". رواه أبو داود، والترمذي إلى قوله:"وأنا على ذلك من الشاهدين".
وكان صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة وعنها سأله أبو هريرة، ويسكت بعد الفاتحة، ويسكت ثالثة بعد قراءة السورة، وهي سكتة لطيفة جدا
الْأَعْلَى} قال: "سبحان ربي الأعلى" مبادرا لامتثال الأمر، "رواه أحمد وأبو داود من رواية ابن عباس" عبد الله، قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأقره الذهبي "وقال صلى الله عليه وسلم:"من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} " أي: هذه السورة، "فانتهى إلى" آخرها بأن قرأ:" {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل" عقبها: "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين"، لأنه قول بمنزلة السؤال، فيحتاج إلى الجواب، ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه، فيكون السامع كالغافل، أو كمن لا يسمع إلا دعاء ونداء، "ومن قرأ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فانتهى إلى قوله" آخرها، بأن قرأ " {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى"، أي: هو قادر، "ومن قرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ} ، فبلغ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقل: آمنا بالله". بالجمع في آمنا وإن كان القائل واحدًا للإشارة إلى أن الإيمان حال في جميع أجزائه، فكل جزء مؤمن كما قال عبد الله بن الزبعرى الصحابي أسلم:
آمن اللحم والعظام لربي
…
ثم قلبي الشهيد أنت النذير
والأمر في الجميع للاستحباب، قال شيخنا: وينبغي الإسرار بذلك، لأنه من الدعاء والثناء، "رواه أبو داود" بتمامه من حديث أبي هريرة "و" رواه "الترمذي" من حديثه "إلى قوله":"وأنا على ذلك من الشاهدين" فاقتصر على سورة التين.
وقد روى البيهقي والحاكم، وصححه وحسنه غيره عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} قال: بلى، وإذا قرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قال بلى، "وكان صلى الله عليه وسلم يسكت" بفتح أوله من السكوت، وروي بضمه من الإسكات "بين التكبير والقراءة إسكاتة" بكسر أوله من السكوت من المصادر الشاذة، "وعنها" أي: عما يقوله فيها، "سأله أبو هريرة" لا عن ذاتها، ومر الحديث بتمامه قريبا في الفرع الأول "ويسكت بعد الفاتحة" ثم يقرأ السورة "ويسكت ثالثة بعد قراءة السورة، وهي
حتى يتراد إليه النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع.
وأما السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، وأما الثانية فلأجل قراءة المأموم الفاتحة، فينبغي تطويلها بقدرها. ذكره صاحب الهدى.
وعن سمرة بن جندب إلى: سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل في صلاته، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك، وإذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه. رواه الترمذي.
الفرع الثامن: في صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم
عن أبي حميد الساعدي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يضرب رأسه ولا يقنع. رواه أبو داود والدارمي.
سكتة لطيفة" أي: صغيرة "جدا حتى يتراد إليه النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع، وأما السكتة الأولى فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح" للصلاة، "وأما الثانية فلأجل قراءة المأموم الفاتحة" لأنه يكره سبقه بقراءتها، وقراءتها مع قراءة الإمام عند من قال يقرأها المأموم في الجهرية، "فينبغي" للإمام "تطويلها بقدرها" أي الفاتحة، "ذكره صاحب الهدى" ابن القيم.
"وعن سمرة بن جندب قال: سكتتان حفظتهما عن" أي: من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في صلاته" بعد التكبير وقبل القراءة، "وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} قال: وكان يعجبه" من أعجب "إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد" يتراجع "إليه نفسه" بفتحتين مفرد أنفاس "رواه الترمذي".
الفرع الثامن: في صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم
"عن أبي حميد الساعدي" الصحابي المشهور، اسمه المنذر بن سعد المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمر، وشهد أحدًا وما بعدها وعاش إلى سنة ستين، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رف يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فذكر الحديث" في صفة صلاته "إلى أن قال: ثم يركع ويضع راحتيه" أي: كفيه "على ركبتيه" في ركوعه "ثم يعتدل" فيه "فلا يصوب" أي: يخفض "رأسه ولا يقنع" بضم فسكون فكسر، أي لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره كما في النهاية، "رواه أبو داود" سليمان بن الأشعث
الفرع التاسع: في مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم
عن ابن جبير قال سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد من التابعين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني عمر بن عبد العزيز- قال: فحزرنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات. رواه أبو داود.
وعن البراء: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، ما خلا القيام والقعود، قريبا من السواء. رواه البخاري ومسلم.
قال النووي: هذا الحديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبت في
"والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن.
الفرع التاسع: في مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم
"عن ابن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد من التابعين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، يعني عمر بن عبد العزيز" وبقولنا من التابعين لا يرد أنه صلى خلف العمرين وعثمان ونحوهم، ولا شك أن صلاتهم أشبه بالصلاة النبوية من صلاة عمر بن عبد العزيز.
"قال" ابن جبير: "فحزرنا ركوعه" أي: "عمر تسبيحات وسجوده عشر تسبيحات رواه أبو داود" في السنن وفيه فضيلة ظاهرة لعمر بن عبد العزيز.
"وعن البراء" بن عازب قال: "كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم" اسم كان "وسجوده" عطف عليه "وبين السجدتين" عطف على ركوع بتقدير مضاف، أي: زمان ركوعه وسجوده بين السجدتين، أي: الجلوس بينهما، "وإذا رفع" أي: اعتدل "من الركوع"، ولأبي ذر: وإذا رفع رأسه من الركوع، أي: وقت رفع رأسه منه، وإذا هنا لمجرد الزمان منسلخا عن الاستقبال "ما خلا" يعني: إلا "القيام" الذي هو القراءة "والقعود" بنصبهما الذي للتشهد "قريبا" خبر كان "من السواء" بفتح السين والمد، أي: المساواة والاستثناء هنا من المعنى، كأنه قال: كان أفعال صلاته قريبة من السواء ما خلا القيام والقعود فكان يطولهما، "رواه البخاري ومسلم" وأبو داود والترمذي والنسائي، كلهم في الصلاة، وعزوه لمسلم فيه نوع تسمح إذ لم يقع عنده ما خلا القيام والقعود.
"قال النووي: هذا الحديث محمول على بعض الأحوال وإلا فقد ثبت في الحديث
الحديث تطويل القيام، فإنه كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة، وفي الظهر بـ {الم} السجدة، وأنه كانت تقام الصلاة فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع إلى أهله فيتوضأ ثم يأتي المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون، وأنه قرأ في المغرب بالطور والمرسلات، وفي البخاري: بالأعراف، فكل هذا يدل أنه كانت له في إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات. وهذا الحديث الذي نحن فيه جرى في بعض الأوقات. انتهى.
تطويل القيام، فإنه كان يقرأ في الصبح بالستين" من الآيات "إلى المائة، وفي الظهر بـ {الم} السجدة"، بالجر بدل، "وأنه كانت تقام الصلاة فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يرجع إلى أهله فيتوضأ، ثم يأتي المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه" صلى الله عليه وسلم "قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون" أو ذكر عيسى كما مر، "وإنه قرأ في المغرب بالطور والمرسلات".
"وفي البخاري" أنه قرأ فيها "بالأعراف فكل هذا يدل على أنه كانت له في إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات، وهذا الحديث الذي نحن فيه في بعض الأوقات. انتهى" قول النووي وهو مبني على أن المراد بالقيام في قوله ما خلا القيام ما يشمل الاعتدال وقيام القراءة، وفي فتح الباري قيل: المراد بالقيام الاعتدال وبالقعود الجلوس بين السجدتين، وجزم به بعضهم وتمسك به في أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين لا يطولان.
ورده ابن القيم في حاشية السنن، فقال: هذا سوء فهم من قائله، لأنه قد ذكرهما بعينهما، فكيف يستثنيهما، وهل يحسن قول القائل: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد إلا زيدا وعمرا، فإنه متى أراد نفي المجيء عنهما كان متناقضا. انتهى.
وتعقب بأن المراد بذكرهما إدخالهما في الطمأنينة وباستثناء بعضها إخراج المستثنى من المساواة، وقال بعض شيوخنا: معنى قوله قريبا من السواء أن كل ركن قريب من مثله، فالقيام الأول قريب من الثاني والركوع في الأولى قريب من الثانية، والمراد بالقيام والقعود اللذين استثنيا الاعتدال والجلوس بين السجدتين، ولا يخفى تكلفه، واستدل بظاهره على أن الاعتدال ركن طويل، ولا سيما قوله في حديث أنس: حتى يقول القائل قد نسي، وفي الجواب عنه تعسف.
وقد روى البخاري أيضا الحديث بغير استثناء وكذا أخرجه مسلم وغيره من طرق، وقيل: المراد بالقيام والقعود للقراءة والجلوس للتشهد، لأن قيام القراءة أطول من جميع الأركان غالبا. انتهى.
وقال ابن القيم: مراد البراء أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال القيام والركوع والسجود، وإذا خفف خفف الركوع والسجود، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام، وهديه عليه الصلاة والسلام الغالب تعديل الصلاة وتناسبها. انتهى.
الفرع العاشر: فيما يقوله في الركوع والرفع منه
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي"، يتأول القرآن. رواه البخاري ومسلم.
"وقال ابن القيم: مراد البراء أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال القيام والركوع والسجود، وإذا خفف" القراءة "خفف الركوع والسجود، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام وهديه" أي: سيرته وطريقته وهيئته التي كان عليها "عليه الصلاة والسلام الغالب تعديل الصلاة وتناسبها. انتهى".
وهو جواب عن الاستدلال بالحديث على تطويل الاعتدال في الرفع من الركوع وبين السجدتين، وأوضح منه قول الحافظ: أجاب بعضهم عن حديث البراء، بأنه ليس المراد بقوله: قريبا من السواء أنه كان يركع بقدر قيامه، وكذا السجود والاعتدال، بل المراد أن صلاته كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان وإذا خففها خفف بقية الأركان، فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بالصافات، وثبت في السنن عن أنس، أنهم خرروا في السجود قدر عشر تسبيحات، فيحمل على أنه إذا قرأ بدون الصافات اقتصر على دون العشر، وأقله كما ورد في السنن أيضا ثلاث تسبيحات. انتهى.
الفرع العاشر:
"فيما يقوله في الركوع و" ما يقوله في "الرفع منه" فليس المراد أنه شيء واحد يقول فيهما خص الترجمة بالركوع وإن قال في الحديث الأول في ركوعه وسجوده، وفي الثاني ما يقوله في كل منهما، كما خص السجود بالثالثة ليجمع في كل منهما ما فعل فيه وإن شاركه الآخر في بعضها.
"عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك" نصب بفعل محذوف لزوما، أي: أسبح سبحانك "اللهم، و" سبحت "بحمدك" فمتعلق الباء محذوف، أي: بتوفيقك وهدايتك لا بحولي وقوتي، ففيه شكر الله تعالى على هذه
ومعنى "يتأول القرآن": يعمل بما أمر به فيه في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فكان عليه السلام يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفى ما أمر به في الآية.
وعنها: كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس رب الملائكة
النعمة والاعتراف بها، والواو فيه للحال أو لعطف الجملة على الجملة، سواء قلنا إضافة الحمد إلى الفاعل، والمراد منه لازمه مجازا، وهو ما يوجبه من التوفيق والهداية، أو إلى المفعول، ومعناه: وسبحت ملتبسا بحمدي لك "اللهم اغفر لي" يتأول القرآن، رواه البخاري" في الصلاة والمغازي والتفسير "ومسلم" وأبو داود والنسائي وابن ماجه في الصلاة، "ومعنى يتأول القرآن يعمل بما أمر به فيه" لا ما اصطلح عليه أهل الأصول من حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن كان لدليل فصحيح، أو لشبهة ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل "في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ، فالمراد بالقرآن بعضه، وهو السورة المذكورة كما بين في رواية البخاري في اتفسير مع بيان ابتداء هذا الفعل، وإنه واظب عليه ولفظه: ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد إذ أنزل عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} إلا يقول فيها الحديث، وزعم أنه اختار الصلاة لهذا القول لأن حالها أفضل من غيرها مردود، فليس في الحديث أنه لم يقل ذلك خارج الصلاة، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها.
"فكان عليه السلام يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفى ما أمر به في الآية" ففيه تعيين أحد احتماليها، إذ تحتمل أن التسبيح بنفس الحمد لما تضمنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو التنزيه لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله تعالى، فيكفي في الامتثال الاقتصار على الحمد، يحتمل أن المراد فسبح ملتبسا بالحمد، فلا يتمثل حتى يجمعهما وهو الظاهر، قاله الحافظ.
"وعنها" أي عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه" في بعض الأوقات "وسجوده" هكذا في نسخة صحيحة، وهو كذلك في مسلم، وسقط في بعض نسخ المصنف:"سبوح قدوس" بضم السين والقاف وفتحهما، قال ثعلب، كل اسم على فعول مفتوح الأول إلا سبوحا وقدوسا، فالضم فيهما أكثر، ورويا بالنصب قياسا بإضمار فعل، أي أصبح سبوحا، وبالرفع وهو أكثر استعماله على الخبر، أي: ذكر لمن هو سبوح وبناؤهما للمبالغة من التسبيح والتقديس، والمعنى أنه تبارك وتعالى مطهر منزه عن صفات المخلوقين، والأظهر أنهما اسمان بمعنى مسبح ومقدس، فأما قدوس فمذكور في الأسماء الحسنى، وأما سبوح فنص على أنه من الأسماء ابن فارس والزبيدي، ذكره الأبي "رب الملائكة والروح" عطف خاص على عام، قيل: هو جيريل، وقيل: ملك
والروح". رواه مسلم.
وعن حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى" رواه، وكان إذا رفع ظهره من الركوع قال:"سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملء السموات الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد". رواه مسلم.
قال النووي: يبدأ -يعني المصلي- بقوله: "سمع الله لمن حمده" حين
عظيم، وقيل: خلق لا تراهم الملائكة، "رواه مسلم" من أفراده.
"وعن حذيفة" بن اليمان "أنه صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه": "سبحان ربي العظيم" أي: ثلاثا كما في ابن ماجه والدارقطني عن حذيفة نفسه، وزاد الثاني:"وبحمده"، وفي أبي داود عن عقبة بن عامر كان صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال:"سبحان ربي العظيم وبحمده" ثلاثا، "وفي سجوده":"سبحان ربي الأعلى". رواه
…
" كذا في نسخ وبيض بعده، وفي نسخة، بإسقاط رواه، وقد أخرجه الشيخان وغيرهما عن حذيفة في حديث طويل، "وكان إذا رفع ظهره" مفرد ظهور كما في نسخة صحيحة، وهو الذي في مسلم في حديث ابن أبي أوفى هذا، ويقع في النسخ رأسه، وإنما هي في مسلم في حديث أبي سعيد الآتي "من الركوع، قال":"سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملء السموات والأرض".
زاد في رواية لمسلم: "وما بينهما". قال المصنف عليه بكسر ميم ملء الاسم، وبفتحها المصدر وفتح الهمزة أرجح من ضمها، وفي الأبي: الأشهر في ملء النصب على التمييز، ورجحه ابن خالويه، وحكى عن الزجاج تعين رفعه، وبالغ في إنكار النصب.
قال الخطابي: هذا تمثيل وتقريب، والكلام ايقدر بالمكاييل ولا تسعه الأوعية، وإنما المراد منه تكثير العدد حتى لو قدر أن تكون تلك الكلمات أجساما تملأ الأماكن لبلغت من كثرتها ما يملأ السموات والأرضين.
وقال التوربشتي: هذا يشير إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ المجهود، فإنه حمده ملء السموات والأرض، وهذه نهاية حمد القائمين به، ثم ارتفع فأحل الأمر فيه على المشيئة، فقال:"وملء ما شئت من شيء بعد" وليس وراء ذلك الحمد منتهى، فإن حمد الله تعالى أعز من أن يعتوره الحسبان، أو يكتنفه الزمان والمكان، ولم ينته أحد من خلق الله في الحمد مبلغه ومنتهاه، وبهذه الرتبة استحق صلى الله عليه وسلم أن يسمى بأحمد.
"رواه مسلم" عن عبد الله بن أبي أوفى، وظاهر قوله: إذا رفع ظهره أنه يقول التسميع بعد تمام الرفع من الركوع وليس بمراد، ولذا "قال النووي: يبدأ، يعني المصلي بقوله: سمع الله
يشرع في الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع في ذكر الاعتدال وهو: ربنا ولك الحمد
…
إلخ.
قال: وفي هذا الحديث دلالة الشافعي وطائفة: أنه يستحب لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين "سمع الله لمن حمده" و"ربنا ولك الحمد" في حال استوائه وانتصابه. لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا. وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". رواه البخاري. انتهى.
وقال ابن القيم: كان عليه السلام إذا استوى قائما قال: "ربنا ولك الحمد"، وربما قال:"ربنا لك الحمد"، وربما قال:"اللهم ربنا لك الحمد". صح عنه ذلك كله، وأما الجمع بين "اللهم" و"الواو" فلم يصح. انتهى.
قلت: وقع في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -في رواية الأصيلي-
لمن حمده حين يشرع في الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع في ذكر الاعتدال وهو: ربنا ولك الحمد
…
إلخ"، فيؤول قوله: إذا رفع ظهره على معنى شرع في رفعه ابتدأ التسميع ومده إلى تمام قيامه؛ وبهذا حصل الجمع بين ظاهر هذا الحديث أن التسميع من ذكر الاعتدال وبين ما دل عليه حديث أبي هريرة وغيره أنه من ذكر الانتفال وهو المعروف.
قال: وفي هذا الحديث دلالة للشافعي وطائفة أنه يستحب لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين "سمع الله لمن حمده" و"ربنا ولك الحمد" في حال استوائه وانتصابه"، عطف تفسير، "لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا" والغالب كونه إماما، "وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". رواه البخاري. انتهى".
وقال أبو حنيفة ومالك يقول الإمام سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم ربنا لك الحمد فقط لحديث:"إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد"، فقصر الإمم على قول ذلك، والمأموم على الآخر، وهذه قسمة منافية للشركة، كحديث:"البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
وأجابوا عن هذا الحديث بحمله على صلاته صلى الله عليه وسلم منفردا، والمنفرد يجمع بينهما على الأصح، أو على صلاة النافلة توفيقا بين الحديثين.
"وقال ابن القيم: كان عليه السلام إذا استوى قائما قال: "ربنا ولك الحمد"، وربما قال: "ربنا لك الحمد" بدون واو، "وربما قال: "اللهم ربنا لك الحمد" بلا واو "صح عنه ذلك كله، وأما الجمع بين "اللهم" و"الواو" فلم يصح. انتهى".
"قلت: وقع في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة في رواية الأصيلي مرفوعا:
مرفوعا: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقلوا: اللهم ربنا ولك الحمد". فجمع بين "اللهم" و"الواو" وهو يرد على ابن القيم كما ترى.
وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: كان إثبات "الواو" دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير: ربنا استجب، أو ما قارب ذلك، ولك الحمد، فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء، ومعنى الخبر، وإذا قيل بإسقاط "الواو" دل على أحد هذين. انتهى.
وقال ابن العراقي: إسقاط "الواو" حكاه عن الشافعي ابن قدامة وقال: لأن
"إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد". فجمع بين اللهم والواو، وهو يرد على ابن القيم" قوله: لم يصح "كما ترى" ولا رد فيه، لأنه إنما قال لم يصح من فعله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لهم بما يقولون، ولا يرد أن من السنة أمره، لأن كلامه فيما كان يقوله هو في صلاته على أنه لو سلم أنه يرد عليه لأمكنه أن يدعي شذوذ رواية الأصيلي هذه لمخالفته لجميع رواة البخاري الذي منهم المستملي وهو أحفظهم فإنهم رووه بدون الواو، وهو إنما نفي الصحة لا الورود، ولكن العجب منه ثم من المصنف إلى الغاية، فإنه صح الجمع بينهما من فعله صلى الله عليه وسلم ففي البخاري قبل هذا الباب بلصقه باب ما يقول الإمام ومن خلفه، وروى فيه عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: "سمع الله لمن حمده". قال: "اللهم ربنا ولك الحمد". قال المصنف بإثبات الواو، ونص أحمد فيما رواه عنه الأثرم على ثبوتها في عدة أحاديث، وفي بعض الروايات ربنا لك الحمد بحذفها. انتهى.
وفي الفتح كذا ثبت بزيادة الواو في طرق كثيرة وفي بعضها بحذفها. انتهى.
فكان اللائق ذكر هذا في الرد، لأنه ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم في أكثر الروايات الجمع بينهما، فسبحان من لا يسهو، "وقال الشيخ تقي الدين" بن دقيق العيد "في شرح العمدة: كان إثبات الواو دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير ربنا استجب، أو ما يقارب ذلك" من التقدير المناسب للمقام، "ولك الحمد" فهي عاطفة على مقدر "فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء" بطلب الإجابة "ومعنى الخبر" بأنه مستحق لجميع المحامد، "وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين انتهى".
قال الحافظ: وهذا بناء منه على أن الواو عاطفة، وقد قيل إنها واو الحال قاله ابن الأثير، وضعف ما عداه، وقيل: زائدة، قال الأصمعي: سألت أبا عمرو عنها، فقال: زائدة تقول العرب، يعني هذا، فيقول: نعم وهو لك بدرهم، قالوا: وزائدة.
"وقال ابن العراقي" أحمد بن عبد الرحيم إسقاط الواو حكاه عن الشافعي ابن قدامة،
"الواو" للعطف، وليس هنا شيء تعطف عليه. وعن مالك وأحمد في ذلك خلاف.
وقال النووي: كلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز وأن الأمرين جائزان، ولأمر مرجح لأحدهما على الآخر. انتهى.
وعن أبي سعيد الخدري: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". رواه مسلم.
وقال: لأن الواو للعطف وليس هنا شيء تعطف عليه" وقد رأيت أنها للعطف على مقدر أو زائدة، أو للحال فلم تتعين للعطف حتى يجعل علة في إسقاطها.
"وعن مالك وأحمد في ذلك خلاف" فروى ابن القاسم عن مالك إثباتها مع اللهم، وروى عنه أشهب إسقاط الواو مع إثبات اللهم، وروى الأثرم عن أحمد إثبات الواو، وقال: إنه ثبت فيه عدة أحاديث، وروى غيره عنه حذفها.
"وقال النووي: كلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز وأن الأمرين جائزان ولا مرجع لأحدهما على الآخر. انتهى" أي: من حيث الثبوت والرد وإن كانت رواية الواو على توجيه ابن دقيق العيد أرجح، من حيث النظر، لأن ما فيه زيادة أعظم من غيره، ثم لا يرد عليه قول المصنف في شرح البخاري، قال العلماء: رواية الواو أرجح. انتهى؛ لأن رجحانها من حيث كثرة رواتها لا يرد رواية حذفها لعدم التنافي بينهما.
"وعن أبي سعيد الخدري: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد" بدون واو كما في مسلم، فما يوجد في بعض نسخ المصنف بالواو خطأ من الكتاب "ملء السموات وملء الأرض"، بالنصب تمييزا أو حال أشهر من رفعه على الصفة وإن قال الزجاج أنه المتعين، "وملء ما شئت من شيء" كالعرش والكرسي وغيرهما مما لا يعلمه غيره "بعد" أي: بعدهما "أهل الثناء والمجد".
قال عياض: هو لهم الجيم، أي: نهاية الشرف، ولابن ماهان والحمد بالحاء والأول أليق، لأن الحمد ذكر، أو لا وهو أعم من الثناء المجرد، وهو الذكر الجميل "أحق ما قال العبد" يحتمل الجنس، والعهد وأنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأبي "وكلنا لك عبد" أي: كل واحد منا أو جملتنا على إرادة الجنس بالعبد. "لا مانع".
وفي نسخة: "اللهم لا مانع" وهما روايتان في مسلم "لما أعطيت" أي: لما أردت إعطاءه وإلا فبعد الإعطاء من كل أحد لا مانع له إذ الواقع لا يرتفع، "ولا معطي لما منعت ولا
قوله: "ملء السموات وملء الأرض": أي حمدًا لو كان أجساما لملأ السموات والأرض.
ومعنى "سمع الله لمن حمده": أي أجاب، يعني: أن من حمد الله متعرضا لثوابه استجاب الله له، فأعطاه ما تعرض له، فأنا أقول ربنا لك الحمد ليحصل ذلك.
وقوله: "أهل": منصوب على النداء.
ينفع ذا الجد منك الجد" قال عياض أكثر روايتنا في الجيم الفتح وفسر بالبخت والحظ، أي الحظ منك في الدنيا في المال والولد لا ينفع في الآخرة، وإنما ينفع فيها العمل، وقيل: الجد الغنى، وقيل: العظمة والسلطان، ومنه قوله تعالى: {جَدُّ رَبِّنَا} ، وحكى الشيباني كسر الجيم، وضعفه الطبري، أي: ابن جرير وقال: لا أعرفه لغيره، أي: لورود الحث على العمل في الكتاب والسنة كثير المفيد أنه نافع، ولكن يمكن توجيهه بأن المعنى لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده إلا أن يكون له سابقة خير، فإن العمل لا ينجي بنفسه وإنما ينجي فضل الله لحديث: "لا يدخل الجنة أحد بعمله" وقد يكون المراد في كسب الدنيا والتحفظ من المكاره، أي لا يكسب أحد إلا ما قضى الله له، ولا يلم إلا بما أراده، وهذا أشبه بظاهر الحديث، وهو أصل التسليم وإثبات القدر، ولذا ترجم عليه البخاري وأدخله في باب القدر، أي: أدخل حديث المغيرة فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة، وهو بنحو هذا الحديث لا حديث أبي سعيد المذكور، لأن البخاري لم يروه، وقال الأبي: فمنك على الفتح بمعنى بدل، أي: لا ينفع ذا الحظ حظه بدل طاعتك، كقوله تعالى:{لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً} [الزخرف: 60] .
أي: بدلكم، وقيل: هو بمعنى عند، أي: لا ينفع ذا الحظ حظه عندك، وقيل: المراد جد النسب، أي: لا ينفع أدًا نسبه كما قال تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]"رواه مسلم" من أفراده "قوله: "ملء السموات وملء الأرض" أي: حمدا لو كان أجساما لملأ السموات والأرض" فهو تمثيل لكثرة عدد الحمد كما قال الخطابي، وقيل: المراد ثوابه، وقد يراد بذلك عظم الكلمة كما يقال هذه الكمة تملأ طباق الأرض، قاله الأبي. "ومعنى سمع الله لمن حمده، أي: أجاب، يعني: أن من حمد الله متعرضا لثوابه استجاب الله له فأعطاه ما تعرض له، فأنا أقول ربنا لك الحمد ليحصل ذلك" وإنما كان ذلك معناه، لأن سمع كل شيء من حمده وغيره.
"وقوله: "أهل" منصوب على النداء" أي: يا أهل على الأظهر أو على المدح، ويجوز
وقوله: "وكلنا لك عبد" بالواو، يعني: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت
…
إلخ. واعترض بينهما قوله: "وكلنا لك عبد"، ومثل هذا الاعتراض قوله تعالى:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] على قراءة من قرأ فتح العين وإسكان التاء.
و"الجد" بفتح الجيم، الغنى أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة، وقيل غير ذلك والله أعلم.
وفي رواية ابن أبي أوفى عند مسلم: كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد قوله: "من شيء" بعد: "اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد".
الرفع على الخبر، أي: أنت أهل، قاله الأبي.
"وقوله: "وكلنا لك عبد" بالواو، يعني: أحق قول العبد" فأحق مبتدأ وما مصدرية "لا مانع لما أعطيت
…
إلخ " ويجوز أن تكون ما موصولة أو نكرة موصوفة، أي: أحق شيء قاله العبد، ويجوز أن أحق خبر لما قبله، أي: الحمد المذكور أحق كما في الأبي، "واعترض بينهما قوله: "وكلنا لك عبد" للتأكيد، وشهادة من لا ينطق عن الهوى تؤكد أن يديم الإنسان هذا الذكر، ويقع في كتب الفقهاء حق ما قال العبد كلنا لك عب، بإسقاط الهمزة والواو، وهو صحيح لغة لا رواية كما في الأبي، "ومثل هذا الاعتراض" في أن الجملة معترضة بين كلامين من متكلم واحد "قوله تعالى:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} على قراءة من قرأ بفتح العين وإسكان التاء" لأن الاعتراض فيها بين جملتين كل منهما مستقلة بنفسها، لكنهما مقولتان لمريم، وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} إخبار بأن الله لا يخفى عليه شيء "والجد "بفتح الجيم" في الموضعين على المشهور، بمعنى "الغنى، أي: لا ينفع ذا الغنى" ضد الفقر "منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة وقيل": في معناه "غير ذلك" كما مر "والله أعلم".
"وفي رواية" عبد الله "بن أبي أوفى"، "بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة"، "عند مسلم كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد قوله "من شيء" بعد"، "بضم الدال"، "اللهم طهرني بالثلج والبرد""، "بفتحتين" المطر "وماء البارد" استعارة للمبالغة في تعظيم التطهير من الذنوب، فإن الأنواع الثلاثة هي المنزلة للتطهير، وهو تمثيل لأنواع المغفرة، والمعنى: اللهم طهرني بأنواع مغفرتك التي تمحو الذنوب تطهيرا لأنواع الثلاثة للحدث والخبث، وأخر الماء إشارة الشمول الرحمة بعد المغفرة لأن الماء أعم وأشمل في التطهير وخص البارد وإن كان السخن أنقى منه ليجانس ما قبله، ولأن البرودة هي المناسبة لإطفاء حرارة عذاب النار. قال عياض: والإضافة في ماء البارد من إضافة
الفرع الحادي عشر: في ذكر صفة سجوده صلى الله عليه وسلم وما يقول فيه
كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من ذكر قيامه عن الركوع يكبر، ويخر ساجدا، ولا يرفع يديه.
وقد روي أنه عليه السلام كان يرفع يديه أيضا، وصححه بعض الحفاظ كابن حزم، والذي غره أن الراوي غلط من قوله:"كان يكبر في كل خفض ورفع" إلى قوله: "كان يرفع يديه في كل خفض ورفع" وهو ثقة، ولم يفطن لسبب غلطه، ووهم فصححه. نبه عليه في زاد المعاد.
وكان عليه السلام يضع يديه قبل ركبتيه. رواه أبو داود.
الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع والكوفيون يجيزونها والبصريون يمنعونها، ويؤولون ما جاء منها على حذف الموصوف، أي: مسجد الموضع الجامع. انتهى.
وإضافة الشيء إلى نفسه يمنعها الفريقان، وتجوز القاضي في أنها من ذلك، وإنما هي من إضافة الموصوف إلى صفته بدليل ما مثل به، ذكره كله أبو عبد الله الأبي.
الفرع الحادي عشر: في ذكر صفة سجوده صلى الله عليه وسلم وما يقول فيه
"كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى" أي فرغ "من ذكر قيامه" الصادر "عن الركوع" أي: الواقع بعد الرفع منه "يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه" إذ أخر للسجود كما دل عليه حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما.
"وقد روي أنه عليه السلام كان يرفع يديه أيضا" إذا خر للسجود، "وصححه بعض الحفاظ كابن حزم" اغترارا بثقة رجاله كما قال، "والذي غره أن الراوي غلط من قوله: كان يكبر في كل خفض ورفع، إلى قوله: كان يرفع يديه في كل خفض ورفع" أي: أنه أبدل ذلك بهذا غلطا "وهو ثقة ولم يفطن" بضم الحاء وفتحها، أي: لم يتنبه من صححه "لسبب غلطه" الذي قلناه "ووهم" حيث لم يفطن لذلك، "فصححه" اعتمادا على كونه ثقة "نبه عليه في زاد المعاد" في هدى خير العباد لابن القيم، "وكان عليه السلام يضع يديه قبل ركبته" في السجود، وأبدى له الزين بن المنير مناسبة، وهي أن يعتصم بتقديمها عن إيلام ركبتيه إذا جثا عليهما، واستحب ذلك الأوزاعي ومالك، قائلا: لأنه أحسن في خشوع الصلاة ووقارها "رواه أبو داود" وكما ورد من فعله ورد من أمره كما في السنن بإسناد جيد عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" وعورض بحديث عنه آخر
وقال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين". رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس.
عند الطحاوي، لكن إسناده ضعيف، وقال الحنفية والشافعية: الأفضل أن يضع ركبتيه ثم يديه، وفي حديث في السنن أيضا عن وائل بن حجر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، ومن ثم قال النووي: لا يظهر ترجيح أحد المذهبين على الآخر من حيث السنة، لكن قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام من أحاديث الأحكام: حديث أبي هريرة من حديث وائل، لأن لحديث أبي هريرة شاهدا من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة عن نافع، قال: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وذكره البخاري معلقا موقوفا.
وفي الفتح: ادعى ابن خزيمة أن حديث أبي هريرة منسوخ بحديث سعد: كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين، وهذا لو صح لكان قاطعا للنزاع، لكنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه وهما ضعيفان. انتهى.
"وقال" صلى الله عليه وسلم: "أمرت"، "بضم الهمزة" في جميع الروايات على البناء لما لم يسم فاعله، والمراد به الله جل جلاله، قال البيضاوي: عرف ذلك بالعرف، وذلك يقتضي الوجوب، قيل: وفيه نظر، لأنه ليس فيه صيغة أفعل، وفي رواية أمر النبي، ولما كان هذا السياق يقتضي الخصوصية عقبه البخاري، بلفظ دال على أنه لعموم الأمة، ولفظه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم، ورواه مسلم عن أبيه العباس، مرفوعا:"إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب"، وهذا يرجح أن النون في أمرنا نون الجمع، والآراب بالمد جمع إرب، بكسر أوله وإسكان ثانيه، وهو العضو "أن أسجد على سبعة أعظم" وفي رواية: أعضاء.
قال ابن دقيق العيد: سمى كل واحد عظما باعتبار الجملة وإن اشتمل كل واحد على عظام، ويجوز أنه من تسمية الجملة باسم بعضها، قاله الحافظ "الجبهة" بالخفض عطف بيان لسبعة أعظم وما عطف عليه وهو "واليدين" قال ابن دقيق العيد: المراد بهما الكفان لئلا يدخل تحت النهي عن افتراش السبع والكلب. انتهى.
وفي رواية لمسلم بلفظ والكفين "والركبتين وأطراف" أصابع "القدمين" وهذه مبينة لرواية: والرجلين "رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة "من حديث ابن عباس" عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يعلم أن قول ابن عباس في رواية للشيخين أيضا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد
…
إلخ تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم إما سماعا منه وإما بلاغا عنه، ويحتمل أنه تلقاه عن أبيه عنه صلى الله عليه وسلم، لأن مسلما روى عن العباس حديث إذا سجد العبد
…
إلخ كذا في الفتح، والأصل عدم إرسال الصحابي، وكون العباس روى هذا الحديث بهذا اللفظ لا يقتضي أن ابنه تلقى عنه اللفظ المروي عنه عن
قال النووي: فينبغي للساجد أن يسجد على هذه الأعضاء كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض، ويكفي بعضها، والأنف مستحب، فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز، هذا مذهب الشافعي ومالك والأكثرين، وقال أبو حنيفة عليهما معا لظاهر الحديث، وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما في حكم عضو واحد، لأنه قال فيه "سبعة" فلو جعلا عضوين صارت ثمانية.
وكان عليه السلام إذا سجد فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه. رواه الشيخان.
النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما الظاهر في أنه بلا واسطة.
"قال النووي: فينبغي للساجد أن يسجد على هذه الأعضاء كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض" أو ما في حكم المكشوفة، كحائل خفيف عند المالكية، "ويكفي بعضها" أي: الجبهة في السجود عليه، "والأنف مستحب فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز" بضم فسكون من الأجزاء، "هذا مذهب الشافعي ومالك والأكثرين، وقال أبو حنيفة: عليهما معا لظاهر الحديث، وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما في حكم عضو واحد، لأنه قال فيه سبعة فلو جعلا عضوين صارت ثمانية".
قال ابن دقيق: فيه نظر، لأنه يلزم منه أن يكتفي بالسجود على الأنف كما يكتفي بالسجود على بعض الجبهة، وقد احتج بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسجود على الأنف، قال: والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد، فذاك في التسمية والعبارة لا في حكم الذي دل عليه الأمر.
قال الحافظ: وجواز الاقتصار على بعض الجبهة، قاله كثير من الشافعية أخذا من قول الأم يكره الاقتصار على بعض الجبهة، وألزمهم بعض الحنفية بما مر.
ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ على الأنف وحده، وذهب الجمهور إلى أنه يجزئ على الجبهة وحدها، وعن الأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب وغيرهم: يجب أن يجمعهما وهو قول للشافعي أيضا، "وكان عليه السلام إذا سجد فرج"، "بشد الراء"، "بين يديه" أي: نحى كل يد عن الجنب الذي يليها "حتى يبدو بياض إبطيه" لأنه أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان.
وقالت ميمونة: جافى بين يديه، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت. رواه مسلم.
ولم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد على كور عمامته، ولم يثبت عنه ذلك في حديث صحيح ولا حسن، ولكن روى عبد الرزاق في المصنف عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته، وهو من رواية عبد الله بن محرر، وهو متروك. وذكر أبو داود في المراسيل أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فسجد بجبينه وقد اعتم على جبهته فحسر صلى الله عليه وسلم عن جبهته.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، علانيته وسره". رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
وقوله: "دقه وجله" بكسر أولهما، أي قليله وكثيره.
وقال القرطبي: ليخف بذلك اعتماده عن وجهه، ولا يتأثر أنفه ولا جبهته ولا يتأذى بملاقاة الأرض.
وقال الناصر بن المنير: ليظهر كل عضو بنفسه، ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، قيل فيه إنه لم يكن عليه قميص لانكشاف أبطيه، ورد باحتمال أن القميص واسع الأكمام، أو أراد الراوي أن موضع بياضهما لو لم يكن عليه ثوب لرئي، قاله القرطبي "رواه الشيخان" عن عبد الله بن مالك ابن بحينة، "وقالت ميمونة" أم المؤمنين:"جافى بين يديه"، لفظها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجافي يديه "حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت"، فيستحب للرجل ذلك التفريج، "رواه مسلم" وأبو داود والنسائي وابن ماجه بنحوه، "ولم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم، أنه سجد على كور عمامته" بفتح الكاف، "ولم يثبت عنه ذلك في حديث صحيح ولا حسن، ولكن" في حديث ضعيف.
"روى عبد الرزاق في المصنف عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته وهو من رواية عبد الله بن محرر" بمهملات الجزري القاضي "وهو متروك" روى له ابن ماجه ومات في خلافة المنصور، "وذكر أبو داود في المراسيل، أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فسجد بجبينه" أي: عليه، فالباء بمعنى على والجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما، "وقد اعتم" الرجل "على جبهته، فحسر" كشف "صلى الله عليه وسلم عن جبهته" أي: الرجل "وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه" قليله "وجله" كثيره، "أوله وآخره، علانيته" جهره "وسره"، رواه مسلم من حديث أبي هريرة وقوله: "دقه وجله" بكسر
وعن عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود، وهما منصوبتان، وهو يقول:"اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". رواه مسلم.
أولهما" أي: الدال والجيم، "أي قليله" تفسير لدقه، "وكثيره" تفسير لجله.
"وعن عائشة قالت فقدت" بفتح القاف، أي: عدمت "رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش" وفي رواية: وكان معي على فراش، ولأبي يعلى، عنها: كان ليلتي منه صلى الله عليه وسلم، فانسل، فظننت أنه انسل إلى بعض نسائه، فخرجت غيرى "فالتمسته".
زاد في رواية: في البيت وجعلت أطلبه بيدي، "فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود" الذي في مسلم وهو في المسجد، ففيه أنها لما التمسته في البيت لم تجده، فخرجت إلى المسجد وهو صريح قوله في بعض طرق الحديث ما أخرجك، "وهما منصوبتان" وفيه أن اللمس بغير لذة لا ينقض الوضوء، واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل، "وهو يقول" زاد أبو يعلى:"سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت"، "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" أي: بما يرضيك مما يسخطك، فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه، فهذا لله تعالى، ثم الذي لنفسه قوله:"وبمعافاتك من عقوبتك" استعاذ بها بعد استعاذته برضاه، لاحتمال أن يرضى من جهة حقوقه، ويعاقب على حقوق غيره، "وأعوذ بك منك" قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف، فهو محض التوحيد، وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها "لا أحصي ثناء" بمثلثة فنون" والمد، أي: وصفا بمدح "عليك أنت" مبتدأ خبره "كما أثنيت على نفسك" أي: الثناء عليك هو المماثل لثنائك على نفسك ولا قدرة لأحد عليه، ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، "رواه مسلم" وأحمد وأصحاب السنن الثلاثة وأبو يعلى بزيادة: "اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت، سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، رب هذه يدي وما جنيت على نفسي، يا عظيم يرجى لكل عظيم، فاغفر لي الذنب العظيم"، فقلت: بأبي أنت وأمي إني لفي شأن وإنك لفي شأن، فرفع رأسه فقال: "ما أخرجك"؟ ، قالت: ظن ظننته. قال: "إن بعض الظن إثم، فاستغفري الله إن جبريل أتاني فأمرني أن أقول هذه الكلمات التي سمعتيها، فقوليها في سجودك، فإن من قالها لم يرفع رأسه حتى يغفر". أظنه قال له: وفي رواية فالتمسته بيدي فوقعت عليه وهو ساجد، يقول:"رب أعط نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها".
قال الخطابي: في هذا الحديث معنى لطيف، وذلك أنه عليه السلام استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضى والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله تعالى استعاذ به منه لا غيره، ومعناه: الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه.
وقوله: "لا أحصي ثناء عليك" أي لا أطيقه ولا آتي عليه، وقيل: لا أحيط به، وقال مالك: لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء بهما عليك وإن اجتهدت في الثناء بهما عليك.
"قال الخطابي: في هذا الحديث معنى لطيف، وذلك أنه عليه السلام استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له، وهو الله" سبحان و"تعالى"، "استعاذ به منه لا غيره" قال الأبي: الأولى أن لا يكون استعاذ به منه لحديث المرأة التي استعاذت من النبي صلى الله عليه وسلم فأبعدها منه وقال لها ما قال، وإنما استعاذ من عقوبته، فالتقدير: أعوذ من عقوبتك بك. انتهى.
وفيه نظر، لأنه على ما قدره يتكرر في المعنى مع قوله: وبمعافاتك من عقوبتك، وليس هذا كقول المرأة: أعوذ بالله منك، لأن قصدها البعد وأن لا يقربها، والنبي صلى الله عليه وسلم قصده بقوله:"وبك منك". مزيد القرب المعنوي واللجأ إلى الله تعالى وقطع الالتفات إلى غيره، كما مر عن عياض، وإليه الإشارة بقوله، "ومعناه الاستغفار من التقصير في بلغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه" ولذا عقبه بقوله:"لا أحصي ثناء عليك" وأخذ من الحديث صحة قول سبحان من تواضع كل شيء لعظمته، وقول الخطيب يوم الجمعة: واجتمعنا متضرعين لعظمتك، وحجة المانع أن التواضع والتضرع إنما يكوننا لذاته تبارك وتعالى، قاله الأبي. "وقوله:"لا أحصي ثناء عليك" أي لا أطيقه ولا آتي" بالمد "عليه" جميعه، بل أنا عاجز عنه وإن أتيت ببعضه، أي: لا أطيق الثناء عليك بما تستحق أن يثنى به عليك.
"وقيل" معناه "لا أحيط به" لأنه إنما يحاط بالمتناهي والثناء عليه لا نهاية له.
"وقال مالك" الإمام: معناه: "لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء بهما عليك، وإن اجتهدت في الثناء بهما عليك" لأن الثناء فرع الإحاطة بالنعم، وهي لا تحصى، قاله الأبي، وقيل: معناه لا أعد، لأن أصل معنى الإحصاء العد بالحصى، كما قال:
ولست بالأكثر منهم حصى
…
وإنما العزة للكاثر
وقوله: "أنت كما أثنيت على نفسك": اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، فإنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك إلى الله تعالى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا، وكما أن لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه، فكل شيء اثني عليه وإن كثر وطال وبولغ فيه، فقدر الله أعظم وسلطانه أعز، وصفاته أكثر وأكبر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ. انتهى.
وههنا فائدة لطيفة ذكر بعض المحققين، في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وهي أن القرآن أشرف الكلام، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله تعالى أن لا يقرأ في هاتين
فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم، وهو استيعاب المعدود، فكأنه قيل: لا أستوعب، فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات، أو فرد منها يفي بنعمة من نعم الله تعالى لا عدها، إذ يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء.
"وقوله: أنت كما أثنيت على نفسك اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، فإنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد"، "بالجر عطف على العجز بتقدير الجار" أي: وبرد "الثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك إلى الله تعالى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا، وكما أن لا نهاية لصفاته" سبحانه، كذلك "لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه" بضم الميم وسكون المثلثة وفتح النون، "فكل شيء أثنى عليه وإن كثر وطال وبولغ فيه، فقدر الله أعم وسلطانه أعز وصفاته أكثر" بمثلثة "وأكبر" بموحدة، "وفضله وإحسانه واسع وأسبغ" فلا قدرة لأحد على وصفه بجميع ما يليق به. "انتهى" كلام الخطابي.
قال بعضهم: وذلك أن عظمته تعالى وصفاته لا نهاية لها، وعلوم البشر وقدرتهم متناهية، فلا يتعلق واحد منهما بما لا يتناهى، وإنما يتعلق بذلك علمه الذي لا يتناهى وتحصيه قدرته التي لا تتناهى، فهو بعلمه الشامل يعلم صفات جلاله ويقدر بقدرته التامة أن يحصي الثناء عليه. انتهى.
"وههنا فائدة لطيفة: ذكر بعض المحققين في" حكمه "نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود" المروي في الموطأ ومسلم من حديث علي "وهي: أن القرآن أشرف الكلام وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد. فمن الأدب مع كلام الله تعالى أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، وتكون حالة القيام والانتصاب أولى به، والله تعالى
الحالتين، وتكون حالة القيام والانتصاب أولى به والله تعالى أعلم.
وروى أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم سجد على الماء والطين.
وكان يرفع رأسه من السجود مكبرا غير رافع يديه ويرفع منه رأسه قبل يديه ثم يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى.
وكان عليه السلام يجلس للاستراحة جلسة لطيفة، بحيث تسكن جوارحه سكونا بينا، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، كما في صحيح البخاري وغيره.
قال النووي: ومذهبنا استحبابها عقب السجدة الثانية في كل ركعة يقوم عنها، ولا تستحب في سجود التلاوة في الصلاة.
أعلم" وهي زهرة لا تحتمل العرك.
"وروى أبو داود" في الصلاة عن أبي سعيد "أنه صلى الله عليه وسلم سجد على الماء والطين" صبح ليلة القدر، وقصر العز، ولأبي داود تقصير شديد، فالحديث فيه وفي الصحيحين والنسائي وابن ماجه مطولا، وهو في البخاري في مواضع من الصلاة والصوم والاعتكاف، ولفظه: في بعضها عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها، أي: ليلة القدر في العشر الأواخر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء، وكان سقف المسجد من جريد النخل، وما نرى في السماء شيئا، فجاءت قزعة، فأمطرنا، فصلى بنا صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهته وأرنبته تصديق رؤياه، "وكان يرفع رأسه من السجود مكبرا غير رافع يديه، ويرفع منه رأسه قبل يديه، ثم يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى" أي يقيمها، "وكان عليه السلام يجلس للاستراحة جلسة لطيفة، بحيث تسكن جوارحه سكونا بينا، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، كما" يفيد ذلك ما "في صحيح البخاري وغيره" كأبي داود والترمذي والنسائي من حديث مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا، فليس ما ذكره المصنف لفظ الحديث لا في البخاري ولا في غيره.
"قال النووي: ومذهبنا استحبابها عقب السجدة الثانية في كل ركعة يقوم عنها" وبهذا قال طائة من أهل الحديث: وعن أحمد روايتان ولم يستحبها الأكثر ومالك وأبو حنيفة، واحتج له الطحاوي بخلو حديث أبي حميد، فإنه ساقه لفظ، فقام ولم يتورك، وكذا رواه أبو داود، قال: فلما تخالفا احتمل أن ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به، فقعد من أجلها، لا أن ذلك من سنة الصلاة، وبأنها لو كانت مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص، وتعقب بأن الأصل عدم العلة، وحديث أبي حميد يدل على عدم وجوبها، فكأنه تركها لبيان
وكان صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". رواه أبو داود والدارمي من حديث ابن عباس.
الفرع الثاني عشر: في ذكر جلوسه للتشهد
كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس للتشهد يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى. رواه مسلم.
قال النووي: معناه يجلس مفترشا، وفيه حجة لأبي حنيفة ومن وافقه: أن الجلوس في الصلاة يكون مفترشا سواء فيه جميع الجلسات.
وعند مالك: يسن متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من تحته ويقضي بوركه
الجواز، وأما الذكر، فإنها جلسة خفيفة جدا استغنى عنه بالتكبير المشروع للقيام، فإنها من جملة للنهوض إلى القيام.
وأجيب بأن كون الأصل عدم العلة لا يمنع احتمالها، فيسقط الاستدلال، وقد تمسك من لم يقل باستحبابها بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تبادروني بالقيام والقعود، فإني قد بدنت، فدل على أنه كان يفعله لهذا السبب، فلا تشرع إلا في حق من اتفق عليه نحو ذلك "ولا تستحب في سجود التلاوة في الصلاة" اتفاقا "وكان صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين:"اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". زاد في رواية: "وارفعني". "رواه أبو داود والدارمي من حديث ابن عباس" وجاء أنه كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي" مرتين.
الفرع الثاني عشر: في ذكر جلوسه للتشهد
"كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس للتشهد" أي: جنسه الصادق بالأول وغيره "يفرش"، "بضم الراء وكسرها" يبسط "رجله اليسرى وينصب" رجله "اليمنى، رواه مسلم" عن عائشة أثناء حديث، بلفظ: وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، فليس فيه إذا جلس للتشهد، وإنما هو من المصنف أتى به استدلالا على الجلوس للتشهد.
"قال النووي: معناه يجلس مفترشا" أخذا من إطلاق الحديث، "وفيه حجة لأبي حنيفة ومن وافقه أن الجلوس في الصلاة يكون مفترشا" الجلوس بمعنى الجالس إطلاقا للمصدر على اسم الفاعل، أو باق على حاله بتقدير يكون فاعله مفترشا، بكسر الراء، فإن فتحت على أنه مصدر ميمي بمعنى الافتراش لم يحتج لتأويل، "سواء" أي: مستو "فيه جميع الجلسات".
"وعند مالك يسن" أي: يستحب الجلوس كله "متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من
إلى الأرض.
وقال الشافعي: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا الجلسة التي يعقبها السلام. والجلسات عند الشافعي أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة في كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأولى، والجلسة للتشهد الأخير، والجميع يسن مفترشا إلا الأخيرة، ولو كان على المصلي سجود سهو فالأصح له أن يجلس مفترشا في تشهده فإذا سجد سجدتي السهو تورك ثم سلم. هذا تفصيل مذهبنا.
واحتج أبو حنيفة: بإطلاق حديث عائشة.
واحتج الشافعي: بحديث أبي حميد الساعدي في صحيح البخاري، وفيه التصريح بالافتراش في الجلوس الأول والتورك في آخر الصلاة، وحمل حديث
تحته ويقضي بوركه إلى الأرض".
"وقال الشافعي: السنة" أي: الأفضل "أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا الجلسة التي يعقبها السلام" فيجلس متوركا، لأنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات، ولأن الأول يعقبه حركة بخلاف الثاني، ولأن المسبوق إذا رآه علم ما سبق به، "والجلسات" المطلوبة في الصلاة "عند الشافعي أربع" فلا يرد أن العاجز عن قيام الفرض يصلي جالسا، وجواز النافلة من جلوس ولو قادرا وأنه يفترش في جميع ذلك عنده، "الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة في كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير والجميع يسن" أن يأتي به المصلي حال كونه "مفترشا" أو الافتراش فيه "إلا الأخيرة ولو كان على المصلي سجود سهو، فالأصح له أن يجلس مفترشا في تشهده" سواء كان محسوبا له لكونه آخر صلاته أو أتى به تبعا لإمامه، بأن كان مسبوقا اقتدى به في الركعة الثانية أو الرابعة "فإذا سجد" أي: أراد أن يسجد "سجدتي السهو تورك" وسجد، "ثم سلم هذا تفصيل مذهبنا" أي: الشافعية.
"واحتج أبو حنيفة بإطلاق حديث عائشة" فإن ظاهره شموله لجميع الجلسات.
"واحتج الشافعي بحديث أبي حميد الساعدي" عبد الرحمن أو المنذر "في صحيح البخاري، وفيه التصريح بالافتراش في الجلوس الأول والتورك في آخر الصلاة" ولفظه: أنا كنت أحفظكم لصلاته صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبر فذكر الحديث، إلى أن قال: فإذا جلس في الركعتين جلس على رجليه اليسرى ونصب الينى، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته ولأبي داود حتى إذا كانت السجدة التي يكون فيها التسليم
عائشة هذا على الجلوس في غير التشهد الأخير ليجمع بين الأحديث. انتهى.
فليتأمل قول ابن القيم في الهدي النبوي: إنه لم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا كان صفة جلوسه في التشهد الأول، ولا أعلم أحدا قال به. انتهى.
وقال أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحابه صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فاعرض.. فذكر الحديث إلى أن قال: حتى إذا كانت
ولابن حبان التي تكون خاتمة الصلاة أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر، فقد بين ذلك أبو حميد بالقول عن رؤيته فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا أن أبا حميد صلى إذ لم يقع ذلك في رواية البخاري كما زعم الشارح وإنما وقع ذلك في رواية الطحاوي وابن حبان.
قالوا: فأرنا فقام يصلي وهم ينظرون وجمع الحافظ بأن وصفها مرة بالقول ومرة بالفعل، "وحمل" الشافعي "حديث عائشة هذا" المقتضي للافتراش حتى في التشهد الأخير "على الجلوس في غير التشهد الأخير ليجمع بين الأحاديث. انتهى" كلام النووي.
واحتج مالك بما رواه في الموطأ ومن طريقه البخاري عن ابن عمر: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى، فلم يفصل بين أول وآخر، وقول الصحابي: السنة، كذا مرفوع، وحمل حديث عائشة وحديث أبي حميد على بيان الجواز، والمشهور عن أحمد اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان وقوفا مع ظاهر حديث أبي حميد.
"فليتأمل قول ابن القيم في الهدى النبوي، إنه لم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا" أي: الافتراش "كان صفة جلوسه في التشهد، ولا أعلم أحدًا قال به. انتهى".
ووجه التأمل أن أبا حميد صرح بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في صحيح البخاري كما لمت، وكذا رواه كثيرون فكيف يصح نفي نقله عنه، وكيف ينفي علمه قول أحد به مع أن الشافعي استحبه وابن القيم شافعي.
"وقال أبو حميد الساعدي" الأنصاري "في عشرة" هكذا لأبي داود وغيره ولسعيد بن منصور مع عشرة وفي البخاري في نفر، ولبعض رواته مع نفر، ولفظ مع يرجح أحد الاحتمالين في لفظ في، لأنها محتملة، لكون أبي حميد من العشرة أو زائدا عليهم "من أصحابه صلى الله عليه وسلم" وسمي منهم سهل بن سعد وأبو أسيد الساعدي ومحمد بن مسلمة، رواه أحمد وغيره وأبو هريرة وأبو قتادة عند ابن خزيمة وأبي داود والترمذي، ولم أقف على تسمية الباقين، قاله الحافظ "أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
زاد في رواية أبي داود: قالوا فلم، فوالله ما كنت بأكثرنا له اتباعا.
وفي الترمذي: إتيانا، ولا أقدمنا له صحبة، ولابن حبان والطحاوي قالوا: فكيف قال تتبعت
السجدة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر ثم سلم، قالوا: صدقت هكذا كان يصلي، رواه أبو داود والدارمي.
وفي رواية لأبي داود: فإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا كان في الرابعة أفضى بوركه الأيسر إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة. الحديث.
وكان عليه السلام إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة.
ذلك منه حتى حفظته.
"قالوا: فاعرض" صلاتك علينا التي تحكي بها الصلاة النبوية، "فذكر الحديث إلى أن قال: حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم"، ولابن حبان التي تكون خاتمة الصلاة: "أخرج رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر ثم سلم".
وعند الطحاوي: عن يمينه سلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك، "قالوا" أي الصحابة المذكورون:"صدقت هكذا كان يصلي" فحكى الصلاة بالفعل، "رواه أبو داود والدارمي" من رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبيه قال: سمعت أبا حميد في عشرة، وفي البخاري من طريق الليث بإسناده عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه كان جالسا في نفر من الصحابة، فذكرنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه إلى أن قال: وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته كما مر، فحكى الصلاة النبوية بالقول، ومر الجمع بينهما بأنه وصفها مرة بالقول ومرة بالفعل.
"وفي رواية لأبي داود" في حكايته قول: "فإذا قعد" صلى الله عليه وسلم "في الركعتين" الأوليين للتشهد "قعد على بطن قدمه اليسرى ونصب اليمنى، وإذا كان في الرابعة أفضى بوركه الأيسر إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة" حيث أخرج قدمه اليسرى من تحت رجله الينى "الحديث" وفيه جواز وصف الرجل نفسه بأنه أعلم من غيره إذا أمن العجب وأراد تأكيد ذلك عند من سمعه لما في التعليم والأخذ عن الأعلم من الفضل، وأنه كان يخفى على كثير من الصحابة بعض الأحكام، وربما ذكره بعضهم إذا ذكر.
"وكان عليه السلام" كما في مسلم من حديث ابن عمر "إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى" مبسوطة "على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين" بأن قبض الوسطى والبنصر والخنصر على وسط الكف مع وضع الإبهام على أنملة
وفي رواية مسلم: وضع يده على ركبته، ورفع أصبعه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة، ثم رفع أصبعه فرأيناه يحركها ويدعو.
وفي حديث ابن الزبير عنده أيضا: كان يشير بها ولا يحركها الحديث.
وعند أبي داود من حديث وائل بن حجر: مد صلى الله عليه وسلم مرفقه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها ويدعو.
وكان صلى الله عليه وسلم يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه وركوعه وفي سجوده وفي التشهد، ويستقبل بأصابع رجليه القبلة في سجوده.
الفرع الثالث عشر: في ذكر تشهده صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم يتشهد دائما في هذه الجلسة الأخيرة ويعلم أصحابه أن يقولوا: التحيات
الوسطى، كما قال الباجي، "وأشار بالسبابة" توحيدا لله، روى أحمد والطبراني برجال ثقات عن خفاف، قال: كان صلى الله عليه وسلم ينصب أصبعه السبابة، وكان المشركون يقولون: إنما يصنع محمد هذا بإصبعه ليسحر بها وكذبوا إنما كان يصنع ذلك يوحد بها ربه.
"وفي رواية مسلم: وضع يده على ركبته ورفع أصبعه اليمنى، وقبض ثنتين وحلق حلقة" أخذ بهذا بعضهم، وأنكره بعضهم، وأخذ بحديث ابن عرم الذي قبله، وفسر بعضهم التحليق بأن يضع طرف الوسطى في عقدتي الإبهام، وفسره الخطابي برءوس أنامل الوسطى والإبهام حتى يكون كالحلقة لا يفضل من جوانبها شيء ذكره الأبي، "ثم رفع أصبعه فرأيناه يحركها" فيستحب تحريكها، لأنها مقمعة للشيطان، ويذكر بها الصلاة وأحوالها، فلا يوقع الشيطان المصلي في سهو "ويدعو" الله تعالى وفيه تحريكها دائما إذ الدعاء بعد التشهد.
"وفي حديث ابن الزبير عنده" أي مسلم: "أيضا: كان يشير بها ولا يحركها الحديث" ولا يخالف ما قبله، لأنه ترك لبيان أنه ليس بواجب.
"وعند أبي داود من حديث وائل بن حجر"، "بحاء مهملة مضمومة وجيم ساكنة:"مد" صلى الله عليه وسلم مرفقه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة، ثم رفع أصبعه، فرأيته يحركها ويدعو" الله تعالى، "وكان صلى الله عليه وسلم يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه وركوعه وفي سجوده وفي التشهد" أي: جنسه، "ويستقبل بأصابع رجليه القبلة في سجوده.
الفرع الثلث عشر: في ذكره تشهده صلى الله عليه وسلم
تفعل من تشهد، سمي بذلك لاشتماله على النطق بشهادة الحق تغليبا لها على بقية
المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،
أذكاره لشرفها "كان صلى الله عليه وسلم يتشهد دائما في هذه الجلسة" المذكورة في الفرع قبله، وقد ترجم البخاري باب التشهد في الآخرة، وروى في حديث ابن مسعود في التشهد، قال الحافظ: أي الجلسة الآخرة.
قال ابن رشيد: ليس في حديث الباب تعيين محل القول، لكن يؤخذ ذلك من قوله: فإذا صلى أحدكم فليقل، فإن ظاهره، أي: أتم صلاته، لكن تعذر الحمل على الحقيقة، لأن التشهد لا يكون بعد السلام، فلما تعين المجاز كان حمله على آخر جزء من الصلاة أولى، لأنه هو الأقرب إلى الحقيقة، قلت: هذا التقدير على مذهب الجمهور أن السلام جزء من الصلاة لا أنه للتحلل منها فقط، والأشبه بتصرف البخاري أنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه من تعيين محل القول، "ويعلم أصحابه أن يقولوا التحيات" جمع تحية، ومعناها السلام أو البقاء أو العظمة أو السلامة من الآفات والنقص أو الملك أقوال.
وقيل: ليست التحتية الملك نفسه، بل الكلام الذي يحيى به الملك وجمعت، لأنه لم يكن يحيى إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية، فالمعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله.
وقال الخطابي: ليس في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله، فأبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم، أي: أنواع التعظيم له.
وقال المحب الطبري: يحتمل أن لفظ التحية مشترك بين المعاني المذكورة، وكونها بمعنى السلام أنسب هنا "المباركات" تلميح لقوله تعالى:{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} ، وفي الموطأ في تشهد عمر بدله الزاكيات، قيل: وكأنها بالمعنى "الصلوات" الخمس، أو ما هو أعم من الفرائض والنوافل في كل شريعة، وقيل: المراد العبادات كلها، وقيل: الدعوات، وقيل: الرحمة وقيل: التحيات العبادات القولية، والصلوات العبادات الفعلية، والطيبات الصدقات المالية "الطيبات لله" أي: ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته ما كان الملوك يحيون به، وقيل: ذكر الله، وقيل: الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء، وقيل: الأعمال الصالحة وهو أعم "السلام" قال النووي: يجوز فيه وفيما بعد حذف اللام وإثباتها، وهو أفضل، وهو الموجود في روايات الصحيحين.
قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود حذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم.
قال الطيبي: والتعريف للعهد التقرير، أي: ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء والرسل "عليك أيها النبي ورحمة الله" أي إحسانه "وبركاته" أي زيادته من كل خير، وأما للجنس
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. رواه مسلم من رواية ابن عباس.
بمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك، وإما للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى:{وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: ولا شك أن هذه التقريرات أولى من تقرير النكرة، لأن أصل سلام عليك سلمت سلامًا ما عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره، انتهى.
وذكر صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم، وهو من وجوه الترجيح لا يقف عن الوجوه المتقدمة.
وقال التوربشتي: السلام بمعنى السلامة، كالمقام والمقامة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى؛ أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى السلام عليك الدعاء، أي: سلمت من المكاره.
وقيل: معناه اسم السلام عليك، كأنه يبرك عليه باسم الله "السلام" الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء "علينا" يريد به المصلى نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة، وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء.
وفي الترمذي مصححًا عن أبي كعب؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في مسلم، ومنه قول نوح وإبراهيم كما في التنزيل. "وعلى عباد الله الصالحين" جمع صالح، والأشهر أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده وتتفاوت درجاته "أشهد أن لا إله إلا الله".
زاد ابن أبي شيبة من رواية أبي عبيدة عن أبيه وحده لا شريك له وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ، وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني إلا أن سنده ضعيف.
وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح، عن ابن عمر في التشهد: أشهد أن لا إله إلا الله.
قال ابن عمر: زدت فيها وحده لا شريك له وهذا ظاهره الوقف، قاله الحافظ، يعني: ويحتمل الرفع على معنى زدت على رواية غيري، لكنه بعيد "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".
وفي رواية لمسلم أيضًا: وأشهد أن محمدا رسول الله ومن رواته من حذف لفظ أشهد، ولم تختلف طرق حديث ابن مسعود في أنه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وكذا هو في حديث أبي موسى وابن عمر وعائشة المذكور، وجابر وابن الزبير عند الطحاوي وغيره.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم التشهد إذ قال رجل:
وهو الذي اختاره الشافعي لزيادة "المباركات" لا تشهد ابن مسعود، وإن قاله القاضي عياض. وعبارة الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسنده إلى الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي جوابًا لمن سأله بعد ذكر حديث ابن عباس:"فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فروى ابن مسعود خلاف هذا، فساق الكلام إلى أن قال: فلما رأيته واسعًا وسمعته -يعني حديث ابن عباس- صحيحًا، وروايته أكثر لفظًا من غيره -يعني من المرفوعات- أخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره "هذا آخر كلامه، وليس فيه تصريح بالأفضلية، والعمل عند الله تعالى.
وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده، فقال عليه الصلاة والسلام:"لقد كنت عبدًا قبل أن أكون رسولا، قل: عبده ورسوله". رجاله ثقات إلا أنه مرسل كما في الفتح. "رواه مسلم" وأصحاب السنن "من رواية ابن عباس"، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، وكان يقول: فذكره، "وهو الذي اختاره الشافعي لزيادة المباركات لا تشهد ابن مسعود، وإن قاله" أي: نقله "القاضي عياض" في الشفاء عن الشافعي، فإنه سبق قلم.
"وعبارة الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسنده إلى الربيع بن سليمان" بن عبد الجبار المرادي أبي محمد المصري، الثقة المؤذن، صاحب الشافعي، وراوي الأم وغيرها من كتبه، وقال فيه: إنه أحفظ أصحابي، روى له أصحاب السنن، مات سنة سبعين ومائتين وله ست وتسعون سنة، قال:"أخبرنا الشافعي جوابًا لمن سأله بعد ذكر حديث ابن عباس" المذكور في التشهد عن اختياره له، فأجابه بقوله:"فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم" اختلافا قليلا متقارب المعنى، إنما فيه كلمة زائدة أو ناقصة، "فروى ابن مسعود خلاف هذا، فساق الكلام إلى أن قال: فلما رأيته واسعًا وسمعته، يعني: حديث ابن عباس صحيحًا، وروايته أكثر لفظًا من غيره، يعني: من المرفوعات"، لأن في الموقوفات ما هو أكثر منه لفظًا، "أخذت به"، أي: اخترته "غير معنف" أي: لا تم "لمن أخذ بغيره" مما صح، "هذا آخر كلامه وليس فيه تصريح بالأفضلية" له على غيره "والعلم عند الله تعالى" لكن قوله: أخذت به قريب من التصريح، وقال بعد أن أخرج حديث ابن عباس في الأم: رويت أحاديث في التشهد مختلفة، وكان هذا أحب إلي لأنه أكملها، ورجحه بعضهم لأنه مناسب للفظ القرآن في قوله: تحية من عند الله مباركة طيبة، وأما من رجحه بأن ابن عباس من أحدث الصحابة، فيكون أضبط لما روى، أو بأنه أفقه من رواه، أو بأن إسناده حجازي وإسناد حديث ابن مسعود كوفي، وهو مما يرجح به، فلا طائل فيه لمن أنصف، نعم يمكن أن يقال: الزيادة التي في حديث ابن عباس، وهي المباركات لا تنافي حديث ابن مسعود، ويرجح الأخذ بها، لأن أخذ ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود أفضل لأنه عند المحدثين أشد صحة.
وقال مالك رحمه الله تشهد عمر الموقوف عليه أفضل لأنه علمه للناس
كان في الأخير، قاله الحافظ.
"وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود"، وهو ما رواه أحمد والأئمة الستة، عنه قال: إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". "أفضل، لأنه عند المحدثين أشد صحة".
قال الترمذي: هذا أصح حديث في التشهد، وسئل البزار عن أصح حديث في التشهد، فقال: حديث ابن مسعود جاء من نيف وعشرين طريقًا، ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالا، قال الحافظ: ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم به البغوي، ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره، وأن رواته الثقات لم يختلفوا في ألفاظه دون غيره، وأنه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقينا، فروى الطحاوي عنه أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه ولقنيه كلمة كلمة.
وفي البخاري عنه: علمني صلى الله عليه وسلم التشهد، وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة ن القرآن، ووافقه على لفظه أبو سعيد الخدري عند الطحاوي، وبثبوت الواو في "والصلوات والطيبات"، وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناء مستقلا بخلاف حذفها، فتكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء في الأول صريح، فيكون أولى، ولو قيل: إن الواو مقدرة في الثاني، وبأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره، فمجرد حكاية ولأحمد عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس، ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته.
"وقال مالك رحمه الله" وأصحابه "تشهد عمر الموقوف عليه"، وهو ما رواه في الموطأ عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول: قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. "أفضل، لأنه علمه للناس
على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله.
ومذهب الشافعي أن التشهد الأول سنة والثاني واجب.
وجمهور المحدثين: أنهما واجبان.
وقال أحمد: الأول وجب يجبر تركه بالسجود، والثاني ركن تبطل الصلاة بتركه.
وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان.
وعن مالك رواية بوجوب الأخير.
وقد كان عليه السلام يأتي بالتشهدين.
على المنبر" النبوي والصحابة متوافرون، "ولم ينازعه أحد" منهم، "فدل على تفضيله" على غيره، وقد أورده بصيغة الأمر كما رأيت، فدل على زيادة مزينة مع عدم الإنكار، وتعقب بأنه موقوف، فلا يلحق بالمرفوع.
وأجيب بأن مردويه رواه في كتاب التشهد له، مرفوعًا عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهده حديث ابن عباس فإنه قريب منه إلا أنه قال:"الزاكيات" بدل المباركات، وكأنها بالمعنى، فكل ما رجح به حديث ابن عباس يرجح به حديث عمر.
"ومذهب الشافعي أن التشهد الأول سنة"، لأنه صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين ولم يرجع لما سبحوا له كما في الصحيح، فلو كان واجبًا لرجع إليه ولما جبره بالسجود قبل السلام إلا يجبر به الواجب كالركوع وغيره.
"والثاني واجب" لظاهر الأمر"، "وجمهور المحدثين أنهما واجبان" لظاهر الأمر، بقوله: فليقل: "وقال أحمد: الأول وجب يجبر تركه بالسجود، والثاني ركن تبطل الصلاة بتركه"، هكذا في بعض نسخ، ومثله له في شرحه للبخاري عن أحمد، وفي فتح الباري المشهور عن أحمد وجوبهما.
"وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان"، لأنه لم يبينهما للمسيء صلاته، وهو الصارف للأمر عن الوجوب.
"وعن مالك رواية" ضعيفة "بوجوب الأخير"، رواها عنه أبو مصعب، وقال: من تركه بطلت صلاته.
"وقد كان عليه السلام يأتي بالتشهدين" موظبًا عليهما فهما سنتان، "وفي الغيلانيات" أحد عشر جزءًا تخريج الدارقطني من حديث أبي محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي،
وفي الغيلانيات عن القاسم بن محمد قال: علمتني عائشة قالت: هذا تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".
وهو مثل تشهد ابن مسعود سواء. رواه البيهقي بإسناد جيد.
قال النووي: وفي هذا فائدة حسنة وهي أن تشهده عليه السلام بلفظ تشهدنا، انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وكأنه يشير إلى رد ما وقع في الرافعي: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في التشهد: "وأشهد أني رسول الله". وتعقبوه بأنه لم يرو كذلك صريحًا.
نعم وقع في البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: خفت أزواد القوم فذكر الحديث وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله".
وهو القدر المسموع لأبي طالب بن غيلان من أبي بكر الشافعي، "عن القاسم بن محمد" بن الصديق، "قال: علمتني عائشة" عمته، "قالت: هذا تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي" عدل عن الوصف بالرسالة مع أنها أعم في حق البشر ليجمع له الوصفين، لأنه وصف بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ، وقدم وصف النبوة لوجودها في الخارج، كذلك لنزول قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، قبل قوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] ، "ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وهو مثل تشهد ابن مسعود سواء، ورواه البيهقي بإسناد جيد"، أي: مقبول.
"قال النووي: وفي هذا فائدة حسنة، وهي أن تشهده عليه السلام بلفظ: تشهدنا"، فكان يقول: أشهد أن محمدًا عبده ورسوله، انتهى.
"قال الحافظ ابن حجر: وكأنه" أي: النووي "يشير إلى رد ما وقع في الرافعي" من قوله المنقول؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في التشهد: "وأشهد أني رسول الله". وتعقبوه بأنه لم يرو كذلك صريحًا"، وفي تخريج أحاديثه للحافظ، ولا أصل لذلك كذلك، بل ألفاظ التشهد متواترة عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:"أشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وللأربعة عن ابن مسعود في خطبة الحاجة:"وأشهد أن محمدًا رسول الله".
"نعم وقع في البخاري من حديث سلمة بن الأكوع، قال: خفت أزواد القوم، فذكر
ومن لطائف التشهد ما قاله البيضاوي: علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، فإن قيل: كيف يشرع هذا اللفظ، وهو خطاب بشر مع كونه منهيًا عنه في الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: فما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: "عليك أيها النبي" مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبي، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين؟
أجاب الطيبي بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه
الحديث" في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، "وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله" ورواه مسلم بنحوه عن أبي هريرة، وقد مر في المعجزات.
زاد في التخريج وفي مغازي موسى بن عقبة معضلا أن وفد ثقيف قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به في خطبته، فلما بلغه قولهم قال: فإني أول من شهد أني رسول الله.
وفي البخاري في الأطعمة في قصة جد نخل جابر واستيفاء غرمائه وفضل له من التمر وقوله صلى الله عليه وسلم حين بشره جابر بذلك: "أشهد أني رسول الله". انتهى.
فالحاصل أنه قالها في مواطن ليس منها التشهد، "ومن لطائف التشهد ما قاله البيضاوي" في شرح المصابيح "علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر" بقولهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، "لشرفه ومزيد حقه عليهم"، ثم علمهم أن يخصوا أنفسهم أولا، لأن الاهتمام بها أهم، ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلامًا منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملا لهم.
هذا بقية كلام البيضاوي كما في الفتح، ثم فصله بكلام التوربشتي في معنى السلام وقدمته، ثم قال:"فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهيًا عنه في الصلاة، فالجواب أن ذلك من خصائصه صلى الله علي وسلم" أن يقصد خطابه بذلك ونحوه، وصلاته صحيحة بخلاف ما إذا قصد خطاب غيره فتبطل "فإن قلت: فما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: عليك أيها النبي، مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبي، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين".
"أجاب الطيبي بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه الصحابة" وإن كنا لا نعلم سر ذلك.
الصحابة. ويحتمل أن يقال على طريق أهل المعرفة بالله تعالى: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات، أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فنهبوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابتعه، فالتفوا فإذا الحبيب في حريم الحسيب الملك حاضر، فألقوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، انتهى.
وقال الترمذي الحكيم: في قوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين":
"ويحتمل أن يقال على طريق أهل المعرفة بالله تعالى أن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة"، لأن المصلي يناجي ربه، "فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا" التفاتًا معنويًّا.
"فإذا الحبيب" صلى الله عليه وسلم "في حريم الملك الحسيب" جل وعلا، وفي نسخة: في حريم الحبيب، وهي التي في الفتح "حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، انتهى.
زاد الحافظ: وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم، فيقال: بلفظ الخطاب وما بعده، فيقال: بلفظ الغيبة وهو مما يخدش في وجه الاحتمال المذكور، ففي الاستئذان من البخاري بعد أن ساق حديث التشهد عن ابن مسعود، قال: وهو بين أظهرنا، فلما قبض قلنا: السلام يعني على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أبو عوانة والسراج والجوزقي وأبو نعيم والبيهقي من طرق متعددة، بلفظ: قلنا السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحذف لفظ يعني.
قال السبكي: إن صح هذا دل على أن الخطاب في السلام بعده لا يجب، فيقال: السلام على النبي، انتهى.
وقد صح بلا ريب ووجدت له متابعًا قويًا، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي، وهذا إسناده صحيح، وما روى سعيد بن منصور عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد فذكره، قال: فقال ابن عباس إنما كنا نقول: السلام عليك أيها النبي إذ كان حيًّا فقال ابن مسعود هكذا علمنا وهكذا نعلم فظاهره أن ابن عباس قاله بحثًا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه لكن سنده ضعيف ومنقطع، انتهى باختصار.
"قال الترمذي الحكيم" محمد بن علي "في قوله: السلام علينا وعلى عباد الله
من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم فليكن عبدًا صالحًا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
وقال القفال في فتاويه: ترك الصلاة يضر جميع المسلمين، لأن المصلي يقول: اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون التارك للصلاة مقصرًا في خدمة الله وفي حق رسوله، وفي حق نفسه، وفي حق كافة المسلمين. ولذلك عظمت المعصية بتركها.
واستنبط منه السبكي: أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله، وأن من تركها أخل بجميع حق المؤمنين، من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها:"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، انتهى.
الصالحين، من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم، فليكن عبدًا صالحًا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم".
زاد الحافظ وقال الفاكهاني: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين، يعني ليتوافق لفظه مع قصده، "وقال القفال في فتاويه: ترك الصلاة يضر جميع المسلمين" بعدم نفعهم بالثواب، "لأن المصلي يقول: اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون التارك للصلاة مقصرًا في خدمة الله وفي حق رسوله وفي حق نفسه وفي حق كافة المسلمين" وغيرهم من الملائكة والجن كما مر في الحديث، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله تعالى صالح في السماء والأرض، قال الحافظ: هو كلام معترض بين قوله: الصالحين وبين أشهد
…
إلخ، قدم عليه اهتمامًا لأنه أنكر عليهم عند الملائكة واحدًا واحدًا ولا يمكن استيعابهم، فعلمهم لفظًا يشمل الجميع من غير الملائكة مع النبيين والمرسلين والصديقين وغيرهم بلا مشقة، وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض طرقه سياق التشهد متواليًا، وتأخير الكلم المذكور بعد وهو من تصرف الرواة، "ولذلك عظمت المعصية"، وفي نسخة: المصيبة، وكلاهما صحيحة "بتركها" بحيث يقتل حدًا تاركها كسلا وكفرًا عند كثيرين، "واستنبط منه السبكي أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله" وهو السلام عليهم والدعاء لهم، "وأن من تركها أخل بجميع حق المؤمنين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة لوجوب قوله فيها: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" لأن التشهد الأخير واجب عند الشافعي، ومن جملته ذلك، ويحتمل أن يكون مراده بالوجوب الثبوت، سواء قلنا بالوجوب أو بالسنية، وهذا
وتقدم الكلام على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، وما في ذلك من المباحث في فضل الصلاة عليه.
وعند الطبراني مرفوعًا، عن سهل بن سعد:"لا صلاة لمن لم يصل على نبيه". وكذا عند ابن ماجه والدارقطني.
وعن أبي مسعود الأنصاري عند الدارقطني: "من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه".
وعن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدًا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". رواه الحاكم.
واغتر قوم بتصحيحه فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق وهو مجهول
أظهر ليكون الاستنباط على جميع المذاهب، انتهى.
"وتقدم الكلام على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير" عند الشافعي وطائفة وسنيته عند الأكثرين "وما في ذلك من المباحث في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم" من المقصد السابع.
"وعند الطبراني مرفوعًا عن سهل بن سعد": "لا صلاة" كاملة أو مجزئة "لمن لم يصل على نبيه". "وكذا عند ابن ماجه والدارقطني" والحاكم عن سهل بن سعد، مرفوعًا:"لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصل على النبي، ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار".
"وعن أبي مسعود" عقبه بن عمرو "الأنصاري عند الدارقطني" مرفوعًا: "من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه" وهذا بفرض أن المراد الصلاة الشرعية لا دلالة فيه على وجوبها في الصلاة، إذ لا تجب على أهل بيته عند من قال بوجوبها عليه في الصلاة.
"وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تشهد أحدكم في الصلاة"، أي: فرغ من التشهد "فليقل": "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدًا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، رواه الحاكم" في المستدرك "واغتر قوم بتصحيحه فوهموا فإنه من رواية يحيى بن السباق"، "بفتح المهملة
عن رجل مبهم، وبالغ ابن العربي في إنكار ذلك فقال: حذار مما ذكره ابن أبي زيد من زيادته وترحم، فإنه قريب من البدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم علمهم كيفية الصلاة عليه بالوحي، ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه.
قال الحافظ ابن حجر: ابن أبي زيد ذكر ذلك في الرسالة في صفة التشهد، لما ذكر ما يستحب في التشهد، ومنه: اللهم صل على محمد وآل محمد، فزاد: وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلى آخره.
فإن كان إنكاره ذلك لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال: وارحم محمدًا، مردودة لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحها في التشهد:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
قال: ثم وجدت لابن أبي زيد مستندًا" فأخرج الطبري في تهذيبه، من طريق حنظلة بن علي عن أبي هريرة رفعه: "من قال اللهم صل على محمد وعلى آل
والموحدة الثقيلة"، "وهو مجهول عن رجل مبهم"، فمن أين تأتيه الصحة.
"وبالغ ابن العربي" أبو بكر الحافظ "في إنكار ذلك، فقال: حذار مما ذكره ابن أبي زيد" أبو محمد عبد الله القيرواني "من زيادته وترحم، فإنه قريب من البدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم علمهم"، أي: الصحابة "كيفية الصلاة عليه بالوحي"، لأنه ما ينطق عن الهوى، "ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه" وهو لا يجوز.
"قال الحافظ ابن حجر ابن أبي زيد ذكر في الرسالة" الشهيرة في الفقه "في صفة التشهد لما ذكر ما يستحب في التشهد، ومنه: "اللهم صل على محمد وآل محمد"، فزاد: "وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد" إلى آخره، ومنه: كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم؛ "فإن كان إنكاره" أي: ابن العربي على ابن أبي زيد، "ذلك لكونه لم يصح، فمسلم" في الجملة، "وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال: وارحم محمدًا مردودة لثبوت ذلك في عدة أحاديث، أصحها في التشهد:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
"قال" الحافظ: "ثم وجدت لابن أبي زيد مستندًا، فأخرج الطبري" محمد بن جرير "في تهذيبه"، أي: كتابه المسمى تهذيب الآثار "من طريق حنظلة بن علي" بن الأسقع الأسلمي المدني، تابعي، ثقة، من رجال مسلم والسنن "عن أبي هريرة، رفعه: من قال اللهم صل على
محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة وشفعت له" ورجال سنده رجال الصحيح، إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاصي، الراوي له عن حنظلة بن علي فإنه مجهول، وهذا كله فيما يقال مضمومًا إلى السلام أو الصلاة.
وقد وافق ابن العربي الصيدلاني من الشافعية على المنع من ذلك ونقل القاضي عياض عن الجمهور الجواز مطلقًا، وقال القرطبي في "المفهم": إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره.
ففي "الذخيرة" من كتب الحنفية عن محمد: يكره ذلك لإبهامه النقص، لأن الرحمة غالبًا إنما تكون لفعل ما يلام عليه.
محمد" قال الحازمي: أي عظمة في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته، وأيد فضيلته بالمقام المحمود، ولما عجز البشر عن بلوغ قدر الواجب له من ذلك، شرع لنا أن نحيل ذلك لله تعالى، فنقول: "اللهم صل على محمد" وعلى آل محمد" أتباعه أو ذريته "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد" ترحمًا يليق به "وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم شهدت له يوم القيامة وشفعت" بفتح الفاء "له" شفاعة خاصة زائدة على عموم شفاعته، "ورجال سنده رجال الصحيح إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاصي، الراوي له عن حنظلة بن علي، فإنه مجهول"، فالحديث ضعيف، "وهذا كله فيما يقال مضمومًا إلى السلام أو الصلاة".
"وقد وافق ابن العربي الصيدلاني من الشافعية على المنع من ذلك" مطلقًا، "ونقل القاضي عياض عن الجمهور الجواز مطلقًا"، سواء انضم ذلك إلى الصلاة أو السلام أو لا، وسواء كان في الصلاة أو خارجها.
"وقال القرطبي في المفهم" شرح مسلم "أنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره" في تصحيح ذلك، "ففي الذخيرة من كتب الحنفية عن محمد" بن الحسن صاحب أبي حنيفة:"يكره ذلك لإيهامه النقص، لأن الرحمة غالبًا إنما تكون لفعل ما يلام عليه" ولا يقع
وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: رحمه الله، لأنه عليه السلام قال:"من صلى علي" ولم يقل: من ترحم علي، ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص بهذا اللفظ تعظيمًا له. فلا يعدل عنه إلى غيره.
وأخرج أبو العباس السراج عن أبي هريرة: أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم إنك حميد مجيد".
وفي حديث بريدة رفعه: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم".
ذلك منه صلى الله عليه وسلم: "وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول رحمه الله، لأنه عليه السلام قال: "من صلى علي" ولم يقل من ترحم علي ولا من دعا لي" ولأن الله تعالى قال: {صَلُّوا عَلَيْهِ} . "وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص بهذا اللفظ تعظيمًا له، فلا يعدل عنه إلى غيره" وإن صح المعنى، كما خص سبحانه بقول: عز وجل، فلا يقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن كان عزيزًا جليلا.
"وأخرج أبو العباس" محمد بن إسحاق "السراج عن أبي هريرة أنهم"، أي: جماعة من الصحابة "قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ " أي كيف اللفظ الذي يليق أن نصلي به عليك، لأنا لا نعلمه، ولذا عبر بكيف التي يسأل بها عن الصفة.
وفي الترمذي وغيره، عن كعب بن عجرة: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} [الأحزاب: 56]، قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام، فكيف الصلاة، "فقال: قولوا: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم". البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: هي بمعنى التطهير والتزكية، وقيل: تكثير الثواب، وقيل: ثبات ذلك ودوامه "إنك حميد" فعيل من الحمد، بمعنى: مفعول، وهو من تحمد ذاته وصفاته، أو المستحق لذلك، أو بمعنى حامد، أي: يحمد أفعال عباده حول للمبالغة، وذلك مناسب لزيادة الأفضل وإعطاء المراد من الأمور العظام "مجيد" بمعنى: ماجد من المجد وهو الشرف.
"وفي حديث بريدة" بموحدة مصغر الأسلمي، "رفعه":"اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم". فصرح
ووقع في حديث ابن مسعود عند أبي داود والنسائي: "على محمد النبي الأمي".
وفي حديث أبي سعيد: "على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم". ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم.
وعند أبي داود من حديث أبي هريرة: "اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته".
ووقع في آخر حديث ابن مسعود: "في العالمين إنك حميد مجيد".
قال النووي في شرح المهذب: ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك
…
مثله، ويزيد في آخره: في العالمين.
وقال في "الأذكار" مثله، وزاد: عبدك ورسولك بعد قوله: محمد في "صل" ولم يزدها في "وبارك".
بقوله: ورحمتك.
"ووقع في حديث ابن مسعود عند أبي داود والنسائي": "على محمد النبي الأمي".
"وفي حديث أبي سعيد: "على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم". ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم" تقصيرًا من بعض رواته.
"وعند أبي داود من حديث أبي هريرة": "اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته" عطف خاص على عام.
"ووقع في آخر حديث ابن مسعود: "في العالمين إنك حميد مجيد"، قال النووي في شرح المهذب: ينبغي أن يجمع" المصلي في دعائه "ما في الأحاديث الصحيحة، فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"، ويقول:"وبارك مثله، ويزيد في آخره: في العالمين، وقال في الأذكار مثله، وزاد عبدك ورسولك بعد قوله: محمد في "صل" لورودها في حديث أبي سعيد، "ولم يزدها في "وبارك".
وقال في "التحقيق والفتاوى" مثله، إلا أنه أسقط النبي الأمي.
وقد تعقبه الأسنوي فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه.
وقال الأذرعي: لم يُسبَق إلى ما قاله، والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات، ويقول -كما ثبت- هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة، في حديث واحد وسبقه إلى معنى ذلك ابن القيم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات،
"وقال" النووي "في التحقيق والفتاوى مثله، إلا أنه أسقط النبي الأمي" مع وقوعهما في حديث ابن مسعود.
"وقد تعقبه الأسنوي، فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه" بل يأتي بكل حديث على ما جاء لا أنه يجمع.
"وقال الأذرعي، لم يسبق" النووي "إلى ما قاله" من الجمع: "والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات ويقول كل ما ثبت هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق، فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد، وسبقه إلى معنى ذلك" التعقب "ابن القيم"، وهو تعقب جيد، وقال النووي في حديث: الذكر دبر الصلاة يكبر ثلاثًا وثلاثين ويختتم المائة بلا إله إلا الله
…
إلخ.
وفي رواية: يكبر أربعًا وثلاثين، ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعًا وثلاثين، ويقول معها: لا إله الله
…
إلخ، وتعقبوه أيضًا بأن الأظهر أن يختم مرة بزيادة تكبيرة ومرة بزيادة لا إله إلا الله على وفق ما وردت به الأحاديث لا أنه يلفق، لأنه صفة لم ترد، "وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو في" آخر "الصلاة" بعد التشهد، ففي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا:"إذا تشهد أحدكم، فليقل" ذكر نحوه، وفي رواية عنده:"إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير" فذكره.
قال الحافظ فتكون هذه الاستعاذة سابقة على غيرها من الأدعية، وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر". فيه رد على من أنكره، "وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال". بفتح الميم وخفة المهملة مكسورة فتحتية فحاء مهملة، وصحف من أعجمها يطلق على عيسى وعلى الدجال،
اللهم وأعوذ بك من المأثم والمغرم". فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف. رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة.
لكن إذا أريد قيد به هذا هو المشهور.
وقال أبو داود: عيسي مخفف والدجال مثقل، وقيل: بالتشديد والتخفيف فيهما جميعًا لقب الدجال بذلك، لأنه ممسوح العين، أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحًا لا عين فيه ولا حاجب، أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج أقوال، وسمي عيسي مسيحًا، لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، أو لأن زكريا مسحه، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، أو لمسحه الأرض بسياحته، أو لأن رجله لا أخمص لها، أو للبسه المسوح، أو هو بالعبرانية ماسحًا، فعرب المسيح أو المسيح الصديق أقوال.
وذكر شيخنا مجد الدين الشيرازي في شرح المشارق في سبب تسميته مسيحًا خمسين قولا، انتهى ملخصًا.
"وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات"، قال اللغويون الفتنة: الامتحان والاختبار، قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره.
قال الحافظ وتطلق على القتل والإحراق والنميمة وغير ذلك "اللهم وأعوذ بك من المأثم" أي: ما يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه وضعًا للمصدر موضع الاسم، "والمغرم" أي: الدين يقال غرم بكسر الراء، أي: أدان، قيل: والمراد به ما يستدان فيما لا يجوز، أو فيما يجوز ثم يعجز عن أدائه، فأما دين احتاجه وهو قادر على أدائه فلا استعاذة منه.
قال الحافظ: ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين، وقال القرطبي: المغرم الغرم، وقد نبه في الحديث على الضرر اللاحق من المغرم، انتهى.
وهو حق العباد والمأثم حق الله تعالى، "فقال له قائل" هو عائشة، ففي رواية النسائي عنها، فقلت: يا رسول الله "ما أكثر"، "بفتح الراء" على التعجب "ما تستعيد من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم"، "بكسر الراء"، "حدث فكذب"، بأن يحتج بشيء في وفاء ما عليه ولم يقم به فيصير كاذبًا، "ووعد فأخلف" كذا لأكثر.
وفي رواية الحموي والمستملي: وإذا وعد أخلف، والمراد أن ذلك شأن من يستدين غالبًا كأن يقول لصاحب الدين: أوفيك يوم كذا ولم يوفه، والكذب وخلف الوعد من صفات المنافقين، "رواه البخاري ومسلم" وأبو داود والنسائي، كلهم في الصلاة "من رواية عائشة" من طريق الزهري، عن عروة، عنها.
قال ابن دقيق العيد: "فتنة المحيا": ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت، و"فتنة الممات": يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يكون أراد بها: فتنة القبر، ولا يكون مع هذا الوجه متكررًا مع قوله:"عذاب القبر"، لأن العذاب مترتب على الفتنة، والسبب غير المسبب.
وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن سفيان الثوري: أن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه، إني أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل.
وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه مغفور له ما تقدم وما تأخر.
وأجيب بأجوبة، منها أنه قصد التعليم لأمته، ومنها: أن المراد منه السؤال
"قال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان"، أي: الابتلاء "بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت وفتنة الممات، يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يكون أراد بها فتنة القبر" وقد صح، يعني في حديث أسماء الآتي في الجنائز أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال.
هذا أسقطه من كلام ابن دقيق العيد وهو في الفتح عنه قبل قوله: "ولا يكون مع هذا الوجه متكررًا مع قوله عذاب القبر، لأن العذاب مترتب على الفتنة والسبب غير المسبب".
زاد في الفتح، وقيل: أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر، وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة، وهو من العام بعد الخاص، لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا.
"وأخرج الحكيم" محمد بن علي الترمذي "في نوادر الأصول عن سفيان الثوري أن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان، فيشير إلى نفسه إني أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له" للميت "حين يسأل"، ثم أخرج بسند جيد إلى عمرو بن مرة: كانوا يستحبون إذا وضع الميت في القبر أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطن.
"وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه" معصوم من ذلك "مغفور له ما تقدم وما تأخر" أي: ممنوع من مواقعة ذنب، فإن الغفر الستر.
"وأجيب بأجوبة منها أنه قصد التعليم لأمته" أن تدعو بذلك، "ومنها: أن المراد منه
لأمته، فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتي، ومنها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية والتزام خوف الله تعالى، وإعظامه والافتقار إليه، وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرير الطلب مع تحقق الإجابة، لأن في ذلك تحصيل الحسنات، ورفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك، لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة.
وأما الاستعاذة من فتنة الدجال، مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يتحقق عدم إدراكه، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم:"إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه". والله أعلم.
وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد التشهد: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الدجال
السؤال لأمته، فيكون المعنى هنا أعوذ بك لأمتى"، فهو من مزيد رأفته بهم، "ومنها سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية والتزام خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه"، بقوله: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] ، "ولا يمتنع تكرير الطلب مع تحقق الإجابة، لأن في ذلك تحصيل الحسنات ورفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته ملازمة ذلك، لأنه" صلى الله عليه وسلم "إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع" إلى الله تعالى، "فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة" على ذلك "وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه، فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين" قصد التعليم أو السؤال لأمته.
"وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يتحقق عدم إدراكه، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم: "إن يخرج"، "بكسر الهمزة"، "وأنا فيكم فأنا حجيجه". أي الذي أحجه وأبين دجله وكذبه دونكم "الحديث والله أعلم"، وهذا مما جاء به المصنف من فتح الباري بلا عزو.
"وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد التشهد" وقبل السلام: "اللهم إني أعوذ" أعتصم "بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر"، العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب، فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا، أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر، "وأعوذ بك من فتنة الدجال الأعور" العين اليمنى، وقيل: اليسرى ولا خلف، فإحداهما مطموسة والأخرى معيبة، والعور: العيب، "وأعوذ بك من فتنة
الأعور، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات". رواه أبو داود.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ما بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت". رواه مسلم وغيره.
وفي رواية له: وإذا سلم قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت".
ويجمع بينهما: بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج الطريقين واحد.
وأورده ابن حبان بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وهذا ظاهر في أنه بعد السلام، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، وسيأتي الجواب عما استشكل في دعائه عليه السلام بهذا الدعاء في أدعيته صلى الله عليه وسلم.
المحيا والممات"، رواه أبو داود" وهو قريب من حديث عائشة قبله، أتي به المصنف بعده لبيان محل قوله في الصلاة، أنه بعد التشهد.
"وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ما بين التشهد والتسليم": "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت" أخفيت "وما أعلنت" أظهرت، "وما أسرفت" به على نفسي "وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم" من تشاء بطاعتك فتجعلهم أنبياء وأولياء وعلماء، "وأنت المؤخر" من تشاء عن ذلك فلا يدركه التوفيق، فيصيروا فراعنة كفرة شياطين كما اقتضته حكمتك، "لا إله إلا أنت". "رواه مسلم وغيره" في حديث قدم المصنف أوله في دعاء الاستفتاح.
"وفي رواية له" لمسلم "وإذا سلم قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت" ولم يقل بين التشهد والتسليم، "ويجمع بينهما بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج لطريقين واحد" وهو علي رضي الله عنه "وأورده" أي: رواه "ابن حبان" من حديث علي، "بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وهذا ظاهر في أنه بعد السلام"، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، فحفظ كل راو ما لم يحفظ الآخر وإن اتحد المخرج، "وسيأتي الجواب عما استشكل في دعائه عليه السلام بهذا الدعاء" ونحوه "في أدعيته صلى الله عليه وسلم" وهو النوع السابع ختام ذا المقصد ولفظه، وقد استشكل صدور هذه الأدعية ونحوها منه صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ، ووجوب عصمته.
وحاصل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من المواضع التي كان يدعو بها في داخل صلاته ستة مواطن:
الأول عقب نكبيرة الإحرام، كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين:"اللهم باعد بيني وبين خطاياي". الحديث ونحوه.
الثاني في الركوع، كما في حديث عائشة عند الشيخين: كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي".
الثالث في الاعتدال من الركوع، كما في حديث ابن أبي أوفى عند مسلم أنه كان يقول بعد قوله:"من شيء بعد": "اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد".
الرابع في السجود، وهو أكثر ما كان يدعو فيه، وأمر به، إلخ.
الخامس: بين السجدتين: "اللهم اغفر لي
…
" إلخ.
السادس: في التشهد.
وأجيب بأنه امتثل ما أمره الله به من تسبيحه وسؤاله المغفرة في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، ويحتمل أن يكون سؤال ذلك لأمته وللتشريع، انتهى.
وهذا بعض الأجوبة الثلاثة السابقة آنفًا، وإنما نقلته لئلا يتوهم أنه شيء زائد على ما هنا؛ "وحاصل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من المواضع التي كان يدعو بها في داخل صلاته ستة مواطن" تفنن فيه أولا بمواضع، وثانيًا بمواطن:
"الأول: عقب تكبيرة الإحرام كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" الحديث ونحوه" مما مر.
"الثاني: في الركوع كما في حديث عائشة عند الشيخين: كان" صلى الله عليه وسلم "يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده": "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي".
"الثالث: في الاعتدال من الركوع كما في حديث ابن أبي أوفى" عبد الله بن علقمة "عند مسلم أنه كان يقول بعد قوله": "من شيء بعد". "اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد".
"الرابع: في السجود وهو أكثر ما كان يدعو فيه وأمر به" في قوله: "وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم".
"الخامس: بين السجدتين: "اللهم اغفر لي
…
" إلخ".
"السادس: في التشهد" الأخير، "وكان أيضًا يدعو في القنوت، وفي حال القراءة، إذا
وكان أيضًا يدعو في القنوت، وفي حال القراءة إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، وتقدم كل ذلك، والله الموفق.
الفرع الرابع عشر: في ذكر تسليمه من الصلاة
كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده. رواه مسلم والنسائي من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه.
وفي حديث ابن مسعود: كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله". رواه الترمذي، وزاد أبو داود: حتى يرى بياض خده، وفي رواية النسائي: حتى يرى بياض خده من ههنا، وبياض خده من ههنا. الحديث.
مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ"، فتكون المواطن ثمانية، "وتقدم كل ذلك والله الموفق" لا غيره.
الفرع الرابع عشر: في ذكر تسليمه من الصلاة
"كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده" من الجهتين كما يأتي، "رواه مسلم والنسائي من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة" العنزي حليف بني عدي أبي محمد المدني، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة بضع وثمانين، "عن أبيه" عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي، بسكون النون حليف الخطاب، أسلم قديمًا وهاجر، مات ليالي قتل عثمان.
"وفي حديث ابن مسعود: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره"، فيقول:"السلام عليكم ورحمة الله". "رواه الترمذي، وزاد أبو داود: حتى يرى بياض خده".
"وفي رواية النسائي: حتى يرى بياض خده من ههنا" إذا سلم من جهة يمينه، "وبياض خده من ههنا" إذا سلم من جهة يساره "الحديث".
لكن دلالته على أنه كان يسلم تسليمتين لا ينهض، إذ لا صراحة فيما ساقه من هذه الأحاديث بذلك، فيحتمل أن المعنى كان يسلم عن يمينه تارة وعن يساره أخرى، لإفادة أن التيامن بالسلام ليس بواجب، ويقويه أن في الصحيحين عن ابن مسعود: لا يجعل أحدكم للشيطان جزءًا من صلاته، يرى أن حقًا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ينصرف عن يساره.
لفظ البخاري ولفظ مسلم: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، ولا يعارضه
وهذا كان فعله الراتب. رواه عنه خمسة عشر صحابيًا، وهم: عبد الله بن مسعود، وابن أبي وقاص، وسهل بن سعد، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو ثور، وعدي بن عمرو.
هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد والجمهور.
رواية مسلم عن أنس: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه، لأنه جمع بينهما: بأنه كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل من ابن مسعود وأنس بما اعتقد أنه الأكثر.
قال ابن المنير: فيه أن المندوب قد ينقلب مكروهًا إذا رفع عن رتبته، لأن التيامن مستحب في كل شيء، أي من أمور العبادة، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقد وجوبه أشار إلى كراهته، "وهذا كان فعله الراتب، رواه عنه خمسة عشر صحابيًا" في شرحه للبخاري.
ذكره الطحاوي من حديث ثلاثة عشر صحابيًا، وزاد غيره: سبعة، "وهم عبد الله بن مسعود وابن أبي وقاص" سعد بن مالك "وسهل بن سعد ووائل بن حجر"، "بحاء مهملة مضمومة فجيم ساكنة"، "وأبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر وجابر بن سمرة والبراء بن عازب"، وكل من حذيفة حتى البراء صحابي ابن صحابي، "وأبو مالك الأشعري" قيل اسمه عبيد، وقيل: عبد الله، وقيل: عمرو، وقيل: كعب بن كعب، وقيل: عمرو بن الحارث، صحابي، مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة.
وفي الصحابة أيضًا أبو مالك الأشعري كعب بن عاصم، وأبو مالك الأشعري الحارث بن الحارث كما في التقريب، فكان ينبغي تمييزه، "وطلق"، "بفتح الطاء وسكون اللام"، "ابن علي" الحنفي أبو علي اليمامي له وفادة، "وأوس بن أوس" الثقفي، صحابي سكن دمشق، "وأبو ثور"، "بمثلثة" الفهمي، صحابي سكن مصر.
قال أبو أحمد الحاكم: لا أعرف اسمه ولا سياق نسبه. في الصحابة أيضًا أبو ثور محمد بن معدي كرب الزبيدي كما في الإصابة، فهو إحداهما، وغلط من ظنه أبا ثور الأزدي غافلا عن نقله عن التقريب أنه من الثانية، يعني كبار التابعين كما قال في خطبته، والمصنف في تعداد الصحابة، "وعدي بن عمرو" صوابه ابن عميرة "بفتح العين المهملة وكسر الميم" ابن زرارة "بضم الزاي" الكندي، صحابي، له أحاديث في مسلم وغيره، كما في الإصابة وغيرها، "هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد والجمهور، ومذهب مالك في طائفة" كثيرة من السلف، وحكاه ابن عبد البر عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وأنس وابن أبي أوفى وجمع من
ومذهب مالك في طائفة: المشروع تسليمه.
ودليل مذهبنا ما تقدم. وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، فلم يثبت من وجه صحيح، وأجود ما في ذلك حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة، السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا، وهو حديث معلول، وهو في السنن، لكنه في قيام الليل، والذين رووا عنه تسليمتين رووا ما شاهدوا في الفرض والنفل، وحديث عائشة ليس هو صريحًا في الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها، ولم تنف
التابعين "المشروع"، أي: الواجب فيما يخرج به من الصلاة "تسليمة" واحدة لكل مصل إلا أن المأموم يسن له الرد على إمامه، ثم على من على يساره إن كان به معه أحد في تلك الصلاة، لأن رد السلام مشروع في الجملة وعملا بما رواه في الموطأ عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يسلم ثلاثًا إذا كان مأمومًا، فسقط قول من قال: يحتاج من زاد تسليمة ثالثة إلى دليل، فهذا دليله مع عدم الإنكار عليه.
"ودليل مذهبنا ما تقدم" أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره، فإن ظاهره تسليمتين، وتقدم أنه لا دليل فيه لظروف الاحتمال.
"وأما ما روي" عند ابن ماجه عن سهل بن سعد "أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، فلم يثبت من وجه صحيح" لأن في سنده عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد وهو ضعيف: لكن له شاهد عن سلمة بن الأكوع: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمة واحدة، أخرجه ابن ماجه، وللنسائي: وضعفه بأن فيه يحيى بن راشد البصري ضعيف، "وأجود ما في ذلك حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة"، يقول:"السلام عليكم". يرفع بها صوته حتى يوقظنا من النوم، "وهو حديث معلول" وإن كان إسناده جيدا لمخالفته لأحاديث غيرها التي ظاهرها تسليمتين، "وهو في السنن" للترمذي والنسائي وابن ماجه.
"لكنه في قيام الليل" أخذا من قولها: حتى يوقظنا، "والذين رووا عنه تسليمتين، رووا ما شاهدوا في الفرض والنفل" الذي كان يفعله بحضورهم، بحيث يشاهدونه فلا يرد عليهم تسليمة واحدة في قيام الليل، لأنهم لم يكونوا عنده، ثمة، لكنه يتوقف على أنهم رووا ذلك عنه في صلاة واحدة، وإلا فهو محتمل.
"وحديث عائشة: ليس هو صريحًا في الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها"، فيجوز أنه كان يأتي بالأخرى سرًا، لكن هذا إنما يصح لو جعلت عائشة الإيقاظ غاية للوحدة، وهي إنما جعلته غاية لرفع الصوت، فهو صريح في
الأخرى بل سكتت عنها، وليس سكوتها عنها مقدمًا على رواية من حفظها وشطبها، وهم أكثر عددًا وأحاديثهم أصح، والله أعلم.
واختلف في التسليم:
فقال: مالك والشافعي وأحمد، وجمهور العلماء: إنه فرض لا تصح الصلاة إلا به.
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: سنة، لو ترك صحت. قال: وقال أبو حنيفة: لو فعل منافيًا للصلاة من حدث أو غيره في آخرها صحت صلاته، واحتج بأنه عليه الصلاة والسلام لم يعلمه للأعرابي حين علمه واجبات الصلاة.
الاقتصار على واحدة، لأنها جعلتها صفة لتسليمة، فرفعت احتمال المجاز، فهو نص في الوحدة، ثم وصفتها ثانيًا، بأنه يرفع صوته بها رفعًا بينا حتى يوقظهم برفع صوته، فلا يصح أيضًا قوله:"ولم تنف الأخرى بل سكتت عنها"، لأن كلامها صريح في النفي وعدم السكوت عنها، "وليس سكوتها عنها مقدمًا على رواية من حفظها وضبطها وهم أكثر عددًا، وأحاديثهم أصح" إسنادًا، لكن إنما ينفعهم ذلك إذا كان في أحاديثهم أنه كان يسلم في الصلاة الواحدة تسليمتين، أحدهما عن يمينه والأخرى عن يساره، أما هذه فظواهر يطرقها الاحتمال، فيسقط بها الاستدلال مع معارضة ذلك لأحاديث سعد وسلمة وعائشة الناصة على الواحدة، وهي وإن كانت مفرداتها ضعيفة، فباجتماعها تتقوى، لا سيما وحديث عائشة إسناده جيد خصوصًا، وقد اعتضدت كما قال ابن عبد البر بالحديث الحسن مفتاح الصلاة الطهور، وتحليلها التسليم، والواحدة يقع عليها اسم التسليم، والعمل المشهور المتواتر بالمدينة التسليمة الواحدة، ومثله يحتج به لوقوعه في كل يوم مرارًا وبفعل الخلفاء الأربع، وبهم القدوة، انتهى ملخصًا.
"والله أعلم" بالصواب من ذلك في نفس الأمر.
"واختلف في التسليم، فقال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء أنه فرض لا تصح الصلاة إلا به"، فلو خرج من الصلاة بدون السلام بطلت.
"وقال أبو حنيفة والثوري" سفيان "والأوزاعي سنة لو ترك صحت صلاته" أي: تاركه.
"وقال أبو حنيفة: لو فعل منافيًا للصلاة من حدث أو غيره" كالكلام "في آخرها صحت صلاته" لتمام فرائضها عنده.
"واحتج بأنه عليه الصلاة والسلام لم يعلمه للأعرابي حين علمه واجبات الصلاة" إذ لو كان فرضًا لعلمه له.
واحتج الجمهور بحديث أبي داود: "مفتاح الصلاة الطهور وتحليلها التسليم".
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه. رواه أحمد.
وكان لا يجاوز بصره إشارته، وكان قد جعل الله قرة عينه في الصلاة كما قال:"وجعلت قرة عيني في الصلاة". رواه النسائي.
ولم يكن يشغله عليه السلام ما هو فيه عن مراعاة أحوال المأمومين، مع كمال إقباله وقربه من ربه وحضور قلبه بين يديه.
وكان يدخل في الصلاة فيريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته مخافة أن يشق على أمه. رواه البخاري وأبو داود والنسائي.
"واحتج الجمهور بحديث أبي داود" والترمذي وابن ماجه، بإسناد حسن عن علي بن أبي طالب أنه صلى الله عليه وسلم، قال:"مفتاح الصلاة الطهور" بضم الطاء وفتحها روايتان كما مر وتحريمها التكبير هذا أسقطه هنا، "وتحليلها التسليم" لتحليله ما كان حرامًا على المصلي، ففيه أن التسليم ركن الصلاة كالتكبير، وأنه إنما يكون به دون الحدث والكلام، لأنه عرف بأل، وعينه كما عين الطهور، وعرفه، والتعريف بأل مع الإضافة يوجب التخصيص، ففيه رد على الحنفية، قاله الخطابي.
قال الحافظ: وأما حديث إذا أحدث وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته، فقد ضعفه الحفاظ.
"وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه" بالهمز، أي: طامنه وخفضه ليكون أبعد من النظر إلى ما يشغله، "رواه" وبه أخذ الشافعية، "وكان لا يجاوز بصره إشارته"، أي: أصبعه التي يشار بها وهي السبابة، "وكان قد جعل الله قرة عينه في الصلاة"، أي: راحتها وسرورها، "كما قال":"وجعلت قرة عيني في الصلاة". لأنها محل المناجاة ومعدن المصافاة، "رواه النسائي" في حديث مر الكلام عليه مبسوطًا، "ولم يكن يشغله"، "بفتح أوله وثالثه" المعجم يمنعه "عليه السلام ما هو فيه من مراعاة أحوال المأمومين" فإذا حصل لهم خلل ربما نبههم عليه بعد، كما قال:"إنه لا يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري". "مع كمال إقباله وقربه من ربه" القرب المعنوي "وحضور قبله بين يديه" نريد عناية وتكميل من الله تعالى له.
"وكان يدخل في الصلاة فيريد إطالتها" أي: التطويل فيها "فيسمع بكاء الصبي" بالمد، أي صوته الذي يكون معه "فيتجوز" بجيم وزاي، يعني يخفف "في صلاته" بتقصيرها
وكان يؤم الناس وهو حامل أمامة بنت أبي العاصي بن الربيع على عاتقة. رواه مسلم وغيره.
قال النووي: وهذا يدل لمذهب الشافعي ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان في صلاة الفرض والنفل للإمام والمأموم والمنفرد.
وحمله أصحاب مالك على النافلة، منعوا جواز ذلك في الفريضة.
وهذا التأويل فاسد، لأن قوله:"يؤم الناس" صريح أو كالصريح في أنه كان
"مخافة أن يشق على أمه"، أي: المشقة عليها.
وفي رواية: أن تفتن أمه، أي: تلتهي عن صلاتها لاشتغال قلبها ببكائه، زاد عبد الرزاق من مرسل عطاء: أو تتركه فيضيع "رواه البخاري وأبو داود والنسائي" في الصلاة عن أبي قتادة، ورواه الشيخان وغيرهما من حديث أنس من طرق بين في بعضها عند مسلم محل التخفيف، فقال: فيقرأ بالسورة القصيرة، ولابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة نحو ستين آية، فسمع بكاء صبي، فقرأ في الثانية بثلاث آيات، وفيه شفقته صلى الله عليه وسلم على أصحابه ومراعاة أحوال الكبير منهم والصغير، "وكان يؤم الناس وهو حامل أمامة" بضم الهمزة وتخفيف الميم، والمشهور في الروايات تنوين حامل ونصب أمامة، وروي بالإضافة كقراءة:{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} بالوجهين "بنت أبي العاصي" لقيط أو مقسم أو مهشم أو هشيم أو ياسر "بن الربيع" بن عبد العزى بن عبد شمس، أسلم قبل الفتح وهاجر وأثنى عليه صلى الله عليه وسلم في مصاهرته، ومات في خلافة الصديق.
وفي رواية بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبها إلى أمها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، وتزوجها علي بعد فاطمة بوصية منها، ولم تعقب "على عاتقه".
وفي رواية لأحمد: على رقبته، "رواه مسلم وغيره" عن أبي قتادة، قا:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة على عاتقه"، وهو في الموطأ والصحيحين، عنه بلفظ: كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
"قال النووي: وهذا يدل لمذهب الشافعي ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان في صلاة الفرض والنفل للإمام والمأموم والمفرد" عملا بظاهر هذه الرواية، وكأنهم قاسوا المأموم والفذ على الإمام بطريق المساواة أو الأولى، "وحمله أصحاب مالك على النافلة، ومنعوا جواز ذلك في الفريضة" جوازًا مستوي الطرفين، بمعنى أنهم كرهوا ذلك "وهذا التأويل فاسد، لأن قوله يؤم الناس صريح، أو كالصريح" إضراب "في أنه كان في
في الفرض. وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه خاص به صلى الله عليه وسلم، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكلها مردودة ولا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف الشرع، لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه في النجاسة معفو عنها لكونها في معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعله عليه السلام للجواز، وتنبيها على هذه
الفرض" لأن المازري وعياضًا والقرطبي استبعدوا ذلك بأن إمامته في النافلة ليست بمعهودة، والاستبعاد لا يمنع الوقوع، وقد أم في النفل في قصتي مليكة وعتبان وغيرهما.
وأما رواية أبي داود: بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج إلينا وأمامة على عاتقة، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبر وكبرنا وهي في مكانها فقد أعله ابن عبد البر؛ بأن أبا داود رواه من طريق ابن إسحاق عن المقبري، وقد رواه الليث عن المقبري، أي: عند البخاري، فلم يقل في الظهر أو العصر، فلا دلالة فيه على أنه في فريضة، انتهى.
"وادعى بعض المالكية أنه منسوخ" إشارة لقول أبي عمر لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة، ورد بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن هذه القصة كانت بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الصلاة لشغلا"، لأنه كان قبل الهجرة بمدة، "وبعضهم" فيما نقله عياض؛ "أنه خاص به صلى الله عليه وسلم" لعصمته من أن تبول وهو حاملها، ورد بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوته في أمر ثبوته في غيره بلا دليل، ولا دخل للقياس في مثله، "وبعضهم" ورواه أشهب وابن نافع عن مالك "أنه كان لضرورة" حيث لم يجحد من يكفيه أمرها، وقال بعض أصحابه، لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره أكثر من شغله بحملها.
وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما، "وكلها مردودة ولا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك" لكنه صادق بالكراهة، لا سيما وهو يفعل المكروه لغيره لبيان الجواز، أي: عدم منعه، "وليس فيه ما يخالف الشرع، لأن الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسه معفو عنها" راعى معنى مالا لفظها: فأتت، لأن من البيان والبيان عين المبين، فكأنه قال: والنجاسة التي في جوفه معفو عنها، "لكونها في معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة"، وفي نسخة مبنية على الطهارة، وكأنه أريد بالبناء الحمل، "ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت" بأن نقصت عن ثلاث "أو" كثرت و"تفرقت" فإن
القواعد التي ذكرتها.
وهذا يرد على ما ادعاه أبو سليمان الخطابي: أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد لحملها في الصلاة، لكنها كانت تتعلق به عليه الصلاة والسلام فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه من غير فعله، قال: ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى، لأنه عمل كثير، ويشغل القلب، وإذا كان علم الخميصة شغله فكيف لا يشغله هذا؟
هذا كلام الخطابي، وهو باطل، ودعوى مجردة، ومما يرده قوله في صحيح مسلم:"فإذا قام حملها، وإذا رفع من السجود أعادها" وقوله في رواية غير مسلم: "خرج حاملا أمامة وصلى" وذكر الحديث. وأما قضية الخميصة فإنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد،
توالت بطلت بثلاث ما لم يكن خفيفًا، كتحريك أصابعه في سبحة أو حك مع قرار الكف، كما هو مذهب الشافعية، "وفعله عليه السلام للجواز"، وهو صادق بالكراهة، "وتنبيهًا على هذه القواعد التي ذكرتها" من أول قوله، لأن الآدمي إلى هنا، لكن هذا إنما يرد على من علل بالنجاسة أو الفعل الكثير.
أما من علل الكراهة بالشغل في الصلاة، فلا يرد عليه شيء من ذلك، "وهذا يرد على ما ادعاه أبو سليمان الخطابي أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد لحملها في الصلاة، لكنها"، أي: الصبية "كانت تتعلق به عليه الصلاة والسلام"، إذا سجد، لأنها ألفته، "فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه من غير فعله" فيقل العمل.
"قال" الخطابي: "ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى، لأنه عمل كثير ويشغل القلب" وكلاهما لا يجوز في الصلاة، "وإذا كان علم الخميصة شغله، فكيف لا يشغله هذا؟ " الفعل، "هذا كلام الخطابي، وهو باطل ودعوى مجردة" عن دليل.
"ومما يرده قوله في صحيح مسلم: فإذا قام حملها، وإذا رفع من السجود أعادها" فهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع منه. ولأحمد: وإذا قام حملها فوضعها على رقبته.
"وقوله في رواية غير مسلم: خرج حاملا أمامة، وصلى وذكر الحديث" ولأبي داود: حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها.
"وأما قضية الخميصة، فإنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل
وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة.
والصواب الذي لا يعدل عنه أن الحديث كان للبيان والتنبيه على هذه القواعد، فهو جائز لنا وشرع مستمر إلى يوم الدين، انتهى.
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فيجيء الحسن أو الحسين فيركب على ظهره، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره.
وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة.
قال جابر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، فأدركته وهو يصلي فسلمت عليه، فأشار إلي، رواه مسلم.
وقال عبد الله بن مسعود: لما قدمت من الحبشة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فأوما برأسه، رواه البيهقي.
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة، فإذا سجد غمزها بيده
القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة" فلا فائدة فيها أصلا فافترقا.
"والصواب الذي لا يعدل عنه أن الحديث كان للبيان والتنبيه على هذه القواعد، فهو جائز لنا" أن نفعل مثله "وشرع مستمر إلى يوم الدين، انتهى" كلام النووي.
"وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فيجيء الحسن أو الحسين" أو للتنويع، "فيركب على ظهره فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره" سريعًا فيتأذى، "وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة"، ففيه أنه يجب على المصلي رد السلام بالإشارة.
"قال جابر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة" وكان ذلك في غزوة بني المصطلق كما في مسلم "فأدركته" لما رجعت من الحاجة "وهو يصلي، فسلمت عليه، فأشار إلي" ردًّا لسلامي، وقوله في رواية البخاري: فلم يرد علي معناه باللفظ، "رواه مسلم" والبخاري بنحوه.
"وقال عبد الله بن مسعود: لما قدمت من الحبشة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فأومأ" أشار "برأسه" لرد السلام، "رواه البيهقي"، وفيهما جواز السلام على المصلي بلا كراهة، وهو قول مالك في المدونة وأحمد والجمهور، وقال في رواية ابن وهب: يكره، وكذا قال عطاء والشعبي وجابر.
"وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة" اعتراض الجناز، كما في نفس
فقبضت رجليها، وإذا قام ببسطتهما. رواه البخاري.
وكان عليه السلام لا يلتفت في صلاته. في البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة قال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد".
الحديث، أي: اعتراضًا كاعتراض الجنازة بأن تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة يساره، كما تكون الجنازة بين يدي المصلي عليها، "فإذا سجد غمزها"، أشار أو طعن "بيده"، أي بأصبعه كما قاله البرهان الحلبي، قائلا: إن ذلك جاء في رواية، "فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتها"، قالت عائشة في رواية للشيخين: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، يعني: إذ لو كانت لقبضت رجلي عند إرادة السجود ولما أحوجته للغمز فهو اعتذار، وفيه دلالة لمذهب مالك أن لمس المرأة بلا لذة لا ينقض الوضوء، لأن شأن المصلي عدم اللذة، لا سيما النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمال الحائل الأصل عدمه أو الخصوصية، فهي لا تثبت بالاحتمال، وعلى أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها، وعليه الشافعي وأبو حنيفة ومالك مع كراهته لذلك لئلا يتذكر منها ما يشغله عن الصلاة أو يبطلها، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، "رواه البخاري" ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة بطرق عديدة وألفاظ متقاربة.
"وكان عليه السلام لا يلتفت في صلاته" لأنه ينقص الخشوع، أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن والإجماع على كراهته، والجمهور أنها للتنزيه، وقالت الظاهرية: يحرم إلا لضرورة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف جهه عنه انصرف". رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة، وزاد:"فإذا صليتم فلا تلتفتوا".
"في البخاري: عن عائشة قالت: سألت رسول صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، قال": "هو اختلاس" أي: اختطاف بسرعة، وفي النهاية: افتعال من الخلسة، وهي ما يؤخذ سلبًا مكابرة وفيه نظر، وقال غيره: المختلس الذي يختطف من غير غلبة ويهرب ولو مع معاينة المالك، والناهب يأخذ بقوة، والسارف من يأخذ خفية، فلما كان الشيطان قد يشغل المصلي عن صلاته بالالتفات إلى شيء ما بغير حجة يقيمها أشبه المختلس "يختلسه"، "بالضمير" للكشميهني، وللأكثر: يختلس بلا ضمير "الشيطان من صلاة العبد".
قال ابن بريزة: أضيف إلى الشيطان، لأن فيه انقطاعًا من ملاحظة التوجه إلى الحق سبحانه، وقال الطيبي: سمي اختلاسًا تصويرًا لقبح تلك الفعلة من المختلس، لأن المصلي يقبل عليه الرب تعالى والشيطان مترصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة.
وروى أبو داود من حديث سهل بن الحنظلية: أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من يحرسنا الليلة"؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله! قال: "اركب"، فركب فرسًا له، فقال:"استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه"، فلما أصبحنا ثُوِّب بالصلاة، فجعل صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة قال: أبشروا قد جاء فارسكم.
فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة، وهو يدخل في مداخل العبادات، كصلاة الخوف، وقريب منه قول عمر رضي الله عنه إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة، فهذا جمع بين الصلاة والجهاد ونظير التفكر في معاني
وقال غيره: الحكمة في جعل سجود السهو حابرًا للمشكوك فيه دون الالتفات، وغيره مما ينقص الخشوع أن السهو لا يؤاخذ به المكلف، فشرع له الجبر دون العمد ليتيقظ العبد له فيجتنبه.
"وروى أبو داود" والنسائي وغيرهما من حديث سهل بن الحنظلية، صحابي، أنصاري، أوسي، والحنظلية أمه، أو من أمهاته، واختلف في اسم أبيه؛ "أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين:"من يحرسنا الليلة"؟. قال أنس بن أبي مرثد"، بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة، واسمه كناز، بفتح الكاف وشد النون وزاي، ابن الحصين "الغنوي" بمعجمة ونون مفتوحتين نسبة إلى غني بن يعصر، صحابي ابن صحابي.
قال ابن منده: كان بينه وبين ابنه في السن عشرون سنة، ويكنى أبا يزيد، ومات سنة عشرين "أنا يا رسول الله، قال: "اركب"، فركب فرسا له، فقال: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه".
قال سهل بن الحنظلية: "فلما أصبحنا ثوب" بضم المثلثة وكسر الواو ثقيلة، نودي "بالصلاة، فجعل صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة" أتمها، "قال":"أبشروا قد جاءكم فارسكم".
وفي بقية الحديث، فقال له صلى الله عليه وسلم:"هل نزلت الليلة"، قال: لا إلا مصليًا أو قاضي حاجة، فقال:"قد أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بعدها".
قال في الإصابة: إسناده على شرط الصحيح، "فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة، وهو يدخل في مداخل العبادات كصلاة الخوف"، فلا كراهة فيه ولا يمنع الإقبال، "وقريب منه قول عمر رضي الله عنه: إني لأجهز الجيش"، أي أدبر تجهيزه "وأنا في الصلاة، فهذا جمع بين الصلاة والجهاد" ولا ضير في ذلك، "ونظيره التفكر في معاني القرآن
القرآن واستخراج كنوز العلم منه.
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فعرض له الشيطان ليقطع عليه صلاته، فأخذه صلى الله عليه وسلم وخنقه حتى سال لعابه على يديه.
واستخراج كنوز العلم منه" فإنه لا يضر الصلاة حيث لا يذهل عن شيء منها، "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فعرض له الشيطان" إبليس.
لكن في رواية للبخاري أن عفريتا من الجن تفلت عليَّ قال الحافظ: وهو ظاهر في أن المراد بالشيطان في هذه الرواية غير إبليس كبير الشياطين "ليقطع عليه صلاته" أذية له وإن كان لا تسليط له في قول ولا فعل ولا سبيل له إلى وسوسته، ولعبد الرزاق: عرض لي في صورة هر، ولمسلم عن أبي الدرداء: جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، ففهم ابن بطال وغيره أنه عرض على صورته التي خلق عليها، وأن رؤيته كذلك خاصة به صلى الله عليه وسلم وأما غيره فلا لآية {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] مردود، "فأخذه صلى الله عليه وسلم وخنقه" خنقا شديدا "حتى سال لعابه" أي: الشيطان "على يديه" صلى الله عليه وسلم وللنسائي من حديث عائشة: فأخذته، فصرعته، خنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي.
والحديث في الصحيحين والنسائي واللفظ للبخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة -أو كلمة لمحوها- ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فرددته خاسئا". أي: مطرودا وتفلت" بالفاء وشد اللام أي: عرض لي فلتة، أي: بغتة.
وقال القزاز: يعني توثب، وفي رواية:"عرض لي فشد علي". قال صاحب المنتهى: كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة وهي أدنى ليلة زالت، ثم لا يشكل مع هذا قوله صلى الله عليه وسلم لعمر:"والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك". رواه الشيخان، لأنه ليس فيه إلا فراره من مشاركته في سلوك الطريق لشدة بأسه خوفا أن يفعل به شيئا، وهذا لا يقتضي عصمته، فلا يمنع من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم، فلا سبيل له إلى وسوسته بوجه، وتعرضه له وتفلته عليه، إنما هو من الأذى الحسي، سلمنا أن عدم تسليطه على عمر بالوسوسة يؤخر بطريق مفهوم الموافقة، لأنه إذا امتنع من سلوك الطريق، فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له، لأنه يمكن كما قال الحافظ، أن عمر حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له، لأنها في حق النبي واجبة، وفي حق غيره ممكنة. انتهى.
وأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، يعني يبكي، وفي رواية: لصدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. رواه أحمد.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يغمض عينيه في صلاته.
وعن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أميطي
أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فعنها أجوبة، أصحها أن المراد بتمنى تلا كما فسر فسره ابن عباس، كما قال تعالى:{لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} أي تلاوة، فقوله:{فِي أُمْنِيَّتِهِ} ، أي تلاوته، فأخبر تعالى أن سنته في رسله أنهم إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، لا أنهم يقولون هم ذلك، كما صوبه عياض تبعا للحافظ أبي بكر محمد بن العربي القاضي تبعا لابن جرير، فليس فيه أنه يلقي إليهم الوسوسة، لكنهم لا يعلمون بما يلقي لعمصتهم، كما زعمه بعض الصوفية تعلقا بظاهر الآية، ومر الكلام عليها مبسوطا في المقصد الأول.
"وروى مطرف" بضم الميم وفتح المهملة وكسر الراء ثقيلة "ابن عبد الله بن الشخير" بكسر الشين والخاء المعجمتين الثانية شديدة وسكون التحتية، وبالراء العامري الحرشي بفتح المهملتين، ثم معجمة أبو عبد الله البصري، ثقة، عابد، فاضل، مات سنة خمس وتسعين، "عن أبيه" عبد الله بن الشخير ابن عوف العامري، صحابي من مسلمة الفتح، "قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وو يصلي ولجوفه أزيز" بزايين منقوطتين بينهما تحتية ساكنة، أي: صوت "كأزيز المرجل:" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم ولام، قدر من النحاس عند غليانها "يعني يبكي" لغلبة الخشية عليه، يسيل دمعه فيسمع لجوفه ذلك ولا يرد أن شدة البكاء في الصلاة تبطلها، لأن بكاءه صلى الله عليه وسلم لم يكن بصوت، بل تدمع عيناه حتى تهملا كما قدمه المصنف في بحث ضحكه من شمائله صلى الله عليه وسلم.
"وفي رواية: لصدره أزيز كأزيز الرحى" أي: صوت كصوتها "من البكاء" من خشية الله، يقال: أزت الرحى إذا صوتت، "رواه" أي: المذكور من الروايتين "أحمد" وأبو داود والنسائي، وصححه ابنا خزيمة وحبان، "ولم يكن صلى الله عليه وسلم يغمض" بضم التحتية وسكون المعجمة وميم مخففة مكسورة من أغمض إغماضا، وبضمها وفتح المعجمة وشد الميم مكسورة من غمض تغميضا "عينيه" أي: يطبق أجفانهما "في صلاته" لأنه غير مشروع، "وعن أنس قال: كان قرام"، "بكسر القاف وتخفيف الراء" ستر رقيق من صوف ذو ألوان أو رقم ونقوش "لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال" لها "صلى الله عليه وسلم:"أميطي" أي: أزيلي وزنا ومعنى "عنا قرامك هذا، فإنه" أي:
عنا قرامك هذا فإنه لا يزال تصاوير تعرض لي في صلاتي". البخاري.
فلو كان يغمض عينيه لما عرضت له في صلاته، وقد اختلف الفقهاء في كراهته، والحق أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع كأن يكون في قبلته زخرفة أو غيرها مما يشغل قلبه فلا يكره التغميض قطعا بل ينبغي أن يكون مستحبا في هذه الحالة.
وقد كانت صلاته صلى الله عليه وسلم متوسطة، عارية عن الغلو كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرا، وتطويل ما السنة تخفيفه، كالتشهد الأول، إلى غير ذلك مما يفعله كثير ممن ابتلي بداء الوسوسة، عافانا الله منها.
وهي نوع من الجنون، وصاحبها بلا ريب مبتدع مستنبط في أفعاله وأقواله
الشأن "لا يزال تصاوير" بغير ضمير.
وفي رواية: تصاويره بإضافته إلى الضمير فضمير فإنه، قال الحافظ: يحتمل عوده للثوب "تعرض" بفتح أوله وكسر الراء تلوح، وللإسماعيلي تعرض بفتح العين وشد الراء، وأصله تتعرض "لي في صلاتي" ولم يعد الصلاة ولم يقطعها، وفي رواية للنسائي: فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا، "رواه البخاري" في الصلاة واللباس والنسائي "فلو كان يغمض لما عرضت" تصاويره "له في صلاته.
"وقد اختلف الفقهاء في كراهته" لما فيه من التعمق في الدين وعدم كراهته، "والحق أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل" اتباعا للفعل النبوي، "وإن كان يحول بينه وبين الخشوع، كأن يكون في قبلته زخرفة أو غيرها مما يشغل قلبه، فلا يكره التغميض قطعا، بل ينبغي أن يكون مستحبا في هذه الحالة" لكونه وسيلة إلى عدم ذهاب الخشوع المطلوب.
"وقد كانت صلاته صلى الله عليه وسلم متوسطة عارية عن الغلو" أي: التشديد ومجاوزة الحد، قال تعالى:{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، وقال صلى الله عليه وسلم:"إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". رواه أحمد والنسائي: "كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرا"، كالتسبيح والدعاء في الركوع والسجود، "وتطويل ما السنة تخفيفه، كالتشهد الأول" وتقصير الثانية عن الأولى "إلى غير ذلك مما يفعله كثير ممن ابتلي بداء الوسوسة، عافانا الله منها، وهو نوع من الجنون، وصاحبها بلا ريب" بلا شك "مبتدع مستنبط في أفعاله وأقواله شيئا لم يفعله
شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة. وقد قال عليه السلام:"إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها". وعنه أيضا: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كان محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
ومما نسب إلى إمام الحرمين: الوسوسة نقص في العقل، جهل بأحكام الشرع.
ومن غرائب ما يتفق هؤلاء الموسوسين، أن بعضهم يشتغل بتكرير الطهارة حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ومنهم من يشتغل في النية حتى تفوته التكبيرة، وربما تفوته ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أن لا يزيد على هذه التكبيرة ثم يكذب.
ومن العجب أن بعضهم يتوسوس في حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه، فمن لم تحصل له النية في القيام الطويل
النبي صلى الله عليه وسلم" ولم يقله "ولا أحد من الصحابة".
"وقد قال عليه السلام" أثناء حديث في مسلم وغيره عن جابر ""إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم" بفتح الهاء وسكون الدال فيهما، أي أحسن الطرق طريقه وسمته وسيرته، "وشر الأمور محدثاتها" جمع محدثة، وهي ما لم يعرف من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
قال الطيبي وغيره: روي "شر" بالنصب عطفا على اسم إن وهو الأشهر، وبالرفع عطفا على محل إن مع اسمها، "وعنه" صلى الله عليه وسلم "أيضا":"وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". أي صاحبها، "ومما نسب إلى إمام الحرمين: الوسوسة نقص في العقل، جهل بأحكام الشرع" إذ لو كان عاقلا أو عالما ما توسوس "ومن غرائب ما يتفق هؤلاء الموسوسين" بفتح الواو اسم مفعول، "أي: الموسوس إليهم من الشيطان، ففيه حذف وإيصال.
وفي التنزيل: فوسوس إليه الشيطان "أن بعضهم يشتغل بتكرار الطهارة حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت" رأسا.
"ومنهم من يشتغل في النية حتى تفوته التكبيرة، وربما تفوقه ركعة أو أكثر" وربم فاتته الصلاة مع الإمام رأسا.
"ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذه التكبيرة، ثم يكذب" فيزيد، "ومن العجب أن بعضهم يتوسوس في حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا
حال فراغ باله، فكيف حصل له في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة.
ومنهم من يكثر التلفظ بالتكبير، حتى يشوش على غيره من المأمومين، ولا ريب أن ذلك مكروه، ومنهم من يزعج أعضاءه، ويحني جبهته، ويقيم عروق عينيه، ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو، ومنهم من يغسل عضوه غسل يشاهده ويبصره، ويكبر ويقرأ بلسانه، ويسمع بأذنه، ويعلمه بقلبه، ومع ذلك يصدق الشيطان في إنكاره يقين نفسه وجحده لما رآه ببصره، ولما سمعه بأذنه.
وقد سأل رجل أبا الوفاء بن عقيل فقال: إني أكبر وأقول: ما كبرت، وأغسل العضو في الوضوء وأقول: ما غسلته، فقال ابن عقيل: دع الصلاة فإنها لا تجب عليك، فقال له: كيف ذلك؟ فقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق". ومن يكبر ثم يقول: ما كبرت فليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه الصلاة.
وأدركه، فمن لم تحصل له النية في القيام الطويل حال فراغ باله، فكيف حصل له في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة" وهذا بيان لوجه العجب.
"ومنهم من يكثر التلفظ بالتكبير حتى يشوش على غيره من المأمومين، ولا ريب أن ذلك مكروه" بل قد يحرم.
"ومنهم من يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عينيه ويصرخ بالتكبير، كأنه يكبر على العدو" في الحرب.
"ومنهم من يغسل عضوه غسلا يشاهده بصره ويكبر ويقرأ بلسانه ويسمع بأذنه ويعلمه بقلبه، ومع ذلك يصدق الشيطان في إنكاره يقين نفسه وجحده لما رآه ببصره ولما سمعه بأذنه".
"وقد سأل رجل أبا الوفاء بن عقيل، فقال: إني أكبر وأقول: ما كبرت، وأغسل العضو في الوضوء وأقول: ما غسلته، فقال ابن عقيل: دع الصلاة، فإنها لا تجب عليك" وليس أمرا حقيقيا، بل أتى به ليبين له خطأه، وأن حاله كالمجنون، وهذا من حسن الخطاب، إذ لو قال له ابتداء: أنت مجنون، لأنكر عليه ولم ينتفع بكلامه ولم يصغ له، "فقال له: كيف ذلك"؟ أي: لا تجب علي وأنا مكلف، "فقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال": "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق" من جنونه "ومن يكبر ثم يقول: ما كبرت فليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم السوية، ويقتدي بملته الحنيفة، فإن غلب عليه الأمر وضاقت عليه المسالك فليتضرع إلى الله ويبتهل إليه في كشف ذلك.
الفرع الخامس عشر: في ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم
ليعلم أن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء والتسبيح، والخضوع.
كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] .
وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] الآية.
وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] .
الصلاة، فمن أراد التخلص من هذه البلية فليتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم السوية" أي: المستقيمة، وفي نسخة: السنية، أي: المرتفعة، والأولى أنسب هنا كما لا يخفى، "ويقتدى بملته الحنيفة، فإن غلب عليه الأمر وضاقت عليه المسالك، فليتضرع إلى الله ويبتهل إليه في كشف ذلك" لعل الله تعالى بفضله يكشفه والله أعلم.
الفرع الخامس عشر: في ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم
لفظا ومحلا "ليعلم أن القنوت يطلق على القيام" في الصلاة كما قيد به المجد والمصباح، وزاد: ومنه أفضل الصلاة طول القنوت "والسكوت" ومنه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وفي البيضاوي: ذاكرين له في القيام، والقنوت: الذكر فيه، وقيل: خاشعين، وقال ابن المسيب: المراد به القنوت في الصبح "ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخضوع، كما قال تعالى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلقا وعبيدا وملكا، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} خاضعون مطيعون.
"وقال تعالى": {أَمْ مَنْ} "بتخفيف الميم" وفي قراءة: "آمن" بمعنى: بل والهمزة {هُوَ قَانِتٌ} قائم بوظائف الطاعات {آنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاته: جمع أنا "بكسر الهمزة وفتحها" وأنو، وأني "بالواو والياء مع كسر الهمزة فيهما" فهي أربع لغات كما في شرح المصابيح {سَاجِدًا وَقَائِمًا} في الصلاة "الآية".
"وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ} آمنت مريم {بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} شرائعه {وَكُتُبِهِ} المنزلة {وَكَانَتْ
والمراد به هنا: الدعاء في محل مخصوص من القيام.
وعن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم: رعل وذكوان، عند بئر يقال لها: بئر معونة، فقتلوهم، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شهرا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت. قال عبد العزيز بن صهيب: فسأل رجل أنسا عن القنوت أبعد الركوع أو عند فراغ القراءة؟ قال: بل عند فراغ القراءة "وفي" رواية "أخرى قنت شهر بعد الركوع على أحياء من العرب".
وفي أخرى قنت شهرا بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان،
مِنَ الْقَانِتِينَ} من القوم المطيعين، فعدل عن القانتات لذلك ولرعاية الفواصل، "والمراد به هنا الدعاء في محل مخصوص من القيام".
قال الحافظ: وذكر ابن العربي، أن القنوت ورد لعشر معان، فنظمها شيخنا الحافظ زين الدين العراقي، كما أنشدنا لنفسه إجازة غير مرة:
ولفظ القنوت أعدد معانيه تجد
…
مزيدا على عشر معاني مرضيه
دعاء خشوع والعبادة طاعة
…
إقامتها إقراره بالعبودية
سكوت صلاة والقيام وطوله
…
كذاك دوام الطاعة الرابح القنية
"وعن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا" لحاجة كما في رواية للبخاري، وهي: أن رعلا وغيرهم استمدوه، فأمدهم بالسبعين وكان "يقال لهم: القراء" جمع قارئ لكثرة قراءتهم، أو هي الدعاء للإسلام كما عند ابن إسحاق، "فعرض لهم" للسبعين "حيان" بفتح المهملة والتحتية المشددة تثنية حي، أي: جماعة "من سليم" بضم السين أحدهما "رعل" بكسر الراء وسكون المهملة ولام، "و" الآخر "ذكوان" بفتح المعجمة وسكون الكاف آخره نون غير منصرف "عند بئر يقال لها بئر معونة" بفتح الميم وضم العين وإسكان الواو فنون فهاء.
زاد في رواية للبخاري: فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم "فقتلوهم" إلا كعب بن زيد قيس بن مالك، فتركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى استشهد يوم الخندق، "فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شهرا في صلاة الغداة" أي: الصبح "وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت" قبل ذلك.
"قال عبد العزيز بن صهيب" بضم المهملة وفتح الهاء فتحتية فموحدة، راوي الحديث عن أنس:"فسأل رجل" هو عاصم الأحول "أنسا عن القنوت، أبعد الركوع أم عند فراغ القراءة؟ قال" أنس: "بل عند فراغ القراءة" وقبل الركوع.
"وفي" رواية "أخرى" في الصحيح عن أنس: "قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء
ويقول: "عصية عصت الله ورسوله".
وفي أخرى: بعث صلى الله عليه وسلم سرية يقال لهم: "القراء" فأصيبوا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على شيء ما وجد عليهم، فقنت شهرا في صلاة الفجر. هذه رواية البخاري ومسلم.
وللبخاري: كان القنوت في المغرب والفجر.
وفي رواية أبي داود والنسائي: قنت في صلاة الصبح بعد الركوع، وفي أخرى: قنت شهرا ثم تركه.
وفي أخرى للنسائي: قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان.
من العرب"" بفتح الهمزة وسكون الحاء جمع حي.
"وفي" رواية "أخرى" في الصحيح أيضا عن أنس: "قنت شهرا بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان، "ويقول: "عصية"، "بضم العين" مصغر "عصت الله ورسوله" أشد العصيان بالكفر ونقض العهد، فليس بيانا لوجه التسمية، بل بيانا لما هم عليه من الفعل القبيح.
"وفي" رواية "أخرى" في الصحيح أيضا عن أنس: "بعث صلى الله عليه وسلم سرية" سبعين رجلا "يقال لهم القراء" لكثرة قراءتهم وكانوا يحتطبون بالنهار ويشترون به الطعام للفقراء وأهل الصفة ويأتون بالحطب تارة إلى حجر أزواجه صلى الله عليه وسلم ويصلون بالليل ويتدارسون القرآن، "فأصيبوا" قتلوا "فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد"، "بجيم" أي حزن "على شيء ما وجد عليهم" لأنه ما بعثهم لقتال إنما هم مبلغون رسالته وداعون إلى الإسلام، وقد جرت عادة العرب قديما، أنهم لا يقتلون الرسل، ولنقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم "فقنت شهرا في صلاة الفجر أي الصبح، "هذه رواية البخاري ومسلم" ومرت القصة في المغازي، "وللبخاري" عن أنس قال: "كان القنوت في المغرب والفجر" أي: الصبح لكونهما طرفي النهار لزيادة شرف وقتهما رجاء إجابة الدعاء.
"وفي رواية أبي داود والنسائي" عن أنس: "قنت" صلى الله عليه وسلم "في صلاة الصبح بعد الركوع، وفي أخرى: قنت شهرا ثم تركه" لما نزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] .
"وفي أخرى للنسائي" عن أنس: "قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان" بكسر اللام وفتحها، وإنما عزاه للنسائي مع أن في البخاري في المغازي عن أنس: فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، لأن في رواية النسائي
وعن ابن عباس: قنت صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا، في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال:"سمع الله لمن حمده" من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه. رواه أبو داود.
وعن ابن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: "اللهم اللعن فلانا وفلانا وفلانا" بعدما يقول: "سمع الله
بيان أن المراد بالدعاء اللعن.
قال الحافظ: ومجموع ما جاء عن أنس أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة، فالصحيح عنه أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك والظاهر أنه من الاختلاف المباح، قال: وظهر لي أن الحكمة في جعله قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أنه مظنة الإجابة كما ثبت أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وثبوت الأمر بالدعاء فيه أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أن يجهر به بخلاف القنوت في الصبح، فاختلف في محله والجهر به. انتهى.
"وعن ابن عباس" قال: "قنت صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا" متواليا "في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة" أي: قبل الفراغ منها أخذا من قوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة" وعبر بالدبر لقربه من الآخر "يدعو على أحياء" بفتح فسكون جمع حي "من سليم" بضم السين "على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه" على دعائه "رواه أبو داود" وصححه الحاكم وهو من مرسلات الصحابة، لأن ابن عباس كان حينئذ بمكة مع أبويه فلم يشاهد ذلك، وفيه أن الدعاء على الكفار والظلمة جائز في الصلاة ولا يفسدها.
"وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر" أي: الصبح بعد أن كسرت رباعيته يوم أحد، يقول:"اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا" هم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، كما رواه البخاري في غزوة أحد عن سالم بن عبد الله بن عمر مرسلا، ووصله أحمد والترمذي، وزاد في آخره: فتيب عليهم كلهم، وسمى الترمذي في روايته أبا سفيان بن حرب، وفي كتاب ابن أبي شيبة منهم العاصي بن هشام، قال في مقدمة فتح الباري وهو وهم، فإن العاصي قتل ببدر قبل ذلك، قال: ونقل السهيلي عن الترمذي فيهم عمرو بن العاصي، فوهم في نقله. انتهى.
فقد رجم بالغيب من قال: لعله لعنهم لعلمه بموتهم على الكفر "بعدما يقول": "سمع الله
لمن حمده، ربنا ولك الحمد". فأنزل الله عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله:{فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، رواه البخاري.
وعن أبي هريرة: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الثانية، قال: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم
لمن حمده ربنا ولك الحمد". بإثبات الواو، وفي رواية: بإسقاطها، "فأنزل الله عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} " إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم و {شَيْءٌ} اسم {لَيْسَ} و {لَكَ} خبر و {مِنَ الْأَمْرِ} حال من {شَيْءٌ} ، لأنها صفة مقدمة "إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} " بالكفر، "رواه البخاري" في غزوة أحد والتفسير والاعتصام، وفيه أن سبب نزولها الدعاء على هؤلاء، وعورض بما رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أنس، قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وعلي يمسحه، ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم"، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، فجمع الحافظ بأنه دعا على المذكورين في صلاته بعدما وقع له يوم أحد، فنزلت الآية فيما وقع له وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم، قال: لكن يشكل ذلك بما في مسلم عن أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الفجر: "اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية" حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ووجه الإشكال أن الآية نزلت في قصة أحد وقصة رعل وذكوان بعده، ثم ظهرت لي علة الخبر، وأن فيه أدراجا، فإن قوله: حتى أنزل الله منقطع من رواية الزهري عمن بلغه بين ذلك مسلم، وهذا البلاغ لا يصح لما ذكرته، ويحتمل أن قصتهم كانت عقب ذلك، وتأخر نزول الآية عن سببها قليلا، ثم نزلت في جميع ذلك، وقال في محل آخر فيه بعد، والصواب أنها نزلت بسبب قصة أحد. انتهى.
وقدمت ذلك في غزوتها، وقال صاحب اللباب: اتفق أكثر العلماء على نزولها في قصة أحد.
"وعن أبي هريرة" قال: "كان" النبي "صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الثانية" من صلاة الصبح، "قال:"اللهم أنج" بكسر الجيم بعد همزة القطع وهي التعدية، يقال: نجا فلان وأنجيته "الوليد بن الوليد" المخزومي أخا خالد، أسلم وعذب في الله ثم نجا وهاجر ومات في العهد النبوي، "وسلمة" بسين أوله "ابن هشام" المخزومي أخو أبي جهل، أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة، ثم قدم مكة فمنعوه وعذبوه، ثم هاجر بعد الخندق وشهد مؤتة، واستشهد بمرج الصفراء، وقيل: بأجنادين "وعياش" بتحتية وشين معجمة "ابن أبي ربيعة" المخزومي من السابقين المعذبين في الله، "و" أنج "المستضعفين بمكة" عطف عام على خاص وهؤلاء قوم
اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف".
وفي رواية: في صلاة الفجر. وفي رواية: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله تعالى عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . رواه البخاري ومسلم.
وعن البراء: كان صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح والمغرب. رواه مسلم والترمذي ولأبي داود: في صلاة الصبح ولم يذكر المغرب.
وعن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف
أسلموا من أهل مكة، فعذبهم الكفار ثم نجوا ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم وهاجروا إليه.
وروى الحافظ أبو بكر ابن زياد النيسابوري عن جابر قال: رفع صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح صبيحة خمس عشرة من رمضان، فقال:"اللهم أنج" الحديث، وفيه: فدعا بذلك خمسة عشرة يوما حتى إذا كان صبيحة يوم الفطر ترك الدعاء. "اللهم اشدد" بهمزة وصل "وطأتك" بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وفتح الهمزة، أي: بأسك وعقوبتك "على" كفار قريش أولاد "مضر اللهم اجعلها" أي: الوطاة أو السنين أو الأيام "عليهم سنين كسني يوسف" عليه السلام في بلوغ غاية الشدة وسني جمع سنة وفيه شذوذ أن تغيير مفرده من الفتح إلى الكسر وكونه جمعا لغير عاقل وحكمه أيضا مخالف لجموع السلامة في جواز إعرابه كحين بالحركات على النون، وكونه منونا وغير منون منصرفا وغير منصرف، قاله المصنف: وقال شيخنا سني بكسر السين وإسكان التحتية مخففة، والأصل كسنين يوسف حذفت النون للإضافة حملا على جمع المذكر السالم. انتهى.
وقد استجاب الله له فأخذهم القحط والجدب حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، فأتاه أبو سفيان بن حرب وكان على دنهم، فسأله أن يدعو لهم، فاستسقى لهم فسقوا كما في الصحيحين.
"وفي رواية في صلاة الفجر" بعد قوله: من الركعة الثانية، "وفي رواية: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله تعالى عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، رواه البخاري ومسلم" بطرق وألفاظ متقاربة.
"وعن البراء" بن عازب قال: "كان صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح والمغرب، رواه مسلم والترمذي" وروى البخاري مثله عن أنس كما مر، "ولأبي داود" عن البراء "في صلاة الصبح ولم يذكر المغرب" تقصيرا من بعض الرواة، أو حذفا لما نسخ.
"وعن أبي مالك الأشجعي" الكوفي، ثقة، روى له مسلم والأربعة واسمه سعد، بسكون
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب -ههنا بالكوفة خمس سنين- أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث. رواه الترمذي.
وعن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة. رواه الدارقطني.
العين، ابن طارق، مات في حدود الأربعين ومائة، "قال: قلت لأبي" طارق بن أشيم بمعجمة وزن أحمر، ابن مسعود الأشجعي، صحابي له أحاديث، قال مسلم، لم يرو عنه غير ابنه "يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب ههنا بالكوفة خمس سنين" ظرف لصلاته مع علي "أكانوا يقنتون؟ قال، أي" بفتح فسكون نداء القريب "بني" تصغير تحبب "محدث" أي: ما كانوا يقنتون والقنوت محدث، ويحتمل أن يكون مراده أنه لم يكن من أول فرض الصلاة وإنما حدث بعد الهجرة، فهو نحو قول أنس: وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت، "رواه الترمذي" في جامعه.
"وعن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة" حدثت بعده صلى الله عليه وسلم، ويجوز أنه أراد أنها لم تكن من أول الإسلام على نحو ما جوزناه في قول طارق محدث، ويؤيده أنه روي أن ابن عباس كان يقنت، "رواه الدارقطني" فإن ساغ هذا التأويل، وإلا فالمثبت مقدم على النافي، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا كما يأتي.
وحكاه الحافظ العراقي عن الخلفاء الأربعة وأبي موسى وابن عباس نفسه والبراء وعن جماعة من التابعين والأئمة.
وفي الصحيحين عن عاصم بن سليمان الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: قد كان القنوت، قلت: قبل الركوع أو بعده، قال: قبله، قلت: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كذب إنما قنت صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين وكان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم عهد، فغدروهم وقتلوهم، فقنت شهرا يدعو عليهم. وفي ابن ماجه بإسناد قوي عن أنس أنه سئل عن القنوت، فقال قبل الركوع وبعده.
روى ابن المنذر عن أنس: أن بعض الصحابة قنتوا قبل الركوع وبعضهم بعده، وروى محمد بن نصر عن أنس أن أول من جعل القنوت قبل الركوع، أي دائما عثمان لكي يدرك الناس الركعة.
قال بعض العلماء: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم قنت وترك، وكان تركه للقنوت أكثر من فعله، فإنه قنت عند النوازل للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم فجاءوا تائبين، وكان قنوته لعارض. فلما زال العارض ترك القنوت.
ولم يكن مختصا بالفجر، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في صحيحه عن أنس، وذكره مسلم عن البراء، وصح عن أبي هريرة أنه قال: والله إني لأنا أقربكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يقنت في الركعة الأخيرة من الصبح بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده"، قال: ابن أبي فديك: ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم تركه، فهذا رد على القائل بكراهة القنوت
"قال بعض العلماء: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم قنت وترك" ليفيد أنه ليس بواجب، "وكان تركه للقنوت أكثر من فعله" أي: للحاجة فلا ينافي قول أنس: لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، ويدل له قوله:"فإنه قنت عند النوازل للدعاء لقوم" بالنجاة، "والدعاء على آخرين" باللعن والقحط، "ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم فجاءوا تائبين" فسر بذلك "وكان قنوته لعارض، فلما زال العارض ترك القنوت ولم يكن مختصا بالفجر" أي: قنوت النازلة، "بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب" وبقية الصلوات كما مر في حديث ابن عباس، أما لغير النازلة، فإنما كان في صلاة الصبح "ذكره" أي: رواه "البخاري في صحيحه عن أنس وذكره" أي: رواه "مسلم عن البراء" ومر آنفا، وبه تمسك الطحاوي في ترك القنوت في الصبح، قال: لأنهم أجمعوا على نسخة في المغرب فيكون الصبح، كذلك قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، وعارضه بعضهم بأنهم أجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح، ثم اختلفوا هل ترك فنتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه.
"وصح عن أبي هريرة أنه قال: والله إني لأنا أقربكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" لمواظبتي له وضبطي لصفة صلاته، فأنا أعرف بها منكم، "إنه كان يقنت في الركعة الأخيرة من الصبح بعدما يقول سمع الله لمن حمده" أي: في بعض الصلوات، فلا يخالف قول أنس: كان يقنت قبل الركوع، فأفاد الفعل النبوي جوازه قبل وبعد.
"قال ابن أبي فديك" بالفاء والدال المهملة مصغر نسبة إلى جد أبيه فهو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الديلمي، مولاهم المدني أبو إسماعيل، صدوق، روى له الجماعة، مات سنة مائتين على الصحيح، "ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك" أي: قنت "ثم تركه،
في الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة.
وأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه، ويقولون فعله سنة، وتركه سنة، ولا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالف للسنة، من قنت فقد أحسن ومن ترك فقد أحسن. انتهى.
ومذهب الشافعي رحمه الله أن القنوت مشروع في صلاة الصبح دائما، في الاعتدال ثانية الصبح، لما رواه أنس: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الحياة. رواه أحمد وغيره.
قال ابن الصلاح: قد حكم بصحته غير واحد من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقي وأبو عبد الله محمد بن علي البلخي، وفي البيهقي العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة.
فهذا رد على القائل بكراهة القنوت في الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها، ويقولون: هو منسوخ وفعله بدعة" ووجه أن ما فعله صلى الله عليه وسلم لا يكون بدعة، ودعوى النسخ لا دليل عليها وتركه لا يفيده، فإنه لبيان الجواز، "وأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء" الزاعمين أنه بدعة "وبين من استحبه، يقولون: فعله سنة" أي: منقول عنه صلى الله عليه وسلم "وتركة سنة" لأنه فعله وتركه، "ولا ينكرون على من داوم عليه ولا يكرهون فعله ولا يرونه" يعتقدونه "بدعة ولا" يرون "فاعله مخالفا للسنة، من قنت فقد أحسن" فعل مستحبا، "ومن ترك فقد أحسن" لأنه ما ترك واجبا فهو كسائر المستحبات. "انتهى" كلام هذا البعض.
"ومذهب الشافعي رحمه الله أن القنوت مشروع" أي: مستحب "في صلاة الصبح دائما في الاعتدال ثانية الصبح لما رواه أنس: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر،" أي: الصبح "حتى فارق الدنيا" بالوفاة، لكن لم يقيده بما بعد الركوع، فالدليل قاصر عن الدعوى، وقد قال الحافظ: الصحيح عن أنس أنه قبل الركوع، ولذا قال مالك إنه الأفضل، فإنما أريد منه الدلالة على مشروعية القنوت لا بقيد كونه بعد الركوع، "رواه أحمد وغيره" كعبد الرزاق والدارقطني.
"قال ابن الصلاح: قد حكم بصحته غير واحد من الحفاظ، منهم: الحاكم" ف المستدرك "و" تلميذه "البيهقي وأبو عبد الله محمد بن علي البلخي، وفي البيهقي: العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة" أي: أنهم كانوا يقنتون في الصبح دائما، ولا يرد ما روي أنهم كانوا لا يقنتون، لأنه إذا تعارض نفي وإثبات قدم الإثبات، وذلك دليل على عدم النسخ، لأن
وقال بعضهم: أجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح، ثم اختلفوا: هل ترك؟ فنتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. انتهى.
وأما حديث ابن أبي فديك عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من صلاة الصبح يرفع يديه ويدعو بهذه الدعاء: "اللهم اهدني فيمن هديت
…
" إلخ. فقال ابن القيم -في زاد المعاد: ما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا، ولكنه لا يحتج بعبد الله هذا، وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت، انتهى.
وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه، ورد عليه، كما قاله ابن القيم، وقد اتفقوا على ضعف عبد الله بن سعيد.
العمل بالمنسوخ لا يجوز اتفاقا.
"وقال بعضهم: أجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح، ثم اختلفوا هل ترك" كما ترك المغرب أم لم يترك، "فنتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. انتهى".
ذكره هذا البعض ردا على دعوى الطحاوي نسخه، بل ثبت أنه واظب عليه حتى فارق الدنيا.
"وأما حديث ابن أبي فديك" محمد بن إسماعيل "عن عبد الله بن سعيد" بكسر العين "ابن أبي سعيد" كيسان "المقبري" بضم الموحدة وفتحها أبي عبيد الليثي، مولاهم المدني، "عن أبيه" سعيد المدني الثقة من رجال الجميع، "عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من صلاة الصبح يرفع يديه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم اهدني فيمن هديت
…
" إلخ، ويأتي قريبا.
"فقال ابن القيم في زاد المعاد" في هدي خير العباد: "ما أبين" فعل تعجب "الاحتجاج به" أي أن دلالته على القنوت في الصبح واضحة "لو كان صحيحا أو حسنا، ولكنه" ضعيف لأنه "لا يحتج بعبد الله هذا" لضعفه "وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت،" لأنه من تساهله في التصحيح. "انتهى".
"وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه ورد عليه، كما قاله ابن القيم" كما ترى، "وقد اتفقوا على ضعف عبد الله بن سعيد،" بل قال في التقريب إنه متروك وإن روى له الترمذي وابن ماجه.
وعن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات: "اللهم اهدني فيمن هديت". أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل.
والصحيح: أنه لا يتعين فيه مخصوص، بل يحصل بكل دعاء.
وفيه وجه أنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور وهو: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت". رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر فذكره. وإسنادهم صحيح، قال
"وعن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات"، وهي:"اللهم اهدني فيمن هديت". "أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل" له، "والصحيح أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء" مشتمل على الثناء، "وفيه وجه" أي: قول لبعض الشافعية، "إنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور، وهو": "اللهم اهدني فيمن هديت" لطاعتك، "وعافني فيمن عافيت" من البلايا والفتن والأسقام، وهكذا عادة الأنبياء يسألون بعد البلاء عنهم، "وتولني فيمن توليت" نصره وتأديبه، "وبارك لي فيما أعطيت"، أي: في الذي أعطيته لي، "وقني شر ما قضيت".
قال العلامة الشهاب القرافي: معناه إن الله تعالى يقدر المكروه بعدم دعاء العبد المستجاب، فإذا استجاب دعاءه لم يقع المقضي لفوات شرطه، وليس هو ردا للقضاء المبرم، ومن هذا صلة الرحم تزيد في العمر والرزق، "فإنك تقضي" بما تريد "ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت".
زاد في رواية البيهقي: "فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك". وما قضاه شامل للخير والشر فكيف حمد عليه، وقد طلب الوقاية منه أولا، والجواب أن المطلوب الوقاية منه هو المقضي من مرض وغيره مما تكرهه النفس، والمحمود عليه هو القضاء الذي هو صفته تعالى، وكلها جميلة يطلب الثناء عليها، "رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث الحسن بن علي" رضي الله عنهما، "قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر فذكره وإسنادهم" أي: رواته الثلاثة "صحيح" وهو قاصر على الوتر، لكن "قال البيهقي: قد صح أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح ولقنوت الوتر" كما رواه الثلاثة
البيهقي: قد صح أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح لقنوت الوتر، انتهى.
وقوله: "فإنك تقضي" بالفاء.
والواو في قوله: "وإن لا يذل". "وربنا" قبل "وتعاليت" إلا أن الفاء لم تقع في رواية أبي داود.
وزاد البيهقي بعد قوله: "إنه لا يذل من واليت". "ولا يعز من عاديت".
وزاد ابن أبي عاصم في كتاب التوبة: "نستغفرك اللهم ونتوب إليك".
ويسن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ، لأن النسائي قد رواه من حديث الحسن بسند صحيح أو حسن، كما قاله في شرح "المهذب" ولفظه -أي النسائي: وصلى الله على النبي.
وجزم في "الأذكار" باستحباب الصلاة على الآل والسلام. وخالفه صاحب "الإقليد" فقال: أما ما وقع في كتب أصحابنا من زيادة "وسلم" وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب فكل ذلك لا أصل له.
المذكورون. "انتهى".
"وقوله: "فإنك تقضي" بالفاء والواو" أي: وبالواو في قوله: "وإنه لا يذل"، وفي رواية: بحذف الواو "وربنا" قبل "وتعاليت" بعد "تباركت"، "إلا أن الفاء لم تقع في رواية أبي داود" ووقعت في رواية غيره، "وزاد البيهقي بعد قوله:"إنه لا يذل من واليت": "ولا يعز من عاديت" بكسر العين مع فتح الياء بلا خلاف بين علماء الحديث واللغة والتصريف، قاله الحافظ السيوطي وله أبيات آخرها:
وقل إذا كنت في ذكر القنوت ولا
…
يعز يا رب من عديت مكسورا
"وزاد ابن أبي عاصم في كتاب التوبة له": "نستغفرك اللهم ونتوب إليك". من جميع الذنوب، ولا بأس بهذه الزيادة عند الجمهور كما في الروضة، "ويسن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ" من القنوت "لأن النسائي قد رواه من حديث الحسن" بن علي "بسند صحيح أو حسن، كما قاله" النووي "في شرح المهذب، ولفظه، أي: النسائي وصلى الله على النبي وجزم في الأذكار باستحباب الصلاة على الآل والسلام، وخالفه صاحب الإقليد" هو التاج بن الفركاح عصري النووي، "فقال: أما ما وقع في كتب أصحابنا من زيادة وسلم، وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب، فكل ذلك لا أصل
قلت: وعبارة النووي في "الأذكار": يستحب أن يقول عقب هذا الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. فقد جاء في رواية النسائي بإسناد حسن: "وصلى الله على النبي" انتهى.
وتعقب: بأن لفظ الدعوى خلاف الدليل، وتزيد عليه ذكر الآل والتسليم.
نعم وقعت الزيادة عند "الرافعي" و"الروياني" معزوة لحديث الحسن بن علي، عند النسائي لكنها ليست عنده في رواية أحد من الرواة عنه، على أن لفظ "وصلى الله على النبي" زائد على رواية الترمذي، وهي زيادة غريبة غير ثابتة لأجل عبد الله بن علي، أحد رواته، لأنه غير معروف، وعلى تقدير أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسن بن علي، فهو منقطع، لأنه لم يسمع من جده الحسن بن علي، فقد تبين أنه ليس من شرط "الحسن" لانقطاعه أو جهالة روايه، ولم تنجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذ فقد تبين شذوذها على ما لا يخفى، نعم: أصل الحديث إلى آخر "وتعاليت" حسن لاعتضاده برواية الترمذي
له" عن النبي صلى الله عليه وسلم "قلت: وعبارة النووي في الأذكار يستحب أن يقول عقب هذا الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم، فقد جاء في رواية النسائي بإسناد حسن، وصلى الله على النبي. انتهى" كلامه.
"وتعقب بأن لفظ الدعوى خلاف الدليل" كما هو ظاهر، "وتزيد عليه ذكر الآل والتسليم" فلا يصح الاستدلال به عليها للمخالفة والزيادة.
"نعم وقعت الزيادة عند الرافعي والروياني معزوة لحديث الحسن بن علي عند النسائي، لكنها ليست عنده،" أي: النسائي "في رواية أحد من الرواة عنه" لا ابن السني ولا غيره، "على أن لفظ: و"صلى الله على النبي" زائد على رواية الترمذي" وأبي داود والنسائي، "وهي زيادة غريبة غير ثابتة" أي: ضعيفة "لأجل عبد الله بن علي أحد رواته، لأنه غير معروف".
أي: مجهول، "وعلى تقدير أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسن بن علي" بن أبي طالب وهو مقبول الرواية "فهو منقطع، لأنه لم يسمع من جده الحسن بن علي" لأنه لم يدركه، "قد تبين أنه ليس من شرط الحسن لانقطاعه" إن كان عبد الله حفيد الحسن، "أو جهالة راويه" إن كان غيره "ولم تنجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذ فقد تبين شذوذها على ما لا يخفى" بل ضعفها.
"نع أصل الحديث إلى آخر، وتعاليت حسن لاعتضاده برواية الترمذي وغيره" كلام
وغيره، بخلاف الزيادة، إذ لم تجئ في غيره، وحيث سننا الصلاة على الآل على ما جزم به النووي فينبغي عدها في القنوت بعضا.
قال في "المجموع" عن البغوي: ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، وهو ظاهر على ما صححه فيه، وفي تحقيقه في باب "سجود السهو" من أن الاعتدال ركن طويل، أما على ما صححه فيهم في "صلاة الجماعة" من أنه ركن قصير، وهو ما في "المنهاج" و"الروضة" فقد يقال القياس البطلان، لأن تطويل الركن القصير عمدا مبطل.
ويجاب: يحمل ذلك على غير محل القنوت، إذ البغوي نفسه القائل بكراهة الإطالة قائل بأن تطويل الركن القصير مبطل عمده.
ويسن للمنفرد والإمام برضا المحصورين، الجمع في الوتر بين القنوت السابق وبين قنوت عمر، وهو:"اللهم إنا نستعينك" إلخ، والأولى تأخيره عن القنوت السابق.
قلق، إذ مقتضاه أنه ليس بحسن لذاته وهو يخالف قوله: آنفا وإسنادهم صحيح، وقد صححها الترمذي وغيره، لكنه ليس على شرط البخاري كما في فتح الباري، فأقل أحواله أنه حسن لذاته لا لاعتضاده، "بخلاف الزيادة إذ لم تجئ في غيره، وحيث سننا الصلاة على الآل على ما جزم به النووي، فينبغي عدها في القنوت بعضا" من أبعاض القنوت، وهو الراجح عند الشافعية، فيجبر تركه بالسجود.
"قال في المجموع" شرح المهذب للنووي "عن البغوي: ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، وهو ظاهر على ما صححه فيه" أي: المجموع، "وفي تحقيقه" كتاب في الفقه للنووي "في باب سجود السهو من أن الاعتدال ركن طويل، أما على ما صححه فيهما"، أي: الكتابين "في صلة الجماعة من أنه ركن قصير، وهو ما في المنهاج والروضة، فقد يقال"، بالفاء جواب، أما في نسخ صحيحة وفي بعضها بحذفها "القياس البطلان، لأن تطويل الركن القصير عمدا مبطل، ويجاب بحمل ذلك على غير محل القنوت، إذ البغوي نفسه القائل بكراهة الإطالة، قائل: بأن تطويل الركن القصير مبطل عمده، ويسن للمنفرد والإمام برضا المحصورين الجمع في الوتر بين القنوت السابق وبين قنوت عمر، وهو: اللهم إنا نستعينك
…
إلخ والأولى تأخيره عن القنوت السابق": اللهم اهدني
…
إلخ، "ويسن
ويسن رفع يديه، رواه البيهقي بإسناد جيد.
قل في "المجموع": وفي سن مسح وجهه بهما وجهان: أشهرهما: نعم، وأصحهما: لا قال البيهقي: ولا أحفظ في مسحه هنا عن أحد من السلف شيئا. وإن روي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة.
ومسح غير الصدر كالصدر مكروه.
وقال النووي في "الأذكار": اختلف أصحابنا في رفع اليدين في القنوت، ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه: أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثاني: يمسح ويرفع، والثالث: لا يمسح ولا يرفع، واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا ذلك مكروه. انتهى.
ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية للاتباع. رواه البخاري.
رفع يديه، رواه البيهقي بإسناد جيد" أي: مقبول، وتحصل السنة سواء كانتا مفترقتين أم ملتصقتين، وسواء كانت الأصابع والراحة مستويين، أو الأصابع أعلى منها، والضابط أن يجعل بطونهما إلى السماء وظهورهما إلى الأرض، كذا أفتى به الوالد ويجعل فيه، وفي غيره ظهر كفيه إلى السماء إن دعا لرفع بلاء ونحوه، وعكسه إن دعا لتحصيل شيء قاله الشمس الرملي "قال في المجموع: وفي سن مسح بهما وجهان، أشهرهما: نعم" يسن، "وأصحهما: لا" يسن لعدم ثبوت شيء فيه وهو المعتمد.
"قال البيهقي: ولا أحفظ في مسحه هنا" في القنوت "عن أحد من السلف شيئا وإن روي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة" وهو المعتمد، كما جزم به في التحقيق، "ومسح غير الصدر كالصدر مكروه، وقال النووي في الأذكار: اختلف أصحابنا في رفع اليدين في القنوت ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه، أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثاني: يمسح ويرفع" استحبابا فيهما، "والثالث: لا يمسح ولا يرفع واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا: ذلك مكروه" وهو المعتمد "انتهى".
"ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت، وإن كانت الصلاة سرية للاتباع، رواه البخاري" أنه كان يقنت في الصبح والمغرب والركعة الثالثة سرية، فيقاس عليها بقية السريات، ولكن إن كان قنوته في المغرب لغير حاجة فقد نسخ، وإن كان لنازلة فلا يقاس عليه قنوت الصبح المشروع لغير حاجة.
قال الماوردي: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلفه صلى الله عليه وسلم في ذلك. رواه أبو داود بإسناد حسن. ويوافقه في الثناء سرا أو يسكت، لأنه ثناء ذكر لا يليق به التأمين، والدعاء يشمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيأمن فيها: صرح به الطبري.
وإن لم يسمع قنوت الإمام قنت معه سرا كبقية الأذكار والدعوات، ولا قنوت لغير وتر وصبح، إلا لنازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحوها، فيستحب أن يقنت في مكتوبة غير الصبح، لا منذورة، وصلاة جنازة ونافلة. وفي البخاري من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم جهر بالقنوت في النازلة. انتهى ملخصا من شرح البهجة لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، مع زيادة من غيره، والله أعلم.
"قال الماوردي: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلفه صلى الله عليه وسلم في ذلك، رواه أبو داود بإسناد حسن" وصححه الحاكم، لكنه كان في قنوت الحاجة وهي الدعاء على سليم وغيرها شهرا واحدًا في الصلوات الخمس كما مر، فلا دلالة فيه على الجهر في قنوت الصبح المستحب لغير حاجة، "ويوافقه في الثناء" من فإنك تقتضي
…
إلخ "سرا أو يسكت" ولا يؤمن "لأنه ثناء وذكر لا يليق به التأمين" والموافقة أولى كما في المجموع، "والدعاء يشمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيؤمن فيها، صرح به الطبري" الشيخ محب الدين المكي وهو المعتمد "وإن لم يسمع قنوت الإمام" لبعد أو صمم "قنت معه سرا كبقية الأذكار والدعوات" إذ الأولى إسرارها، "ولا قنوت لغير وتر وصبح" فيستحب فيه دائما "إلا النازلة من خوف أو قحط أو وباء" بالمد مرض عام، ونحوه:"أو جراد أو نحوها" أي: المذكورات، "فيستحب أن يقنت في مكتوبة غير الصبح" أما هو فيستحب القنوت فيه دائما، فلا يتقيد بكونه للنازلة "لا منذورة وصلاة جنازة ونافلة" فلا يستحب القنوت للنازلة فيها.
"وفي البخاري من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم جهر بالقنوت في النازلة" وهو الدعاء لقوم بالنجاة، وعلى آخرين بالقحط. "انتهى ملخصا من شرح البهجة" لابن الوردي "لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا" بن أحمد "الأنصاري" الخزرجي "مع زيادة من غيره والله" تعالى "أعلم".
الفصل الرابع: في ذكر سجوده صلى الله عليه وسلم للسهو في الصلاة
اعلم أن السهو لغة هو الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب إلى غيره، قاله الأزهري.
وفرق بعضهم -فيما حكاه القاضي عياض- بين السهو والنسيان من حيث المعنى، وزعم أن السهو جائز في الصلاة على الأنبياء عليهم السلام، بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة، والسهو إنما هو شغل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في الصلاة ولا يغفل عنها، وكان شغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها، انتهى.
قال ابن كيكلدى: وهو ضعيف من جهة الحديث ومن حيث اللغة، أما من
الفصل الرابع: في ذكر سجوده صلى الله عليه وسلم للسهو في الصلاة
قبل السلام وبعده "اعلم أن السهو لغة هو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب إلى غيره" فلو غفل عن شيء ولم يخطر في قلبه خلافه فليس بسهو على هذا، "قاله الأزهري" الإمام أبو منصور، "وفرق بعضهم فيما حكاه القاضي عياض بين السهو والنسيان من حيث المعنى" كما أنهما مفترقان لفظا.
"وزعم أن السهو جائز في الصلاة على الأنبياء عليهم السلام بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة" كالمرض الذي يعرض للإنسان، ولذا عده الأطباء من الأمراض الدماغية المحتاجة للعلاج وهم منزهون عنها، "والسهو إنما هو شغل بال" أي: يحصل عندما يعرض من شغل البال بأموره والنظر لغيره بحيث يتنبه له سريعا، "فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في الصلاة" لمراقبته لله تعالى وتوجهه إليه، "ولا يغفل" بضم الفاء "عنها" لأنه منزه عن أن يستولي على قلبه الشريف ما يلهيه عن العبادة، "وكان شغله عن حركات الصلاة" في السجود والركوع "ما في الصلاة" من قرة عينه بمشاهدة تجليات ربه وتدبر آياته "شغلا بها لا غفلة عنها" بغيرها، فلذا كان يسهو ولا ينسى. "انتهى".
"قال ابن كيكلدي" هو الإمام، الحافظ الفقيه، الأصولي النحوي، المفتي صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي المشهور، المقدسي الشافعي، ولد في ربيع الأول سنة أربع
جهة الحديث فلما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون" وأما من حيث اللغة فقول الأزهري الماضي، ونحوه قول الجوهري وغيره.
وقال في النهاية: السهو في الشيء: تركه من غير علم، والسهو عنه: تركه مع العلم، وهو فرق حسن دقيق، وبه يظهر الفرق بين السهو الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، والسهو عن الصلاة الذي ذم الله فاعله.
وقد كان سهوه صلى الله عليه وسلم من إتمام نعم الله تعالى على أمته، وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما شرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في الموطأ -الآتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى- "إنما أَنسى أو أُنسى لأسن" فكان ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة.
وتسعين وستمائة، صاحب التصانيف المحررة، المتقنة النافعة، أخذ عنه الحافظ زين الدين العراقي وقال: مات حافظ المشرق والمغرب صلاح الدين في ثالث محرم سنة إحدى وستين وسبعمائة.
"وهو" أي: هذا الفرق "ضعيف من جهة الحديث، ومن حيث اللغة" والتعبير بجهة وحيث تفنن وكراهة توارد الألفاظ، "أما من جهة الحديث، فلما ثبت في الصحيحين" عن ابن مسعود "من قوله صلى الله عليه وسلم": "إنما أنا بشر مثلكم" فأثبت العلة قبل الحكم وهو "أنسى" ولم يكتف به حتى دفع من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا، فقال:"كما تنسون" فكيف يتأتى ذلك الفرق، "وأما" ضعفه "من حيث اللغة، فقول الأزهري الماضي" السهو الغفلة
…
إلخ.
"ونحوه قول الجوهري وغيره" من أئمة اللغة، ولذا قال في الفتح: الفرق ليس بشيء، "وقال في النهاية: السهو في الشيء تركه من غير علم" بل غفلة "والسهو عنه تركه مع العلم وهو فرق حسن دقيق" بدال أوله، "وبه يظهر الفرق بين السهو الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم غير" أي: أكثر من "مرة" بأنه تركه غير عالم، "والسهو عن الصلاة الذي ذم الله فاعله" بقوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5] أي: غافلون غير مبالين، قاله البيضاوي، "وقد كان سهوه صلى الله عليه وسلم من إتمام نعم الله تعالى على أمته وإكمال دينهم" الممتن عليهم بذلك في الآية الكريمة "ليقتدوا به فيما شرعه لهم عند السهو" إذ لو لم يقع ذلك منه لكان يحصل لها غاية الأسف من وقوعه، وإن بين حكمه بالقول، "وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في الموطأ الآتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى" قريبا، "إنما أنسى" أنا "أو أنسى" بضم الهمزة والتشديد، مبني لما لم يسم فاعله للعلم به، أي: ينسيني الله تعالى، أي: يوجد في النسيان "لأسن" للأمة شرعا، "فكان ينسى، فيترتب على سهوه أحكام
واختلف في حكمه:
فقال الشافعية والمالكية: مسنون كله، وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة.
وعن الحنابلة التفصيل بين الواجبات، فيجب السجود لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده.
وعند الحنفية: واجب كله، وحجتهم قوله عليه السلام في حديث ابن مسعود عند البخاري "لسيجد سجدتين" والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله عليه السلام، وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله عليه السلام:"صلوا كما رأيتموني أصلي". انتهى.
شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة" فليست أو للشك عند جماعة، وقال بعضهم للشك، وفي الشفاء: بل قد روى لست أنسى، ولكن أنسى لأسن ولا تنافي، لأن نسبته باعتبار حقيقة اللغة، وفيه: عنه باعتبار أنه ليس موجدا له حقيقة، والموجد الحقيقي هو الله، كما يقال: مات زيد وأماته الله، وفرق بين الفاعل الحقيقي بحسب عرف اللغة وبحسب نفس الأمر، كما أشار إليه عياض بما حاصله: أن معنى لا ينسى لا يقع منه سبب يقتضي إضافة النسيان إليه، بحيث ينشأ عن سبب منه، ومعنى ينسى أنه يقع منه نسيان هو أثر إدخال النسيان عليه من الله، فحيث أثبته أراد قيام صفة النسيان به، وحيث نفاه، فباعتبار أنه ليس بإيجاده ومقتضى طبعه، وإنما الموجد له الله تعالى.
"واختلف في حكمه" أي: سجود السهو، "فقال: الشافعية والمالكية مسنون كله" أي: القبلي والبعدي "وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة" فإنه سنة.
"وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات" غير الأركان كما في الفتح، "فيجب السجود لتركها سهوا، وبين السنن القولية، فلا يجب" السجود، "وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده" عند الحنابلة "وعند الحنفية واجب كله" قبلية وبعدية، "وحجتهم قوله عليه السلام في حديث ابن مسعود عند البخاري:"ليسجد سجدتين". والأمر للوجوب" حتى يثبت الصارف عنه.
"وقد ثبت من فعله عليه السلام وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان وبيان الواجب واجب، ولا سيما قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي". انتهى".
ذكر الخلاف وهو من فتح الباري، وأقر فيه دليل الحنفية، ويقدح فيه أن من جملة أفعاله
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم السجود على قسمين: الأول: السجود قبل التسليم:
فعن الأعرج عن عبد الله بن مالك ابن بحينة أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم. رواه البخاري.
وفي رواية له عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن عبد الله بن بحينة أيضا أنه
التسبيح والدعاء وهم لا يقولون بوجوب ذلك.
"وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم السجود على قسمين: الأول السجود قبل التسليم" من الصلاة، "فعن الأعرج" عبد الرحمن بن هرمز، "عن عبد الله بن مالك ابن بحينة" بضم الموحدة وفتح المهملة فتحتية فنون اسم أم عبد الله، أو اسم أم أبيه مالك، فينبغي كتب ابن بجينة بالألف وهي بنت الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن مالك بن القشب، بكسر القاف وسكون المعجمة وموحدة الأزدي، أبو محمد حليف بني المطلب، صحابي معروف، مات بعد الخمسين من الهجرة، "أنه قال: صلى بنا" وفي رواية: لنا أي: بنا، أو لأجلنا "رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات" هي الظهر كما في الرواية التي تليها، "ثم قام فلم يجلس" فترك الجلوس والتشهد، "فقام الناس معه" قال الباجي: يحتمل أنهم علموا حكم هذه الحادثة، وإنه إذا استوى قائما لا يرجع إلى الجلسة، لأنها ليست بفرض ولا محلا للفرض، وأن يكونوا لم يعلموا فسبحوا، فأشار إليهم بالقيام، وقد قام المغيرة من ركعتين، فسبحوا به، فأشار إليهم أن قوموا، ثم قال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلما قضى صلاته" أي: فرغ منها ففي رواية ابن ماجه عن يحيى بن سعيد عن الأعرج حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم، فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه والزيادة من الحافظ وقبوله، فلا دلالة فيه لمن زعم أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم تمت صلاته.
وتعقب بأن السلام لما كان للتحليل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من الصلاة "ونظرنا" أي انتظرنا، وفي رواية: ونظر الناس "تسليمه كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين" يكبر في كل سجدة كما في رواية للبخاري "وهو جالس" جملة حالية متعلقة بقوله سجد، أي: أنشأ السجود جالسا، "ثم سلم" بعد ذلك، "رواه البخاري" ومسلم من طريق مالك وغيره عن ابن شهاب عن الأعرج به.
"وفي رواية له" للبخاري من طريق مالك، وكذا لمسلم من طريق حماد بن زيد، كلاهما "عن يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري "عن الأعرج" عبد الرحمن بن هرمز، "عن عبد الله بن
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر، لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك.
وفي روايته أيضا عن الأعرج عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس. ورواه مسلم أيضا.
وزاد الضحاك بن عثمان عن الأعرج -عند ابن خزيمة- بعد قوله: "ثم قام فلم يجلس" فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته.
وفي روية الترمذي: قام في الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم.
حينة أيضا أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين" أي: من ركعتين "من الظهر لم يجلس بينهما" أي: بين اثنتين والقيام، "فلما قضى صلاته" أي: فرغ منها إلا السلام "سجد سجدتين" يكبر في كل سجدة وسجد الناس معه "ثم سلم بعد ذلك" للتحليل من الصلاة، "وفي روايته" أي: البخاري "أيضا" من طريق الليث عن ابن شهاب "عن الأعرج عنه" أي: ابن بحينة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس" مع التشهد فيه وقام الناس معه إلى الثالثة، "فلما أتم صلاته" إلا السلام "سجد سجدتين يكبر في كل سجدة" بتحتية مضمومة فموحدة مكسورة، وفي رواية: فكبر بالفاء "وهو جالس قبل أن يسلم" جملة حالية، "وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس" جبرا له بالسجدتين، "ورواه" أي: المذكور من الروايات الثلاثة "مسلم أيضا".
"وزاد الضحاك بن عثمان" بن عبد الله الأزدي الحزامي، بكسر المهملة وبزاي منقوطة المدني، صدوق يهم، روى له مسلم والأربعة "عن الأعرج عند ابن خزيمة بعد قوله" في الطريق الأولى "ثم قام فلم يجلس فسبحوا به" أي: بسبب قيامه تنبيه له، أي: قالوا له سبحان الله لحديث: "من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله". "فمضى حتى فرغ من صلاته" ولم يرجع لتسبيحهم، لأنه استقل قائما. وفي حديث معاوية عند النسائي وعقبة بن عامر عند الحاكم نحو هذه القصة بهذه الزيادة.
"وفي رواية الترمذي: قام في الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم" وليس في روايته شيء زائد عن روايات الصحيحين المذكورة فما فائدة ذكره؟
وفي هذا: مشروعية سجود السهو، وأنه سجدتان، فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شيء، أو عامدًا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة. وأنه يكبر لهما كما يكبر في غيرهما من السجود.
واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام، ولا حجة فيه، لكون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية.
واستدل به أيضا على أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسلم المأموم.
وأن سجود السهو لا تشهد بعده، وأن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو
"وفي هذا مشروعية سجود السهو وأنه سجدتان، فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شيء، أو عامدًا بطلت صلاته" إن تعمد الاقتصار عليها، "لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة" وذلك مبطل، أما لو نوى السجدتين ثم بعد الإتيان بواحدة عن له ترك الأخرى لم يضر، لأن قطع النفل جائز عند الشافعية "وأنه يكبر لهما كما يكبر في غيرهما من السجود" من قوله في الرواية الثالثة: يكبر في كل سجدة.
"واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام" سواء كان لزيادة أو نقص، "ولا حجة فيه لكون جميعه كذلك،" لأنه عن نقص، فلا يلزم أن تكون الزيادة كذلك، "نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية" والرد به ظاهر، وقد تعسفوا الجواب عنه بأن المراد بالسجدتين سجدتا الصلاة، والمراد بالتسليم التسليمة الثانية، ولا يخفى ضعف ذلك وبعده، وزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في قصة ابن بحينة قبل السلام سهوا، فرد بقوله: ونظرنا تسليمه، أي: انتظرنا.
"واستدل به أيضا على أن المأموم يسجد مع الإمام، إذا سها الإمام وإن لم يسه المأموم، ونقل ابن حزم فيه الإجماع، لكن استثنى غيره ما إذا ظن الإمام أنه سها، فسجد وتحقق المأموم أن الإمام لم يسه فيما سجد له وفي تصورها عسر وما إذا تبين أن الإمام محدث، ونقل أبو الطيب الطبري أن ابن سيرين استثنى المسبوق أيضا ذكره الفتح، ولعل وجه عسر تصورها أن الإمام إذا ترك تسبيح السجود مثلا، فظن أنه يقتضي السجود فسجد، وعلم المأموم بأن سجوده لذلك لا يتابعه، وعلمه ذلك عسر لجواز أنه سجد لغيره إلا أن تصور بأنه كتب له، أريد السجود لترك التسبيح، "وإن سجود السهو لا تشهد بعده" إذا كان قبل السلام كما في الفتح، "وإن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من
قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد وهم الجمهور.
وفيه أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة، ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به صلى الله عليه وسلم -كما في رواية بن خزيمة- فلم يرجع، فلو تعمد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي.
القسم الثاني: السجود بعد التسليم عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر، فسلم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله أنقصت؟ فقال
يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور" فإن سجد عالما لما قبل التشهد بطلت عند الشافعية، "وفيه: أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به" أي: بسبب قيامه "صلى الله عليه وسلم" تنبيها له "كما في رواية ابن خزيمة فلم يرجع" لأنها ليست بفرض ولا محلا للفرض "فلو تعمد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي" لأنه لا يرجع من فرض لسنة.
وقال مالك والجمهور: لا تبطل، لأنه رجع إلى أصل ما كان عليه، ومن زاد في صلاته ساهيا لا تبطل، فالذي يقصد إلى عمل ما أسقطه منها أولى، وفيه أيضا أن التشهد الأول سنة إذ لو كان فرضا لرجع حتى يأتي به كما ترك ركعة أو سجدة، إذ الفرض يستوي فيه العمد والسهو إلا في الإثم.
"القسم الثاني: السجود بعد التسليم عن أبي سلمة" إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ابن عبد الرحمن بن عوف، "عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر" بالشك، وفي الموطأ: ومسلم صلاة العصر بالجزم، ولمسلم أيضا عن أبي هريرة: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر وله من وجه آخر إحدى صلاتي العشي.
قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا، وللبخاري عن ابن سيرين: وأكثر ظني أنه العصر، وعند النسائي بإسناد صحيح عن ابن سيرين عن أبي هريرة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، قال أبو هريرة: ولكن نسيت، قال الحافظ: فبين أن الشك منه، والظاهر أنه روى الحديث كثيرا على الشك، وربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم به، وتارة يغلب على ظنه أنها العصر فيجزم به، وطرأ الشك على ابن سيرين أيضا، وكان سبب ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام، وأبعد من قال: يحمل على أن القصة وقعت مرتين.
وقال الولي بن العراقي: الصواب أنها قصة واحدة، وأن الشك من أبي هريرة كما صرح به في رواية النسائي، وطرأ الشك على ابن سيرين أيضا، "فسلم من ركعتين فقال له ذو اليدين" الخرباق السلمي، بضم السين كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم "الصلاة يا رسول
النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أحق ما يقول ذو اليدين" قالوا: نعم. فصلى ركعتين أخراوين ثم سجد سجدتين. قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقي منها، وسجد سجدتين وقال: هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
وقوله: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهر في أن أبا هريرة حضر القصة.
وحمله الطحاوي على المجاز، فقال إن المراد: صلى بالمسلمين، وسبب ذلك قول الزهري: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين.
أنقصت" بفتح همزة الاستفهام وفتح النون فالفعل لازم، وبضم النون فهو متعد، وفي نسخة: نقصت بلا همزة والجملة خبر الصلاة، وما بينهما اعتراض، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه" الذين صلوا معه: "أحق" مبتدأ دخلت عليه همزة الاستفهام "ما يقول ذو اليدين" ساد مسد الخبر أو أحق خبر، وتاليه مبتدأ والمستفهم عنه مقدر، أي: من أني فعلت فعلا يوهم نقصان الصلاة، "قالوا: نعم" حق ما يقول "فصلى ركعتين أخراوين" بألف فواو بعد الراء لأبي الوقت وابن عساكر على خلاف القياس، ولغيرهم أخريين بتحتيتين بعد الراء كما أفاده المصنف، "ثم سجد سجدتين" للسهو.
"قال سعد" بسكون العين، ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف راوي الحديث عن أبي سلمة عمه:"ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين، فسلم" عقبهما سهوا، "وتكلم ثم صلى ما بقي منها وسجد سجدتين" للسهو، "وقال: هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ: هذا الأثر يقوي القول، بأن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، لكن يحتمل أن عروة تكلم ساهيا أو ظانا أن الصلاة تمت، ومرسل عروة هذا مما يقوي طريق أبي سلمة الموصولة ويحتمل أن عروة حمله عن أبي هريرة فقد رواه عنه جماعة من رفقة عروة من أهل المدينة، كابن المسيب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبي بكر بن عبد الرحمن وغيرهم من الفقهاء، "رواه البخاري".
"وقوله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في أن أبا هريرة حضر القصة" المذكورة "وحمله الطحاوي على المجاز، فقال: إن المراد صلى بالمسلمين، وسبب ذلك قول الزهري أن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين" لأن إسلامه في السابعة وبدر في الثانية، "لكن اتفق
لكن اتفق أئمة الحديث -كما نقله ابن عبد البر وغيره- على أن الزهري وهم في ذلك، وسببه أنه جعل القصة لذي الشمالين، وذو الشمالين، هو الذي قتل ببدر، وهو خزاعي واسمه عمير، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي صلى الله عليه وسلم مدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطبراني وغيره، وهو سلمي، واسمه الخرباق، كما سيأتي، فلما وقع عند الزهري بلفظ "فقام ذو الشمالين" وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال لأجل ذلك: إن القصة وقعت قبل بدر.
وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذي الشمالين، وشاهد الأخرى وهي قصة ذي اليدين، وهذا محتمل في طريق الجمع.
أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم" غلط "في ذلك" غلطا أوجب طرح روايته في هذا الحديث، والغلط لا يسلم منه أحد كما في كلام ابن عمر "وسببه" أي: الوهم "أنه جعل القصة لذي الشمالين وذو الشمالين" قال القاموس: كان يعمل بيديه "هو الذي قتل ببدر وهو خزاعي واسمه عمير" بضم العين مصغر عمرو بن عبد عمرو بن نضلة.
"وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي صلى الله عليه وسلم مدة، لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم،، كما أخرجه الطبراني وغيره وهو سلمي" بضم السين "واسمه الخرباق" بكسر المعجمة "كما سيأتي" قريبا.
وقد وقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة: فقام رجل من بني سليم، "فلما وقع عند الزهري، بلفظ: قام ذو الشمالين وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال: لأجل ذلك أن القصة وقعت قبل بدر" فهذا سبب الاشتباه.
"وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما" أي: رواه عن غيره ولم يبينه، فهو مرسل صحابي له حكم الوصل على الصواب، "وهو قصة ذي الشمالين" لأنه لم يشاهدها "وشاهد الأخرى، وهي قصة ذي اليدين، وهذا محتمل في طريق الجمع" لأنه قريب، فهو أولى من تغليط الثقة.
زاد الحافظ: وقيل: يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضا ذو اليدين وبالعكس، فكان ذلك سبب الاشتباه ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي ما رواه مسلم وأحمد وغيرهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث، عن أبي هريرة، بلفظ: بينما أنا
وروى البخاري أيضا عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -قال محمد بن سيرين: وأكثر ظني العصر- ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا أقصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: "لم أنس
أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين، ونص على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث.
"وروى البخاري أيضا" هنا وقبله في أبواب المساجد "عن ابن سيرين" محمد، "عن أبي هريرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي" بفتح العين وكسر الشين وشد الياء الظهر أو العصر "قال محمد بن سيرين وأكثر" بالمثلثة "ظني العصر" بالنصب على المفعولية ولأبي ذر: العصر بالرفع قاله المصنف الحافظ وإنما رجح ذلك عنده، لأن في حديث عمران الجزم بأنها العصر. "ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد" أي: في جهة القبلة "فوضع يده عليها" أي: على الخشبة، وفي رواية للبخاري فقام إلى خشبة معروضة، أي: موضوعة بالعرض، ولمسلم: ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبا، قال الحافظ: ولا تنافي بين هذه الروايات لأنها تحمل على أن الجذع كان ممتدا بالعرض وكأنه الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يستند إليه قبل اتخاذ المنبر وبذلك جزم بعض الشراح، "وفيهم أبو بكر وعمر فهابا" وفي رواية للبخاري: فهاباه بهاء الضمير "أن يكلماه" أي: غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه، كذا المصنف تبعا للفتح وفيه قلاقة، إذ لا اعتراض هنا إنما هو استفهام، فإنما هاباه احتراما وتعظيما مع علمهما أنه يبين بعد ذلك، وأما ذو اليدين فغلب عليه الحرص على تعلم العلم، "وخرج سرعان الناس" بفتح المهملات ومنهم من سكن الراء.
وحكى عياض أن الأصيلي ضبطه بضم ثم إسكان كأنه جمع سريع مثل كثيب وكثبان، والمراد بهم أوائل الناس خروجا من المسجد وهم أصحاب الحاجات غالبا، "فقالوا: أقصرت الصلاة" بهمزة الاستفهام، وفي رواية للبخاري بحذفها، فتحمل تلك على هذه وفيه دليل على ورعهم إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم وهابوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوه، وإنما استفهموا لأنه زمان النسخ وقصرت بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول، أي: أن الله قصرها، وبفتح ثم ضم على البناء للفاعل، أي: صارت قصيرة.
قال النووي: هذا أكثر وأرجح، "و" قال "رجل" هناك "يدعوه" أي: يسميه "النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين" وفي رواية للبخاري: وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين، "فقال
ولم تقصر"، فقال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد، مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر.
وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم من ثلاثة ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله! فذكر له صنيعه وخرج غضبانا يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال:"أصدق هذا"؟. قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم. رواه مسلم وهو من أفراده لم يروه البخاري. ورواه أحمد وأبو داود.
للنبي صلى الله عليه وسلم أنسيت أم قصرت الصلاة"؟ بالبناء للفاعل أو المفعول، "فقال": "لم أنس" في اعتقادي لا في نفس الأمر، "ولم تقصر" بضم أوله وفتح ثالثه، وبفتح أوله وضم ثالثه روايتان وهو صريح في نفيهما معا، وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية الموطأ ومسلم، كل ذلك لم يكن وتأييد لقول أصحاب المعاني لفظ كل إذا تقدم على النفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخر، كأن يقال: لم يكن كل ذلك، ولذا أجابه ذو اليدين عند مسلم والموطأ بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه في هذه الرواية، "فقال: بلى قد نسيت" لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابي أن السهو لا يجوز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر، "فصلى ركعتين" بانيا على ما سبق بعد أن تذكر أنه لم يتمها كما رواه أبو داود في بعض طرقه، قال: ولم يسجد للسهو حتى يقنه الله ذلك فلم يقلدهم في ذلك، كذا قال المصنف: "ثم سلم ثم كبر فسجد" للسهو "مثل سجوده "للصلاة، أي قدره "أو أطول" منه، "ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد مثل سجوده أو أطول" منه، "ثم رفع رأسه من السجود وكبر" ظاهره الاكتفاء بتكبير السجود، ولا يشترط تكبير الإحرام، وعليه الجمهور قال القرطبي: لم يختلف قول مالك في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال: وما يتحلل منه بسلام لا بد له من تكبيرة إحرام، ويؤيده ما في أبي داود في هذا الحديث، بلفظ: فكبر ثم كبر وسجد للسهو.
"وعن عمران بن حصين" بمهملتين مصغر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم من ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول" ولذا لقب بذي اليدين "فقال: يا رسول الله فذكر له صنيعه" فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله كما في رواية لمسلم أيضا، "وخرج" من منزله "غضبانا يجر رداءه" من العجلة "حتى انتهى إلى الناس، فقال: "أصدق هذا"؟، قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين" للسهو "ثم سلم، رواه مسلم" من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب
"والخرباق" بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء بعدها موحدة، وآخره قاف، هو اسم ذي اليدين، كما ذهب إليه الأكثر، وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو على أنه كناية عن طولهما بالعمل أو بالبذل.
قال الحافظ: ابن حجر: الظاهر في نظري توحد حديث أبي هريرة، وإن كان قد جنح ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة، والحمل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين، ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من ثنتين،
عن عمران بهذا اللفظ، ثم رواه من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران قال: سلم صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله، فخرج مغضبا فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم "وهو من أفراده" أي مسلم.
"لم يروه البخاري" فإن لم ينهض الجمع بين التعارض، ولم ينقل بالتعدد قدم ما اتفقا عليه على ما انفرد به مسلم، "ورواه أحمد وأبو داود" يعني حديث عمران المذكور. "والخرباق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره قاف هو اسم ذي اليدين، كما ذهب إليه الأكثر" وقيل: اسمه عمير بن عبد عمرو وهو غلط، ذاك ذو الشمالين كما مر، قاله في الألقاب:"وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو على أنه كناية عن طولهما بالعمل" أي: كونه يعمل بهما جميعا، "أو بالبذل" الإعطاء للشيء بلا عوض، ولفظ الحافظ وهو محمول على الحقيقة، ويحتمل أنه كناية عن طولهما بالعمل أو بالبذل، قاله القرطبي وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعا.
"قال الحافظ ابن حجر: الظاهر في نظري توحد حديث أبي هريرة" بحديث عمران، هكذا في الفتح، فكأنه سقط من قلم المؤلف، أي أن الصحابيين رويا قصة واحدة، فليس المعنى كون حديث أبي هريرة حديثا لقصة واحدة لم تتعدد كما زعم، إذ حديث أبي هريرة وإن تعددت طرقه لا نزاع في أنه قصة واحدة.
ولفظ فتح الباري، وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق اعتمادا على حديث عمران عند مسلم، وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران، وهو الراجح في نظري "وإن كان قد جنح" أي: مال "ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة" فواحدة رواها أبو هريرة وواحدة عمران، "والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين،
وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران هذا: أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة، فأما الأول فقد حكى بن كليكلدي العلائي أن بعض شيوخه حمله على المراد به أنه سلم في ابتداء الثالثة، واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله. وأما الثاني: فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزلة، لكون الخشبة كانت في جهة منزله،
ففي حديث أبي هريرة، أن السلام وقع من ثنتين، وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران هذا أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة" فهذان الاختلافان يقويان التعدد، لا سيما مع اختلاف المخرج وهو الصحابي، "فأما الأول فقد حكى" العلامة صلاح الدين خليل "بن كليكلدي العلائي" مر بعض ترجمته "أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الثالثة، واستبعده" العلائي لأنه خلاف المتبادر، إذ التسليم وقع وهو جالس، فأين ابتداء الثالثة "ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة" إذ يمكن تصحيحه بتقدير مضاف، أي في إرادة ابتداء الركعة الثالثة فسلم سهوا قبل القيام، "وليس" حمله على ذلك "بأبعد من دعوة تعدد القصة" بل هي أبعد على مفاد النفي عرفا أو مساو على مفاده لغة، وكأنه أريد الأول لقوله، "فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله" لكن لا بعد في هذا ولو لزم ما ذكر، فاستفهام ذي اليدين أولا لا يمنع استفهامه ثانيا لأنه زمان نسخ، لا سيما وقد اقتصر في حديث عمران على قوله: أقصرت الصلاة يا رسول الله كما قدمته عن مسلم، وكذلك استفهام المصطفى الصحابة عن صحة قوله أولا لا يمنع ذلك ثانيا إذ لم تقصر الصلاة، وقد سلم معتقدا الكمال، والإمام لا يرجع عن يقينه لقول المأمومين إلا لكثرتهم جدا، بل عند الشافعي ولا لكثرتهم جدا، ولا شك في أن هذا أقرب من إخراج اللفظ عن ظاهره المحوج إلى تقدير مضاف بلا قرينة، وكونها حديث أبي هريرة غير ناهض لاختلاف المخرج، أي: الصحابي، ثم ماذا يصنع بقوله: فصلى ركعة، وقوله في الرواية الثانية: فصلى الركعة التي كان ترك، وتصحيحه بجنس الركعة ينبو عنه المقام نبوا ظاهرا، فدعوى التعدد أقرب من هذا بكثير، "وأما" الاختلاف "الثاني" وهو قوله في حديث أبي هريرة: قام إلى خشبة في المسجد فوضع يده عليها، وفي حديث عمران: دخل منزله، "فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة، ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت في جهة منزله" وبعد هذا لا يخفى لما
فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له في سياقه، كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن خزيمة. انتهى.
وعن معاوية بن حديج -بضم الحاء المهملة آخره جيم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوما فانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال: نسيت من الصلاة ركعة؟ فرجع فدخل المسجد. فأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل؟ قلت: لا، إلا أن أراه، فمر بي
يلزم عليه أن عمران أخبر بالظن ومخالفته لظاهر قوله، فخرج لا سيما مع قوله في الرواية الثانية، فدخل الحجرة ثم قال: فخرج فلا ريب أن دعوى التعدد أقرب من هذا بكثير، "فإن كان كذلك" فلا خلاف بين الحديثين "وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة".
زاد الحافظ: ولموافقة ذي اليدين نفسه على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن أبي خيثمة وغيرهم. "انتهى" كلام الحافظ، وليس في موافقتهما لأبي هريرة ما يمنع الجمع بالتعدد الذي صار إليه ابن خزيمة وغيره قال: أعني الحافظ، وقد تقدم في باب تشبيك الأصابع ما يدل على أن ابن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم. انتهى.
وليست دلالته على ذلك قوية إذ المراد أن عمران قال في حديثه: ثم سلم ففيه إثبات السلام عقب سجدتي السهو الخالي منه حديث أبي هريرة، وبعد ذلك هل هو متحد مع حديث أبي هريرة أو حديث آخر مسكوت عنه.
"وعن معاوية بن حديج بضم الحاء المهملة" وفتح الدال المهملة وسكون التحتية "آخره جيم" الكندي، صحابي صغير، وذكره يعقوب بن سفيان في التابعين، وقال أحمد: لا صحبة له، ولعل مراده طويلة، لأنه وفد وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين، وإلا فقد روى أحمد والبغوي عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها". مات سنة اثنتين وخمسين: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوما فانصرف" أي: سلم وخرج من المسجد، "و" الحال إنه "قد بقي من الصلاة ركعة، فأدركه رجل، فقال: نسيت" بتقدير همزة الاستفهام، أي: أنسيت "من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا، فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة" فوقع منه السهو ثم الكلام ثم البناء.
قال معاوية بن حديج: "فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل" القائل نسيت،
فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله. رواه أبو داود والبيهقي في سننهما، وابن خزيمة في صحيحه، وعين الصلاة المغرب.
وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذي اليدين، لأن المعلم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة طلحة بن عبيد الله، ومخبره في تلك القصة ذو اليدين، والسهو منه عليه الصلاة والسلام في قصة ذي اليدين إنما كان في الظهر أو العصر، وفي هذه القصة إنما كان السهو في المغرب لا في الظهر ولا في العصر.
وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق ذو اليدين"؟ فقال الناس: نعم، فقام صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين أخريين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده للصلاة
"قلت: لا" أعرفه "إلا أن أراه، فمر بي، فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله" التيمي أحد العشرة، وفي هذا السياق دليل على أن معاوية بن حديج شاهد ذلك فهو صحابي، "رواه أبو داود والبيهقي في سننهما وابن خزيمة في صحيحه، وعين" في روايته "الصلاة المغرب" بالنصب بدل، أي: قال صلى المغرب.
"وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذي اليدين، لأن المعلم" أي: المخبر "للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة طلحة بن عبيد الله" بضم العين، "ومخبره في تلك القصة ذو اليدين" لأن "السهو منه عليه الصلاة والسلام في قصة ذي اليدين إنما كان في الظهر أو العصر" على ما مر، "وفي هذه القصة إنما السهو في المغرب لا في الظهر ولا في العصر" فافترقا لهذين الوجهين.
"وعن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف" أي: سلم "من اثنتين" أي: ركعتين، "فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة"؟ بفتح القاف وضم الصاد، أي: أصارت قصيرة، وبضم القاف وكسر الصاد، أي: أقصرها الله روايتان.
قال النووي: الأول أكثر وأرجح "أم نسيت يا رسول الله" فيه دلالة على ورعه، لأنه لم يجزم بشيء بلا علم، بل استفهم لأنه زمان نسخ، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصدق ذو اليدين"؟ فيما قال، "فقال الناس" أي: الصحابة الذين صلوا معه: "نعم" صدق، وفي رواية لمسلم قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين، "فقام صلى الله عليه وسلم" أي: اعتدل وهي كناية عن الدخول في الصلاة، "فصلى ركعتين أخريين" بتحتيتين بعد الراء، "ثم سلم، ثم كبر".
قال القرطبي: فيه دلالة على أن التكبير للإحرام لإتيانه بثم المقتضية للتراخي فلو كان
أو أطول، ثم رفع.
وفي رواية سلمة بن علقمة، قلت لمحمد -يعني ابن سيرين- في سجدتي السهو تشهد؟ فقال: ليس في حديث أبي هريرة. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي.
قال الحافظ ابن حجر: لم يقع في غير هذه الرواية لفظ "القيام" وقد استشكل بأنه صلى الله عليه وسلم كان قائما.
وأجيب: بأن المراد بقوله: "فقام" أي اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما مر.
وقد يفهم من قول محمد بن سيرين عن التشهد: "ليس في حديث أبي
التكبير للسجود لكان معه، وتعقب بأن ذلك من تصرف الرواة ففي رواية للبخاري فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد فأتي بواو المصاحبة التي تقتضي المعية وهو مردود بأن الحديث واحد وليست رواية الواو بأولى من رواية الفاء في قوله:"فسجد" المقتضية لعدم المعية، فالواو من تصرف الرواة، ويؤيده أن من عبر بالفاء أثبت وأتقن "مثل سجوده" للصلاة "أو أطول" منه، "ثم رفع" من سجوده "ثم كبر فسجد" ثانية "مثل سجوده للصلاة أو أطول" منه، "ثم رفع" من السجدة الثانية.
"وفي رواية سلمة بن علقمة" التميمي أبي بشر البصري، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائة، "قلت لمحمد: يعني ابن سيرين" البصري "في" بتقدير همزة الاستفهام، أي: أفي "سجدتي السهو تشهد؟ فقال: ليس في حديث أبي هريرة رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري، ورواه "مسلم ومالك" في الموطأ، أي: اللفظ الأول إذ لم يرويا قول سلمة بن علقمة المذكور "وأبو داود والترمذي والنسائي".
"قال الحافظ ابن حجر: لم يقع في غير هذه الرواية لفظ القيام" المذكور بقوله: فقام "وقد استشكل بأنه صلى الله عليه وسلم كان قائما" كما في الحديث السابق، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد.
"وأجيب بأن المراد بقوله: فقام، أي: اعتدل لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما مر" زاد الحافظ: أو هو كناية عن الدخول في الصلاة، وقال ابن المنير: فيه إيماء إلى أنه أحرم، ثم جلس، ثم قام، كذا قال وهو بعيد جدا. انتهى.
ولا بعد فيه فضلا عن قوته، إذ غاية ما قال فيه إيماء، "وقد يفهم من قول محمد بن
هريرة" أنه ورد في حديث غيره. وهو كذلك: فقد رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم صحيح على شرطهما. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما. ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فزيادة أشعث شاذة.
سيرين عن التشهد ليس في حديث أبي هريرة أنه ورد في حديث غيره وهو كذلك فقد رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث" بمعجمة فمهملة فمثلثة "ابن عبد الملك" الجمراني، بضم المهملة البصري، يكنى أبا هانئ ثقة فقيه، مات سنة ثنتين وأربعين، وقيل: سنة ست وأربعين ومائتين "عن محمد بن سيرين عن خالد" بن مهران "الحذاء، بفتح المهملة وشد الذال المعجمة، قيل له ذلك لأنه كان يجلس عندهم، وقيل: لأنه كان يقول احذ على هذا النحو. ثقة يرسل، أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغير لما قدم من الشام وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان، "عن أبي قلابة" بكسر القاف والتخفيف عبد الله بن زيد الجرمي البصري، ثقة، فاضل، كثير الإرسال.
قال العجلي: فيه نصب يسير، مات بالشام هاربا من القضاء سنة أربع ومائة، وقيل: بعدها "عن أبي المهلب" الجرمي البصري عم أبي قلابة، اسمه عمرو أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية. ثقة من كبار التابعين.
"عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فسها فسجد سجدتين" للسهو "ثم تشهد ثم سلم".
"قال الترمذي: حسن غريب" أي: تفرد به راويه، "وقال الحاكم: صحيح على شرطهما" أي: الصحيحين وفيه نظر، إذ لم يرويا لأشعث، نعم علق له البخاري، "وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد" الحذاء "غير هذا الحديث" وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر كا في الفتح، "وضعفه" أي: هذا الحديث "البيهقي وابن عبد البر وغيرهما، ووهموا راويه أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين" فإن المحفوظ عنه في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد.
وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضا في هذه القصة: قلت لابن سيرين: فالتشهد، قال: لم أسمع في التشهد شيئا، وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد في
لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي، وفي إسنادهما ضعف.
فقد يقال: إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن، قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله: أخرجه ابن أبي شيبة. انتهى ملخصا من فتح الباري.
وفي رواية أبي سفيان عن أبي هريرة عند مسلم: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلم من ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله.
وفي رواية أبي داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن
حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم، "فزيادة أشعث شاذة" وإن كان ثقة، لأن محل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق منه كما قال ابن عبد البر وغيره، ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت.
"لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة" بن شعبة "عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف، فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن" وإن كانت مفرداتها ضعيفة.
"قال العلائي: وليس ذلك ببعيد" لما علم أن الاجتماع يكسب قوة، "وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله: أخرجه ابن أبي شيبة. انتهى ملخصا من فتح الباري" بمعنى أنه حذف منه ما لم يتعلق غرضه به لا التلخيص العرفي.
"وفي رواية أبي سفيان" اسمه وهب أو قزمان، بضم القاف وسكون الزاي، قال ابن سعد: ثقة قليل الحديث، روى له الستة "عن أبي هريرة عند مسلم" من طريق مالك عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أبي هريرة:"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيه تصريح بحضور أبي هريرة القصة "صلاة العصر، فسلم من ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "كل ذلك" أي القصر والنسيان "لم يكن" واحد منهما، "فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله" وهو النسيان كما قال في الرواية الأخرى: بلى قد نسيت.
"وفي رواية أبي داود من طريق حماد بن زيد" بن درهم البصري، ثقة، ثبت، فقيه "عن
سيرين عن أبي هريرة في هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو.
وهذا يؤيد من قال لا بد من تكبيرة الإحرام في سجود السهو بعد السلام، والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود، وهو ظاهر غالب الأحاديث.
وقال أبو داود: لم يقل أحد: "كبر ثم كبر" إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الرواية. ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة في هذا الحديث الجذع الذي كان عليه السلام يستند إليه قبل اتخاذ المنبر.
وإنما وقع الاستفهام "هل قصرت الصلاة؟ " لأن الزمان كان زمان النسخ.
وقوله: "فقال": "لم أنس ولم تقصر". صريح في نفي النسيان ونفي القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية أبي سفيان المتقدمة "كل ذلك لم يكن" وتأييد لما قاله أصحاب المعاني أن لفظ "كل" إذا تقدمت وعقبها النفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك، ولهذا
هشام بن حسان" الأزدي أبي عبد الله البصري، ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومائة، روى له الجماعة "عن ابن سيرين، عن أبي هريرة في هذا الحديث، قال: فكبر" للإحرام، "ثم كبر" للهوي "وسجد للسهو، وهذا يؤيد من قال: لا بد من تكبيرة الإحرام في سجود السهو بعد السلام" كمالك فإنه يقال: إنه واجب، لكن لا تبطل الصلاة بتركه، "والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود وهو ظاهر غالب الأحاديث، وقال أبو داود: لم يقل أحد كبر ثم كبر إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الرواية" لكنها تتأيد بما فهمه القرطبي من الرواية السابقة، "ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة في هذا الحديث الجذع الذي كان عليه السلام يستند إليه قبل اتخاذ المنبر".
زاد الحافظ: وبذلك جزم بعض الشراح، "وإنما وقع الاستفهام هل قصرت لأن الزمان كان زمان النسخ" فجوز السائل وقوعه في الصلاة كما وقع نسخ القبلة في الصلاة، "وقوله": فقال: "لم أنس ولم تقصر" وهو الذي في أكثر الطرق كما في الفتح "صريح في نفي النسيان ونفي القصر، وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية أبي سفيان المتقدمة" قريبا: "كل ذلك لم يكن". فمعناه لم أنس ولم تقصر، "وتأييد لما قاله أصحاب المعاني: إن لفظ كل إذا تقدمت وعقبه النفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع بخلاف ما إذا تأخرت كأن يقول: لم يكن كل ذلك" وفي شرحه للبخاري، وهذا أشمل من أن لو قيل لم يكن كل ذلك، لأنه من باب تقوي الحكم، فيفيد التأكيد في المسند والمسند إليه بخلاف الثاني إذ ليس فيه تأكيد
أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه في هذه الرواية بقوله:"بلى قد نسيت" لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر.
وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم السهو، وهذا الحديث يرد عليهم -يعني حديث ابن مسعود- فإن فيه:"إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون". وإن كان القاضي عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال. لكنهم تعقبوه.
نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك، إما متصلا بالفعل أو بعده، كما وقع في هذا الحديث من قوله:"لم أنس ولم تقصر"
أصلا، فيصح أن يقال: لم يكن كل ذلك، بل بعضه كما تقرر في علم البيان، "ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه في هذه الرواية" أي رواية ابن سيرين، "بقوله: بلى قد نسيت، لأنه لما نفى الأمرين" بقوله:"كل ذلك لم يكن"، "وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية" أي: التي طلب منه إبلاغها للناس، "جزم بوقوع النسيان لا القصر وهو حجة لمن قال: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع" لما يترتب عليه من الفوائد.
"قال ابن دقيق: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم السهو" تنزيها لمقامه عنه، "وهذا الحديث يرد عليهم، يعني حديث ابن مسعود، فإن فيه إنما أنا بشر مثلكم أنسى" وزاد: "كما تنسون" دفعا لمن يقول ليس نسيانه كنسياننا، "إن كا القاضي عياض نقل الإجماع على عدم جواز السهو في الأقوال التبليغية" التي أمر بتبليغها للأمة، لأنه يوجب التشكيك وتشبث الطاعن بها، "وخص الخلاف بالأقوال" وفرق عياض بأن الدليل قام على صدق القول، فخلافه ولو سهوا يناقضه بخلاف الأفعال فلا يناقضه ولا يقدح في النبوة، لأن الغفلة من سمات البشر، "لكنهم" أي: العلماء "تعقبوه" بأن الخلاف مطلق "نعم" استدراك لدفع كون وقوعه سهوا يناقض المعجزة، "اتفق من جوز ذلك على أن لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك إما متصلا بالفعل أو بعده كما وقع في هذا الحديث من قوله: "لم أنس ولم تقصر". ثم تبين أنه نسي ومعنى" الأولى فمعنى بالفاء "قوله:
ثم تبين أنه نسي.
ومعنى قوله: "لم أنس" أي في اعتقادي، لا في نفس الأمر، ويستفاد منه: أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره.
وأما من منع السهو مطلقا، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:
فقيل: قوله "لم أنس" نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم تضعيفه، ويكفي فيه قوله في هذه الرواية:"بلى قد نسيت" وأقره على ذلك.
وقيل: قوله: "لم أنس" على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول.
وتعقب: بحديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم بلفظ "صلى
"لم أنس". أي: في اعتقادي لا في نفس الأمر" إذ الواقع أنه نسي، "ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين" ينبغي أن يراد به ما يشمل الظن لا ما اصطلح عليه الأصوليون أنه حكم الذهن الجازم القابل للتغير، وأما الراجح الذي لا جزم معه فهو الظن، قاله شيخنا: "وفائدة السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره" لأن البيان بالفعل أظهر منه بالقول لمشاهدة صفة الفعل في زمن قليل بخلاف القول فيحتاج للتفصيل، ولأنه أرفع للاحتمال، إذ لو قال من سها فليسجد سجدتين في آخر صلاته احتمل أنه أراد من سها في أمر من أموره، سواء كان في نفس الصلاة أو غيرها وإن كان بعيدا.
"وأما من منع السهو مطلقا" في الأقوال والأفعال وهم جماعة صوفية، "فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة، فقيل: قوله: "لم أنس". نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم" قريبا "تضعيفه" بأنه خلاف اللغة والحديث، "ويكفي فيه" أي: تضعيفه "قوله في هذه الرواية: بلى قد نسيت وأقره على ذلك" إذ لو كان بينهما فرق لبينه ولم يقره.
"وقيل: قوله: "لم أنس". على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل لكونه أبلغ من القول".
"وتعقب بحديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم" وأبي داود والنسائي وابن ماجه،
رسول الله صلى الله عليه وسلم فزاد أو نقص، شك بعض الرواة، والصحيح أنه زاد، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك"؟ قالا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر
"بلفظ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" الظهر على الأصح أو العصر، "فزاد أو نقص شك بعض الرواة" هو إبراهيم النخعي رواية عن علقمة عن ابن مسعود، ففي البخاري قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص، وفي مسلم: "قال إبراهيم والوهم مني، أي: الشك، وفيه أيضا قال إبراهيم: وايم الله ما ذاك إلا من قبلي.
"والصحيح أنه زاد" ففي الصحيحين من طريق الحكم عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسا، قال الحافظ: فلعل إبراهيم شك لما حدث منصور أو تيقن لما حدث الحكم، وتابع الحكم على ذلك حماد بن أبي سليمان وطلحة بن مصرف وغيرهما، وعين في رواية الحكم وحماد أيضا، أنها الظهر، وللطبراني من رواية طلحة عن إبراهيم، أنها العصر، وما في الصحيح أصح.
"فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث"، "بفتحات والهمزة للاستفهام"، "أي: أوقع "في الصلاة شيء"؟ يوجب تغيير حكمها عما عهدوه، ودل استفاهمهم عن ذلك على جواز النسخ عندهم، وأنهم كانوا يتوقعونه، "قال:"وما ذاك"؟، أي: سبب سؤالكم، وفيه إشعار بأنه لم يكن عنده شعور بما وقع منه من الزيادة، "قالوا: صليت كذا وكذا" كناية عما وقع زائدا عن المعهود، "فثنى" بخفة النون، أي: عطف "رجليه" بالتثنية، وفي رواية: بالإفراد بأن جلس كهيئة قعود التشهد "واستقبل القبلة وسجد سجدتين" للسهو، "ثم سلم" واحتد به على رجوع الإمام لقول المأمومين: لكن يحتمل أنه تذكر عند ذلك، أو أن سؤالهم أحدث عنده شكا فسجد للشك الذي طرأ لا لمجرد قولهم: "فلما أقبل علينا بوجهه، قال":"إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم" أي: أخبرتكم "به" أي: بالحدث وفيه عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، "ولكن إنما أنا بشر مثلكم" أي: بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن المخاطبين لا بالنسبة إلى كل شيء "أنسى كما تنسون"، بهمزة مفتوحة وسين مخففة.
قال الزركشي: ومن قيده بضم أوله وتشديد ثالثه فهو يناسب التشبيه، "فإذا نسيت فذكروني" في الصلاة بالتسبيح ونحوه، "وإذا شك أحدكم" بأن استوى عنده طرفا العلم والجهل "في صلاته فليتحر" بحاء مهملة وراء مشددة، أي: فليقصد "الصواب" بالأخذ باليقين فيبني عليه عند مالك والشافعي.
الصواب، فيتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين".
ففيه: إثبات العلة قبل الحكم، بقوله:"إنما أنا بشر مثلكم" ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له، حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا فقال: "كما تنسون".
وبهذا الحديث يرد أيضا قول من قال: معنى قوله "لم أنس". إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال: "إني لا أَنسى ولكن أُنسى لأسن". وإنكار للفظ الذي أنكره على غيره حيث قال: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا".
وقال أبو حنيفة: معناه البناء على غالب الظن فلا يلزم بالاقتصار على الأقل، وفي رواية لمسلم: فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب، وله في أخرى: فليتحر الذي يرى أنه صواب "فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين" للسهو، "ففيه إثبات العلة قبل الحكم" على نفسه بالنسيان، بقوله:"إنما أنا بشر مثلكم" أنسى، فكأنه قال: أنسى، لأني بشر مثلكم وهو من سمات البشر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
…
وأول ناس أول الناس
"ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له حتى دفع قول من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا، فقال": "كما تنسون". فكيف يصح زعم أنه يتعمد فعل ذلك، وقد رده عياض أيضا بأنه مع ضعفه متناقض بلا طائل، لأنه كيف يكون متعمدا ساهيا في حالة واحدة؟ "وبهذا الحديث يرد أيضا قول من قال: معنى قوله: "لم أنس". إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه، حيث قال:"إني لا أنسى" بلا النافية في إحدى الروايتين، بدل لام التأكيد في الرواية الأخرى، وهي:"إني لأنسى أو أنسى لأسن". التي قدمها المصنف، ومر الخلاف في أن أو عليها للشك أو لغيره، والروايتان حكاهما عياض.
وحكى أيضا ثالثة: "لست أنسى". "ولكن أنسى" بضم الهمزة وفتح النون وشد السين، أي: ينسيني الله تعالى "لأسن" حكما شرعيا للناس، كتعليم سجود السهو، قال عياض: ولا حجة فيه، إذ ليس فيه نفي حكم النسيان جملة، أي: جميعه، وإنما فيه نفي لفظه وكراهة لقبه، أي: اسمه، كقوله:"بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا ولكنه نسي". أو نفي الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الصلاة عن قلبه، لكن شغل بها عنها ونسي بعضها ببعضها، "وإنكار للفظ الذي أنكره على غيره، حيث قال" كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئسما لأحدكم" كذا في النسخ بالكاف، والذي في الصحيحين لأحدهم بالهاء، نعم في رواية لمسلم:"لا يقل أحدكم" وما نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس، أي: بئس شيء، و"أن يقول" مخصوص بالذم، أي: بئس شيء كائن للرجل قوله: "نسيت" بفتح النون وكسر السين مخففة "آية كذا وكذا"
وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث إني "لا أنسى" لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وهي أربعة، قاله ابن عبد البر. وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء، فإن
كذا في النسخ، والمروي في الصحيحين:"آية كيت وكيت بل هو نسي"، الحديث بتحتية ففوقية كلمتان يعبر بهما عن الجمل الكثيرة والحديث الطويل، وسبب الذم ما في ذلك من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال: نسيت، كأنه شهد على نفسه بالتفريط، فتعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه يورث النسيان.
وقوله: "بل هو نسي" بضم النون وشد السين المكسورة في جميع روايات البخاري، وأكثر الروايات في غيره وهو أضراب عن نسبة النسيان إلى النفس المسبب عن الترك، لأنه يوهم أنه انفرد بفعله، فالذي ينبغي أن يقول: أنسيت أو نسيت مبني للمفعول، أي: أن الله هو الذي أنساه، لأن نسبة الأفعال إلى خالقها إقرار بالعبودية والاستسلام للقدرة، وإن جازت نسبتها إلى مكتسبها، وقيل: معناه عوقب بالنسيان لتفريطه في تعاهده، وقيل: فاعل نسيت النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: لا يقل أحد عني أني نسيت، فإن اله هو الذي أنساني ما نسخه ورفع تلاوته، ولا صنع لي في ذلك.
ورواه بعض رواة مسلم: بل نسي بخفة السين، أي: تركه الله غير ملتفت إليه، كقوله:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 9]، أي: تركهم من الرحمة، أو تركهم في العذاب.
"وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث: "إني لا أنسى" لا أصل له" يعتد به في إثبات الأحكام، وليس المراد أنه باطل لمنافاته قوله:"فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث" التفتيش "الشديد" عمن وصلها، والبلاغ من أقسام الضعيف لا الباطل معاذ الله، لا سيما من مالك "وهي أربعة، قاله ابن عبد البر" أي: قال وهي أربعة، ولم يقع في كلامه التعبير بلا أصل له كما عبر المصنف تبعا للحافظ، بل قال في شرح هذا الحديث: هو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول.
وقال في أوائل شرحه: إن بلاغات مالك كلها تتبعت فوجدت موصولة إلا أربعة، أولها هذا، وثانيها في الاستسقاء: إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة، وثالثها في الصيام قول مالك سمعت ممن أثق به أنه صلى الله عليه وسلم أرى الناس قبله وما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر، رابعها: في كتاب الجامع خبر معاذ آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله علي وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: "حسن خلقك للناس". انتهى.
الفرق بينهما واضح جدا.
وقيل: إن قوله: "لم أنس" راجع إلى السلام، أي سلمت قصدا بانيا على ما في اعتقادي أنني صليت أربعا، وهذا جيد، وكان ذا اليدين فهم العموم فقال:"بلى قد نسيت" وكأن هذا القول أوقع شكا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين.
وهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده.
وبهذا يجاب من قال: إن من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حامل لهم على السكوت، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارض باعتقاد المسئول
ومع كونها بلاغات فلها شواهد ترفعها عن درجة الضعف وقد بينت ذلك في شرح الموطأ في محالها ولله الحمد.
وقد قال سفيان بن عيينة: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد صحيح انتهى. فلا يضره قصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة إذ لعلها موصولة، في الكتب التي لم تصل إليهم، وقد قال السيوطي في حديث:"اختلاف أمتي رحمة" لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا، لأنه عزاه لجمع من الأجلة، كإمام الحرمين في كتبهم بدون إسناد، ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل "وأما الآخر" أي: بئسما لأحدهم، "فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء، فإن الفرق بينهما واضح جدا" إذ لا يقاس غير القرآن به.
"وقيل: إن قوله "لم نس" راجع إلى السلام، أي: سلمت قصدا بانيا على ما في اعتقادي أنني صليت أربعا وهذا جيد، وكان ذا اليدين فهم العموم" نسيان إتمام الصلاة والسلام ناسيا، "فقال: بلى قد نسيت، وكان هذا القول أوقع شكا احتاج معه إلى استثبات" الواقع منه بقول "الحاضرين" حين سألهم أحق ما يقول؟ "وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه" أي: في خبره "كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده" من الكمال لفعله.
"وبهذا يجاب من قال" يستفاد من الحديث "أن من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخف عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ" التوافق "ولا حامل لهم على السكوت عنه، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقة" أي: المخبر مع سكوت الجمع بلا مانع، ووجه الاستفادة أنه صلى الله عليه وسلم سألهم مع سكوتهم على إخبار ذي اليدين له صلى الله عليه وسلم بأنه نسي، والجواب هو قوله: "فإن سبب عدم
خلاف ما أخبر به.
وفيه: أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا، وامتنع في العادة غفلتهم عن ذلك أنه لا يقبل خبره.
وفيه: جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوا. وقال سحنون: إنما يبني من سلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص. وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي، فيمنعه مثلا في الصبح، والذين قالوا بجواز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل.
وفيه: أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة، خلافا للحنفية، واستدل به على أن
القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به" السائل، فلا دلالة فيه على عدم القطع بصدق من كان كذلك مطلقا، إذ عدم القطع هنا لسبب، "وفيه:" أي الحديث إفادة "أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا وامتنع في العادة غفلتهم" أي: أهل المجلس المتحد "عن ذلك أنه لا يقبل خبره" حتى يوافقوه، لأنه صلى الله عليه وسلم رجع لما أخبروه بموافقة خبر ذي اليدين ففيه حجة قوية أن الإمام لا يرجع عن يقينه إلى قول المأمومين إلا لكثرتهم جدا فيرجع كما في هذه القصة.
"وفيه جواز البناء على الصلاة لمن أتي بالمنافي سهوا" كالسلام، "وقال سحنون: إنما يبني من سلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس فيقتصر" أي: يوقف "به على مورد النص" بحيث لا يتجاوزه، "وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي" الظهر أو العصر، لأنه مورد النص، "فيمنعه مثلا في الصبح" والعشاء والمغرب مع أن سحنونا يقول بالبناء لمن سلم من ركعتين فيهما، "والذين قالوا بجواز البناء مطلقا" يعني في جميع الصلوات "قيدوه بما إذا لم يطل الفصل" واختلفوا في أن قدره بالعرف أو الخروج من المسجد، أو بقدر ركعة أو قدر الصلاة التي وقع فيها السهو، "وفيه أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة خلافا للحنفية" وأما قول بعضهم أن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة فضعيف، لأنه اعتمد قول الزهري أنها كانت قبل بدر، وتقدم أنه وهم، أو تعددت القصة لذي الشمالين المقتول ببدر، ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة، وشهدها عمران بن حصين وإسلامه متأخر أيضا.
وروى معاوية بن حديج قصة أخرى في السهو، وقع فيها الكلام ثم البناء، أخرجها أبو داود
تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها.
وتعقب: بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذي اليدين له:"بلى قد نسيت" وقول الصحابة له: "صدق ذو اليدين" فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ في وقت يمكن وقوعه فيه، فتكلموا ظنا أنهم ليسوا في صلاة.
كذا قيل، وهو فاسد، لأنهم تكلموا بعد قوله عليه الصلاة والسلام:"لم تقصر".
وأجيب: بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومئوا، كما عند أبي داود في رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابي، وقال: حمل القول على الإشارة مجاز شائع، بخلاف عكسه، فينبغي رد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية، وهذا قوي، أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق
وابن خزيمة وغيرهما وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين.
وقال ابن بطال: يحتمل أن قول زيد بن أرقم ونهينا عن الكلام، أي: إلا إذا وقع عمدا لمصلحة الصلاة، فلا يعارض قصة ذي اليدين، قاله الحافظ "واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها" لتكلمه صلى الله عليه وسلم وتكلم الصحابة "وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيا" كيف يصح هذا الحضر مع قوله:"أحق ما يقول ذو اليدين"؟، أو أصدق ذو اليدين أفيتوهم أن هذا نسيان.
"وأما قول ذي اليدين له: بلى قد نسيت، وقول الصحابة له: صدق ذو اليدين، فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ في وقت يمكن وقوعه فيه" لأنه زمان تشريع، "فتكلموا ظنا أنهم ليسوا في صلاة، كذا قيل: وهو فاسد لأنهم تكلموا بعد قوله عليه الصلاة والسلام": "لم تقصر".
"وأجيب بأنهم لم ينطقوا وإنما أومئوا" أشاروا "كما عند أبي داود في رواية ساق مسلم إسنادها" ولم يسق لفظها، "وهذا اعتمده الخطابي وقال: حمل القول على الإشارة مجاز شائع" أي: مستعمل "بخلاف عكسه" الإشارة على القول ليس بشائع "فينبغي رد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية" ولكن في هذا من انظر ما لا يخفى، إذ رد الروايات الكثيرة المتظاهرة على التصريح بالقول مع اتفاق الشيخين وغيرهما على تخريجها بأسانيد عديدة إلى رواية واحدة، خصوصا ومسلم لم يسق لفظها مما لا يليق، فالأولى الجمع الثاني وإن قال المصنف تبعا للحافظ، "وهذا قوي أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق، وبعضهم بالإشارة" فإن الظاهر أن هذا الجمع هو القوي، لأن فيه إبقاء الروايات
وبعضهم بالإشارة. لكن يبقى قول ذي اليدين: "بلى قد نسيت".
ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا: بأن كلامهم كان جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لا يقطع الصلاة.
وتعقب: بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة.
وأجيب: بأنه ثبتت مخاطبته في التشهد، وهو حي، بقولهم: السلام عليك أيها النبي، ولم تفسد الصلاة، والظاهر: أن ذلك من خصائصه.
وعن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في
على حقيقتها الذي هو الأصل دون دعوى المجاز.
"لكن يبقى قول ذي اليدين، بلى قد نسيت" غير مجاب عنه، إذ لا يمكن فيه دعوى أنه قال ذلك بالإشارة، "ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا" لأنه الحقيقة، وقد قالوا: لا يعدل إلى المجاز ما وجد إلى الحقيقة سبيل "بأن كلامهم كان جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لا يقطع الصلاة" لوجوب إجابته.
"وتعقب بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة" فقد يجب الكلام وتبطل كإنقاذ أعمى.
"وأجيب بأنه ثبتت مخاطبته في التشهد وهو حي بقولهم: السلام عليك أيها النبي" ورحمة الله وبركاته "ولم تفسد الصلاة، والظاهر أن ذلك من خصائصه" زاد الحافظ: ويحتمل أن يقال ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يراجع المصلي، فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة، فلا يختص الجواز بالجواب لقول ذي اليدين، بلى قد نسيت ولم تبطل صلاته.
قال المصنف: واستدل بالحديث أيضا من قال من أصحاب مالك والشافعي: إن الأفعال الكثيرة في الصلاة التي ليست من جنسها إذا وقعت على وجه السهو لا تبطلها، لأنه خرج سرعان الناس.
وفي بعض طرق الصحيح أنه عليه السلام خرج إلى منزله ثم رجع، وفي بعضها أنه أتى جذعا في قبلة المسجد، واستند إليه وشبك بين أصابعه، ثم رجع الناس وبنى بهم، وهذه أفعال كثيرة، لكن للقائل بأن الكثير يبطل أن يقول هذه غير كثيرة كما قاله ابن الصلاح، وحكاه القرطبي عن أصحاب مالك والرجوع في الكثرة والقلة إلى العرف على الصحيح.
"وعن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا، فقيل له" لما سلم: "أزيد في الصلاة" بهمزة الاستفهام الاستخباري ولمسلم وأبي دود: فلما انفتل توشوش القوم بينهم، فقال:
الصلاة؟ قال: "وما ذاك"؟. قالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بهذا اللفظ، إلا أن مسلما لم يقل فيه:"بعدما سلم" وعبد الله هذا هو ابن مسعود.
ففي هذه الأحاديث السجود بعد السلام. وقد اختلف في ذلك:
فقال مالك والمزني، وأبو ثور من الشافعية بالتفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، ففي الأول يسجد قبل السلام، وفي الزيادة يسجد بعده. وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره، للجمع بين الخبرين، قال: وهو موافق للنظر، لأنه في النقص جبر، فينبغي أن يكون من أصل الصلاة، وفي الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها.
وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ،
"ما شأنكم"؟ قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال: لا، فتبين أن سؤالهم لذلك كان بعد استفساره لهم عن مسارتهم وهو دال على عظيم أدبهم معه صلى الله عليه وسلم، قال:"وما ذاك"؟ أي: ما سبب سؤالكم عن الزيادة، "قالوا: صليت خمسا، فسجد" بعد أن تكلم "سجدتين" للسهو "بعدما سلم" من الصلاة، "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بهذا اللفظ إلا أن مسلما لم يقل فيه بعد ما سلم وعبد الله هذا هو ابن مسعود" لأنه من رواية أهل الكوفة، وإذا أطلقوا عبد الله إنما يريدون ابن مسعود، "ففي هذه الأحاديث السجود بعد السلام".
"وقد اختلف في ذلك، فقال مالك والمزني" إسماعيل "وأبو ثور من الشافعية بالتفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، ففي الأول يسجد قبل السلام، وفي الزيادة يسجد بعده".
"وزعم ابن عبد البر أنه أولى" أحق بالاتباع "من قول غيره" أنه كله قبل السلام، أو كله بعده "للجمع بين" جنس "الخبرين" الدال أحدهما على القبل، والآخر على البعد مع صحتهما فوجب العمل بهما لإمكان الجمع بذلك، "قال: وهو موافق للنظر" أي: الفكر في حال المنظور فيه لإثبات حكمه، "لأنه في النقص جبر" للخلل، "فينبغي أن يكون من أصل الصلاة" قبل الخروج منها بالسلام "وفي الزيادة ترغيم" إغاظة وإذلال "للشيطان فيكون خارجها" ولذا لم يقل بالعكس في الجمع بين الخبرين، "وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح" لأحد الخبرين "و" من "ادعاء النسخ" لأحدهما لاحتياجه إلى دليل والاحتمال
ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها كان علة فيعم الحكم جميعا محالها فلا يتخصص إلا بنص.
وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى.
وقال الخطابي: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذي اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهي عن نقصان.
وأما قول النووي: أقوى المذاهب قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره: بل طريقة أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه، وما لم يرد فيه
لا يكفي مع إمكان الجمع بدونه، "ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة" عن ابن عبد البر، "وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها" من زيادة أو نقص وإن لم يكن فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم "كان علة" للحكم "فيعم الحكم جميع محالها" يعني خلافا لأحمد في قصره على ما ورد، "فلا يتخصص إلا بنص" ولم يوجد، إذ فعل شيء لا يقتضي تخصيصه به وقصره عليه مع ظهور العلة فيعم الحكم.
"وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة" في الحسر" فهو نقص في المعنى" وهذا ممنوع، فإنه لم يدع أنه للترغيم فقط كما زعم، غايته أنه لم ينظر إلى كونه نقص في المعنى، وإنما نظر إلى الحسي حتى لا يحصل التعارض، فيضطر إلى دعوى النسخ بلا دليل، أو الترجيح بلا مرجح.
"وقال الخطابي: لم يرجع" أي: لم يصر "من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح" فيه أن الفرق المذكور ظاهر جدا، فضلا عن كونه لا يصح كما زعمه، "وأيضا: فقصة ذي اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهي عن نقصان" فيه نظر، بل هو عن زيادة، إذ فيه زيادة السلام والكلام والمشي.
"وأما قول النووي: أقوى المذاهب قول مالك" لأنه استعمل النص فيما ورد فيه، وجمع بين الأحاديث المتعارضة، وقاس على كل ما وافقه بجامع العلة، "ثم أحمد" لقوله: يسجد بعده فيما جاء فيه، فهو أقوى ممن منعه أصل وكان دون الأول، لأه قصر عن العلة التي تعمم الحكم، "فقد قال غيره" معارضا له:"بل طريقة أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه" لفظ المنقول عن أحمد: يسجد كما سجد صلى الله عليه وسلم ففي سلامه من اثنتين بعد
شيء يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم.
وعند إمامنا الشافعي: سجود السهو كله قبل السلام.
وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود هذا.
وتعقب: بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد في الصلاة، وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو.
وأجاب بعضهم: بما وقع في حديث ابن مسعود من الزيادة. وهي: "إذا شك
السلام لحديث ذي اليدين، وكذا إذا سلم من ثلاث بعد السلام لحديث عمران، وفي التحري بعد السلام لحديث ابن مسعود، وفي القيام من اثنتين قبل السلام لحديث ابن بحينة، وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وابن عوف، "وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام" لأنه يتم ما نقص من صلاته.
"قال" أحمد"، "ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم" فكان السجود عنده فيما ورد بعده تعبديا، وكيف يزعم هذا الزاعم أنه أقوى ردا على النووي مع ظهور العلة المقتضية لعمومها في جميع محالها.
وقال إسحاق بن راهويه مثله إلا أنه قال: ما لم يرد فيه شيء يفرق بين الزيادة والنقصان، فحرز مذهبه من قول مالك وأحمد، وزعم الحافظ أنه أعدل المذاهب فيما يظهر، وأما داود: فحري على ظاهريته، فقال: لا يشرع إلا في المواضع الخمس التي سجد فيها صلى الله عليه وسلم.
"وعند إمامنا الشافعي: سجود السهو كله قبل السلام" وتعسفوا له الجواب عما ورد قبله بدعوى النسخ والترجيح ونحو ذلك.
"وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود" السابق آنفا، "وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد في الصلاة؟ وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله لعدم علمه بالسهو" فلا يصح الاستدلال به على أن كله بعد السلام.
"وأجاب بعضهم" أي: الحنفية "بما وقع في حديث ابن مسعود" عند الشيخين "من
أحدكم فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين".
وأجيب: بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم، ولفظه:"إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم". وبه تمسك الشافعية.
وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، ورجح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردي الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا أطلق النووي.
وتعقب: بأن إمام الحرمين نقل في "النهاية" الخلاف في الإجزاء عن المذهب، واستبعد القول بالجواز.
الزيادة، وهي:"إذا شك أحدكم" بأن استوى عنده الطرفان "فليتحر" أي: يقصد "الصواب، فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين" فقد صرح بأن السجود بعد السلام.
"وأجيب بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم، ولفظه" مرفوعا: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى فليطرح الشك" بأن لا يعمل عليه، "وليبن على ما استيقن" أي: تيقن، "ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم". "وبه تمسك الشافعية" لقولهم: كله قبل السلام، فطرح كل من المذهبين أحد الحديثين، "وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين" كأحمد، حيث قال: الشك على وجهين اليقين والتحري، فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد، وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد بعد السلام على حديث ابن مسعود.
"ورجع البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده" سواء كان عن نقص أو زيادة، حملا للأخبار على أنها من الاختلاف الجائز، "ونقل الماوردي" وابن عبد البر "الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا أطلق النووي" الإجماع، "وتعقب بأن إمام الحرمين نقل في النهاية الخلاف في الإجزاء عن المذهب" أي: مذهب الشافعي، "واستبعد القول بالجواز" وكذا نقل القرطبي الخلاف في مذهب مالك وهو خلاف قول ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو قبل السلام أو بعده لا شيء عليه، فجمع بأن الخلاف بين أصحابه والخلاف عند الحنفية أيضا.
قال القدوري: لو سجد قبل السلام، روي عن بعض أصحابنا: لا يجوز لأنه قبل وقته، وقال صاحب الهداية: الخلاف في الأولوية.
ويمكن أن يقال: الإجماع الذي نقله الماوردي والنووي قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة والله أعلم. قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله.
ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور سجدتان للجميع. والجمهور: أنه يسجد للسهو في التطوع كالفرض.
وقال ابن قدامة الحنبلي: من ترك السجود الذي قبل السلام بطلت صلاته إن تعمد، وإلا تداركه ما لم يطل الفصل، هكذا في فتح الباري قبل قوله:"ويمكن أن يقال الإجماع الذي نقله الماوردي والنووي قبل هذه الآراء في المذاهب" الأربعة "المذكورة" لمتأخريهم والله أعلم.
"قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله" وبما حذفه من كلامه الذي ذكرته يتضح جمع المذاهب ووصفها بالمذكورة "ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور سجدتان للجميع" لحديث ذي اليدين، فقد تكرر فيه سهو في أمور كل واحد منه لو انفرد طلب له السجود، ومع ذلك سجد سجدتين، ففيه أنه لا يتكرر بتكرر السهو ولو اختلف جنسه خلافا للأوزاعي.
وعند ابن أبي شيبة عن النخعي والشعبي: "لكل سهو سجدتان" ورواه أحمد عن ثوبان مرفوعا وإسناده منقطع، وحمل على أن معناه: من سها، وكان شرع له السجود، أي: لا يختص بما سجد فيه الشارع.
وروى البيهقي عن عائشة: "سجدتا السهو يجزيان من كل زيادة ونقصان"، "والجمهور إنه يسجد للسهو في التطوع، كالفرض" لشمول قوله في حديثي أبي سعيد وابن مسعود: إذا شك أحدكم في صلاته للفرض والتطوع وخالف عطاء وابن سيرين وقتادة، فقالوا: لا سجود سهو في النافلة.
وقد اختلف في إطلاق الصلاة عليهما هل هو من الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وإليه ذهب جمهور الأصوليين لجامع ما بينهما من التوافق في بعض الشروط، التي لا تنفك، ومال الرازي إلى الأول لما بينهما من التباين في بعض الشروط لكن طريقة من أعمل المشترك في معانيه عند التجرد تقتضي دخول النافلة أيضا في هذه العبارة.
الفصل الخامس: فيما كان صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها
عن ثوبان: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". رواه مسلم.
ولم يمكث مستقبل القبلة إلا بمقدار ما يقول ذلك.
وقد ثبت أنه كان إذا صلى أقبل على أصحابه.
الفصل الخامس: فيما كان صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة
أي: خروجه منها بالسلام "وجلوسه" أي: مقداره "بعدها وسرعة انفتاله" بنون ففاء ففوقية، أي: انصرافه "بعدها عن ثوبان: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته" أي: خرج منها بالتسليم "استغفر" أي: طلب المغفرة من الله "ثلاثا" من المرات.
زاد في رواية البزار: ومسح جبهته بيده اليمنى، قيل للأوزاعي أحد رواته، كيف الاستغفار؟ قال: يقول استغفر الله كما في مسلم، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: استغفاره عقب الفراغ من الصلاة استغفار من رؤية الصلاة، "وقال" بعد الاستغفار: ولفظ مسلم ثم قال: والظاهر أن التراخي ليس بمراد هنا، "اللهم أنت السلام" أي: المختص بالتنزه عن النقائص والعيوب لا غيرك، "ومنك السلام" لا من غيرك، فقدم الخير للتخصيص، أي: وإليك يعود السلام، لأن غيرك في معرض النقصان، والخوف مفتقر إليك، لا ملجأ ولا ملاذ له سواك، فإذا شوهد ظاهرا أن أحدًا سلم من غيره، فهو بالحقيقة راجع إليك وإلى توفيقك إياه، قاله بعضهم، وقال التوربشتي: أرى قوله: "ومنك السلام" واردا مورد البيان لقوله: "أنت السلام"، وذلك أن الموصوف بالسلامة فيا يتعارفه الناس لما كان قد يعرضه آفة تصيبه بضرر، وهذا لا يتصور في صفاته تعالى بين أن وصفه سبحانه بالسلام لا يشبه أوصاف الخلق، فإنهم بصدد الافتقار وهو المتعالي عن ذلك، فهو السلام الذي يعطي السلامة ويمنعها ويبسطها ويقبضها، "تباركت" تعظمت وتمجدت، أو جئت بالبركة، وأصل الكلمة للدوام والثبات ومنه البركة، ولا تستعمل هذه اللفظة إلا لله تعالى عما تتوهمه الأوهام "يا ذا الجلال" العظمة "والإكرام" الإحسان، "رواه مسلم" وأحمد وأصحاب السنن الأربعة، "ولم يمكث مستقبل القبلة إلا بمقدار ما يقول ذلك، وقد ثبت أنه كان إذا صلى" صلاة، أي: فرع منها "أقبل على أصحابه".
ففي البخاري وغيره عن سمرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه، قال
فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل على أصحابه بوجهه الشريف، فقد كان عليه السلام يسرع الانفتال إلى المأمومين، وكان ينفتل عن يمينه وعن شماله.
وقال ابن مسعود: رأيته صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره، رواه الشيخان. وقال أنس أكثر ما رأيته صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه رواه مسلم.
الزين بن المنير استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين، وقال غيره: حكمة ذلك تعريف الداخل بانقضاء الصلاة، إذ لو بقي الإمام على حاله لوهم أنه في التشهد مثلا، وما اقتضاه من جعل ظهره للقبلة ليس بمراد، فقد روى أبو داود عن يزيد بن الأسود: كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف انحرف، أي: إلى جهة شقه الأيمن أو الأيسر، والأفضل جعل يمينه إلى المحراب ويساره إلى الناس عند الحنفي، وعكسه عند الشافعي، ورجح بعضهم الصفة الأولى في محراب المدينة، لأنه إن فعل الثانية استدبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو قبله آدم، فمن بعده من الأنبياء، "فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل على أصحابه بوجهه الشريف" وإقباله إنما كان بعد الاستغفار" فقد كان عليه السلام يسرع الانفتال" بنون ففاء ففوقية، أي: الانصراف "إلى المأمومين، وكان ينفتل" ينصرف "عن يمينه" كثيرا "وعن شماله" قليلا لبيان الجواز، فلا ينافي أن الأفضل التيامن.
"وقال ابن مسعود" لا يجعل أحدكم للشيطان شيئا، ولمسلم: جزءا من صلاته يرى أن حقا عليه أن ل ينصرف إلا عن يمينه، لقد "رأيته صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره" استنبط منه ابن المنير أن المندوب قد ينقلب مكروها إذا خيف على الناس أن يرفعوه عن رتبته، لأن التيامن مستحب في كل شيء أي من أمور العبادة، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقد وجوبه أشار إلى كراهته.
وقال أبو عبيدة لمن انصرف عن يساره: هذا أصاب السنة يريد والله أعلم حيث لم يلزم التيامن على أنه سنة مؤكدة أو واجب، وإلا فمن يظن أن التياسر سنة حتى يكون التيامن بدعة، إنما البدعة في رفع التيامن عن رتبته، "رواه الشيخان" عن ابن مسعود، لكن لفظ مسلم عنه: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، "وقال أنس: أكثر ما رأيته صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه، رواه مسلم" من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، قال: سألت أنسا كيف أنصرف إذا صليت عن يميني أو عن يساري، قال: أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه.
قال الحافظ: رواية البخاري يعني لحديث ابن مسعود لا تعارض حديث أنس، يعني: لأن
وقالت أم سلمة: كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم مكث في مكانه يسيرا، قال الزهري: فنرى -والله أعلم- لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال رواه البخاري.
رواية البخاري دلت على كثرة انصرافه عن يساره وهو لا يستلزم أنه الأكثر بل يشعر بأن الأكثر، انصرافه عن يمينه وهو ما ذكره أنس، قال -أعني الحافظ: أما رواية مسلم، أي: لحديث مسعود فظاهرها التعارض، لأنه عبر في كل منهما بصيغة أفعل، وجمع النووي بينهما، بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل بما اعتقد أنه الأكثر، وإنما كره ابن مسعود أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين، وجمع الحافظ بحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد، لأن حجره صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره، وحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود، لأنه أعلم وأسن وأجل وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى ترقبه في الصلاة من أنس، وبأن في حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي، وبأنه متفق عليه بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال، لأن حجر النبي صلى الله عليه وسلم كانت على جهة يساره كما مر، ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بوجه آخر، وهو أن من قال: كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومن قال: كان أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حال استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة، فعلى هذا لا يختص الانصراف بجهة معينة، ومن ثم قال العلماء: يستحب الانصراف إلى جهة حاجته، لكن إذا استوت الجهتان في حقه فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفل التيامن كحديث عائشة: كان يحب التيامن
…
إلخ. انتهى.
"وقالت أم سلمة" أم المؤمنين: "كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم" من الصلاة "مكث في مكانه" الذي صلى فيه "يسيرا".
"قال الزهري" محمد بن مسلم راوي الحديث عن هند بنت الحارث عن أم سلمة "فنرى"، "بضم النون" أي: نظن "والله أعلم" أن مكثه صلى الله عليه وسلم في مكانه "لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال" وفي لفظ: لكي ينفذ من ينصرف من النساء، وفي أخرى: لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم، "رواه البخاري" في مواضع ثلاثة متقاربة، وفي كل موضع ذكر تعليل الزهري كما ذكرت واختلاف ألفاظه من الرواة والمعنى واحد.
قال الحافظ: وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين واحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، واجتناب مواقع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت، ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالا فقط لا يستحب هذا المكث،
وقالت عائشة: كان إذا أسلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". رواه مسلم.
وهذا الحديث يتمسك به من قال إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع.
والجواب: أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره عليه السلام جالسا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر.
وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة، فذكر الحديث المسوق بقوله، "وقالت عائشة: كان" صلى الله عليه وسلم "إذا سلم" من الصلاة "لا يقعد" في مصلاه "إلا مقدار ما يقول": "اللهم أنت السلام" أي السلام من كل ما لا يليق بجلال الربوبية وكمال الألوهية، "ومنك" لا من غيرك، لأنك أنت "السلام" الذي تعطي السلامة لا غيرك وإليك يعود السلام، وكل ما يشاهد من سلامة، فإنه لم تظهر إلا منك ولا تضاف إلا إليك، "تباركت يا ذا الجلال" العظمة "والإكرام" الإحسان، أي: تعاظمت وارتفعت شرفا وعزة وجلالا.
قال البيضاوي: إنما ذلك في صلاة بعدها راتبة، أما التي لا راتبة بعدها كالصبح فلا. قال غيره لما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقعد بعد الصبح في مصلاه حتى تطلع الشمس، "رواه مسلم" وأصحاب السنن الأربعة، "وهذا الحديث يتمسك به من قال: إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع" للحصر بأنه إنما كان يقعد بقدر ما يقول ذلك.
"والجواب أن المراد بالنفي المذكور" بقوله لا يقعد "نفي استمراره عليه السلام جالسا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر" فليس نفيا مطلقا حتى يكون حجة لعدم مشروعية الدعاء، قال الحافظ: يؤخذ من مجموع الأدلة أن للإمام أحوالا، لأن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها أو لا، الأول اختلف هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور عليه الأكثر أو يبدأ بالتطوع وعليه الحنفية، وحجة الجمهور حديث معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاتك حتى تتكلم أو تخرج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك، ويؤيده تقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة، وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبر الصلاة ما قبل السلام، تعقب بحديث ذهب أهل الدثور، ففيه يسبحون دبر كل صلاة وهو بعد السلام جزما، فكذا ما شابهه، وأما الصلاة التي لا يتطوع بعدها، فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور ولا يتعين له مكان، بل إن شاءوا انصرفوا وذكروا، وإن شاءوا مكثوا وذكروا، وعلى الثاني إن كان الإمام عادة أن يعلمهم أو يعظهم، فيستحب أن يقبل عليهم جميعا، وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور فهل يقبل عليهم جميعا، أو ينفتل فيجعل يمينه من قبل المأمومين ويساره من قبل القبلة ويدعو الثاني، هو الذي
وكان يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا
جزم به أكثر الشافعية، ويحتمل أن قصر زمن ذلك أن يستمر مستقبلا للقبلة، لأنها أليق بالدعاء ويحمل الأول على ما لو طال الذكر والدعاء. انتهى.
"وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول" في دبر كل صلاة مكتوبة كما في البخاري ولمسلم: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وله أيضا: إذا قضى الصلاة "لا إله إلا الله" بالرفع خبر لا، أو على البدل من الضمير المستتر في الخبر المقدر، أو من اسم لا باعتبار محله قبل دخولها عليه "وحده" نصب حال، أي منفردا "لا شريك له" تأكيد لوحدانيته، فالمتصف بالوحدانية لا شريك له "له الملك" بضم الميم، أي: أصناف المخلوقات "وله الحمد".
زاد الطبراني من طريق آخر رواته ثقات عن المغيرة: يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير "وهو على كل شيء قدير" ولأحمد والنسائي وابن خزيمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك ثلاث مرات. "اللهم لا مانع لما أعطيت" أي: الذي أعطيته، أي: أردت إعطاءه، وإلا فبعد الإعطاء من كل أحد لا مانع، إذ الواقع لا يرتفع "ولا معطي لما منعت" أي: الذي منعته.
زاد عبد بن حميد في مسنده: ولا إرادة لما قضيت، لكن حذف قوله: ولا معطي لما منعت، ورواه الطبراني تاما من وجه آخر، وقد أجاز البغداديون ترك تنوين الاسم المطول فأجاز، وإلا طالع جبل أجروه في ذلك مجرى المضاف، كما أجرى مجراه في الإعراب.
قال الجمال بن هشام: وعلى ذلك يتخرج الحديث، قال البدر الدماميني: بل يتخرج على قول البصريين أيضا بجعل مانع اسم لا مفردا مبنيا معها، إما لتركبه معها تركيب خمسة عشر، وإما لتضمنه معنى من الاستغراقية على الخلاف المعروف في المسألة والخبر محذوف، أي: لا مانع لما أعطيت واللام للتقوية، فلك أن تقول: تتعلق، وأن تقول: لا تتعلق، وكذا القول في: ولا معطي لما منعت، وجوز الحذف ذكر مثل المحذوف، فحسنه دفع التكرار، فظهر بذلك أن التنوين على رأي البصريين ممتنع، ولعل السر في العدول، عن تنوينه إرادة التنصيص على الاستغراق، ومع التنوين يكون الاستغراق ظاهرا لا نصا. انتهى.
"ولا ينفع ذا الجد، منك الجد" بفتح الجيم فيهما في جميع الروايات ومعناه الغنى كما نقله البخاري عن الحسن أو الحظ، وقيل: أبو الأب: أي: لا ينفع أحدًا نسبه، وعن أبي عمرو الشيباني، أنه رواه بالكسر، وقال: معناه ذا الاجتهاد اجتهاده، وأنكره الطبري ووجهه القزاز، بأن الاجتهاد في العمل نافع، لأن الله قد دعا الخلق إليه، فكيف لا ينفع عنده، قال: فيحتمل أن المراد الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع أمر الآخرة، وقال غيره: لعل المراد لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، وقيل: المراد السعي التام في الحرص
الجد منك الجد". رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة.
وكان يقول بأعلى صوته: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله
أو الإسراع في الهرب.
قال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور، أنه بالفتح، وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد، أو العظمة أو السلطان، والمعنى: لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك، ومن قوله: منك بمعنى البدل، كقوله تعالى:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38] أي بدل الآخرة، جزم به الخطابي واختاره في المغني، وفي الصحاح: معنى من هنا عندك، أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، وإنما ينفعه العمل الصالح.
وقال بعضهم: ليست للبدل ولا بمعنى عند، بل المعنى من قضائك أو سطوتك أو عذابك، وقال ابن دقيق العيد: يجب تعلق قوله منك ينتفع مضمنا معنى يمنع وما قاربه، ولا يجوز تعلقه بالجد، كما يقال: حظي منك كبير، لأن ذلك نافع وفيه استحباب هذا الذكر عقب الصلوات لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله تعالى، والمنع والإعطاء وتمام القدرة، "رواه الشيخان" البخاري في الصلاة والاعتصام والرقاق والقدر والدعوات ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنسائي، كلهم "من حديث المغيرة بن شعبة" أن معاوية كتب إلى المغيرة اكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى المغيرة على كاتبه وراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان، فذكره، وفيه العمل بالمكاتبة وإجراؤها مجرى السماع في الرواية ولو لم تقترن بالإجازة والاعتماد على خبر الواحد.
وعند البخاري في القدر قال: وراد، ثم قدمت بعده على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك، ففيه المبادرة إلى امتثال السنن واتباعها، وزعم بعضهم أن معاوية كان سمع الحديث المذكور، وإنما أراد الاستثبات من المغيرة وكان حينئذ نائبه على الكوفة، واحتج بما في الموطأ من وجه آخر عن معاوية أنه قال على المنبر: أيها الناس إنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ثم قال: سمعت هؤلاء الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد، "وكان يقول بأعلى صوته" لفظ مسلم: كان ابن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم، فذكر الحديث، وفي آخره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن في دبر كل صلاة، وفي رواية له: كان ابن الزبير يخطب على المنبر ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم يقول في دبر الصلوات أو الصلاة، فذكره ولم يقع فيه لفظ بأعلى صوته، فكأن المصنف أخذه من قوله: يهلل بهن، لأن الإهلال رفع الصوت "لا إله إل الله وحده لا شريك له" عقلا ونقلا، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، و {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ
الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن الجميل، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". رواه مسلم من حديث عبد الله بن الزبير.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ
إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في آيات أخر، "له الملك وله الحمد" في الأولى والآخرة "وهو على كل شيء قدير لا حول" لا تحول عن المعصية "ولا قوة" على الطاعة "إلا بالل" هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هكذا أخبرني جبريل "لا إله إلا الله" أعاده تلذذا بذكره، "ولا نعبد إلا إياه" أي: نخصه بالعبادة "له النعمة" مفرد بمعنى الجمع، أي: النعم السوابغ التي لا تحصى بالعد، "وله الفضل وله الثناء" بمثلثة فنون والمد الوصف بالمدح "الحسن الجميل لا إله إلا الله مخلصين" حال مع أنه جمع، والله واحد على تقدير محذوف هو نعبده مخلصين، ومن حذف الفعل وما اتصل به من مفعول أو فاعل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] قالوا: تقديره واعتقدوا الإيمان، أي: جعلوه ملجأ لهم في عبادتهم، "له الدين" بأن لا نعبد معه غيره ولا نذكر غيره معه من أهل أو مال أو غيرهما، بل نعبده ونذكره دون كل مخلوق "ولو كره الكافرون" إفرادنا إياه بالعبادة وعادونا لذلك وأظهروا العداوة. "رواه مسلم" في الصلاة "من حديث عبد الله بن الزبير" بن العوام أمير المؤمنين.
"وعن سعد بن أبي وقاص" مالك الزهري أحد العشرة، "أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات" الخمس، وفي رواية قال: تعوذوا بكلمات كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهن، وفي أخرى، عن سعد كان يأمر بهؤلاء الخمس ويحدثهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي أخرى: كان سعد يأمر بخمس ويذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بهن والكل في البخاري، "ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن" عبودية وإرشادا لأمته "دبر" بضم الدال والموحدة وقد تسكن، أي: عقب "الصلاة": "اللهم إني أعوذ" أستجير وأعتصم، ولفظه لفظ الخبر ومعناه الدعاء، ففيه تحقيق الطلب كما قيل في غفر الله لك بلفظ الماضي.
"بك" بياء الإلصاق المعنوي، إذ لا يلتصق شيء بالله ولا صفاته، لكنه التصاق تخصيص، كأنه خص الله بالاستعاذة، قال الفخر: ولم يقل بالله أعوذ مع أن تقديم المعمول يفيد الحصر عند طائفة، لأن الإتيان بلفظ الاستعاذة امتثال للأمر، وقال غيره: لأن تقديم المعمول تفنن وانبساط والاستعاذة هرب إلى الله تعالى وتذلل "من الجبن" بضم فسكون ضد الشجاعة، "وأعوذ بك من البخل" بضم فسكون، وبفتحتين بمعنى واحد، وبالثاني: قرأ الكسائي وحمزة ضد الكرم، أي: بشيء من
بك من البخل، أو أعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر". رواه البخاري.
وعن زيد بن أرقم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: "اللهم ربنا ورب كل
الخير سواء كان مالا أو علما أو جاها أو نحو ذلك، والجواد إما بالنفس ويسمى شجاعة ويقابلها الجبن، وإما بالمال ويسمى سخاوة ويقابلها البخل، ولا تجتمع السخاوة والشجاعة إلا في نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا في نفس تناهت في النقص، فاستعاذ منهما كما لا يخفى، "وأعوذ بك من أرذل العمر" بذال معجمة الهرم الشديد المضعف للقوة والعقل والفهم الذي فيه تناقص الأحوال من الخوف وضعف الفكر حتى لا يعلم ما كان يعلم قبل، وهو أسوأ العمر.
قال الطيبي: المطلوب عند المحققين من العمر التفكر في آلاء الله ونعمائه تعالى من خلق الموجودات فيقوموا بواجب شكره بالقلب والجوارح، والخوف المنافي لهما كالشيء الرديء، فينبغي أن يستعاذ منه، وفي روايات للبخاري:"وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر". "وأعوذ بك من فتنة الدنيا" يعني: فتنة الدجال كما عند البخاري في بعض المواضع، وقائل ذلك كما عند الإسماعيلي عبد الملك بن عمير وهو راوي الحديث عن مصعب بن سعد عن أبيه، وفي إطلاق فتنة الدنيا على الدجال إشارة إلى أن فتنته أعظم الفتن الكائنة في الدنيا "وعذاب القبر" من إضافة المظروف إلى ظرفه وهو ما فيه من الأهوال والشدائد. في رواية و "أعذ بك من عذاب القبر". "رواه البخاري" في كتاب الدعوات في ثلاثة مواضع متقاربة وفي غيره وفي بعضها اختلاف بالتقديم والتأخير ولا يضر ذلك.
"وعن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر" بضمتين، قال الأزهري: دبر الأمر، يعني بضمتين ودبره، يعني: بضم فسكون آخره وادعى أبو عمرو الزاهد أنه لا يقال بالضم إلا للجارحة، ورد بمثل قولهم أعتق غلامه عن دبر، أي: عقب "كل صلاة" ظاهره يشمل الفرض والنفل، لكن حمل أكثر العلماء حديث:"تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين". على الفرض لقوله في رواية لمسلم مكتوبة حملا للمطلقات عليها، والظاهر أن يقال مثله في هذا الحديث، وهل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلا بينها وبين الذكر المذكور أو لا.
قال الحافظ: محل نظر، قال: ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند فراغ الصلاة، فإن تأخر وقل بحيث لا يعد معرضا، أو نسي، أو تشاغل بما ورد أيضا بعد الصلاة كآية الكرسي فلا يضر، "اللهم" يا "ربنا" ويا "رب كل شيء" في النداء بلفظ:"رب" بعد "اللهم"
شيء، أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن محمدًا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، الله أكبر الله أكبر، الله نور السموات والأرض، الله أكبر حسبي الله ونعم الوكيل، الله أكبر الله أكبر". رواه
الجامع لمعاني الأسماء مزيد الاستعطاف والتذلل، لأنه مقام دعاء "أنا شهيد" فعيل بمعنى فاعل "إنك الرب وحدك لا شريك لك" في شيء، "اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك" قدم العبودية، لأن له مزيد شرف بها، ولأنه كان عبدا قبل أن يكون رسولا كما ورد، "اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة" في الوجود والعبودية {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 92] ، وقال ابن رسلان: لأن أباهم آدم وحواء، وأنهم كلهم إخوة في الدين لا شرف لبعضهم على بعض إلا بالتقوى وزيادتها. انتهى.
فحمل العباد على بني آدم ثم على المؤمنين، مع أن قوله العباد عام، لا سيما وقد أكده بكلهم، "الله ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصا" أي: وفقني للإخلاص "لك وأهلي" أقاربه وأزواجه "في كل ساعة م الدنيا والآخرة" بإعطائنا فيها ثواب المخلصين "يا ذا الجلال" العظمة "والإكرام" الإحسان "اسمع واستجب" عطف تفسير، إذ المراد بطلب السماع استجابة الدعاء كما قالوا في سمع الله لمن حمده.
وقال ابن رسلان: اسمع دعائي والله تعالى يسمع كل مسموع لا يغرب عن إدراكه مسموع وإن خفي، لكن المراد سماع مخصوص بالإقبال على الداعي والإحسان إليه واستجب، أي: أجب دعائي "الله أكبر، الله أكبر" مرتين كما في أبي داود، فلا عبرة بما في نسخ ثلاثا وفيه التكبير عقب الصلاة.
وفي الصحيحين عن ابن عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير، ولمسلم: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير.
قال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة، لأنه كان صغيرا ممن لا يواظب على ذلك ولا يلزم به، فكان يعرف انقضاءها بالتكبير.
وقال غيره: يحتمل أنه حاضر في أواخر الصفوف، فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما يعرفه بالتكبير.
قال ابن دقيق العيد: ويؤخذ منه أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد "الله نور السموات والأرض" أي: منورهما أو هادي أهلهما أو منور قلوب المؤمنين أو ذو بهجة
أبو داود وأحمد.
ورأيت في كتاب "الهدي" لابن القيم: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، سواء للمنفرد والإمام والمأموم، فلم يكن ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن، وخص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا عن السنة بعدهما.
قال: وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، قال: وهذا هو الأليق، بحال المصطفى، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة، وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب
وجمال أو خالق النور، إذ النور عرض تعالى الله عنه "الله أكبر حسبي الله" كافي "ونعم الوكيل" هو "الله أكبر، الله أكبر" مرتين،"رواه أبو داود وأحمد" وكذا النسائي، كلهم من طريق أبي مسلم البجلي عن زيد والبزار والطبراني برجال ثقات.
عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى وفرغ من صلاته مسح بيمينه على رأسه، وفي لفظ على جبهته، وقال:"بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الهم والحزن" وفي لفظ: الغم والحزن، وللبزار وأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس: ما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة مكتوبة قط إلا قال حين أقبل علينا بوجهه: "اللهم إني أعوذ بك من كل عمل يخزيني، وأعوذ بك من كل صاح يرديني، وأعوذ بك من كل أمل يلهيني، وأعوذ بك من كل فقر ينسيني، وأعوذ بك من كل غنى يطغيني". ولأبي يعلى عن أبي سعيد: كان صلى الله عليه وسلم يقول بعدما يسلم: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"، وللطبراني عن ابن عباس: كنا نعرف انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} إلى آخرة السورة.
"ورأيت في كتاب الهدي لابن القيم، وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة سواء للمنفرد والإمام والمأموم فلم يكن ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وخص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر"، أي: الصبح "والعصر ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما" لأنه لا يتنفل بعدهما، فالمعنى بدلا من السنة التي تفعل بعد غيرهما.
"قال" ابن القيم: "وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر به فيها" يأتي رده، "قال: وهذا هو الأليق بحال المصطفى فإنه مقبل على ربه مناجيه" في الصلاة، "فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب
منه وهو مقبل عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه.
ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها، ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهي الذكر الوارد بعد المكتوبة، لا لكونه دبر المكتوبة، انتهى.
وقد كان في خاطري من دعواه "النفي مطلقا" شيء لما يأتي، ثم رأيت شيخ مشايخنا إمام الحفاظ أبا الفضل بن حجر تعقبه فقال:
وما ادعاه من النفي مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ والله إني لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني
منه" قربا معنويا "وهو مقبل عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه" وهذا ليس بشيء، فإنه صلى الله عليه وسلم لا ينصرف عن الله قط وعلى التنزل، وإن حال الصلاة أقوى فالآثار باقية فأحب أن لا يخليه من الدعاء.
"ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة" كآية الكرسي والتسبيح والتحميد والتكبير، واللهم أنت السلام إلى آخره، ولا إله إلا الله إلى آخره "يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية وهي الذكر الوارد" بيان للعبادة الثانية، أي: المأتي بها "بعد المكتوبة لا لكونه دبر المكتوبة" فابن القيم إنما أنكر الدعاء بعد الصلاة وهو غير الذكر، إذ لا يستطيع إنكاره مع أنه في الصحيحين والسنن وغيرهما، فلو أنكره نسب إلى الجهل مع كونه من سراة المحدثين، فلا يتخيل تناف بين كلاميه كما ظنه من قال قوله، لكن الأذكار
…
إلخ، أي: عند من يستعملها اعتمادا على ما رآه فلا ينافي قوله قبل، فلم يكن ذلك من هدي النبي
…
إلخ، فإنه عجب إذ اسم الإشارة عائد على قوله، وأما الأدعية وما هنا أذكار، فأي تناف يظن حتى يدفع بما يؤدي إلى تجهيل مثل ابن القيم، مع أنه أثبته بقوله: الأذكار الواردة، وبقوله وهي الذكر الوارد. "انتهى".
"وقد كان في خاطري من دعواه النفي" لا لكونه "مطلقا" كما فهم كثير، لأنه قيده بقوله بعد السلام مستقبل القبلة "شيء لما يأتي" من الأحاديث المصرحة بخلافه، لكن لم أقدم على رده حتى رأيت كلام الحفاظ، كما قال:"ثم رأيت شيخ مشياخنا إمام الحفاظ أبا الفضل بن حجر تعقبه، فقال: وما ادعاه من النفي مطلقا" للإمام والمأموم والمنفرد "مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ والله" أقسم تأكيدا وتقوية للخبر زيادة في تبشيره، "إني لأحبك" بلام التأكيد، "فلا تدع" تترك "دبر كل صلاة" أي: عقبها "أن تقول: اللهم أعني على
على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". أخرجه أبو داود والنسائي.
وحديث زيد بن أرقم: سمعته صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر الصلاة: "اللهم ربنا ورب كل شيء". أخرجه أبو داود والنسائي.
وحديث صهيب رفعه: كان صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة: "اللهم أصلح لي ديني". أخرجه النسائي وصححه ابن حبان. وغير ذلك.
فإن قيل: المراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلت: قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به بعد السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة: قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات، وقال: حسن، وأخرج
ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" إذ لولا إعانته تعالى ما قدر العبد على شيء.
"أخرجه أبو داود والنسائي" وصححه ابن حبان والحاكم، "و" ثبت "حديث زيد بن أرقم: سمعته صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر" أي: عقب الصلاة": "اللهم ربنا ورب كل شيء"، أخرجه أبو داود والنسائي، ومر آنفا بتمامه، "وحديث صهيب رفعه: كان صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة" بالتسليم منها "اللهم أصلح" بهمزة قطع وكسر اللام "لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معاذي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". هذا تمام الحديث الذي "أخرجه النسائي" وأبو يعلى "وصححه ابن حبان:" ونحوه في مسلم من حديث أبي هريرة لكن ليس فيه أنه كان يقوله إذا انصرف من الصلاة، فلذا لم يعزه له "و" ثبت "غير ذلك".
"فإن قيل: لمراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد" فلا يرد ذلك على ابن القيم، "قلت: قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة" بالتسبيح والتحميد والتكبير، "والمراد به بعد السلام إجماعا" لفظ الحافظ جزما، "فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه" ولم يثبت فتعين أنه بعده.
"وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة" صدي بن عجلان، "قيل: يا رسول الله! أي: الدعاء أسمع"؟ أي: أوفق لاستماع الدعاء وأولى بالإجابة، قال: "جوف الليل الأخير" أي: دعاء جوف الليل، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا، وروي جوف بالنصب على الظرف، أي: الدعاء جوف الليل ويجوز الجر على مذهب من يرى حذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه، وأما الأخير فعلى الأحوال الثلاثة يتبع جوف في إعرابه.
الطبراني من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة.
قال: وفهم كثير من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة، وإيراده عقب السلام، وأما إذا انفتل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. انتهى.
وكان عليه السلام حين تقام الصلاة في المسجد إذا رآهم قليلا جلس، وإذا
قال التوربشتي: "وقال الطيبي إنما يستقيم جوابا إذا أضمر في السؤال اسم مكان كما فعل في النهاية.
حيث قال: أي الساعات أسمع؟ أي: أوفق لاستماع الدعاء فيه وأولى بالاستجابة، وهو من باب نهاره صائم وليله قائم أو تضمر في الجواب الدعاء كما فعله التوربشتي، "ودبر الصلوات المكتوبات" فصرح بخلاف ما نفاه ابن القيم.
"وقال" الترمذي: حديث "حسن، وأخرج الطبراني من رواية جعفر بن محمد الصادق" نعت لجعفر لصدقه في مقاله وأبوه يلقب بالباقر لبقره العلم.
"قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة" فضلا "كفضل المكتوبة على النافلة" وهذا يدل على شهرة ذلك في التابعين وأتباعهم، ومثله إنما هو توقيف.
"قال" الحافظ: "وفهم كثير من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا" سواء بقي مستقبلا وقاله عقب السلام أم لا "وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة، وإيراده عقب السلام" لقوله أول كلامه: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، لكن قوله بعد، وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها ظاهر في نفس الدعاء بعدها مطلقا كما فهمه الكثير، إلا أن قوله آخرا إنه بعد فعل الأذكار الواردة يصلي على النبي ويدعو، يؤيد ما فهمه الحافظ، كما أفاده بقوله:"وأما إذا انفتل" أي: انصرف "بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ" بدليل آخر كلامه وأوله، ولا ينافيه قوله: وغاية
…
إلخ، لأن مراده حيث لم ينفتل أو يذكر الوارد. "انتهى" كلام الحافظ.
"وكان عليه السلام حين تقام الصلاة في المسجد" لعل المراد إذا دخل وقت الإقامة عادة وإلا فالنظر في إقامتها للإمام، فلا يقيم المؤذن إلا بإذنه، "إذا رآهم قليلا جلس" حتى
رآهم جماعة صلى. رواه أبو داود.
وقال أبو مسعود البدري: كان صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم". رواه مسلم.
وقال ابن عباس: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن. رواه البخاري
يتكاملوا، "وإذا رآهم جماعة" كثيرة "صلى" بهم، "رواه أبو داود" في سننه، "وقال أبو مسعود" عقبه "بالقاف" ابن عمرو الأنصاري "البدري" لأنه شهد غزوة بدر في قول جماعة، وإليه أشار البخاري ورجحه الحافظ، وقيل: لم يشهدها وإنما نسب إليها لأنه نزلها: "كان صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة" أي: جنس المناكب بأن يمسح منكب من قرب منه "ويقول" للجميع: "استووا" أي: اعتدلوا ندبا في صفوف الصلاة، بأن تقوموا على سمت واحد، لأن تسوية الصفوف من شأن الملائكة، ولأن تقديم البعض ربما أو غر صدور الباقين وشوش خشوعهم، كما أشار إليه بقوله:"ولا تختلفوا" أي: لا يتقدم بعضكم على بعض في الصفوف "فتختلف قلوبكم".
وفي رواية: صدوركم، قال الطيبي: بنصب تختلف من قبيل لا تدن من الأسد فيأكلك، وفيه أن القلب تابع للأعضاء، فإن اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء، لأنه رئيسها "ليليني" بكسر اللامين والأولى لام الأمر وبعد الثانية يا مفتوحة وشد النون، وبحذف الياء وخفة النون روايتان ذكرهما النووي وغيره، أفصحهما حذفها للجازم، والثانية لغة صحيحة قليلة فليست بغط كما زعم الطيبي، أي: ليقرب مني من الولي وهو القرب "منكم أولو الأحلام" جمع حلم بالكسر وهو التأني والتثبت في الأمور، "والنهى" جمع نهية، بالضم وهي العقل، سمي بذلك لأنه ينهى صاحبه عن القبيح قاله في المجموع وغيره.
وفي شرح مسلم: النهى العقول وأولو الأحلام العقلاء، وقيل: البالغون، فعلى الأول يكون اللفظان بمعنى ولاختلاف اللفظ عطف أحدهما على الآخر تأكيدا، وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء. انتهى.
وفي الرياض: أهل الحلم هم أهل الفضل، فمعناه الفاضلون "ثم الذين يلونهم" في ذلك الوصف، قال ذلك ثلاثا كما "رواه مسلم" وأحمد والنسائي.
"وقال ابن عباس" بت عند خالتي ميمونة، فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: ثم "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي" بالليل، "فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره" صلى الله عليه وسلم "يعدلني" بضم الياء وإسكان العين وكسر الدال، "كذلك من وراء ظهره" الشريف "إلى الشق
ومسلم.
وقال أنس: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا، فصلينا وراءه قعودا، فلما قضى الصلاة
الأيمن".
وفي رواية: فتناولني من خلف ظهره فجعلني على يمينه، وفي أخرى: فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه، وفي أخرى: فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه وأخذ بأذني اليمنى يفتلها.
زاد في رواية: محمد بن نصر، فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل، ولمسلم: فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذني بيده فجعلني من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، وفيه رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان حال إرادته من اليسار إلى اليمين تمسكا برواية للبخاري، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه، لأن حاله يقتضي ذلك لصغره، "رواه البخاري" في مواضع مطولا ومختصرا "ومسلم" جامعا طرقه وألفاظه مطولا ومختصرا في صلاة الليل رحمهما الله.
"وقال أنس: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس" ركبه في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة، كما أفاد ابن حبان، ولأبي داود وغيره عن جابر: ركب صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة، "فجحش" بضم الجيم وكسر الحاء المهملة وشين معجمة، أي: خدش، وقيل: الجحش فوق الخدش، وحسبك أنه لم يقدر أن يصلي قائما، قاله ابن عبد البر.
"شقه الأيمن" بأن قشر جلده، فالخدش قشر الجلد، وفي رواية: سلقه وهي مفسرة لمحله من الشق الأيمن، لأن الخدش لم يستوعبه، فليست تصحيفا كما زعم، "فدخلنا عليه نعوده" سمي من العائدين زيادة على أنس أبو بكر وجابر في مسلم وغيره وعمر في مصنف عبد الرزاق، "فحضرت الصلاة" المكتوبة كما في حديث جابر عند أبي داود وغيره.
قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس: فصلى بنا يومئذ، كأنها نهارية الظهر أو العصر، "فصلى بنا قاعدا" لأن قدمه انفكت كما رواه الإسماعيلي في حديث أنس وأبو داود وابن خزيمة عن جابر، بلفظ: فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه، ولا ينافي جحش شقه لاحتمال وقوع الأمرين "فصلينا وراءه قعودا" هذه رواية الزهري عن أنس وظاهرها يخالف حديث عائشة في الصحيحين وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، ففي هذه الرواية اختصار، كأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس.
وفي الصحيح عن حميد عن أنس: فصلى بهم جالسا وهم قيام، وفيها أيضا اختصار، لأنه
قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا". حتى قال: "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون". زاد بعض الرواة: "وإذا صلى قائما فصلوا قياما". رواه البخاري ومسلم.
قال الحميدي: ومعاني سائر الروايات متقاربة وزاد البخاري قوله: "إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" هو في مرضه القديم. وقد صلى في مرضه الذي مات فيه جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره صلى الله عليه وسلم. انتهى.
لم يذكر قوله لهم اجلسوا، والجمع بينهما أنهم ابتدءوا الصلاة قياما، فأومأ إليهم أن اجلسوا، فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة، وكذا جابر في مسلم وجمع بوجهين آخرين زيفها الحافظ، "فلما قضى الصلاة" أي: أتمها بالسلام.
وفي رواية: فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام" إماما "ليؤتم" أي: يقتدى "به" ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله، ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، "فإذا ركع فاركعوا". "حتى قال"، حذف منه:"وإذا رفع فارفعوا، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد".
"وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" وفي رواية: "فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا". "أجمعون" بالواو في جميع طرق حديث أنس تأكيد لضمير الفاعل في قوله: فصلوا، وأخطأ من ضعفه، فإن المعنى عليه، واختلف في حديث أبي هريرة، فرواه بعض رواته أجمعن بالياء نصب على الحال، أي: جلوسا مجتمعين، أو تأكيد لضمير مقدر منصوب، كأنه قيل: أعنيكم أجمعين أفاده الحافظ.
"زاد بعض الرواة: "وإذا صلى قائما فصلوا قياما". رواه البخاري ومسلم" بطرق عديدة وألفاظ متقاربة.
"قال الحميدي" بضم الحاء عبد الله بن الزبير المكسي: "ومعاني سائر الروايات متقاربة" وإن اختلفت ألفاظها، "وزاد البخاري" أي: عن شيخه الحميدي المذكور، ولفظه: قال أبو عبد الله، أي: البخاري، قال الحميدي: قوله: "إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا". هو في مرضه القديم" الحاصل له قبل مرض موته، "وقد صلى في مرضه الذي مات فيه" حال كونه "جالسا والناس خلفه قياما" بالنصب على الحال، وفي رواية: قيام بالرفع، أي وهم قيام "لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره" لفظ البخاري: من فعل النبي "صلى الله عليه وسلم" أي: فما كان قبله منسوخ الحكم.
قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته بعد هذا قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما، وإن كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الإمام، والنبي صلى الله عليه وسلم مقتد به، لكن الصواب أن صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام.
وفي رواية: قال الحميدي: هذا منسوخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، قاله المصنف. "انتهى" كلام البخاري.
"قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف" ومنهم مالك في رواية عنه ضعيفة: "لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد" لعذر "إلا قائما" فيجوز وتصح الصلاة، "واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته بعد هذا قاعدا وأبو بكر والناس خلفه قياما" فأقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، وأنكر أحمد وإسحاق وغيرهما دعوى النسخ، وقالوا: إن صلى الإمام جالسا صلى المأموم كذلك ولو قدر على القيام، قال أحمد: وفعله أربعة من الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم جابر وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن فهد، بفتح القاف وسكون الهاء الأنصاري، "وإن كان بعض العلماء" المانعين صلاة القائم خلف القاعد.
"زعم أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الإمام" وقد صلى قائما "والنبي صلى الله عليه وسلم مقتد به" فلا يرد نقضا على قولهم بالبطلان "لكن الصواب أنه صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام" والرواية المشهورة عن مالك بطلان صلاة المأموم قائما بالقاعد، وقاله محمد بن الحسن، وقال: ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لحديث جابر الجعفي عن الشعبي مرفوعا: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" وتعقب بأن جابر ضعيف مع إرساله، لكن قواه عياض، بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم والنسخ لا يثبت بعده صلى الله عليه وسلم لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث، قال: والحجة للخصوصية أنه لا يصح التقدم بين يديه لنيه الله تعالى عن ذلك، ولأن الأئمة شفعاء، ولا يكون أحد شافعا له، ولذا قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
ولا يشكل عليه صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف وأبي بكر، لأن محل المنع إذا أمه هو عليه السلام، أما إذا أم غيره وجاء وأبقاه، فلا منع بدليل قصتي أبي بكر وعبد الرحمن، إذ كل منهما أم غيره لغيبته، فجاء وأبقاه والحق له، وإلى نحو هذا أشار ابن عبد البر، ونقل ابن العربي عن بعض الأشياخ: أن الحال أحد وجوه التخصيص، وحاله صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العوض عنه تقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره ولا يرد عليه حديث:"صلوا كما رأيتموني أصلي" لأنه عام.
الباب الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة
عن أنس بن مالك قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بمرآة بيضاء فيها نكتة سوداء.
الباب الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة
بضم الميم على المشهور وقد تسكن، وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحدي عن الفراء فتحها، وحكى الزجاج كسرها كما في الفتح، وفي المصباح: هذه اللغات إذا أضيف إليها يوم، أما إن أريد بلفظ الجمعة الأسبوع فبسكون الميم لا غير.
قال الحافظ: اختلف في تسمية اليوم بذلك مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة، بفتح المهملة وضم الراء وبالموحدة، فقيل: لأن كمال الخلق جمع فيه، ذكره أبو حذيفة في المبتدأ وإسناده ضعيف، وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه، ورد ذلك من حديث سليمان أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديث وله شاهد عن أبي هريرة، ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف، وهذا أصح الأقوال، ويليه ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بإسناد صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة وكانوا يسمعون يوم الجمعة يوم العروبة، فصلى بهم وذكرهم، فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه، وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه، فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم، ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي، رواه الزبير بن بكار عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مقطوعا، وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمعهم، ذكره ثعلب في أماليه، وقيل: لاجتماع الناس للصلاة فيه، وبه جزم ابن حزم، فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية، وإنما كان يسمى العروبة وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: إن العروبة اسم قديم كان الجاهلية، وقالوا: في الجمعة يوم العروبة، فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى: أول أهون جبار دبار مؤنس عروبة شيار. انتهى.
"عن أنس بن مالك قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بمرآة" بزنة مفتاح آلة النظر، وجمعها مراء وزن جوار وغواش "بيضاء فيها نكتة سوداء" كذا في النسخ "بالنون" والذي في مسند الشافعي وكتة، قال أبو السعادات بن الأثير في شرحه: بفتح الواو وسكون الكاف، كالنقطة في الشيء، يقال في عينه وكتة، ويقال للبسر إذا بدأ فيه الأرطاب قد وكت توكيتا، ومعنى تشبيهه الجمعة بالمرآة البيضاء مثل في نقائه وصفائها وحسنها من بين الأيام، ويجوز أنه عني بالوكتة الساعة المخصوصة في الجمعة بالمدح تشبيها بوكتة البسر، لأن تلك النقطة التي تبتدئ بالأرطاب أشرف ما في البسرة، كما أن الساعة التي في الجمعة أشرف ساعاتها، ويجوز أن يريد بها صلاة الجمعة التي تميز بها هذا اليوم على باقي الأيام، وأن يريد بالوكتة أنها تزين المرآة
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه"؟. فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، والناس لكم فيها تبع -اليهود والنصارى- ولكم فيها خير، فيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا أستجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا جبريل! وما يوم المزيد"؟. فقال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثيب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور
البيضاء كما يزين الخال الوجه الحسن، فشبه الوكتة بالخال. انتهى.
"فقال النبي صلى الله عليه وسلم" لجبريل: "ما هذه"؟. "فقال: هذه الجمعة فضلت" بضم الفاء مبني للمفعول، أي: ميزت "بها أنت وأمتك" بكثرة الخصال الحميدة التي أعدت لكم فيها، "والناس لكن فيها تبع اليهود والنصارى" بدل من الناس، المعنى أن لهما يومين بعد يوم الجمعة كما في الحديث الآتي:"فالناس لنا تبع اليهود غدا، والنصارى بعد غد". "ولكم فيها خير" عظيم كما يفيده التنون، "وفيها ساعة" خفيفة كما في مسلم وللشيخين، وأشار صلى الله عليه وسلم بيده يقللها، "لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له" خرج بالخير غيره فلا يستجاب، ولأحمد من حديث سعد بن عبادة: ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم، وهو نحو بخير والقطعية من الإثم، فهو خاص على عام اهتماما به، وفي تلك الساعة اثنان وأربعون قولا، أرجحها قولان، أحدهما ما في مسلم وأبي داود عن أبي موسى مرفوعا:"هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة". والثاني أنها آخر ساعة في يوم الجمعة.
رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه هو وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين عن عبد الله بن سلام، ورواه أبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنها آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة". ورجح كلا جماعة، واختار صاحب الهدى أنها منحصرة في أحد الوقتين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر، لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت، وعلى أحدهما في وقت آخر، وكذا قال ابن عبد البر الذي ينبغي الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبقهما إلى نحو ذلك الإمام أحمد وهو أولى في طريق الجمع؛ وما عدا هذين القولين إما موافق لهما أو لأحدهما، أو ضعيف الإسناد، أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف كما بسطه في الفتح.
"وهو عندنا" معشر الملائكة "يوم المزيد" الذي يقع فيه مزيد الإكرام لنا ولكم، كما بينه بقوله:"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل وما يوم المزيد"؟. فقال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح"، أي: واسعا يقال: فاح الوادي فهو أفيح على غير قياس والقياس فائح "فيه كثيب" مفرد كثب بضم الكاف والمثلثة وهو التل، ونسخة الجمع تصحيف، فالذي في المسند بالإفراد "من مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته" تعظيما لليوم وزيادة في إكرام هؤلاء
عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزمرذ عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم ربهم فيه من الخير، وفيه استوى ربك على العرش". رواه الشافعي في مسنده.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة". فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج
الملائكة بما يعطيهم من الخير فيه "وحوله" أي: الكثيب، وعلى الجمع فالضمير للوادي، لكن علم أنها تصحيف "منابر من نور عليها مقاعد النبيين" جمع نبي "وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت" من الجواهر معرب، وأجوده الأحمر الرماني نافع للوسواس والخفقان، وضعف القلب شربا ولجمود الدم تعليقا قاله القاموس "والزمرذ" بزاي أوله وذال معجمة آخره.
قال المجد: بضمات وشد الراء الزبرجد معرب "عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب" كذا في النسخ والذي في المسند على ذلك الكثيب بإشارة المذكر وإفراد الكثيب، "فيقول الله: أنا ربكم قد صدقتكم" بخفة الدال وشدها "وعدي" لكم بالثواب، "فسلوني أعطكم" سؤالكم، "فيقولون: ربنا نسألك رضوانك" بكسر الراء وضمها لغة قيس وتميم بمعنى الرضا وهو خلاف السخط، "فيقول: قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد" على ما تتمنون، ولا يخطر ببالكم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، "فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم ربهم فيه من الخير" ابالغ الغاية، "وفيه استوى ربك على العرش" استواء يليق بجلاله، "رواه الشافعي في مسنده" وهو الأحاديث التي أسندها الشافعي مرفوعها وموقوفها، ووقعت في مسموع أبي العباس الأصم عن الربيع بن سليمان من كتاب الأم والمبسوط إلا أربعة أحاديث، رواها الربيع عن البويطي عن الشافعي التقطها محمد بن جعفر بن مطر النيسابوري من الأبواب لأبي العباس الأصم، وقيل: بل جردها الأصم بنفسه ولم يرتبها، ولذا وقع فيها تكرار في غير ما موضع قاله بعضهم.
"وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم" قال القرطبي: خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا كانتا للمفاضلة فأصلهما أخير وأشر بوزن أفعل، وهي هنا للمفاضلة غير أنها مضافة لنكرة، موصوفة بقوله: "طلعت عليه الشمس يوم
منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة".
وروى البيهقي في الدعوات من حديث أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". وكان يقول ليلة الجمعة: "ليل أغر ويوم الجمعة يوم أزهر".
الجمعة" أي: إنه أفضل من كل يوم طلعت عليه شمسه لما فيه من الأمور العظام والأشياء الجسام، كما أخبر عليه السلام ونص على بعضها بقوله: "فيه خلق آدم" الذي هو أصل البشر، ومن ولده الأنبياء والأولياء والصلحاء وهذه نعم عظيمة، "وفيه أدخل الجنة" وذلك أساس النعمة ورأس المنحة وهو المقام الموعود للمقبلين على الطاعة، "وفيه أخرج منها" لا للطرد، بل لقضاء أوطاره، ثم يعود إليها، قاله ابن العربي وقال الطيبي: فإن قيل دخوله الجنة فيه فضل اليوم، فما الفضل في خروجه؟ أجيب: بأنه لما كان سببا لتكثير النسل وبث عباد الله تعالى في الأرضين وإظهار عبادة الله التي خلق الخلق لأجلها، وما أقيمت السموات والأرض إلا لها وكان لا يتم ذلك إلا بخروجه منها كان أحرى بالفضل من استمراره فيها.
وعند مسلم في حديث آخر عن أبي هريرة مرفوعا: "وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة".
قال ابن كثير: فإن كان يوم خلقه يوم إخراجه، وقلنا الأيام الستة كهذه الأيام، فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا وفيه نظر، وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه، وقلنا: كل يوم بألف سنة، كما قال ابن عباس ومجاهد والضحاك واختاره ابن جرير فقد لبث هناك مدة طويلة.
زاد في رواية مالك وأبي داود وغيرهما وفيه تيب عليه وفيه مات، فقبول توبته مظهر لطف الله تعالى به وكمال رحمته عليه، وفيه إرشاد لمن زل واقترف الإثم بالتوبة، وموته فيه رجوعه إلى الأوطان وهو عاقبة كل حي وفيه راحة المؤمن من تعب الدنيا، "ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" وبه يعلم حال كل نفس وفيه الوصول إلى دار الثواب، فهو سبب لتعجيل جزاء الأنبياء والمؤمنين وإظهار كرامتهم وشرفهم فهو من الفضائل أيضا.
"وروى البيهقي في الدعوات" والبزار وابن عساكر وأبو نعيم، كلهم "من حديث أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال": "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".
قال ابن رجب: فيه ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا، "وكان يقول ليلة الجمعة" نصب على الظرفية:"ليل أغر" أي: صبيح "ويوم الجمعة يوم أزهر" أي: نير مشرق، ولفظ رواية البيهقي: وكان إذا
وليوم الجمعة من الخواص ما يبلغ العشرين، ذكرها ابن القيم في "الهدي النبوي" لا أطيل بذكرها سيما وليست من غرضي.
وهو أفضل أيام الأسبوع، كما أن يوم عرفة أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام.
وقال أبو أمامة بن النقاش: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام، قال: وغير هذا لا يسلم قائله من اعتراض يعجز عن دفعه. انتهى.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة،
كانت ليلة الجمعة، قال:"هذه ليلة غراء ويوم الجمعة يوم أزهر" فيحتمل أنه يقول: هذا كله عند دخول الليلة وهو الظاهر، فيوم في يوم الجمعة مرفوع، ويحتمل نصبه إن كان يقوله عند دخول يومها أما ليلة الجمعة فمنصوب لا غير كما تبين من رواية البيهقي، ثم الحديث ضعفه البيهقي ثم النووي وغيرهما، فمن قال: لم يصح في فضل رجب غيره لم يصب.
"وليوم الجمعة من الخواص ما يبلغ العشرين، ذكرها ابن القيم في الهدي النبوي لا أطيل بذكرها، سيما وليست من غرضي" لعل مراده ما سلم لابن القيم وإلا ففي الفتح ذكر ابن القيم في الهدي ليوم الجمعة اثنتين وثلاثين خصوصية، فسرد -أعني في الفتح- ستا وعشرين، ثم قال: وذكر فيها أشياء أخر فيها نظر وترك أشياء يطول تتبعها "وهو أفضل أيام الأسبوع، كما أن يوم عرفة أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر" أفضل ليالي السنة، "وليلة الجمعة" أفضل ليالي الأسبوع، "ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية" فضيلة تميز بها "على سائر الأيام" لجمعه فضل الأسبوع والعام.
"وقال أبو أمامة بن النقاش: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام" فخالف من فضل يوم رفة عليه، "قال: وغير هذا لا يسلم قائله من اعتراض يعجز عن دفعه. انتهى".
وفي شرح مسلم للمصنف: صرح أئمتنا الشافعية بأن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام السنة، وفي أفضل الأيام مطلقا وجهان، أصحهما يوم عرفة، ومقتضى حديث خير يوم طلعت فيه الشمس تفضيله مطلقا كما هو الوجه الثاني.
"وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال": "نحن الآخرون" زمانا في الدنيا، "السابقون" أهل الكتاب وخيرهم منزلة وكرامة "يوم القيامة" في الحشر والحساب والقضاء لنا قبل الخلائق وفي دخول الجنة، وفي حديث حذيفة عند مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم
بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد". رواه البخاري.
وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم: "نحن الآخرون ونحن
القيامة المقضي لهم قبل الخلائق". وقيل: المراد بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة، وهو وإن كان مسبوقا بسبب قبله، لكنه لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا، وقيل: المراد السبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب، فقالوا: سمعنا وعصينا والأولى أقوى، قاله الحافظ.
"بيد أنهم" أي: اليهود والنصارى "أوتوا الكتاب" أي: التوراة والإنجيل، فاللام للجنس "من قبلنا" وفي رواية مسلم: غير أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وهذا شامل لجميع الكتب السماوية بدليل كل أمة، ثم خص اليهود والنصارى بالذكر، لأنهم أقرب زمانا وكتابهم أقوى تبيانا واختلافهم أوضح بطلانا.
قال الحافظ: وسقط من الأصل، أي: البخاري قوله وأوتيناه من بعدهم وهي ثابتة في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري، فيه: أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، وكا لمسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد ورواه البخاري تاما بعد من وجه آخر عن أبي هريرة، فقول القرطبي المراد بالكتاب فيه نظر، لقوله: وأوتيناه من بعدهم، فلو أريد التوراة ما صح الإخبار لأنا إنما أوتينا القرآن.
"ثم هذا" أي: يوم الجمعة "يومهم الذي فرض الله عليهم" تعظيمه، وهذه رواية الحموي للبخاري، ورواه الأكثر الذي فرض عليهم بالبناء للمجهول، وأشير إليه بهذا، لأنه ذكر في أول الكلام عند مسلم، من طريق آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة قالا: قال صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا". الحديث. كما أفاده الحافظ، "فاختلفوا فيه". هل يلزم تعينه أم يسوغ إبداله بغيره، فاجتهدوا فأخطئوا، "فهدانا الله له" بجهتي البيان والتوفيق، "فالناس لنا تبع" فيه "اليهود" أي: تبعية اليهود "غدا" يوم السبت، "و" تبعية "النصارى بعد غد" يوم الأحد، كذا قدره ابن مالك ليسلم من الأخبار بظرف الزمان عن الجثة وسبقه إلى نحو ذلك عياض قال الحافظ وهو أوجه من قول القرطبي نصب غدا ظرفا متعلقا بمحذوف تقديره اليهود يعظمون غدا، وكذا قوله بعد غد ولا بد من هذا التقدير، لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة ولابن خزيمة عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فهو لنا ولليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد، والمعنى، أنه لنا بهداية الله ولهم باختيارهم وخطئهم في اجتهادهم، "رواه البخاري" بهذا اللفظ أول الجمعة عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
السابقون". أي الآخرون زمانا، والأولون منزلة.
والمراد باليوم: يوم الجمعة.
وقوله: "بيد" -بفتح الموحدة وإسكان المثناة من تحت وفتح الدال المهملة- أي: غير.
وإذا عرف هذا، فقوله تعالى:{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت،
"وفي رواية" سفيان "بن عيينة عن أبي الزناد" عبد الله بن ذكوان عن الأعرج عن أبي هريرة "عند مسلم" قال: قال صلى الله عليه وسلم "نحن الآخرون ونحن السابقون" بعطف إحدى الصفتين على الأخرى إيذانا بأن كل واحدة منهما مستقلة في بيان الفضيلة، وكرر نحن إيماء إلى أن لكل واحد من هذين الوصفين اختصاصا بهذه الأمة لا يوجد في غيرها، لا أن حصولهما جميعا مختص بهم فقط ويحصل لغيرهم واحد منهما، فهذه الأمة وإن كانت آخر الأمم صورة فهم أولهم حقيقة، قاله الولي العراقي.
"أي: الآخرون زمانا والأولون منزلة"، وفي نسخة: والسابقون، لكن الذي في الفتح الأولون وهي أنسب، لأن المراد تفسير السابقون في الحديث بالأولون في كل شيء يوم القيامة، "والمراد باليوم" في قوله: ثم هذا يومهم "يوم الجمعة" لذكره أولا في بعض طرق الحديث، "وقوله: بيد، بفتح الموحدة وإسكان المثناة من تحت وفتح الدال المهملة، أي: غير" وزنا ومعنى، وبه جزم الخليل والكسائي ورجحه ابن سيده، وعن الشافعي: معنى بيد من أجل، واستبعده عياض ولا بعد فيه، بل معناه أنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما في فوائد ابن المقري عن أبي صالح عن أبي هريرة، بلفظ: نحن الآخرون في الدنيا ونحن أول من يدخل الجنة، لأنهم أوتوا اكتاب من قبلنا، وفي موطأ سعيد بن عفير عن مالك عن أبي الزناد، بلفظ: ذلك بأنهم أوتوا الكتاب.
وقال الداودي: هي بمعنى على أو مع، قال القرطبي: إن كانت بمعنى غير فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى مع فنصب على الظرف، وقال الطيبي هي للاستثناء وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، والمعنى: نحن السابقون للفضل، غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ووجه التأكيد ما أدمج فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن تأخر الوجود، وبهذا التقرير يظهر قوله نحن الآخرون مع كونه أمرا واضحا، قاله الحافظ، "وإذا عرف هذا فقوله تعالى:{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} أي: تعظيمه والتخلي فيه للعبادة {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيه} ،
فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم لأجله.
فإن قيل: هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من السبت والأحد، وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد، وتم يوم الجمعة، فكان الفراغ في يوم السبت، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فعينوا السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا عيدا لنا، فهذان اليومان معقولان، فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيدا.
فالجواب: إن يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام، وحصول الكمال والتمام يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم أولى من هذا الوجه والله أعلم.
قال ابن بطال: وليس المراد في الحديث أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه
أي: على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة" فناظروه وقالوا: السبت أفضل "فاختاروا السبت" فأوحى الله إليه دعهم وما اختاروا لأنفسهم "فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم لأجله" فإنما أمروا أولا بالجمعة صريحا، "فإن قيل: هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من السبت والأحد، وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد" وختمه في يوم الجمعة، "فكان الفراغ في يوم السبت، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال" ونتفرغ للعبادة، "فعينوا السبت لهذا المعنى" فألزموا به وشدد عليهم أمره.
"وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا عيدا لنا" لأن بدء الخلق موجب للشكر والعبادة، "فهذان اليومان معقولان" فعظمهما اليهود والنصارى لحكمة عقلية بزعمهم، "فما الوجه" من جهة العقل "في جعل يوم الجمعة عيدا، فالجواب أن يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام، وحصول الكمال والتمام يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم،" ألفاظ متقاربة المعاني، "فجعل يوم الجمعة يوم عيد أولى" أحق "من هذا الوجه" العقلي "والله أعلم".
وقال البيضاوي: لأن الله تعالى خلق الإنسان للعبادة وكان خلقه يوم المعة، فالعبادة فيه أولى، ولأنه تعالى أوجد في سائر الأيام ما ينفع به الإنسان، وفي يوم الجمعة أوجد الإنسان نفسه والشكر على نعمة الوجود أهم وأحرى.
فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله تعالى عليه وهو مؤمن، وإنما يدل -والله أعلم- أنه فرض عليهم يوم من الجمعة، ووكل إلى اختيارهم ليقوموا فيه لشريعتهم فاختلفوا فيه ولم يهتدوا ليوم الجمعة.
كذا قال، ولكن قد روى ابن أبي حاتم عن إسماعيل السدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فأبوا، ولفظه:"إن الله فرض على اليهود يوم الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم". وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] وهم القائلون: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93] .
"قال ابن بطال: وليس المراد في الحديث أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه" أي: بالنص عليه "فتركوه لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله تعالى عليه وهو مؤمن، وإنما يدل" الحديث "والله أعلم أنه فرض عليهم يوم من الجمعة، ووكل" تعيينه "إلى اختيارهم ليقوموا فيه لشريعتهم، فاختلفوا فيه" أي الأيام هو "ولم يهتدوا ليوم الجمعة" الذي هو أفضل الأيام وذهلوا عن الفضائل الواقعة فيه كخلق آدم وغير ذلك، عن تلك الحكم العقلية الثلاثة، "كذا قال" ابن بطال.
قال الحافظ: ومال إليه عياض، ورشحه بأنه لو كان فرض عليهم بعينه لقيل: فخالفوا بدل فاختلفوا، وقال النووي: يمكن أنهم أمروا به صريحا، فاختلفوا هل يلزم بعينه ويسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك فاخطئوا انتهى.
ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] .
قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه، ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، "ولكن قد روى ابن أبي حاتم" بإسناد صحيح "عن إسماعيل السدي" بضم المهملة "التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، ولفظه: "إن الله فرض على اليهود يوم الجمعة، فأبوا وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت" لفظ السدي كما في الفتح، إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، "فجعل عليهم" وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم" فقد عهدت لهم صريحا "كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ} أي: باب القرية وهي بيت المقدس أو أريحاء {سُجَّدًا} منحنين، {وَقُولُوا} مسألتنا {حِطَّةٌ} أي: أن تحط عنا خطايانا، فقالوا: حبة في شعرة ودخلوا يزحفون على
ويحتمل قوله "فهدانا الله له" بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة. واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله بعد ذلك:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من حديث
أستاههم "وهم القائلون: {سَمِعْنَا} قولك {وَعَصَيْنَا} " أمرك، "ويحتمل قوله:"فهدانا الله له" بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد" الذي طابق الصواب، "ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين، قال: جمع" بالتشديد، أي: شهد الجمعة "أهل المدينة" كما يقال عيدوا إذا شهدوا العدين "قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة" أي: فرضها بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
"فقالت الأنصار" بين به سبب تجميعهم، فالفاء للسببية، "إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلي ونشكره" على نعمه، "فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ" ركعتين، فإن قيل المشروع حينئذ الظهر، والاكتفاء عنها بركعتين إنما يكون بتوقيف لا بالاجتهاد، فالجواب أن الصلاة فرضت أولا ركعتين كما في الصحيحين عن عائشة، وإنما زيد في صلاة الحضر بعد الهجرة إما بقليل أو بنحو عام كما مر، فالذي اجتهدوا فيه إنما هو الخطبة قبل الصلاة لا الركعتان اللتان هما الظهر، فلا ضير في تقديم حمد ووعظ قبل صلاتهما، أما على أنها فرضت أربعا كما في مسلم عن ابن عباس، فالسؤال وارد اللهم إلا أن يقال يحتمل أن أسعد علم بأنها فرضت بمكة، ولم يتمكن صلى الله عليه وسلم من إقامتها فيها على نحو ما يأتي قريبا للمصنف.
"وأنزل الله بعد ذلك" أي: بعد الهجرة النبوية للمدينة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية، ففيها أن الجمعة فرض، لأن الأذان من خواص الفرائض، ولأنه لا ينهى عن المباح نهي تحريم إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها والآية مدنية، فيدل على أنها إنما فرضت بالمدينة وعليه الأكثر، وقال الشيخ أبو حامد: فرضت بمكة، قال الحافظ: وهو غريب.
كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة.
فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها ثم، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدنية. انتهى.
وقال ابن إسحاق: لما قدم الصلاة والسلام المدينة أقام بقباء، في بني عمرو بن عوف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة وذلك قبل تأسس مسجده.
"وهذا وإن كان مرسلا" لأن ابن سيرين من التابعين "فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة" وغير واحد، كما في الفتح "من حديث كعب بن مالك" الأنصاري أحد الثلاثة الذين خلفوا، "قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة" بضم الزاي النجاري، شهد العقبات الثلاثة ومات في شوال سنة إحدى من الهجرة بالمدينة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم "فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة" أسعد ومن معه، "اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد ولا يمنع ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها ثم" أي: هناك، أي: بمكة لغلبة المشركين حينئذ.
زاد الحافظ: وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني "ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة" كما حكاه ابن إسحاق وغيره، فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. "انتهى" كلام فتح الباري بما زدته عنه من أول قوله، يحتمل قوله: فهدانا الله بلفظه وما قبله عن ابن بطال
…
إلخ منه أيضا ببعض تصرف.
"وقال" محمد "بن إسحاق" أمام المغازي "لما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة أقام بقباء" بضم القاف "في بني عمرو بن عوف" من الأنصار "يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم" الذي أس على التقوى، "ثم خرج يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيس مسجده" صلى الله عليه وسلم "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخاري من حديث أنس، وفي رواية: إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة -يعني الجمعة- وفي رواية سهل بن سعد عند البخاري ومسلم: كنا نصلي معه صلى الله عليه وسلم الجمعة ونقيل بعد الجمعة.
تميل الشمس" عن كبد السماء وفيه إشعار بمواظبته على ذلك.
وأما رواية حميد التي بعدها في البخاري عن أنس: كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة، فظاهره أنهم كانوا يصلونها باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، والتبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدءون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر، فكانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد، ولهذه النكتة أورد البخاري طريق حميد عن أنس عقب طريق عثمان بن عبد الرحمن عنه قال ابن المنير: فسر البخاري حديث أنس الثاني بحديثه الأول إشارة منه إلى أنه لا تعارض بينهما.
قال الحافظ: ولم يصرح البخاري برفع حديث أنس الثاني، وقد أخرجه الطبراني وابن حبان، فزادا فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم، "رواه البخاري من حديث أنس" وهو من أفراده عن مسلم كحديث: كنا نبكر بالجمعة.
"وفي رواية" للبخاري أيضا من أفراده: كان النبي صلى الله عليه وسلم "إذا اشتد البرد بكر بالصلاة" صلاها في أول وقتها على الأصل، "وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة" قال الراوي:"يعني الجمعة" قياسا على الظهر لا بالنص، لأن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة في الظهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقا من غير تفصيل، ونحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة، ولم يثبت الحكم بذلك، وإنما قال: باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة، لأن قوله يعني يحتمل أنه قول التابعي مما فهمه، وأن يكون من نقله فرجح عنده إلحاقها بالظهر، لأنه إما ظهر وزيادة أو بدل عن الظهر، قاله ابن المنير.
"وفي رواية سهل بن سعد عند البخاري" في مواضع مطولا ومختصرا، بلفظه:"ومسلم" بمعناه قال: "كنا نصلي معه صلى الله عليه وسلم الجمعة ونقيل" بفتح النون، أي: نستريح "بعد" صلاة "الجمعة" ولفظ مسلم عن سهل: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد صلاة الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فعلوا ذلك عرضا عوضا لما فاتهم من ذلك في وقته المعتاد لاشتغالهم بالتأهب للجمعة، ثم لحضورها، فلا حجة فيه لمن أخذ منه جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، بل أخذ منه
ثم اعلم أن الخطبة شرط في انعقاد الجمعة، لا تصح إلا بها، وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك ركعتين من صلاة الظهر.
ولم يكن يؤذن في زمانه صلى الله عليه وسلم على المنار، وبين يديه، وإنما كان يؤذن بلال وحده بين يديه صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر، كما صرح به أئمة الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم.
وعبارة البرهان المرغيناني من الحنفية في هدايته: وإذا صعد الإمام على المنبر جلس، وأذن المؤذن بين يدي المنبر، جرى التوارث، ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان.
وعبارة ابن الحاجب من المالكية: ويحرم السعي عند أذان جلوس الخطبة،
ابن المنير أن الجمعة بعده، لأن العادة في القائلة أن تكون قبله، فأخبر الصحابي أنهم كانوا يشتغلون بالتهيؤ للجمعة عوض القائلة، ويؤخرون القائلة حتى تكون بعد صلاة الجمعة، "ثم اعلم أن الخطبة" أي: جنسها، فشمل الخطبتين "شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها" ويأتي ما يدل على شرط تقديمها على الصلاة.
"وقال سعيد بن جبير" التابعي: "هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذ تركها وصلى الجمعة فقد ترك ركعتين من صلاة الظهر" أي: حكمه حكم من ترك ذلك، ومعلوم أنه لا تصح صلاته، وهذا يتأتى على القول بأنها بدل عن الظهر فهي ظهر مقصورة، وقيل: هي فرض يومها، وهو المرجح عند الشافعية، والقول: لأن مرجحان عند المالكية، وعليه: فإذا ترك الخطبة وصلى الجمعة لا تصح أيضا، لكن لفقد شرطا الذي هو الخطبتان لا لنقص ركعتين كما يقول الأول.
"ولم يكن يؤذن في زمانه صلى الله عليه وسلم على المنار" أي: المئذنة "وبين يديه، وإنما كان يؤذن بلال وحده بين يديه صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر كما صرح به أئمة الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم" من المجتهدين، فهو بالرفع عطف على أئمة، "وعبارة البرها" أبي الحسن علي بن بي بكر، "المرغيناني" بفتح الميم وسكون الراء وكسر الغين المعجمة وتحتية ساكنة ونونين بينهما ألف نسبة إلى مرغينان مدينة بفرغانة بلد وراء نسا من خراسان، "من الحنفية في هدايته: وإذا صعد الإمام على المنبر جلس وأذن المؤذن بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان" دون الذي يفعل الآن قبله على المنابر، "وعبارة ابن الحاجب من المالكية: ويحرم السعي" كذا في النسخ، والذي في ابن
وهو المعهود، فلما كان عثمان وكثروا أمر بالأذان قبله على الزوراء، ثم نقله هشام إلى المسجد، وجعل الآخر بين يديه. انتهى.
ونحوه قال عبد الحق في "تهذيب الطالب".
وأما قول ابن أبي زيد في رسالته: وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية. فقال شارحوه -الفاكهاني وغيره: يعني الثاني في الأحداث وهو الأول في الفعل، قال: وكان بعض شيوخنا يقول: الأول هو الثاني، والثاني هو الأول ومنشؤه ما تقدم.
الحاجب: ويحرم الاشتغال عن السعي، قال في التوضيح، الاشتغال بالبيع وغيره "عند أذان جلوس الخطبة" أي: جلوس الاستراحة قبلها "وهو المعهود" أي: في زمانه صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمانه يؤذن على المنار وبين يديه كما يفعل اليوم، قاله في التوضيح، ولما قرأ شيخنا هذا المحل سألني عن عبارة ابن الحاجب التي تحرفت على المصنف، وعن شرح لها فلم يكن عندي شيء، فقلت له: لعله أراد السعي في البيع والشراء والإجارة، وبين الصفوف ونحو ذلك من الأمور الممنوعة بالأذان الثاني في الفعل كما هو مذهب مالك فأمر بكتب ذلك، هذا وحذف المصنف من ابن الحاجب بعد قوله وهو المعهود قيل: مرة وقيل: مرتين وقيل: ثلاثا.
قال في التوضيح: القول بأنه مرة نقله ابن القاسم عن مالك في المجموعة، ونقل في النوادر عن ابن حبيب، أنه كان المؤذنون ثلاثة واحد بعد واحد، "فلما كان" أي: صار "عثمان" خليفة فحذف الخبر، "وكثروا" أي: الناس الذين يحضرون الجمعة بالمدينة "أمر بالأذان قبله" أي قبل الأذان الذي بين يدي الخطيب "على الزوراء" بفتح الزاي وسكون الواو فراء ممدودة، "ثم نقله هشام" بن عبد الملك وكان بعد عثمان بثمانين سنة "إلى المسجد" أي: أمر بفعله فيه "وجعل الآخر" الذي يفعل بعد جلوس الخطيب على المنبر" بين يديه" مرة واحدة بمعنى أنه أبقاه بالمكان الذي يفعل فيه فلم يغيره بخلاف ما كان يفعل بالزوراء فحوله إلى المسجد على المنا، "انتهى" كلام ابن الحاجب "ونحوه" نصب مفعول فعله، "قال:" وفاعله "عبد الحق في" كتاب "تهذيب الطالب".
"وأما قول ابن أبي زيد في رسالته: وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية" يعني عثمان ولو عبر به كان أولى، لأنه وإن كان أمويا لكنه ثالث الخلفاء الراشدين وبنو أمية صار علما بالغلبة على من بعد علي وابنه الحسن، "فقال شارحوه" أي: كتاب الرسالة "الفاكهاني وغيره، يعني الثاني في الأحداث وهو الأول في الفعل" الذي يفعل على المنابر.
"قال" الفاكهاني: "وكان بعض شيوخنا يقول الأول" في الفعل "هو الثاني" في
انتهى.
وعبارة الزركشي -كغيره من الشافعية: ويجلس الإمام على المستراح ليستريح من تعب الصعود، ثم يؤذن المؤذن بعد جلوسه، فإن التأذين كان حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبله أذان، فلما كان زمن عثمان وكثر الناس، أمرهم بالتأذين ثانيا، ثم يديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، انتهى.
وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء، رواه البخاري وقال: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة.
الأحداث "والثاني" في الفعل "هو الأول" في المشروعية، "ومنشؤه" أي: مبناه، وفي نسخ: ومفسره "ما تقدم" هو قوله، يعني الثاني
…
إلخ، "انتهى" كلام الفاكهاني.
"وعبارة الزركشي -كغيره من الشافعية، ويجلس الإمام على المستراح" محل الراحة وهو أعلى المنبر "ليستريح من تعب الصعود" هذا أحد القولين في تعليله والثاني للأذان، فعليه لا يسن في العيد، إذ لا أذان لها، "ثم يؤذن المؤذن بعد جلوسه" للاستراحة، "فإن التأذين كان حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبله" أي: قبل الأذان بين يديه "أذان، فلما كان زمن" خلافة "عثمان" أي: في أثنائها "وكثر الناس" المسلمون الذين يحضرون الجمعة بالمدينة "أمرهم بالتأذين ثانيا" أي: بإحداث أذان ثان على الزوراء وإن كان الأول فعلا، "ثم يديم الجلوس إلى فراغ المؤذن. ا. هـ".
"وعن السائب بن يزيد" بن سعيد الكندي، صحابي صغير، له أحاديث قليلة وحج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين، ووله عمر سوق المدينة، مات سنة إحدى وتسعين، وقيل: قبلها وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، "قال: كان النداء" الذي ذكره الله في القرآن "يوم الجمعة أوله" بالرفع بدل من اسم كان، وخبرها قوله: "إذا جلس الإمام على المنبر".
وعند ابن خزيمة عن السائب: كان ابتداء الأذان الذي ذكره في القرآن يوم الجمعة إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة "على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" أي: مدة خلافتهما، "فلما كان عثمان" أي: خليفة "وكثر الناس" زاد في رواية الإسماعيلي بالمدينة، وظاهره أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته، لكن في مستخرج أبي نعيم أن ذلك كان بعد مضي مدة من خلافته.
"زاد النداء الثالث" بعد دخول الوقت "على الزوراء، رواه البخاري" من أفراده عن مسلم
وفي رواية له أيضا: أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد، وهو يفسر بما فسر به قول ابن أبي زيد السابق.
وعند ابن خزيمة: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة. قال ابن خزيمة: قوله "أذانين" يريد: الأذان والإقامة تغليبا أو لاشتراكهما في الإعلام.
وللنسائي: كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل أقام.
وفي رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: فأمر عثمان بالأذان الأول، ونحوه للشافعي من هذا الوجه.
من طريق ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب عن السائب وله عنده طرق تدور على الزهري عن السائب.
"وقال" البخاري عقب روايته في رواية أبي ذر له وحده، "الزوراء موضع بالسوق بالمدينة" على المعتمد، وجزم ابن بطال، بأنه حجر كبير عند باب المسجد وفيه نظر لما في رواية ابن خزيمة وابن ماجه، بلفظ: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء وكان يؤذن له عليها، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام الصلاة، وفي رواية: فأذنه مؤذن بالزوراء قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، وفي مسلم عن أنس أن نبي الله وأصحابه كانوا بالزوراء والزوراء بالمدينة عند السوق، قاله الحافظ.
"وفي رواية له" للبخاري "أيضا" من طريق عقيل عن ابن شهاب عن السائب "إن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد" النبوي في أثناء خلافته "وهو يفسر بما فسر به قول ابن أبي زيد السابق" إنه الثاني في الأحداث أول في الفعل.
"وعند ابن خزيمة" عن الزهري عن السائب: "كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة، قال ابن خزيمة قوله: أذانين يريد الأذان والإقامة تغليبا" لأنه شرعا غير الإقامة، فغلب عليها فسماها باسمه "أو لاشتراكهما في الإعلام" فلا تغليب، لأن الأذان لغة الإعلام، وفي الإقامة إعلام بدخول وقت الصلاة كالأذان، فهو حقيقة لغوية في كل منهما، "وللنسائي" عن الزهري عن السائب:"كان بلال يؤذن إذا جلس لنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل" عنه "أقام" الصلاة.
"وفي رواية وكيع" بن الجراح، "عن ابن أبي ذئب" محمد بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن السائب عند ابن خزيمة:"فأمر عثمان بالأذان الأول" فعلا، "ونحوه للشافعي من
قال في فتح الباري: ولا منافاة بينهما، لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا. وأما قوله في رواية البخاري:"إن التأذين الثاني"، فمتوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإقامة.
وقال الشيخ خليل في "التوضيح" واختلف النقل: هل كان يؤذن بين يديه عليه الصلاة والسلام، أم على المنار؟
الذي نقله أصحابنا أنه كان على المنار، نقله ابن القاسم عن مالك في "المجموعة".
ونقل ابن عبد البر في كافية عن مالك أن الأذان بين يدي الإمام ليس من الأمر القديم.
وقال غيره: هو أصل الأذان في الجمعة، وكذا نقل صاحب "تهذيب الطالب" والمازري.
وفي "الاستذكار": إن هذا اشتبه على بعض أصحابنا، فأنكر أن يكون الأذان
هذا الوجه" أي: عن وكيع
…
إلخ.
"قال في فتح الباري: ولا منافاة بينهما لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا" قبله الأذان بين يديه ثم الإقامة فهو ثالث، "وباعتبار كونه مقدما على الأذان" بين يدي الخطيب "والإقامة يسمى أولا.
"وأما قوله في رواية البخاري" المذكورة ثانيا "إن التأذي الثاني" ليوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد "فمتوجه" أي: منصرف أو منساق "بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإقامة" فلا.
"وقال الشيخ خليل" بن إسحاق "في التوضيح اسم شرحه على ابن الحاجب.
"واختلف النقل هل كان بين يديه عليه الصلاة والسلام أو على المنار الذي نقله أصحابنا أنه كان على المنار، نقله ابن القاسم" عبد الرحمن "عن مالك في المجموعة" اسم كتاب.
"ونقل ابن عبد البر في كافيه" اسم كتاب له في الفقه، "عن مالك أن الأذان بين يدي الإمام ليس من الأمر القديم، وقال غيره" أي: غير مالك "هو أصل الأذان في الجمعة" الذي كان في العهد النبوي.
"وكذا نقل صاحب تهذيب الطالب" لعبد الحق "والمازري، وفي الاستذكار" اسم
يوم الجمعة بين يدي الإمام كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر، وأن ذلك حدث في زمن هشام.
قال: وهذا قول من قل علمه، ثم استشهد بحديث السائب بن يزيد المروي في البخاري السابق، ثم قال: وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: كان يؤذن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر وعمر. انتهى.
والحكمة في جعل الأذان في هذا المحل ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر فينصتون له إذا خطب. قاله المهلب.
قال في فتح الباري: وفيه نظر، فإن في سياق محمد بن إسحاق عند
الشرح الصغير على الموطأ لابن عبد البر "إن هذا اشتبه على بعض أصحابنا، فأنكر أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام، كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وأن ذلك حدث في زمن هشام" بن عبد الملك "قال" وفي الاستذكار، "وهذا قول من قل علمه" بالأحاديث، وكأنه يعني الداودي، وفي فتح الباري تواردت الشراح على أن معنى قول الأذان الثالث أن الأولين الأذان والإقامة، لكن نقل الداودي أن الأذان أولا كان في سفل المسجد، فلما كان عثمان جعل من يؤذن على الزوراء، فلما كان هشام، يعني ابن عبد الملك جعل من يؤذن بين يديه فصاروا ثلاثة، فسمي فعل عثمان ثالثا لذلك. ا. هـ.
وهذا الذي ذكره يغني ذكره عن تكلف رده، فليس له فيما قاله سلف، ثم هو خلاف الظاهر، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله، وهشام إنما كان بعد عثمان بثمانين سنة. ا. هـ.
"ثم استشهد" في الاستذكار "بحديث السائب بن يزيد" بياء قبل الزاي، "المروي في البخاري السابق" قريبا، "ثم قال" بعد ذكره.
"وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد، قال: كان يؤذن" بالبناء للمفعول والمؤذن بلال "بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذ جلس على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر وعمر. ا. هـ" كلام التوضيح "والحكمة في جعل الأذان في هذا المحل" أي: بين يدي الخطيب "ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر، فينصتون" بضم الياء من أنصت أكثر من فتحها من نصت كضرب، أي: فهم يستمعون "له إذا خطب، قاله المهلب" وفي نسخة: فينصتوا بحذف النون عطفا على يعرف.
الطبراني وغيره في هذا الحديث: أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد، فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات.
والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جمع البلاد إذ ذاك، لكونه كان حينئذ خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهي أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد.
وفي تفسير جويبر عن الضحاك عن معاذ: أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا عن المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين.
وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت، وقد تواردت الأخبار أن عثمان
"قال في فتح الباري: وفيه نظر: فإن في سياق محمد بن إسحاق عند الطبراني وغيره" عن الزهري "في هذا الحديث" عن السائب "أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد، فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات" نعم لما زيد الأذان الأول كان للإعلام، وكان الذي بين يدي الخطيب للإنصات، هذا حذفه من كلام الفتح، ثم قال فيه بعد قليل:"والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد، إذ ذاك لكونه كان حينئذ خليفة مطاع الأمر".
وفي رواية للبخاري عن السائب: فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك، ولابن خزيمة: فثبت ذلك حتى الساعة، "لكن ذكر الفاكهي" في تاريخ مكة "أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج" بن يوسف "وبالبصرة زياد" ابن أبيه، وهذا استدراك على قوله: في جميع البلاد.
زاد الحافظ: وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين للجمعة عندهم سوى مرة.
"وفي تفسير جويبر" تصغير جابر "عن الضحاك" بن زياد الراوي عن برد بن سنان عن مكحول كما في الفتح قبل قوله: "عن معاذ" بن جبل "أن عمر أمر مؤذنين" بالتثنية بدليل قوله: "أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا عن المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه" أي: تعدد الأذان "لكثرة المسلمين" فهذا يخالف حديث السائب، وبما أسقطه من قول الفتح عن برد بن سنان عن مكحول يتضح قوله، "وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ ولا يثبت".
قال الحافظ: أن معاذا كان خرج من المدينة إلى الشام في أول ما غزوا الشام، واستمر
هو الذي زاده فهو المعتمد.
وقد روى عبد الرزاق ما يقوي هذا الأثر عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا، إنما كان يدعو الناس ولا يؤذن غير أذان واحد. انتهى.
لكن عطاء لم يدرك عثمان بن عفان، فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره. ويمكن الجمع بأن الذي كان في زمن عمر بن الخطاب استمر على عهد عثمان، ثم رأى أن يجعله أذانا وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان يفعله عمر لكونه مجرد إعلام.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة.
فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، وأن يكون أراد به: إنه لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام، لأن كل ما لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون غير ذلك. ثم إن
إلى أن مات بالشام في طاعون عمواس.
"وقد تواردت الأخبار أن عثمان هو الذي زاد فهو المعتمد" دون هذا الأثر، "و" لكن "قد روى عبد الرزاق ما يقوي هذا الأثر عن ابن جريج" عبد الملك، "قال: قال سليمان بن موسى" الأموي، مولاهم الدمشقي، صدوق، فقيه في حديثه بعض لين: "أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء:"كلا" ردع عن ذلك القول: "إنما كان عثمان يدعو الناس" للصلاة "ولا يؤذن غير أذان واحد. ا. هـ. لكن عطاء لم يدرك عثمان بن عفان فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره" ولا سيما وممن أثبت السائب وهو صحابي.
وفي صحيح البخاري متصلا: "ويمكن الجمع بأن الذي كان في زمن عمر بن الخطاب" ليس أذانا، بل ذكرا مجردا يدعو به الناس إلى الصلاة، "استمر على عهد عثمان ثم رأى أن يجعله أذانا، وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه لكونه بألفاظ رأى أن يجعله أذانا، وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه لكون بألفاظ الأذان، وترك ما كان يفعل عمر لكونه مجرد إعلام"، وهذا وإن كان بعيدا يحتمل لأجل الجمع على تقدير الصحة "وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر" عبد الله، "قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، وأن يكون أراد به أنه لم يكن في زمنه علي الصلاة والسلام لأن ما لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام
فعل عثمان رضي الله عنه كان إجماعا سكوتيا لأنهم لم ينكروه عليه. انتهى.
وأول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه -كما قدمناه في حديث الهجرة- في بني سالم بن عوف، في بطن واد لهم، فخطبهم وهي أول خطبة خطبها بالمدينة وقال فيها.
"الحمد لله أحمده، وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأومن به ولا أكفره،
يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا" كزيادة الأذان المذكور، "ومنها ما يكون غير ذلك، ثم إن فعل عثمان رضي الله عنه كان إجماعا سكوتيا، لأنهم لم ينكروه عليه. ا. هـ" ما التقطه من فتح الباري بتقديم وتأخير، وفيه أيضا: وتبين ما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله، وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى.
واستدل البخاري بحديث السائب على الجلوس على المنبر قبل الخطبة خلافا لبعض الحنفية، واختلف من أثبته هل هو للأذان أو لراحة الخطيب، فعلى الأول لا يسن في العيد، إذ لا أذان هناك، واستدل به أيضا على التأذين قبل الخطبة وعلى ترك تأذين اثنين معا، وعلى أن خطبة الجمعة سابقة على الصلاة، ووجهه أن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة، وإذا كان يقع حين يجلس الإمام على المنبر دل على سبق الخطبة على الصلاة.
وزاد البخاري وأبو داود والنسائي في بعض طرق حديث السائب: ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معا، أو المراد أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم، أو المراد في الجمعة فلا يرد الصبح، وعرف بهذا الرد على قول ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقي المنبر وجلس أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام وخطب، فإنه دعوى تحتاج إلى دليل، ولم يرد ذلك من طريق متصلة يثبت مثلها. ا. هـ.
"وأول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه كما قدمناه في حديث الهجرة في بني سالم بن عوف" من الأنصار "في بطن واد لهم" في مسجد لهم، وقدم المصنف في الهجرة اسم الوادي واسم المسجد وأنه لذلك سمي مسجد الجمعة، "فخطبهم" وصلى بهم وكانوا مائة، وقيل: أربعون كما مر.
"وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، وقال فيها": "الحمد لله أحمده" جمع بين الجملتين الاسمية والفعلية إيماء لاستحقاقه الحمدين، وقدم الاسمية لأنها أكمل واتباعا للقرآن، "وأستعينه"
وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة والحكمة، على فترة في الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله بنفسه، فإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون وصدق على ما يبتغون من الآخرة، ومن يصل الذي بينه وبين الله من أمره في السر
أطب إعانته في جميع الأمور، "وأستغفره" أطلب منه الغفران وهو الستر على الذنب، بأن يحول بينه وبينه كما هو اللائق بمقامه، "وأستهديه" أطلب منه الهداية، أي: الدوام عليها، أو المراد طلب ذلك لأمته، "وأومن به ولا أكفره" أي لا أجحد شيئا مما يجب له، ولا أجوز ما يستحيل عليه، أتى به للرد على من يزعم أنه مؤمن به ويجعل له ولدا كاليهود، أو يشرك بعبادته أحدًا كأهل الأوثان. "وأعادي من يكفر به" لأنهما أعداؤه، والمحب يعادي عدو محبوبه، "وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" تأكيد لوحده، "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" لجميع العالمين، "أرسله بالهدى ودين الحق، والنور" القرآن "والموعظة" مواعظ القرآن، أو القول الرقيق "والحكمة" القرآن أو غيره "على فترة" انقطاع "من الرسل" إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول، ومدة ذلك ستمائة سنة كما في البخاري عن سلمان، وهو أصح ما قيل فيها "وقلة من العلم" بحيث لم يكن منه حين البعثة إلا بقايا من أهل الكتاب متفرقين في الأراضي، "وضلالة من الناس" بالكفر والمعاصي "وانقطاع من الزمان" أي: زمان الأنبياء "ودنو" قرب "من الساعة" القيامة "وقرب من الأجل" انتهاء مدة الدنيا. "من يطع الله ورسوله فقد رشد" بفتح الشين المعجمة وكسرها، "ومن يعص الله ورسوله فقد غوى" بفتح المعجمة والواو، أي انهمك في الشر "وفرط" قصر وضيع "وضل ضلالا بعيدا" صاحبه عن الحق. "أوصيكم بتقوى الله فإنه" أي: الشأن، وفي نسخة: فإنها أي: التقوى، وفي أخرى: فإن "خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه" بضم الحاء، أي: يحمله "على الآخرة" أي: على الأعمال النافعة له فيها، "وأن يأمره بتقوى الله" فإنها أقوى ما ينفعه وينجيه من العذاب "واحذورا" خافوا "ما حذركم الله بنفسه" وفي نسخة: من نفسه "فإن تقوى الله لمن عمل به" أي: بما حذر الله منه، بأن امتثل أوامره واجتنب نواهيه "على وجل"، "بفتحتين""ومخافة من ربه عون" خبران، "وصدق على ما يبتغون" يطلبون "من الآخرة" من ثوابها والنجاة من عقابها، "ومن يصل الذي بينه وبين الله من
والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد، هو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] .
فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاه ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وسخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضي الرب، وترفع الدرجة، فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم بكتابه ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.
فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من
أمره في السر والعلانية" الجهر، "لا ينوي به إلا وجه الله" بأن يخلص لله فيه سرا وجهرا "يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت" في القبر ويوم القيامة "حين يفتقر" يحتاج "المرء إلى ما قدم" في الدنيا من الأعمال الصالحة، "وما كان مما سوى ذلك" وهو السوء "يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا" غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها "ويحذركم الله نفسه" إن غضب عليكم أو يحذركم عقابه "والله رءوف بالعباد" ومنه تحذيرهم "هو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك، فإنه يقول:{مَا يُبَدَّلُ} ". ما يغير "{الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ} " أي: بذي ظلم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} "{لِلْعَبِيدِ} " فأعذبهم بغير جرم، "فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله" بالمد خلاف العاجل "في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما" نال غاية مطلوبه، "وإن تقوى الله توقي" بضم الفوقية وفتح الواو وكسر القاف المشددة، أي: تدفع "مقته" وغضبه "وتوقي عقوبته وسخطه" أي: تحفظ المتقي من مخالفة أمره، "وإن تقوى الله تبيض الوجه" كما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] ، "وترضي الرب وترفع الدرجة" عند الله تعالى وعند خلقه "فخذوا بحظكم" نصيبكم "ولا تفرطوا في جنب الله" أي: طاعته "فقد علمكم بكتابه ونهج لكم سبيله" أي: بين لكم طريقه الموصلة إليه، وهي الأحكام الشرعية. "ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين" أي: يظهره للخلق، "فأحسنوا" بالصدقة "كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه" الكفار "وجاهدوا في الله" لإقامة دينه "حق جهاده" باستفراغ الطاقة فيه، ونصب حق على المصدر
حيي عن بينة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
ذكر هذه الخطبة القرطبي في تفسيره، وغيره.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب متوكئا على قوس أو عصا، وفي سنن ابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة
"هو اجتباكم" اختاركم لدينه، "وسماكم المسلمين ليهلك" أي: يكفر "من هلك عن بينة" أي: بعد حجة ظاهرة قامت عليه، "ويحيا" يؤمن "من حيي عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد الموت، فإنه" أي: الشأن "من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي" يحكم "على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس" ما أراد "ولا يملكون منه، الله أكبر" أعظم وأجل من أن يملك منه، "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". "ذكر هذه الخطبة القرطبي في تفسيره وغيره" وفيها من البلاغة والفصاحة وعذوبة الألفاظ وسهولتها وقرب فهمها وقلة ألفاظها وكثرة معانيها والنطق بالقرآن قبل نزوله بلفة تارة نحو {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} فإنها في غزوة بدر، وهي بعد هذه الخطبة، وكذلك {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا} الآية، فإن السورة مدنية كلها وهذه الخطبة قبلها، وبمعناه أخرى، كقوله: والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، فإنها بمعانيها في سورة المائدة وهي من أواخر ما نزل، وكقوله:"فإن تقوى الله تبيض الوجه"
…
إلخ، فإنها في آل عمران بمعناها، وغير ذلك مما لو أراد ذو البصيرة أن يجمع جزءا حافلا في شرحها لأمكنه ولأبدع {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] .
"وقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب متوكئا على قوس" تارة، "أو عصا" تارة أخرى، فأو للتنويع لا للشك، وفي أبي داود: كان إذا قام يخطب، أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر.
"وفي سنن ابن ماجه" ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي عن سعد القرظ، "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس" مناسب، لأنه من آلات الحرب، ويقع في بعض نسخ سقيمة أو سيف، ولا وجود له في ابن ماجه ولا غيره، فهي خطأ، "وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا" يرسم بالألف، لأنها منقلبة عن واو.
خطب على عصا، وعند أبي داود بإسناد حسن: أنه صلى الله عليه وسلم قام متوكئا على قوس أو عصا.
قالوا: والحكمة في التوكؤ على نحو السيف، الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، ولهذا قبضه باليسرى كعادة من يريد الجهاد به.
ونازع فيه العلامة ابن القيم في "الهدي النبوي" إذ قال: إن الدين لم يقم إلا بالقرآن والوحي. كذا قال فالله أعلم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم. رواه ابن ماجه.
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، رواه مسلم من
"وعند أبي داود بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم قام متوكئا على قوس أو عصا" في خطبة الجمعة، "قالوا" تبرأ منه لرد ابن القيم له كما يأتي، "والحكمة في التوكؤ على نحو السيف" أي: السيف ونحوه من آلة الحرب، كالقوس، وتأويله بأن النحو هنا المماثل، أي: على ما يشبه السيف وليس بسيف، لأن النحو لغة المثل حتى لا يخالف ابن القيم، إنما يتم مع بعده لو كان قائل هذه الحكمة يقول بالنفي، وإنما قالوا بالإثبات بلا مستند، فأنكره ابن القيم عليهم "الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح" والسيف من أعظمه، "ولهذا قبضه باليسرى كعادة من يريد الجهاد به، ونازع فيه العلامة ابن القيم في الهدي النبوي"، يعني: كتابه المسمى بزاد المعاد في هدي خير العباد، "إذ قال" ما لفظه: لم يحفظ أنه صلى الله عليه وسلم" توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى قيام الدين به وهو جهل قبيح، لأن الوارد العصا والقوس "ولأن الدين لم يقم إلا بالقرآن والوحي" وأما السيف فلمحق المشركين والمدينة التي كانت خطبته فيها إنما افتتحت بالقرآن، هذا كلامه برمته، وتبرأ منه المصنف بقوله: "كذا قال فالله أعلم".
لكن قد أقره جماعة، فإنما يتم رده لو ثبت أنه توكأ على سيف، وتجويز أن ذلك هو الظاهر لحرصه على بعث السرايا، والغزو لا يجدي نفعا، إذ طلب النقل لا يدفعه تجويز العقل.
"وكان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر" للخطبة "سم" على الناس، وبه تمسك الشافعية في سنية ذلك، "رواه ابن ماجه" عن جابر وسنده ضعيف جدا كما قاله الحافظ، وقال الزيلعي: حديث واه وسأل عنه ابن أبي حاتم أباه فقال: هذا موضوع، ومن ثم لم يأخذ به مالك ولا أبو حنيفة.
"وكان صلى الله عليه وسلم يخطب" يوم الجمعة حال كونه "قائما، ثم يجلس" بعد فراغه من الأولى،
رواية جابر بن سمرة.
وفي رواة له: كانت له صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس.
وفي حديث ابن عمر عند أبي داود: كان عليه الصلاة والسلام يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب.
"ثم يقوم فيخطب" الخطبة الثانية حالة كونه "قائما، رواه مسلم من رواية جابر بن سمرة" وزاد: فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة، واستشكل صلاته معه صلى الله عليه وسلم ألفي جمعة تثنية ألف، إذ هو محال، لأن ذلك إنما يكون في نيف وأربعين سنة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل هذا المقدار من الجمع، وأجيب: بأنه لعله اعتبر أعداد الركعات، وعد الخطبتين ركعتين، فإذا صلى معه صلى الله عليه وسلم الجمعة عشر سنين وشيئا، ولا بعد في مداومته معه، ذلك القدر حصل له ألفا صلاة جمعة بعدد الركعات بعد كل ركعة، وجعل الخطبة ركعتين، وأهل الحجاز يسمون الركعة صلاة، والصلاة ركعة، وقد أخرجه النسائي وابن ماجه بدون قوله: والله
…
إلخ.
"وفي رواية له" لمسلم: قبل هذه عن جابر بن سمرة، قال:"كانت له" اختصار لقوله: للنبي "صلى الله عليه وسلم خطبتان" يوم الجمعة "يجلس بينهما يقرأ" فيهما "القرآن ويذكر الناس" بآلاء الله تعالى والجنة والنار والمعاد، ويأمرهم بالتقوى ويبين مواقع رضا الله وموارد غضبه، فهو استئناف لبيان ما كان يقوله في الخطبتين، كأنه قيل: ماذا كان يقوله فيهما، ويأتي أنه كان يقرأ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] الآية، وأنه قرأ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فليس متعلقا بقوله: يجلس بينهما وإلا نافى قوله بعده ثم يجلس، فلا يتكلم.
"وفي حديث ابن عمر عند أبي داود: كان عليه الصلاة والسلام يخطب خطبتين" وفصل ما أجمل، فقال:"كان يجلس إذا صعد المنبر" جلسة الاستراحة "حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب" الخطبة الأولى، "ثم يجلس" للفصل بين الخطبتين، "فلا يتكلم" جهرا، فلا ينافي رواية ابن حبان أنه كان يقرأ فيه، أي: الجلوس.
وقال الحافظ: مفاده أن الجلوس بينهما لا كلام فيه وليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرا.
وقال المصنف: يستحب أن يكون جلوسه بينهما قدر سورة الإخلاص تقريبا لاتباع السلف والخلف، وأن يقرأ فيه شيئا من كتاب الله للاتباع، رواه ابن حبان:"ثم يقوم فيخطب"
قال ابن المنذر: الذي عليه أهل العلم من علماء الأمصار: الخطبة قائما.
ونقل غيره عن أبي حنيفة: أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب.
وعن مالك رواية أنه واجب فإن تركه أساء وصحت الخطبة.
وعند الباقين: أن القيام شرط، يشترط للقادر كالصلاة، واستدلوا بحديث جابر بن سمرة، وبمواظبته صلى الله عليه وسلم على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعا في الخطبتين، ما احتيج إلى الفصل بالجلوس، ولأن الذي نقل عنه الجلوس، وهو معاوية، كان معذورا، فعند ابن أبي شيبة من طريق الشعبي: أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه.
الخطبة الثانية.
"قال ابن المنذر: الذي عليه أهل العلم" سقط من قلمه "جل" قبل "أهل" وهو في الفتح "من علماء الأمصار الخطبة قائما" وجوبا، "ونقل غيره عن أبي حنيفة أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب".
"وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء" أي: عصى لترك الواجب "وصحت الخطبة" لأن وجوبه ليس شرطا على هذه الرواية، "وعند الباقين" من الأئمة "أن القيام شرط" للصحة "يشترط للقادر كالصلاة".
"واستدلوا بحديث جابر بن سمرة" المتقدم قريبا "وبمواظبته صلى الله عليه وسلم على القيام" كما قال جابر بن سمرة: فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، "وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين" اتفاقا إنما الخلاف في سنيته ووجوبه، "فلو كان القعود مشروعا" أي: جائزا "في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس" لكن في جعل هذا دليلا نظر، إذ القيام مشروع باتفاق والقائلون بأنه سنة أجازوا الجلوس ولم يوجبوه فلهم أن يقولوا إنما يشرع الجلوس بينهما لمن خطب قائما، "ولأن الذي نقل عنه الجلوس وهو معاوية كان معذورا" وهو أول من جلس على المنبر، "فعند ابن أبي شيبة من طريق" عامر "الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه" ولحمه، وحيث كان الجلوس للعذر صحت الخطبة وجاز الاقتداء به.
زاد الحافظ: وأما من احتج به بأنه لو كان شرطا ما صلى من أنكر مع القاعد فجوابه أنه محمول على أن من صنع ذلك خشي الفتنة، أو أن الذي قعد قعد باجتهاد كما قالوا في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكره ابن مسعود ثم صلى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر. انتهى.
واستدل الشافعي لوجوب الجلوس بين الخطبتين بما تقدم، وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع قوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي".
وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد الثناء: "أما بعد" كما قال البخاري.
وليس مراده أن أحدًا أنكر على معاوية ثم صلى معه حتى يعترض بأنه لا حاجة لذلك بعد حمله على أن كان لعذر، إنما مراده ما قدمه قبل ذلك بقرب في جملة أدلة الجمهور على وجوب القيام بقوله، وبحديث كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا، فأنكر عليه وتلا {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} .
وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط إماما يؤم المسلمين، يخطب وهو جالس، يقول ذلك مرتين. انتهى. فكان كعبا صلى معه بعد إنكاره عليه مع كونه لا عذر له لأحد الأمرين المذكورين، ولا يشكل تنظيره بأن القيام هنا شرط عند المنكر بخلاف قصر السفر فرخصة يجوز العدول عنها إلى الإتمام، كما اعترضه بعض هذا، لأن مراده مطلق التنظير لخشية الفتنة أو الاجتهاد وإن اختلف حكم المسألتين.
قال الحافظ: وروى ابن أبي شيبة عن طاوس قال: أول من خطب قاعدا معاوية حين كثر شحم بطنه، وهذا معضل يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن، قال: أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، وكان إذا أعيا جلس ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالسا معاوية.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قياما حتى شق على عثمان القيام، فكان يخطب قائما ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالسا والأخرى قائما، ولا حجة في ذلك لمن أجاز الخطبة قاعدا، لأنه تبين أن ذلك لضرورة. انتهى.
"واستدل الشافعي لوجوب الجلوس بين الخطبتين" الذي قال الأكثر والأئمة الثلاثة أنه سنة "بما تقدم" من قوله في حديث ابن عمر: ثم يجلس فلا يتكلم، "وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع قوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي" ".
وتعقبه ابن دقيق العيد، بأن ذلك يتوقف على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخلة تحت كيفية الصلاة، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل.
"وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد الثناء" على الله تعالى: "أما بعد" كما قاله البخاري" بمعناه حيث ترجم باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد. رواه عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الزين بن المنير: يحتمل أن "من" موصولة بمعنى الذي، والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنها شرطية
وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول:"صبحكم مساكم". ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن
والجواب محذوف، أي: فقد أصاب السنة، وعلى التقديرين فينبغي للخطباء أن يستعملوها تأسيا واتباعا. انتهى ملخصا.
وقد ذكر البخاري في الترجمة ستة أحاديث، أولها حديث أسماء في كسوف الشمس، وفيه: فحمد الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد" ثانيها: حديث عمران بن تغلب "بفوقية فمعجمة" في قسم النبي صلى الله عليه وسلم مالا، فأعطى رجالا وترك رجالا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد". ثالثها: حديث عائشة في صلاة الليل، وفيه: فتشهد ثم قال: "أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" رابعها: حديث أبي حميد الساعدي أنه قام عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:"أما بعد"، خامسها: حديث المسور بن مخرمة: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد يقول: "أما بعد"، سادسها: حديث ابن عباس: صعد صلى الله عليه وسلم المنبر وكان آخر مجلس جلسه
…
الحديث، وفيه: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد"
…
الحديث في الوصية بالأنصار.
قال الحافظ: وقد تتبع طرق الأحاديث التي فيها أما بعد الحافظ عبد القادر الرهاوي، فرواها عن اثنين وثلاثين صحابيا، منها ما أخرجه عن المسور بن مخرمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب خطبته، قال:"أما بعد". ورجاله ثقات، وظاهره المواظبة على ذلك، ويستفاد من الأحاديث أنها لا تختص بالخطب، بل تقال في صدر الرسائل والمصنفات.
"وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب" أي: وعظ "احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه" ليتوجه الناس إلى استماع كلامه بجوامع هممهم، ويعرفون أن ذلك في الإبلاغ مهم جدا، بحيث أنه صلى الله عليه وسلم يبلغه بغاية الجد ونهاية الاجتهاد، ويبذل وسعه، لا سيما إذا كانت الخطبة مشتملة على ذكر الساعة وقربها. وفيه أن على الخطيب أن يعلي صوته ليسمع جميع من في مجلس وعظه، وأن تكون حركاته وأفعاله مطابقة لأقواله، فإن مطابقة قوله لفعله وموافقة علنه لسره هو الداعي إلى قبول أمره ونهيه والمفضي إلى استماع حلوه ومره، فإن سامع النصح إذا رأى الناصح فاعلا ما أمر به، تاركا ما نهى عنه بادر إلى قبول نصيحته، وأما اشتداد غضبه صلى الله عليه وسلم، فيحتمل كما قال عياض أن يكون لأمر خولف فيه شرعه، ويحتمل أن يريد أن صفته الغضبان برفعه صوته مبالغة في تبليغ ما يخطب.
ويؤيد هذا قوله "حتى كأنه منذر جيش" أي: كمن ينذر قوما من جيش عظيم قصد الإغارة عليهم، فكما أن المنذر يرفع صوته وتحمر عيناه ويشتد غضبه على تغافلهم، كذلك حاله صلى الله عليه وسلم عند الإنذار، يقول:"صبحكم" العدو، أي: أتاكم وقت الصباح "مساكم" العدو، أي:
بين أصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
أتاكم وقت المساء، والمراد الإنذار بإغارة العدو في الصباح أو المساء، "ويقول" صلى الله عليه وسلم:"بعثت أنا والساعة" بالرفع والنصب روايتان، فالنصب مفعول معه والرفع عطف على تاء بعثت وحسن للتأكيد بالضمير المنفصل "كهاتين". ويقرن بضم الراء على المشهور الفصيح، وحكي كسرها، قاله النووي بين أصبعيه السبابة والوسطى بيانا لقوله:"كهاتين" ورجح النصب، بأن التشبيه واقع في اتصال الساعة بمبعثه على أن شريعته متصلة بالساعة، وأنه لا نبي بعده، كما أنه لا أصبع بين هاتين الأصبعين وأنهما متصلتان، ورجح الرفع بأن التشبيه واقع في التفاوت الذي بين رءوس هاتين الأصبعين.
والمعنى: أن قيام الساعة قرب لزمان بعثه، كقرب التفاوت بين رءوس هاتين الأصبعين، وأن الزمان المتخلل بين بعثه وقيام الساعة قليل، كما أن التفاوت بين رءوس هاتين الأصبعين قليل، ويؤيد هذا ما رواه الترمذي عن أنس رفعه:"بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بعض رواته بالسبابة والوسطى فما فضل إحداهما على الأخرى، فهذا صريح في أن التشبيه واقع في التفاوت بين الأصبعين لا في الاتصال وأخرج أيضا عن المستورد بن شداد مرفوعا:"بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه لأصبعيه السبابة والوسطى". ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله" القرآن، سماه حديثا لنزوله منجما لا لكونه ضد القديم "وخير الهدي هدي محمد" بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون الدال فيهما. قال النووي: ضبطناه بالوجهين، وكذا ذكره جماعة بالوجهين، قال عياض: رويناه في مسلم بالضم، وفي غيره بالفتح، وبه ذكره الهروي وفسره بالطريق، أي: أحسن الطريق طريق محمد "صلى الله عليه وسلم" يقال: فلان حسن الهدي، أي: الطريقة والمذهب، وأما على رواية الضم، فمعناه الدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] .
وقال {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، وإذا إضيف إلى الله فهو بمعنى التأييد والتوفيق والعصمة، كقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] .
قال المصنف: وعلى التحقيق يرجع الكل إلى معنى واحد إذ الكل بخلق الله وقدرته وإرادته، وإنما يضاف إلى المخلوق لأنه كاسبه وواسطة في الإيصال، قال: ويرجح رواية الفتح والسكون مناسبته لقوله: "وشر الأمور محدثاتها" بفتح الدال، فإن المراد بها التي ليس لها في الشرع أصل يشهد لها بالصحة والجواز، قال: ويرجح المشهورة، أي: ضم الهاء وفتح الدال، بأنه
النار"، ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ". رواه مسلم والنسائي من حديث جابر.
وفي رواية لمسلم: كانت خطبته صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: "نحمد الله ونثني عليه"، ثم يقول على أثر ذلك، وقد علا صوته، وذكر نحوه.
لما ذكر بعد كتاب علم أن المراد الإرشاد الحاصل منه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ذلك الكتاب الذي هو خير الحديث وإيضاحه وتبيينه وهي الهداية المزيلة للضلال من العالمين، "وكل بدعة ضلالة" هي لغة: ما عمل من غير مثال سابق، واستعمل في الشرع بهذا المعنى أيضا، وتنقسم إلى واجبة كعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعة، ومندوبة كتصنيف الكتب وبناء المدارس والربط، ومباحة كالتبسط في الأطعمة والأشربة، ومحرمة كالقراءة بالألحان المخرجة للقرآن، ومكروهة كأكثر الأشياء المنصوص على كراهتها.
قال النووي: فالحديث من العام المخصوص ولا ينافيه تأكيده بكل، لأنها لا تمنع التخصيص، كقوله تعالى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأقاف: 25]"وكل ضلالة في النار" ثم يقول" صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى" أحق "بكل مؤمن من نفسه" في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمهم، فعليهم أن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه، أو هو أولى بهم، أي: أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم، "من" مات و "ترك مالا فلأهله" وارثه، "ومن ترك دينا" لا وفاء له، "أو" ترك "ضياعا" بفتح الضاد عيالا عالة وأطفالا لا قدرة لهم على القيام بمصالحهم، فهم محتاجون إلى كافل يقوم بهم، "فإليّ وعليّ" يحتمل أنهما راجعان إلى كل واحد من المذكورين قبلهما، أي: من ترك ضياعا فلهم المجيء إليّ ويكون القيام بمصالحهم عليّ، ومن ترك دينا فلصاحبه التوجه إليّ ويكون أداؤه عليّ، وعبر "بعليّ" الدالة على الوجوب إيماء إلى عظم أمر الضياع وشدة القيام بمصالحهم وبيان التفاوت بينه وبين أداء الدين، فإن فيه بقاء النفس وهو أقوى المهمات، وفيه إشعار بأن ذلك تبرع بالنسبة إلى الدين فلصاحبه الإبراء وتحصل المثوبة بذلك بخلاف أمر الضياع، فالقيام بمصالحهم واجب قطعا. "رواه مسلم والنسائي من حديث" عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن "جابر" بن عبد الله.
"وفي رواية لمسلم" من طريق سليمان بن بلال عن جعفر، عن أبيه، عن جابر قال:"كانت خطبته صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة": "نحمد الله ونثني عليه" بما هو أهله، "ثم يقول على أثر ذلك" بكسر الهمزة وسكون المثلثة، "وقد علا" ارتفع "صوته وذكر نحوه" لفظ مسلم، ثم ساق الحديث بمثله وفرق بين اللفظين عند المحدثين فإذا قالوا بمثله يريدون بلفظه وإذا قالوا نحوه أرادوا أنه بغير لفظه كما بينه في الفتح.
وفي أخرى: كان يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول:"من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله"، ثم ذكر نحو ما تقدم.
وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذت: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. رواه مسلم.
وعن الحكم بن حزن الكلفي قال: قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فلبثنا عنده أياما، شهدنا فيها الجمعة، فقام صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس، أو قال على عصا، فحمد الله وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم
"وفي" رواية "أخرى" لمسلم أيضا من طريق سفيان عن جعفر عن أبيه عن جابر قال: "كان" صلى الله عليه وسلم " يخطب الناس" بضم الطاء "يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: "من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وخير الحديث كتاب الله". ثم ذكر نحو ما تقدم" لفظ مسلم ثم ساق الحديث بمثل حديث الثقفي.
"وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان" الأنصارية صحابية مشهورة وهي أخت عمرة بنت عبد الرحمن لأمها، روت عنها عمرة، "قالت" لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو ثلاثة و"ما أخذت" أي: حفظت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أي: السورة بتمامها "إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل" يوم "جمعة على المنبر إذا خطب الناس" قال العلماء: سبب اختيار "ق" لأنها مشتملة على ذكر الموت والبعث وأحوالهما وفيها المواعظ البليغة والزواجر الأكيدة، قاله النووي: وقال المصنف وقال المظهري: أراد به أول السورة لا جميعها لأن جميعها لم يقرأ في الخطبة، كذا قال: فليتأمل، "رواه مسلم" من طرق. "وعن الحكم بن حزن" بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي ونون "الكلفي" بضم الكاف وفتح اللام، ثم فاء من بني كلفة بن عوف بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، صحابي، قليل الحديث، قال مسلم: لم يرو عنه إلا شعيب بن زريق الطائفي، قال: كنت جالسا عند الحكم وله صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشا يحدثنا، "قال: قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة" شك الراوي، قال: فأذن لنا، فدخلنا، فقلنا: أتيناك يا رسول الله لتدعو لنا بخير، فدعا لنا بخير، وأمر بنا فأنزلنا وأمر لنا بشيء من تمر، والساق إذ ذاك دون قال: "فلبثنا عنده أياما شهدنا فيها الجمعة، فقام صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس، أو قال على عصا" شك الراوي "فحمد الله وأثنى عليه كلمات" نصب بنزع الخافض، أي: بكلمات أو ضمن أثنى معنى ذكر كلمات "خفيفات"
قال: "يا أيها الناس، إنكم لن تفعلوا أو لن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا". رواه أحمد وأبو داود.
وعن يعلى بن أمية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا} [الزخرف: 77] . رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي الدرداء: قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: "توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا، وصلوا الذي بينكم
أي: قليلات اللفظ "طيبات مباركات" لكثرة معانيها وبلاغة ألفاظها، "ثم قال: يا "أيها الناس إنكم لن تفعلوا أو لن تطيقوا" شك الراوي "كل ما أمرتكم به" لعجزكم عنه، "ولكن سددوا" بمهملات، أي: لازموا الصواب من القول والفعل "وأبشروا" من الله بالقبول والثواب على ذلك، "رواه أحمد وأبو داود" وأبو يعلى وغيرهم، "وعن يعلى بن أمية" التميمي حليف قريش، "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} اسم خازن النار، وقرئ:"يا مال" بكسر اللام على الترخيم وفيه إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بتمامه، ولله در من قال:
ما كان أغنى أهل نار جهنم
…
عن قولهم يا مال وسط جحيم
عجزوا عن استكمال لفظة مالك
…
فلأجل ذا نادوه بالترخيم
{لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ليمتنا، قال المصنف في شرح مسلم: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقط، وأنه قرأ السورة كلها. انتهى.
والثاني بعيد جدا، فإن قيل كيف نادوا مع قوله:{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75] أي: ساكتون سكوت يأس، أجيب بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم، "رواه البخاري" في موضعين من بدء الخلق، وفي التفسير "ومسلم" في الجمعة، "وعن أبي الدرداء، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، قال:" زاد في رواية جابر: "يا أيها الناس". "توبوا إلى الله" وإن كنتم من الكاملين قياما بحق العبودية وإعظاما للربوبية لا رغبة في الثواب ولا رهبة من العذاب، وفي رواية جابر:"توبوا إلى ربكم". "قبل أن تموتوا" والموت قد يأتي على غفلة، فالواجب تعجيل التوبة، "وبادروا" أي: سابقوا وعجلوا من المبادرة وهي الإسراع "بالأعمال الصالحة" النافعة عند الله "قبل أن تشتغلوا عنها" بنحو مرض وهموم، وللبيهقي عن أبي أمامة، رفعه: بادروا بالأعمال هرما ناغصا وموتا خالسا ومرضا حابسا وتسويفا مؤيسا "وصلوا" بكسر الصاد وضم اللام من الوصل "الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا".
وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، يا أيها الناس إن أكيسكم أكثركم ذكرا للموت، وأكرمكم أحسنكم استعدادا له، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور". رواه
…
ورواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله مختصرا بنحوه.
وفي مراسيل أبي داود عن الزهري قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله
وفي رواية جابر: يكثر ذكره لكم، فسعادتهم بكثرة ذكره لهم "وأكثروا الصدقة" زاد جابر في السر والعلانية "ترزقوا": يكثر رزقكم ويزيد ببركتها، وفي رواية جابر: تؤجروا وتحمدوا وترزقوا وتنصروا وتجبروا، "وأمروا بالمعروف تخصبوا" بضم التاء وكسر الصاد من أخصب، أي: يكثر خير أرضكم "وانهوا عن المنكر تنصروا" على عدوكم، "أيها الناس أن أكيسكم" أي: أعقلكم وأفطنكم "أكثركم ذكرا للموت" لوقوعه لا محالة، "وأكرمكم" أفضلكم "أحسنكم استعدادا له" الأعمال الصالحة وترك المخالفة "ألا" بالفتح والتخفيف "وإن من علامات العقل التجافي" بجيم وفاء التباعد "عن دار الغرور" الدنيا "والإنابة" الرجوع "إلى دار الخلود" الآخرة "والتزود لسكنى القبور" بالأعمال الحسنة "والتأهب" الاستعداد "ليوم النشور" البعث. "رواه" كذا في نسخ وبعده بياض.
"ورواه ابن ماجه" والبيهقي "من حديث جابر بن عبد الله مختصرا" بدون قوله: وأمروا بالمعروف إلى هنا "بنحوه" وزاد عقب قوله: "وتنصروا وتجبروا". "واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فريضة مكتوبة من وجد إليها سبيلا، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي جحودا بها واستخفافا بحقها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ألا ولا وضوء له ألا ولا حج له ألا ولا بر له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه ألا لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤم أعرابي مهاجرا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه وسطوته". هذا تمام حديث جابر عند ابن ماجه والبيهقي.
"وفي مراسيل أبي داود عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم" أي: أولها "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا"، خصها لشدتها وقوتها وتزيينها، "من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له" إذ
فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه".
وعنده أيضا عنه قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب: "كل ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، يريد الله أمرا، ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما أبعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله عز وجل".
وقال جابر بن عبد الله: كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب الجمعة يقول بعد أن يحمد الله ويصلي على أنبيائه: "أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم
الأمر كله في قبضته وتحت إرادته سبحانه، "وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا" للمؤمنين "ونذيرا" للعاصين "بين يدي الساعة"، أي: قدامها بقرب "من يطع الله ورسوله فقد رشد" بفتح الشين المعجمة وكسرها، "ومن يعصهما فقد غوى" بفتح المعجمة والواو، قال عياض: وقع في رواية لمسلم بكسر الواو وفتحها، والصواب الفتح وهو من الغي، وهو الانهماك في الشر، ومر أن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يجمع الله ورسوله في ضمير واحد بخلاف غيره، فلا ينافي قوله للذي خطب عنده، فقال: ومن يعصهما فقد غوى، فقال صلى الله عليه وسلم:"بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله". رواه مسلم، وهذا المرسل قد رواه أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة "الحمد لله" فذكره بلفظه إلا أنه قال: "ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا". فإنما عدل المصنف إلى المرسل لقوله أوله كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، أما المسند فصدره بأنه علمهم خطبة الحاجة، "نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه" الظاهر أنه من كلام الزهري، ويحتمل أنه من المرفوع تعليما للأمة، "وعنده" أي: أبي داود "أيضا عن" أي: الزهري، "قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب" بعد الحمد والثناء: "كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت"، وإن أبطأ "يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا ما شاء الله كان" وجد لا محالة "ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما أبعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله عز وجل".
"وقال جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما: "كان صلى الله عليه وسلم إذ خطب يوم الجمعة يقول بعد أن يحمد الله" يثني عليه بما هو أهله "ويصلي على أنبيائه": "أيها الناس إن لكم معالم" أي:
نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن العبد المؤمن بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، والذي نفسي بيده، ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
وعن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال: "ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق يقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار، ألا فاعملوا
مظان تستدلون بها على معرفة الحق من الباطل، أو هي جمع معلم مصدر ميمي بمعنى العلم، أي: أن لكم علوما، "فانتهوا إلى معالمكم" أي: علومكم فلا تتجاوزوها، ويوافقه قول الحسن البصري: يا أيها الناس إن لكم علما، فانتهوا إلى علمكم، "وإن لكم نهاية، فانتهوا إلى نهايتكم" فلا تعدوها، "إن العبد المؤمن بين مخافتين" وبينهما بقوله:"بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض" حاكم "فيه" هل يحاسب ويعاقب على ما فعل فيه أو يعفو عنه، "وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه" أيوفقه فيه أم لا، "فليأخذ العبد من نفسه لنفسه" بأن يحاسبها على أفعالها ويقطع عن العصيان ويتوب "ومن دنياه لآخرته" بالأعمال الصالحة، "ومن الشبيبة قبل الكبر" المانع من كثرة العبادة، "ومن الحياة قبل الممات، والذي نفسي بيده" قسم كان يقسم به كثيرا "ما بعد الموت من مستعتب" بضم فسكون ففتح الفوقيتين بينهما عين ساكنة اسم مفعول من استعتب، أي: طلب منه الإعتاب وهو إزالة العتب وهو اللوم، "وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة" للمتقين "أو النار" للفجار، "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
"وعن عمرو" بن العاصي "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما، فقال" زاد الطبراني من حديث شداد: "أيها الناس". "ألا إن الدنيا عرض "، بفتحتين متاع "حاضر يأكل منها البر" أي التقي "والفاجر" أي: العاصي ولو بالكفر، "ألا" بالفتح والتخفيف للتنبيه "وإن الآخرة أجل" في حديث شداد وعد "صادق يقضي" أي: يحكم، وبه عبر شداد "فيها ملك قادر" على كل شيء.
زاد في حديث شداد: "يحق الحق ويبطل الباطل، أيها الناس كونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا فإن كل أم يتبعها ولدها" هذا آخر رواية شداد.
"ألا وإن الخير كله بحذافيره" أي: بجميعه "في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره" جمع حذفور كعصفور "في النار، ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر" أي: خوف، ولا تغتروا
وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره". رواه الشافعي، وعند أبي نعيم في الحلية نحوه.
واختلف: هل يجب الإنصات، ويمنع من جميع أنواع الكلام حال الخطبة، أو لا؟
وعن الشافعي: في المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم، لا على
بالأعمال، فإن النافع هو المقبول ولا اطلاع عليه، ولأنه إذا وضع عدله على عبده لم يبق له حسنة، "واعلموا أنكم معروضون" كذا في نسخ بواو بين الراء والضاد من عرض.
وفي نسخ: معرضون بدون الواو، منساقون من المحشر "إلى أعمالكم" ومعرضون عليها فتجازون عليها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما أفاده بقوله، "فمن يعمل مثقال" زنة "ذرة" نملة صغيرة "خيرا يره" يرى ثوابه، "ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" يرى جزاءه. "رواه الشافعي، وعند أبي نعيم في الحلية نحوه" وروى بعضه الطبراني من حديث شداد كما علم.
"واختلف هل يجب الإنصات ويمنع من جميع أنواع الكلام حال الخطبة أم لا" كلام مجمل يصدق بوجوبه لمن سمع، وغيره فيجري فيه الخلاف وبمن قرب من الإمام أو بعد عنه، وبما إذا كان الكلام بعد الجلوس، وبما إذا كان قبله وتحرير محل الخلاف يعلم من حكاية الأقوال الآتية، فذهب الجمهور إلى منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة ولو لم يسمعها للحديث المتفق عليه، "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت".
زاد في رواية أحمد: "عليك بنفسك" ولحديث علي رفعه: "ومن دنا فلم ينصت فإن عليه كفلين من الوزر" أخرجه أحمد وغيره، لأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحا، ولو كان مكروها كراهة تنزيه.
"وعن الشافعي في المسألة قولان" في منعه وإباحته مع الكراهة "مشهوران" عنه، فلا ينافي أن أرجحهما عند أصحابه الثاني، "وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا، فعلى الأول يحرم" لحرمة الكلام في الصلاة "لا على الثاني" فلا يحرم، "والاني هو الأرجح عندهم" أي الشافعية، فيجوز مع الكراهة ولو لسامع،
الثاني، والثاني هو الأرجح عندهم، فمن ثم أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام، حتى شنع من شنع عليهم من المخالفين.
وعن أحمد أيضا روايتان.
وعنهما أيضا: التفرقة بين من يسمع الخطبة وبين من لا يسمعها.
وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعها إلا عن قليل من التابعين.
ودخل سليك الغطفاني، وهو صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال صلى الله عليه وسلم:"صليت"؟ قال:
"فمن ثم أطلق منهم إباحة الكلام شنع من شنع عليهم من المخالفين" في إطلاق الإباحة بلا كراهة لما يلزم عليه من ترك الأحاديث مع كثرتها وصحتها.
"وعن أحمد أيضا روايتان" بالحرمة والكراهة، "وعنهما" الشافعي وأحمد "أيضا التفرقة بين من يسمع الخطبة" فيسن له الإنصات، "وبين من لا يسمعها" فلا، لكن الأولى أن يشتغل بالتلاوة والذكر، "وأغرب ابن عبد البر، فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعها إلا عن قليل من التابعين" ولفظ ابن عبد البر لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات على من سمعها في الجمعة، وأنه غير جائز أن يقول لمن سمعه من الجهال يتكلم والإمام يخطب أنصت ونحوها أخذا بهذا الحديث.
وروي عن الشعبي وناس قليل أنهم كانوا يتكلمون إلا في حين قراءة الإمام في الخطبة خاصة، وفعلهم ذلك مردود عند أهل العلم، وأحسن أحوالهم أنه لم يبلغهم، الحديث نقله الحافظ، وتعقبه بقوله: وللشافعي قولان، فذكر ما قدمه المصنف، ثم قال: واختلف إذا خطب بما لا ينبغي من القول، وعلى ذلك يحمل ما نقل عن السلف من الكلام حال الخطبة؟ والذي يظهر أن من نفى وجوبه أراد أنه لا يشترط في صحة الجمعة بخلاف غيره. انتهى.
وفيه نظر، إذ القائلون بوجوب الإنصات لا يجعلوه شرطا في صحتها وعلى ما ظهر له يكون الخلاف لفظيا، وليس كذلك، وقد قال هو قبل ذلك -في حديث علي مرفوعا عند أحمد، "ومن قال: صه، فقد تكلم ومن تكلم فلا جمعة له" - ما نصه: قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فض الوقت عنه. انتهى.
"دخل سليك" بمهملة مصغر، ويقع في نسخ سقيمة أبو سليك، والصواب حذف أبو، فإنه وقع في أكثر روايات الصحيحين، عن جابر: جاء رجل بالإبهام.
وفي رواية لمسلم: دخل سليك وهو ابن هدبة، وقيل: ابن عمرو "الغطفاني" بفتح المعجمة، ثم المهملة بعدها فاء من غطفان بن سعد بن قيس عيلان، ووقع عند الطبراني: جاء
لا، قال:"قم فاركع ركعتين، وأسرع فيهما لتسمع الخطبة". رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد.
وتعقب: بأنها واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد -عند أصحاب السنن: جاء رجل -والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب- في هيئة بذة، فقال له:"أصليت"؟ قال: لا، قال:"قم فصل ركعتين" وحض الناس على الصدقة عليه
…
الحديث. فأمره بأن يصلي ركعتين كي يراه بعض الناس وهو
النعمان بن نوفل، قال أبو حاتم الرازي وهو وهم من بعض الرواة في تسمية الآتي، وللطبراني أيضا عن أبي ذر، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال لأبي ذر:"صليت ركعتين"؟، قال: لا، الحديث، وفيه ابن لهيعة وشذ بقوله وهو يخطب، فالحديث المشهور عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، أخرجه ابن حبان وغيره.
ومن المستغرب ما حكاه ابن بشكوال أن الداخل المذكور، يقال له أبو هدبة، فإن كان محفوظا فلعلها كنية سليك صادقت اسم أبيه، قاله الحافظ ملخصا "وهو صلى الله عليه وسلم يخطب".
زاد في رواية لمسلم: يوم الجمعة، "فقال له صلى الله عليه وسلم:"صليت" كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام، وثبتت للأصيلي، وكذا لمسلم، ولفظه: أصليت يا فلان، "قال: لا" ما صليت، قال: "قم فاركع ركعتين" وفي رواية: فصل ركعتين، وزاد في رواية لمسلم: وتجوز فيما، بجيم وزاي، يعني: خفف "وأسرع فيهما لتسمع الخطبة، رواه البخاري ومسلم وأبو داود" من طرق كلها عن جابر بن عبد الله "واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد" بل يستحب له فعله كما ذهب إليه أحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين.
وحكي عن الحسن البصري وغيره من المتقدمين، وقال مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين: لا يصليهما، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي، حكاه عياض، "وتعقب بأنها واقعة عين" أي: مادة معينة "لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد" الخدري "عند أصحاب السنن" وغيرهم: "جاء رجل "والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب في هيئة بذة" بفتح الموحدة والمعجمة الثقيلة، أي: رثة بالية، "فقال له": "أصليت"؟ بهمزة الاستفهام "قال: لا" ما صليت قال: "قم فصل ركعتين" تحية المسجد، أو قبلية الجمعة، "وحض" "بمهملة فمعجمة" حمل "الناس على الصدقة عليه" لبذاذته "الحديث، فأمره بأن يصلي ركعتين كي يراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه" وقد فهموا ذلك فتصدقوا عليه بثوبين كما يأتي، فلا دلالة فيه على العموم.
قائم فيتصدق عليه. وورد أيضا ما يؤيد الخصوصية، وهو ما أخرجه ابن حبان وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث:"لا تعودن لمثلها"، وما يضعف الاستدلال به على جواز التحية في تلك الحالة أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس.
فهذا ما عتل به من طعن في الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية، وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه عليه الصلاة والسلام قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجوزون التطوع لعلة التصدق. قال ابن المنير: لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به.
قال الحافظ: ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئة بذة، فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه" ، وعرف بهذه الرواية الرد على من طعن في هذا التأويل، فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتهم ذا بذة فتصدقوا عليه، أو إذا كان أحد ذا بذة فليقم، فليركع حتى يتصدق الناس عليه، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التفصيل كما كان يصنع عند المعاتبة.
"وورد أيضا ما يؤيد الخصوصية، وهو ما أخرجه ابن حبان، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث: "لا تعودن لمثلها" لفظ ابن حبان لمثل هذا كما في الفتح، فنهيه عن العود صريح في أنه خصه بذلك للبذاذة، "ومما يضعف الاستدلال به على جواز التحية في تلك الحالة" أي: حالة الدخول والإمام يخطب، "أنهم" أي لشافعية "أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس" وسليك قعد قبل أن يصلي كما في مسلم، "فهذا" المذكور من الأوجه "ما اعتل به من طعن في الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية" للداخل "وكل مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية" فيه نظر، إذ لم يجزم بالخصوصية إنما أبديت احتمالا لكون القصة واقعة عين، وتأيد هذا الاحتمال بحديث أبي سعيد وغيره فهو قادح في الاستدلال "والتعليل بكونه عليه الصلاة والسلام قصد" بأمره بالركوع "التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجوزون التطوع لعلة التصدق".
"قال ابن المنير" في الحاشية: "لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس" وغروبها المحرم في الوقتين "وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به" من المانعين التحية والإمام يخطب واللازم ممنوع، وسنده أن المراد منع دلالة القصة على الجواز، لأنها قضية عين محتملة أنها لعلة التصدق في خصوص هذه القضية وإن لم يقولوا بها حتى في جمعة غير هذه فضلا عن طلوع شمس ونحوه.
ومما يدل على أن أمره الصلاة لم ينحصر في قصد التصدق، معاودته عليه الصلاة والسلام بأمره بالصلاة في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبان تصدق بهما عليه، فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك. أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضا. ولأحمد وابن حبان: أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة، لا علة كاملة.
وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس، فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين: أن ذلك في حق العالم العامد، أم الجاهل والناسي فلا، وحال هذا الداخل محمولة في المرة الأولى على أحدهما، وفي المرتين الأخيريتن على النسيان.
والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض للأمر
"ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر في قصد التصدق معاودته عليه الصلاة والسلام بأمره بالصلاة في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبان تصدق بهما عليه" بالبناء للمفعول، "فدخل بهما في الثانية، فتصدق بأحدهما، فهناه صلى الله عليه وسلم عن ذلك" التصدق بالثوب لاحتياجه للثوبين جميعا.
"أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضا ولأحمد وابن حبان أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جمع" يحتمل أنه فعل ذلك بعد قعوده في كل من الثلاث، لظنه أن الأمر في كل مرة خاص بها أو للنسيان كما يأتي، "فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة لا علة كاملة" قد يمنع دلالته على ذلك، فإن أمره في الجمع الثانية لكونه تصدق بأحد الثوبين، وقد علم أن الذي أبقاه لا يكفيه فأمره ليتصدق عليه فلعله لم يقع، فأمره في الثالثة ليتصدق عليه فهو علة كاملة، ويكفي مثل هذا من جهة المانع، "وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس، فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين أن ذلك في حق العالم العامد" لأنها نفل وهو يفوت بفوات وقته، "أما الجاهل والناسي فلا" تفوت بجلوسه، "وحال هذا الداخل" سليك "محمولة في المرة الأولى على أحدهما" الجهل أو النسيان "وفي المرتين الأخيرتين على النسيان" قد لا يسلم هذا الحمل، إذ يحتمل أنه عالم بأن الداخل والإمام يخطب لا يصلي التحية، وإن أمره في الأولى لعلة التصدق عليه، فلذا جلس في الثانية حتى أمره، فكأنه فهم أنه للصدقة عليه أيضا، فجلس في الثالثة، لا سيما وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم في الأولى، "لا تعودن لمثل هذا"، "والحامل للمانعين على التأويل
بالإنصات والاستماع للخطبة.
وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن ذلك وعن غيره من أدلة المانعين بما يطول ذكره، ثم قال: وهذه الأجوبة التي قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". متفق عليه. قال: وورد أخص منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: "إذا أتى أحدكم والإمام يخطب، أو قد خرج فليصل ركعتين" متفق عليه.
المذكور، "أنهم زعموا أن ظاهره معارض للأمر بالإنصات والاستماع للخطبة".
قال ابن العربي: عارض قصة سليك ما هو أقوى منها، كقوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت". متفق عليه، قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه، فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى.
"وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن ذلك" بأن المعارضة التي تئول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن، أما الآية فليست الخطبة كلها قرآنا، وأما ما فيها من القرآن، فالجواب عنه كالجواب عن الحديث وهو تخصيص عمومه بالداخل، وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت، كقول أبي هريرة: سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه، فأطلق على القول سرا سكوت، كذا قال. "و" أجاب "عن غيره من أدلة المانعي" وهي عشرة "بما يطول ذكره" مع أنه لا كبير فائدة فيه، إذ المذاهب تقررت، إنما هو تشحيذ أذهان، "ثم قال: وهذه الأجوبة التي قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " وهو ظاهر في أن المراد بهما التحية "متفق عليه" يعني أخرجه الشيخان ولا دفع، لأنه دخله التخصيص بما إذا كان الداخل متطهرا باتفاق، وبما إذا كان وقت جواز عند قوم ودخول التخصيص يضعف الاستدلال بالعموم.
"قال: وورد أخص منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة" بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، "عن عمرو" بفتح العين "ابن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: "إذا أتى أحدكم والإمام يخطب" يوم الجمعة، "أو قد خرج" يريد أن يخطب "فليصل ركعتين". "متفق عليه" أي: رواه مسلم والبخاري: "ولمسلم من
ولمسلم من طريق أبي سفيان عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك ولفظه بعد قوله: "فاركعهما وتجوز فيهما". ثم قال: "إذا أتى أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما".
قال النووي: هذا النص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا الحديث ويعتقده صحيحا فيخالفه.
وقال العارف بالله أبو محمد بن أبي حمزة: هذا الذي أخرجه مسلم نص في الباب لا يحتمل التأويل. انتهى.
وقد قال قوم: إنما أمره صلى الله عليه وسلم بسنة الجمعة التي قبلها ومستندهم قوله عليه الصلاة والسلام في قصة سليك -عند ابن ماجه: "أصليت ركعتين قبل أن تجيء"؟ لأن ظاهره قبل أن تجيء من البيت، ولهذا قال الأوزاعي: إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد.
وتعقب بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا،
طريق أبي سفيان" طلحة بن نافع القرشي مولاهم المكي، "عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك، ولفظه بعد قوله فاركعهما" لفظه من أوله: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له:"يا سليك قم فاركع ركعتين". "وتجوز" أي: خفف وأسرع "فيهما" لتسمع الخطبة، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم:"إذا أتى أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". فنص على تعميم الحكم بعد أمره لسليك.
ولذا "قال النووي: هذا النص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالم يبلغه هذا الحديث ويعتقده صحيحا فيخالفه" إذ لا يسعه مخالفته لا أن أعتقد عدم صحته لعلة أو شذوذ إن كان صحيحا فيخالفه، "وقال العارف بالله أبو محمد" عبد الله "بن أبي جمرة" بجيم وراء، "هذا الذي أخرجه مسلم نص في الباب لا يحتمل التأويل. انتهى".
"وقد قال قوم: إنما أمره صلى الله عليه وسلم بسنة الجمعة التي قبلها" لا بالتحية، "ومستندهم قوله عليه الصلاة والسلام في قصة سليك عند ابن ماجه:"أصليت ركعتين قبل أن تجيء"؟، لأن ظاهره قبل أن تجيء من البيت" ولو أريد التحية لم يحتج إلى استفهامه، لأنه قد رآه لما دخل، "ولهذا قال الأوزاعي: إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد" لأنها لسنة الجمعة، وقد صلاها فلا يعيدها.
"وتعقب بأن المانع من صلاة التحية" والإمام يخطب "لا يجيز التنفل حال الخطبة
ويحتمل أن يكون معنى قوله: "قبل أن تجيء" أي إلى الموضع الذي أنت به الآن، وفائدة الاستفهام، احتمال أن يكون صلاهما في مؤخر المسجد ثم تقدم لقرب من سماع الخطبة، ويؤيده: أن في رواية مسلم "أصليت الركعتين"؟ بالألف واللام، وهي للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد، وأما سنة الجمعة التي قبلها فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة قصدا، بين الطول والتخفيف، وخطبته قصدا. رواه مسلم والترمذي من رواية جابر بن سمرة. زاد في رواية أبي داود، يقرأ بآيات
مطلقا، ويحتمل أن يكون معنى قبل أن تجيء، أي: إلى الموضع الذي أنت به الآن، وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة".
"ويؤيده أن في رواية مسلم: أصليت الركعتين بالألف واللام وهي للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد" كذا وقع في الفتح، ولفظ مسلم عن شيخيه قتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، عن عمرو، عن جابر: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال:"أصليت" قال: لا، قال:"قم فصل الركعتين".
وفي رواية قتيبة قال: "فصل ركعتين". فبين أن اختلاف شيخيه بالتعريف والتنكير إنما هو في الأمر لا في الاستفهام، "وأما سنة الجمعة التي قبلها، فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى" في الفرع السابع في راتبة الجمعة في القسم الثاني من صلاته النافلة بما فيه طول، حاصله قول الحافظ هنا: لم يثبت فيها شيء.
"وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة قصدا" أي: متوسطة "بين الطول" الظاهر "والتخفيف" الماحق، "وخطبته قصدا" بين الطول والقصر، فالتطويل في الخطبة ربما يفضي إلى الملال أو يوقعها في آخر الوقت، وهذا لا يقتضي مساواة الخطبة للصلاة، فلا ينافي ما رواه مسلم، مرفوعا:"إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة". ولا خلف بين الحديثين، لأن طول الصلاة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلا يشق على المأمومين، فهي حينئذ قصد، أي: معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها، فالخطبة متوسطة بالنظر إلى الخطب، وقصيرة نظرا إلى الصلاة.
"رواه مسلم والترمذي من رواية جابر بن سمرة" الصحابي ابن الصحابي، مات بالكوفة بعد سنة سبعين، "زاد في رواية أبي داود" لحديث جابر بن سمرة "يقرأ بآيات من القرآن" في
من القرآن ويذكر الناس. وله في رواية أخرى: كان لا يطيل الموعظة بها يوم الجمعة، إنما هي كلمات يسيرات.
وعن عمرو ابن حريث أنه صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه. رواه مسلم.
قال ابن القيم في الهدي: وكان عليه الصلاة والسلام إذا اجتمع الناس خرج إليهم وحده من غير شاويش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سواد، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ثم يجلس، ويأخذ بلال في الأذان، فإذا فرغ منه قام صلى الله عليه وسلم فخطب من
الخطبة، "ويذكر الناس" يعظهم بما يلين القلوب، "وله" أي: لأبي داود "في رواية أخرى" وصححها الحاكم عن جابر بن سمرة، "كان" صلى الله عليه وسلم"، "لا يطيل الموعظة" أي: الأمر بالطاعة والوصية "بها يوم الجمعة" لئلا يمل السامعون، "إنما هي" أي: الموعظة هكذا في النسخ الصحيحة، هي بالتأنيث، وهو الذي في أبي داود والحاكم، فما في نسخ إنما هو تحريف وإن أمكن توجيهه بأن يقال، أي: ما يأتي به أو وعظه المفهوم من الموعظة، إنما هو "كلمات يسيرات" في الغالب، فإن عرض ما يقتضي التطويل طول، "وعن عمرو" بفتح العين "ابن حريث" بمهملة ومثلثة مصغر، ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، المخزومي، صحابي صغير، مات سنة خمس وثمانين "أنه صلى الله عليه وسلم خطب" الناس، أي: وعظهم يوم فتح مكة كما في حديث جابر في مسلم والسنن، "وعليه عمامة سوداء" إشارة إلى السؤدد والنصر وظهوره على جميع الأديان، لأن جميع الألون ترجع إلى الأسود ولا يرجع هو إلى لون منها "قد أرخى طرفها" بالإفراد للتثنية، كما وقع في بعض النسخ، قاله عياض.
وقال القرطبي شرحا للتثنية:
يعني بهما لاأعلى والأسفل "بين كتفيه، رواه مسلم" ولأبي الشيخ عن ابن عمر: كان صلى الله عله وسلم يدير كور العمامة على رأسه ويغرسها من ورائه ويرخي لها ذؤابة.
قال الحافظ العراقي: مقتضاه أن الذي كان يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى.
"قال ابن القيم في الهدي" النبوي: "وكان عليه الصلاة والسلام إذا اجتمع الناس خرج إليهم وحده من غير شاويش يصيح بين يديه ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سواد" كما يفعل ذلك ببعض البلاد، "فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ثم يجلس" كما رواه البيهقي عن ابن عمر: كان إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده من الجلوس، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سلم،
غير فصل بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره، ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان يأمر الناس بالدنو منه، ويأمرهم بالإنصات. انتهى.
وينظر في قوله: ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر.
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى، "و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] في الثانية. رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
والحكمة في قراءته صلى الله عليه وسلم بسورة الجمعة، اشتمالها على وجوب الجمعة
ضعفه ابن حبان وابن القطان وغيرهما، "ويأخذ بلال في الأذان، فإذا فرغ منه قام صلى الله عليه وسلم فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة لا بإيراد خبر" أي: حديث "ولا غيره" فالترقية بدعة مكروهة إلا أن يشترطها واقف فيعمل بها، ولا تضر في حصول سنة الأذان بين يدي الخطيب، قال في المدخل: العجب من الإنكار على مالك بعمل أهل المدينة، وهؤلاء يفعلون الترقية محتجين بعمل أهل الشام. انتهى.
ولا حجة لهم في أنه صلى الله عليه وسلم قال لجرير في حجة الوداع: "استنصت الناس". كما لا يخفى، "ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان يأمر الناس بالدنو" أي: القرب "منه ويأمرهم بالإنصات" ليفهموا ما يقوله على وجهه ويعملوا به. "انتهى".
"وينظر في قوله: ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر" فإنه مخالف لما مر أنه كان يخطب متوكئا على قوس أو عصا، كيف، وفي أبي داود: كان إذا قام يخطب أخذ عصا، فتوكأ عليها وهو على المنبر.
"وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى، و" بسورة " {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} في" الركعة "الثانية، رواه مسلم والترمذي وأبو داود" من طريق عبيد الله بن أبي رافع، قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} ، قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت: إنك قرأت بسورتين، كان علي بن أبي طلب يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة، فيستحب قراءتهما في الجمعة للاتباع.
"والحكمة" كما نقله النووي عن العلماء "في قراءته صلى الله عليه وسلم بسورة الجمعة اشتمالها على
وغير ذلك، مما فيها من القواعد، والحث على التوكل والذكر وغير ذلك. وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيها من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها.
وفي حديث النعمان بن بشير عند مسلم: وكان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] .
وجوب الجمعة، وغير ذلك" من أحكامها، كقوله: فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، وغير ذلك "مما فيها من القواعد والحث على التوكل والذكر وغير ذلك، وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم" أي: من المنافقين "وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيها من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها" أي: الجمعة خوفا مما صدر منه صلى الله عليه وسلم من الوعيد الشديد بتحريق بيوتهم ونحو ذلك، فإذا كانوا حاضرين يحصل لهم بسماع هذه السورة الدالة على قبح حالهم وشناعة مآلهم التوبيخ العظيم والزجر البليغ.
"وفي حديث النعمان بن بشير عند مسلم" قال: "كان" صلى الله عليه وسلم "يقرأ في" صلاة "العيدين وفي" صلاة "الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى" في الأولى، "وهل أتاك حديث الغاشية" في الثانية.
قال القرطبي: لعل قراءته بسورة الجمعة والمنافقين كان في أول الأمر، فلما عقل الناس أحكام الجمعة وحصل توبيخ المنافقين عدل عنهما إلى قراءة {سَبِّحْ} ، و {هَلْ أَتَاكَ} لما تضمنتا من الوعظ والتذكير ليخف على الناس.
وتعقبه المصف بأن رواية أبي هريرة السابقة لقراءته صلى الله عليه وسلم لهما واختياره لقراءتهما فيها بعده، وكذا اختيار علي لهما أيضا، يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك قراءتهما في الجمعة في آخر أمره أيضا بل ربما يقرأهما وربما يقرأ غيرهما، فإن إسلام أبي هريرة متأخر، والصحابة إنما يأخذون الآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وبقية الحديث عند مسلم: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين.
وفي مسلم أيضا أن الضحاك بن قيس كتب إلى النعمان بن بشير يسأله، أي: شيء قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة سوى سورة الجمعة، فقال: كان يقرأ {هَلْ أَتَاكَ} وظاهره أنه كان يقرأ في الأولى الجمعة، فيكون يقرأ بذلك في أوقات وبالآخرة في أوقات بحسب المصالح وإرشاد السامعين وبيان الجواز وعدم اختصاص سورة بذلك على وجه الحتم.
وقد اختلف في العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، وللعلماء فيه خمسة عشر قولا.
أحدها: تصح من الواحد، نقله ابن حزم.
الثاني: اثنان كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر.
الثالث: اثنان مع الإمام، عند أبي يوسف ومحمد والليث.
الرابع: ثلاثة معه، عند أبي حنيفة وسفيان الثوري.
الخامس: سبعة، عند عكرمة.
السادس: تسعة، عند ربيعة.
السابع: اثنا عشر، عند ربيعة أيضا في رواية.
الثامن: مثله غير الإمام، عند إسحاق.
التاسع: عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك.
العاشر: ثلاثون، كذلك،
الحادي عشر: أربعون بالإمام عند إمامنا الشافعي، واشترط كونهم أحرارا، بالغين عقلاء، مقيمين لا يظعنون شتاء ولا صيفا إلا لحاجة، وأن يكونوا حاضرين
"وقد اختلف في العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، وللعلماء فيه خمسة عشر قولا، أحدها تصح من الواحد" لأنه يعظ نفسه، "نقله" محمد "بن حزم" الظاهري. "الثاني: اثنان كالجماعة وهو قول النخعي" إبراهيم بن يزيد "وأهل الظاهر" داود وأتباعه.
زاد الحافظ والحسن بن حيي، "الثالث: اثنان مع الإمام عند أبي يوسف" يعقوب "محمد" بن الحسن "والليث" بن سعد "الرابع: ثلاثة معه عند أبي حنيفة وسفيان الثوري الخامس: سبعة"، "بسين قبل الموحدة"، "عند عكرمة، السادس: تسعة" بفوقية قبل السين "عند ربيعة" بن أبي عبد الرحمن، "السابع: اثنا عشر عند ربيعة أيضا في رواية" فله قولان. "الثامن: مثله غير الإمام عند إسحاق" بن راهويه، "التاسع: عشرون في رواية" عبد الملك "بن حبيب عن مالك. العاشر: ثلاثون كذلك. الحادي عشر: أربعون بالإمام عند إمامنا الشافعي، واشترط كونهم أحرارا بالغين، عقلاء مقيمين لا يظعنون شتاء ولا صيفا إلا لحاجة" ثم يعودون فلا يكفي إقامتهم المجردة في حسبانهم من العدد، فتجب عليهم ولا تنعقد بهم، "وأن يكونوا
من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة.
وحجة الإمام الشافعي: ما رواه الدارقطني وابن ماجه والبيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبي أمامة واستغفر له، قال فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان في الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت: يا أبت، استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو؟ قال: يا بني، هو أول من جمع بالمدينة؟ قال: قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا.
وقال جابر بن عبد الله: مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة. خرجه الدارقطني.
وروى البيهقي عن ابن مسعود: أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا.
حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة،" أي: تصلى.
"وحجة الإمام الشافعي ما رواه الدارقطني وابن ماجه والبيهقي في الدلائل" النبوية "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك" الأنصاري المدني، ثقة من كبار التابعين، ويقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، "قال: كنت قائد أبي" كعب بن مالك "حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبي أمامة" أسعد بن زرارة النجاري، شهد العقبات الثلاث ولا نزاع أن كنيته أبو أمامة، وممن صرح بذلك المصنف في العقبة، أي: دعا له "واستغفر له، قال: فمكث" بضم الكاف وفتحها، "كذلك حينا" زمانا "لا يسمع الأذان في الجمعة إلا فعل ذلك" الدعاء والاستغفار، "فقلت: يا أبت استغفارك لأبي إمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو" أي: ما سببه، "قال: يا بني هو أول من جمع" بنا "بالمدينة".
زاد في رواية البيهقي في بقيع الخضمات، "قال: قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا" نصلي أو نفعلها، ولا خفاء في إخباره بأنهم أربعون يومئذ لا دلالة فيه بوجه على انحصار صحتها في هذا العدد.
"وقال جابر بن عبد الله: مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة، خرجه الدارقطني" فمفهوم فما فوق أن ما نقص لا يكون جمعة.
"وروى البيهقي عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا" لا دلالة فيه أيضا على أنها لا تصح بدونهم، لأنه حكاية حال فعلية، واستشعر ذلك فتكلف دفعه، بقوله:
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الخزرجي: قال في "المجموع": قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، والأصل الظهر، ولا تتم الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه.
قال: وأما خبر انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا، فليس فيه أن ابتداءها كان باثني عشر، بل يحتمل عودهم، أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة. وفي مسلم:"انفضوا في الخطبة" وفي رواية البخاري "انفضوا في الصلاة" وهي محمولة على الخطبة جمعا بين الأخبار. انتهى.
"قال شيخ الإسلام زكريا" بن أحمد "الأنصاري الخزرجي، قال" النووي: "في المجموع" شرح المهذب، "قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد،" كيف هذا الإجماع مع أول الأقوال أنها تصح من الواحد، "والأصل الظهر" بناء على أنها بدل، والراجح عندهم أنها فرض يومها، "ولا تتم الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولم يثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه" وهذا مع ما فيه من التعسف وبنائه على حكاية إجماع منقوضة، وعلى قول ضعيف عندهم في مقام المنع، إذ نفي ثبوت صلاته بأقل دعوى نفي بلا دليل. "قال: وأما خبر انفضاضهم" أي انصرافهم "فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا" قيل: هم العشرة وبلال وابن مسعود، وفي رواية عمار: بدل ابن مسعود، حكاه السهيلي، وعند العقيلي عن ابن عباس، أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود، وأناسا من الأنصار، وفي مسلم: منهم جابر، وفي تفسير إسماعيل ابن أبي زاد أن سالما مولى أبي حنيفة، منهم: "فليس فيه أن ابتداءها كان باثني عشر، بل يحتمل عودهم أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة، وفي مسلم" ما معناه:"انفضوا في الخطبة" ولفظه: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وفي رواية له: بينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم، زاد الترمذي وغيره يخطب، "وفي رواية البخاري: انفضوا في الصلاة" ولفظه: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عبير تحمل طعاما، "وهي محمولة على الخطبة جمعا بين الأخبار" فمعنى نصلي ننتظر الصلاة من تسمية الشيء بما قاربه. "انتهى" كلام المجموع ردا على من استدل على صحتها باثني عشر بهذا الحديث المتفق عليه بما ذكره من الاحتمالين البعيدين أو الممنوعين، فإن وجه الدلالة من الحديث أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على الاثني عشر دل على أنه كاف، وبسط الجدال يطول بلا طائل.
الثاني عشر: أربعون غير الإمام عند إمامنا الشافعي أيضا، وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة.
الثالث عشر: خمسون، عند أحمد في رواية، وحكيت عن عمر ابن عبد العزيز.
الرابع عشر: ثمانون، حكاه المازري.
الخامس عشر: جمع كثير بغير حصر.
ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. قاله في فتح الباري، والله أعلم.
"الثاني عشر: أربعون غير الإمام عند إمامنا الشافعي أيضا، وبه قال عمر بن عبد العزيز: وطائفة" حملا لقول كعب أربعون رجلا على غير الإمام، "الثالث عشر: خمسون عند أحمد في رواية، وحكيت عن عمر بن عبد العزيز" أيضا، "الرابع عشر: ثمانون، حكاه المازري، الخامس عشر: جمع كثير بغير حصر" في عدد معين، "لعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل" إذ لم يسلم دليل من أدلة من حصر من القادح، "قاله في فتح الباري" أي: قال حكاية الأقوال المذكورة مجردة دون قوله، واشتراط كونهم إلى قوله الثاني عشر، فإنه ليس فيه، فلو حكاه على وجهه وأخر قوله واشتراط إلى آخر ما زاده لكان المناسب، "والله أعلم" بالحق من تلك الأقوال.
الباب الثالث: في ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه
قال الله تعالى له عليه الصلاة والسلام: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] أي بالقرآن، والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن.
والهجود في اللغة: النوم، وعن أبي عبيدة: الهاجد: النائم، والهاجد: المصلي بالليل، وعن الأزهري: الهاجد: النائم، وقال المازني: التهجد: الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، قال: وهكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الثالث: في ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه
وما يتعلق بذلك من الأحكام وفضل التهجد، "قال الله تعالى له عليه الصلاة والسلام:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} أي: بالقرآن، والمراد منه" أي: من الضمير في به "الصلاة المشتملة على القرآن والهجود في اللغة: النوم" فمعنى تهجدا ترك النوم بالاشتغال بالصلاة، وفي البخاري رواية أبي ذر الهروي: فتهجد به: اسهر به، قال الحافظ: وحكاه الطبري أيضا، وفي المجاز لأبي عبيدة قوله: فتهجد به، أي: اسهر بصلاة الليل، وتفسير التهجد بالسهر معروف في اللغة، وهو من الأضداد، يقال: تهجد إذا سهر، وتهجد إذا نام، حكاه الجوهري وغيره، ومنهم من فرق بينهما، فقال: هجدت نمت، وتهجدت سهرت، حكاه أبو عبيدة وصاحب العين، فعلى هذا أصل الهجود النوم، ومعنى تهجدت طرحت عني النوم.
"وعن أبي عبيدة" بضم أوله آخره هاء تأنيث معمر بن المثنى التيمي، مولاهم البصري، النحوي اللغوي، صدوق، إخباري، رمي برأي الخوارج، مات سنة ثمان ومائتين، وقيل بعد ذلك، وقد قارب المائة "الهاجد: النائم والهاجد: المصلي بالليل" فهو من الأضداد، "وعن الأزهري الهاجد: النائم" والجمع هجود، "وقال المازني" أبو عثمان: "التهجد: الصلاة بعد الرقاد" أي: النوم ليلا هنا وإن كان الأصح لغة أن الرقاد النوم ليلا أو نهارا للمقابلة في قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] "ثم" بعد الصلاة الأولى "صلاة" فرفع مبتدأ حذف خبره "أخرى بعد رقده" أي: نومة، "ثم صلاة أخرى" كذلك "بعد رقدة، قال: وهكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الطبري: التهجد السهر بعد نومه، ثم ساقه عن جماعة
وقوله: {نَافِلَةً لَك} أي عبادة زائدة في فرائضك، ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله:{فَتَهَجَّدْ} أمر، وصيغة الأمر للوجوب، فوجب كون هذا التهجد واجبا، وروى الطبري عن ابن عباس أن النافلة أي الزيادة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنه أمر بقيام الليل، وكتب عليه دون أمته، وإسناده ضعيف.
وقيل معناه: زيادة لك خالصة، لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب، وتطوعه هو صلى الله عليه وسلم يقع خالصا له لكونه لا ذنب عليه، فكل طاعة يأتي بها عليه الصلاة والسلام سوى المكتوبة إنما تكون لزيادة الدرجات، وكثرة الحسنات، فلهذا سمي نافلة بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوب محتاجة إلى الكفارات، فهذه الطاعات يحتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات.
من السلف.
"وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} أي: عبادة زائدة في فرائضك" أي: الأمور المفروضة عليك صلاة أو غيرها خصصت بها دون أمتك، لأن النفل لغة الزيادة، فلا ينافي أنه واجب عليه زيادة في رفع درجاته، "ويمكن نصرة هذا القول" أي: تقويته ببيان دليله، "بأن قوله" تعالى:{فَتَهَجَّدْ} أمر، وصيغة الأمر للوجوب" وضعا، "فوجب كون هذا التهجد واجبا" عليه صلى الله عليه وسلم كما هو قول الأكثر ومالك.
"وروى الطبري" محمد بن جرير: ونسخة الطبراني تصحيف، فالذي في الفتح الطبري، "عن ابن عباس أن النافلة، أي: الزيادة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة" دون غيره والهاء للتأكيد، "لأنه أمر بقيام الليل" بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1، 2]"وكتب" فرض "عليه دون أمته وإسناده عيف" لكن تقوى بالأمر في الآية، "وقيل: معناه زيادة لك خالصة" من الشوائب "لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب" من الصغائر، "وتطوعه هو صلى الله عليه وسلم يقع خالصا له" لا شائبة فيه من جبر واجب يفعله، إذ لا يقع خلل في شيء من عباداته، "لكونه لا ذنب عليه".
زاد الحافظ: وروى معنى ذلك الطبري وابن أبي حاتم عن مجاهد بإسناد حسن، وعن قتادة كذلك، ورجح الطبري الأول، وليس الثاني ببعيد من الصواب، "فكل طاعة يأتي بها عليه الصلاة والسلام سوى المكتوبة إنما تكون لزيادة الدرجات وكثرة الحسنات" إذ لا ذنب تكفره الطاعات، "فلهذا سمي نافلة" أي: زيادة "بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات، فهذه الطاعات يحتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات" كما قال تعالى: {إِنَّ
وروى مسلم من طريق سعد بن هشام عن عائشة قالت: إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة تعني: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [ألمزمل: 1] فقام النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه حولا، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فرضه.
وروى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق سماك عن ابن عباس شاهدا لحديث عائشة في أن بين الإيجاب والنسخ سنة.
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] .
"وروى مسلم من طريق سعد" بسكون العين "ابن هشام" بن عامر الأنصاري المدني، ثقة، من رجال الجميع، استشهد بأرض الهند، "عن عائشة" أوله عن سعد، قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، قلت: بلى، "قالت: إن الله افترض" أي: فرض "قيام الليل في أول هذه السورة تعني" عائشة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} "فقام النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه حولا" حذف منه، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا "حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف" في قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] "فصار قيام الليل تطوعا بعد فرضه" وهذا ظاهر في أنه كان فرضا عليه وعلى الناس، وقيل: فرض عليه وحده مندوب لغيره، لأنه خصه بالخطاب بـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وقيل: لم يفرض لقوله: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} ، إذ ليست صيغة وجوب.
"وروى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق سماك" بكسر السين وخفة الميم وكاف ابن الوليد الحنفي اليمامي، ثم الكوفي، "عن ابن عباس شاهدا لحديث عائشة في أن بين الإيجاب والنسخ سنة" وكذا أخرجه محمد بن نصر عن أبي عبد الرحمن السلمي، والحسن وعكرمة وقتادة بأسانيد صحيحة عنهم، وإنما احتاج حديث عائشة مع صحته إلى شاهد، لأنها خولفت، فروى ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: لما أنزل الله على نبيه {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] ، إلى قوله:{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فخفف الله عنهم بعد عشر سنين.
قال الحافظ: ومقتضى ذلك، أي: حديث عائشة ومن وافقها أن النسخ وقع بمكة، لأن الإيجاب متقدم عن فرض الخمس ليلة الإسراء وكانت قبل الهجرة بأكثر من سنة.
وحكى الشافعي عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس.
وروى محمد بن نصر من حديث جابر أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبي عبيدة في جيش الخبط، وكان ذلك بعد الهجرة، لكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
فوجوب قيام الليل قد نسخ في حقنا. وهل نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم؟ أم لا؟ أكثر الأصحاب: لا، والصحيح: نعم، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص.
"وحكى الشافعي عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس" واستشكل محمد بن نصر ذلك بأن الآية تدل على أن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] إنما نزلت بالمدينة لقوله فيها: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والقتال إنما وقع بالمدينة لا بمكة والإسراء كان قبل ذلك.
قال الحافظ: وما استدل به غير واضح، لأن قوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20] ظاهر في الاستقبال، فكأنه سبحانه امتن عليهم بتعجيل التخفيف قبل وجود المشقة التي علم أنها ستقع.
"وروى محمد بن نصر من حديث جابر أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبي عبيدة" عامر بن الجراح "في جيش الخبط" بفتح المعجمة والموحدة وطاء مهملة، "وكان ذلك بعد الهجرة" بمدة، "لكن في إسناده علي بن زيد" بن عبد الله بن زهير بن عبد الله "بن جدعان" بضم الجيم وسكون الدال وعين مهملتين نسب إلى جد جده لشهرته التيمي القرشي الحجازي، ثم البصري، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة "وهو ضعيف" فلا حجة فيه لدعوى أن الآية الناسخة للوجوب مدنية وهو مخالف لما عليه الأكثر أن السورة كلها مكية، نعم ذكر النحاس أنها مكية إلا الآية الأخيرة.
"فوجوب قيام الليل قد نسخ في حقنا" بإجماع، وشذ بعض التابعين فأوجبه ولو قدر حلب شاة. "وهل نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم أم لا"؟ أكثر الأصحاب" الشافعية "لا" أي: لم ينسخ في حقه "والصحيح: نعم" نسخ "ونقله الشيخ أبو حامد عن النص" للإمام الشافعي، قال النووي: وهو الأصح أو الصحيح، ففي مسلم عن عائشة ما يدل عليه. انتهى.
وقالت عائشة: قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، وفي رواية: حتى تفطرت قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:"أفلا أكون عبدا شكورا". قالت: فلما بدن وكثر لحمه صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع. رواه البخاري ومسلم.
يعني: حديثها السابق ودلالته ليست بقوية لاحتماله، "وقالت عائشة" رضي الله عنها:"قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه" غلظت وانتفخت من كثرة التهجد، "وفي رواية" عن عائشة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل "حتى تفطرت" أي: تشققت "قدماه" من كثرة القيام.
قال البخاري: والفطور الشقوق انفطرت: انشقت، وللنسائي عن أبي هريرة حتى تزلع قدماه، بزاي وعين مهملة، قال الحافظ: ولا اختلاف بين هذه الروايات إذ حصل الانتفاخ والورم وحصل الزلع والتشقق، "فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا". كثير الشكر، وخص العبد بالذكر إشعارا بغاية الإكرام والقرب من الله تعالى، والعبودية ليست إلا بالعبادة والعبادة عين الشكر.
"قالت" عائشة: "فلما بدن" بفتح الموحدة والدال المهملة كذا رواه العذري وارتضاه أبو عبيد، أي: كبر وأسن، وقال عياض بدن بضم الدال مخففة، كذا رويناه عن الأكثر وعن العبدري بالتشديد وأراه إصلاحا، وقال أبو عبيد: من رواه بضم الدال المخففة فليس له معنى، لأنه من البدانة وهي كثرة اللحم ولم يكن صلى الله عليه وسلم سمينا ولا ينكر التخفيف فقد صحت به الرواية، وقد جاء معناه مفسرا من قول عائشة: فلما كبر وأخذ اللحم، وفي رواية أسن وكثر لحمه وقول أبي عبيد لم يكن ذلك وصفه صلى الله عليه وسلم صحيح، لأنه لم يكن في أصل خلقته بادنا كثير اللحم لنه لما أسن، وضعف عن كثير مما كان يحتمله في حال النشاط من الأعمال الشاقة استرخى لحمه، وزاد على ما كان في أصل خلقته زيادة يسيرة بحيث يصدق عليه ذلك الاسم، قاله القرطبي.
وقال النووي: الذي ضبطناه ووقع في أكثر نسخ بلادنا بالتشديد "وكثر لحمه صلى جالسا فإذا أراد أن يركع قام، فقرأ" في رواية للشيخين حتى إذا بقي نحو من ثلاثين آية أو أربعين آية قام فقرأهن، "ثم ركع، رواه البخاري ومسلم" ولا يخالفه حديث عائشة في مسلم أيضا كان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد لحمله على حالته الأولى قبل أن يدخل في السن جمعا بين الحديثين، ولأبي داود
والفاء في قوله: "أفلا أكون" للسببية، وهي عن محذوف تقديره: أأترك تهجدي؟ فلا أكون عبدا شكورا، والمعنى: إن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟
قال ابن بطال: في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لم يعلم بذلك فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار. انتهى.
ومحل ذلك -كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري- ما لم يفض ذلك إلى الملال، لأن حال النبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه، وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه عليه الصلاة والسلام قال:"وجعلت قرة عيني في الصلاة". كما أخرجه النسائي من حديث أنس، فأما غيره صلى الله عليه وسلم فإذا
وصححه الحاكم من أم قيس بنت محصن، أنه صلى الله عليه وسلم لما أسن وحمل اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه.
"والفاء في قوله: "أفلا أكون" للسببية وهي" ناشئة "عن محذوف تقديره أأترك تهجدي" لما غفر لي "فلا أكون عبدا شكورا، والمعنى أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا فكيف أتركه؟ " كأن المعنى ألا أشكره وقد أنعم علي وخصني بخير الدارين؟ فإن شكورا من أبنية المبالغة يستدعي نعمة عظيمة.
"قال ابن بطال: في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له" من الله تعالى "فكيف بمن لم يعلم بذلك فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار. انتهى".
"ومحل ذلك كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ما لم يفض ذلك إلى الملال" السآمة، "لأن حال النبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل" بفتح الميم "من عبادة ربه وإن أضر ذلك ببدنه" الشريف، "بل صح أنه عليه الصلاة والسلام قال":"حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب "وجعلت قرة عيني" بردها من الفرح والسرور "في الصلاة" لأنها محل المناجاة ومعدن المصافاة فلا يحصل له سآمة وإن شقت عليه.
وفي حديث: "قال لي جبريل قد حببت إليك الصلاة فخذ منها ما شئت"، "كما أخرجه
خشي الملل ينبغي له أن لا يكد نفسه، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". انتهى.
لكن ربما دست النفس أو الشيطان على المجتهد في العبادة بمثل ما ذكر، خصوصا إذا كبر، فتقول له: قد ضعفت وكبرت فأبق على نفسك لئلا ينقطع عملك بالكلية، وهذا وإن كان ظاهره جميلا لكن فيه دسائس، فإنه إن أطاعه فقد يكون استدراجا يئول به إلى ترك العمل شيئا فشيئا، إلى أن ينقطع العمل بالكلية، وما ترك سيد المرسلين، المغفور له، شيئا من عمله بعد كبره.
نعم كان يصلي بعض ورده جالسا بعد أن كان يقوم حتى تفطرت قدماه،
النسائي من حديث أنس" ومر الكلام عليه مبسوطا "فأما غيره صلى الله عليه وسلم" قسيم قوله: فكان لا يمل من عبادة ربه والفاء واقعة في جواب شرط مقدر هو، وحيث علم ذلك علم أن غيره ليس مثله، "فإذا خشي الملل ينبغي له أن لا يكد" بضم الكاف، أي: يتعب "نفسه" بحيث يؤدي إلى السآمة، "وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا من الأعمال" صلاة وغيرها "ما تطيقون، فإن الله لا يمل" من الثواب "حتى تملوا" من العمل وإسناد الملال إليه سبحانه على طريق الازدواج والمشاكلة والعرب تذكر أحد اللفظين موافقة للآخر وإن تخالفا معنى قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وإلا فالملال على الله محال، وقيل فيه غير ذلك. "انتهى".
"لكن ربما دست" أتت بأمر خفي من دسه في التراب "النفس أو الشيطان على المجتهد في العبادة بمثل ما ذكر خصوصا إذا كبر" بكسر الباء أسن "فتقول له: قد ضعفت" بضم العين "وكبرت فأبق" بقطع الهمزة "على نفسك" ي: ارحمها "لئلا ينقطع عملك بالكلية" أي: جملة "وهذا وإن كان ظاهره جميلا" حسنا "لكن فيه دسائس" جمع دسة أمور خفية، "فإنه إن أطاعه فقد يكون استدارجا يئول به إلى ترك العمل شيئا فشيئا إلى أن ينقطع العمل بالكلية" الجملة "وما ترك سيد المرسلين المغفور له" الممنوع المستور عن الوقوع في ذنب "شيئا من عمله بعد كبره" أي: دخوله في السن، "نعم كان يصلي بعض ورده جالسا بعد أن كان يقوم حتى تفطرت" تشققت "قدماه" وفي مسلم عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان، "فكيف بمن أثقلت ظهره الأوزار ولا يأمن من عذاب النار أن يغفل" بضم الفاء
فكيف بمن أثقلت ظهره الأوزار، ولا يأمن من عذاب النار، أن يغفل حال شبيبته، ويتوانى عند ظهور شيبته، فينبغي للإنسان أن يستعد قبل حلول شيبه. "اغتنم خمسا قبل خمس
…
وشبابك قبل هرمك". فإن من شاب فقد لاح صبح سواد ليل شعره، وقد قال الله تعالى منذرا لمن يدخل في الصباح:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] فكيف بقرب من دخل في الصباح، وظهر كوكب نهاره في أفق رأسه ولاح؟!
قال القرطبي: ظن من سأله صلى الله عليه وسلم عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفا من الذنوب، وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا
"حال شبيبته" صباه "ويتوانى" أي: يتكاسل عند ظهور شيبته بياض شعره المؤذن بالرحيل، "فينبغي للإنسان أن يستعد قبل حلول شيبه" المؤدي إلى العجز عن الطاعة فيندم على ما فرط في جنب الله، أي: طاعته، وقد أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"اغتنم خمسا قبل خمس" أي: افعل خمسة أشياء قبل حصول خمسة أشياء إلى أن قال في الخصلة الرابعة: "وشبابك قبل هرمك" أي: اغتنم الطاعة حال قدرتك قبل هجوم عجز الكبر عليك، "فإن من شاب فقد لاح صبح سواد ليل شعره" أي: بياضه الساطع المزيل للسواد وآثاره كناية عن الموت المزيل للحياة اللازم للشيخوخة عادة فطلوع النهار بعد سواد الليل مزيل لآثاره، كما أن قوة بياض الشعر واستكمالها مزيل لسواده الذي هو علامة الشبوبية وبلوغ الآمال.
"وقد قال الله تعالى منذرا لمن يدخل في الصباح" الذي أوعدوا بحلول العذاب فيه عليهم: {إِنَّ مَوِْدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب} فكيف بقرب من دخل الصباح" بالفعل كناية عن الدخول في علامات الموت "وظهر كوكب نهاره في أفق" بضم الهمزة والفاء وتسكن، أي: ناحية "رأسه ولاح" ولفظ الحديث لتتميم الفائدة عن ابن عباس، رفعه: "اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك".
أخرجه البيهقي في الشعب وشيخه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما عن ابن عباس، ورواه النسائي والبيهقي وأبو نعيم عن عمرو بن ميمون مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا" فذكره.
"قال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "ظن من سأله صلى الله عليه وسلم عن سبب تحمله المشقة في العبادة" بقوله: لم تصنع هذا وقد غفر الله لك؟ "أنه إنما يعبد" بالبناء للمفعول "الله خوفا من
يحتاج إلى ذلك، فأفادهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك طريقا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة، واتصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكورا، ومن ثم قال الله تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] .
وفيه: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الاجتهاد في العبادة والخشية من ربه، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، والله أعلم.
ذكر سياق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل:
عن شريح بن هانئ قالت عائشة رضي الله عنها: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذنوب وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم النبي صلى الله عليه وسلم" بجوابه لهم بقوله:"أفلا أكون عبدا شكورا"، "أن هناك طريقا آخر للعبادة وهو الشكر على المغفرة و" على "اتصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة" للمنعم، بأن يفعل ما أمره به، بل ما يعلم أن فيه قياما بحقه وإن لم يأمره، "فمن كثر ذلك منه سمي شكورا، من ثم قال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي: المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته، ومع ذلك لا يؤدي حقه، لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر إلى غير نهاية، ولذلك قيل: الشكور من يرعى عجزه عن الشكر، قاله البيضاوي "وفيه" أي: الحديث "ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الاجتهاد في العبادة والخشية من ربه، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف" حيث داوموا على المحافظة على شدة الخوف من الله تعالى "لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته ليؤدوا بعض شكره مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد والله أعلم".
"ذكر سياق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل" النوافل: أي ما سبق فيها مصدر بمعنى اسم المفعول. "عن شريح" بضم الشين المعجمة وآخره مهملة "مصغر "ابن هانئ" بن يزيد الحارثي المذحجي أبي المقدام الكوفي التابعي الكبير الثقة، روى له مسلم وأصحاب السنن والبخاري في الأدب المفرد، وقتل مع أبي بكرة بسجستان، ومن ذريته شريح بن هانئ الحارثي الأصغر مجهول لا رواية له في شيء من الكتب الستة، وإنما ذكره في التقريب للتميز فليس هو المراد، "قالت
العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات. رواه أبو داود.
وكان صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ رواه البخاري ومسلم عن عائشة. وهو يصرخ في النصف الثاني.
وقالت عائشة: كان عليه الصلاة والسلام ينام أول الليل ويقوم آخره، فيصلي ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ
عائشة رضي الله عنها: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات" تارة، "أو ست ركعات" أخرى، فأو للتنويع لا للشك على الظاهر، "رواه أبو داود وكان صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ" أي الديك، لأنه يكثر الصياح في الليل، "رواه البخاري" في الرفاق، وفي موضعين من الصلاة "ومسلم" وأبو داود والنسائي كلهم في الصلاة "عن عائشة وهو يصرخ في النصف الثاني.
قال الحافظ: وقع في مسند الطيالسي في هذا الحديث، والصارخ: الديك والصرخة: الصيحة الشديدة وجرت العادة أن الديك يصيح عند نصف الليل غالبا، قاله محمد بن نصر، قال ابن التين: هو موافق لقول ابن عباس نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، وقال ابن بطال: الصارخ يصرخ عند ثلث الليل، فكأنه كان يتحرى الوقت الذي ينادي فيه هل من سائل كذا انتهى.
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد جيد عن زيد بن خالد الجهني، مرفوعا:"لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة". وفي لفظ: "فإنه يدعوا إلى الصلاة" قال المصنف: وليس المراد أنه يقول بصراحة حقيقة الصلاة، بل جرت العادة أنه يصرخ صرخات متتابعات عند طلوع الفجر، وعند الزوال فطرة فطره الله عليها ويذكر الناس بصراخه الصلاة.
وفي الطبراني مرفوعا: "إن لله ديكا أبيض ناحاه موشحان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ جناح بالمشرق وجناح بالمغرب رأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء يؤذن في كل سحر يسمع تلك الصيحة أهل السماوت والأرض إلا الثقلين، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض، فإذا دنا يوم القيامة، قال الله: ضم جناحيك وغض صوتك، فتعلم أهل السموات والأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت". وله وللبيهقي وابن عدي وضعفه عن جابر رفعه: "إن لله ديكا رجلاه في التخوم وعنقه تحت العرش مطوية، فإذا كان هنة من الليل صاح سبوح قدوس فصاحت الديكة".
"وقالت عائشة: كان عليه الصلاة والسلام ينام أول الليل ويقوم آخره" لفضله، ولأنه أقرب إلى الإجابة "فيصلي" حزبه، أي: أن هذا كان آخر فعله أو أغلب حاله وإلا فقد قالت عائشة: من كل الليل أوتر صلى الله عليه وسلم من أوله وآخره وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر، "ثم يرجع إلى
ثم خرج. رواه الشيخان.
وقالت أيضا: كان عليه الصلاة والسلام ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره، وربما أوتر في الليل، وربما أوتر في آخره، وربما جهر بالقراءة، وربما خفت.
وقالت أم سلمة كان يصلي بنا ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح. رواه أبو داود والنسائي، والترمذي.
فراشه" في رواية مسلم، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام، أي: ليستريح من تعب القيام وينشط لصلاة الصبح والنوم بعد قيام الليل مستحسن، لأنه يذهب تعب السهر وصفرة الوجه، "فإذا أذن المؤذن" ولمسلم: فإذا كان عند النداء الأول "وثب" بمثلثة وموحدة نهض وقام بسرعة ففيه النشاط، زاد الأسود عند مسلم: ولا والله ما قالت قام، "فإن كانت به حاجة" للغسل بأن جامع قبل أن ينام "اغتسل" وللأسود عند مسلم، عنها: فأفاض عليه الماء ولا والله ما قالت اغتسل وأنا أعلم ما تريد، قال الحافظ: وكان بعض الرواة ذكره بالمعنى وحافظ بعضهم على اللفظ، "وإلا" يكن جامع "توضأ" زاد مسلم: ثم صلى ركعتين، "ثم خرج" إلى المسجد للصلاة، وفي التعبير بثم فائدة هي أنه كان يقضي حاجته من نسائه بعد إحياء الليل بالتهجد، فإن الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة مع أنها في حقه عبادة مطلقا، قال الطيبي: ويمكن أن ثم هنا لتراخي الأخبار، أخبرت أولا أن عادته كانت مستمرة بنوم أول الليل، وقيام آخر، ثم يتفق أحيانا أن يقضي حاجته ثم ينام في كلتا الحالتين، فإذا انتبه عند النداء الأول اغتسل إن كان جنبا وإلا توضأ، "رواه الشيخان" واللفظ للبخاري، "وقالت" عائشة "أيضا: كان عليه الصلاة والسلام ربما اغتسل في أول الليل" من الجنابة، "وربما اغتسل في آخره" بعد النوم على وضوء وإن كان جنبا كما دلت عليه الأخبار الجياد، كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وغلطوا رواية من روى كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء، وعلى تقدير صحته ففعله أحيانا لبيان الجواز.
"وربما أوتر في أول الليل وربما أوتر في آخره،" وهو أغلب أحواله، "وربما جهر" أعلن "بالقراءة وربما خفت" أسر بها لبيان الجواز وإن كان الأفضل في صلاة الليل الجهر، "وقالت أم سلمة" هند أم المؤمنين:"كان" صلى الله عليه وسلم "يصلي بنا" بعد صلاة العشاء والتسبيح ما شاء، كما في رواية النسائي التالية:"ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، رواه أبو داود والنسائي والترمذي" ولا يعارضه حديث عائشة قبله، لأن كلا منها ومن أم سلمة أخبر بما شاهده من حاله.
وفي رواية للنسائي: كان يصلي العتمة، ثم يسبح ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى ثم يستيقظ من نومه فيصلي مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح.
وعن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه.
وكان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب". رواه أبو داود من حديث عائشة.
وعنها: كان عليه الصلاة والسلام إذا هب من الليل كبر الله عشرا،
"وفي رواية للنسائي" أيضا عن أم سلمة: "كان يصلي العتمة"، "بفتحتين" العشاء، وصح النهي عن تسميتها عتمة، "ثم يسبح، ثم يصلي ما شاء الله من الليل، ثم ينصرف" من الصلاة "فيرقد مثل" أي: قدر "ما صلى ثم يستيقظ من نومه ذلك فيصلي مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح" أحيانا، فلا يخالف قوله عائشة، فإذا أذن المؤذن
…
إلخ.
"وعن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليا، إلا رأيناه مصليا، "ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه".
قال الحافظ: أي أن صلاته ونومه كان يختلف بالليل ولا يرتب وقتا معينا، بل بحسب ما تيسر له القيام، ولا يعارضه قول عائشة: كان إذا سمع الصارخ قام، فإن عائشة تخبر عما لها عليه اطلاع، وذلك أن صلاة الليل كانت تقع منه غالبا في البيت، فخبر أنس محمول على ما وراء ذلك، وعنها: من كل الليل أوتر، فدل على أنه لا يخص الوتر بوقت بعينه، "رواه النسائي" والبخاري في قيام الليل وفي الصيام عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم لا تشاء أن تراه من الليل صليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته، "وكان إذا استيقظ" أي: انتبه "من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك اللهم" وأسبح "بحمدك، أستغفرك لذنبي" هضما لنفسه واستقصارا لعمله واعترافا بالعبودية، "وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما" عملا بقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، "ولا تزغ" تمل عن الحق "قلبي بعد إذ هديتني" أرشدتني إليه "وهب لي من لدنك" من عندك "رحمة" تثبيتا "إنك أنت الوهاب". رواه أبو داود من حديث عائشة" فيه تقصير، فقد رواه البخاري من حديثها، "وعنها" أيضا "كان عليه الصلاة والسلام إذا هب" بهاء
وحمد الله عشرا، وقال:"سبحان الله وبحمده" عشرا، وقال:"سبحان الملك القدوس" عشرا، واستغفر الله عشرا، وهلل عشرا، ثم قال:"اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة" عشرا، ثم يفتتح الصلاة. رواه أبو داود.
وقد روى حديث قيامه بالليل ووتره عائشة وابن عباس.
قال ابن القيم: وإذ اختلف ابن عباس وعائشة في شيء من أمر قيامه عليه الصلاة والسلام بالليل، فالقول قول عائشة، لكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل. انتهى.
فأما حديث ابن عباس فرواه البخاري ومسلم بلفظ: بت عند خالتي ميمونة ليلة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو نصفه قعد ينظر إلى السماء، فقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
مفتوحة فموحدة ثقيلة" انتبه من النوم "من الليل كبر الله"، أي: قال الله أكبر "عشرا وحمد الله" أي: قال الحمد لله "عشرا" من المرات، "وقال: "سبحان الله وبحمده" عشرا، وقال:"سبحان الملك" بكسر اللام "القدوس" وهما من أسمائه في القرآن "عشرا"، "وأستغفر الله" أي قال:"اللهم اغفر لي واهدني وارزقني" كما في رواية "عشرا، وهلل" قال: لا إله إلا الله "عشرا، ثم قال: "اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق القيامة" عشرا، ثم يفتتح الصلاة المعتادة له بالليل، "رواه أبو داود" في السنن.
"وقد روى" فعل مفعوله "حديث قيامه بالليل ووتره" وفاعله "عائشة وابن عباس" وفي حديثهما بعض اختلاف.
"قال ابن القيم: وإذ اختلف ابن عباس وعائشة في شيء من أمر قيامه عليه الصلاة والسلام بالليل، فالقول قول عائشة لكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل" كما اعترف بذلك ابن عباس لمن سأله عن وتره ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة. رواه مسلم. "انتهى" قول ابن القيم.
"فأما حديث ابن عباس، فرواه البخاري ومسلم بلفظ: بت عند خالتي ميمونة ليلة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها" في ليلتها، زاد في رواية: لأنظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، وفي أخرى فقلت لها: إذا قام فأيقظيني، "فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله" زوجه ميمونة "ساعة" مدة من الزمان "ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر" بالرفع صفة ثلث "أو نصفه" وفي رواية: فنام حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل فتردد في ذلك لخفائه عليه، لأنه كان حينئذ ابن عشر سنين فتحرى القول في الرواية وترك المسامحة فيها، وإلا فقيامه صلى الله عليه وسلم إنما كان
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران: 190] حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها ثم صب في الجفنة، ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت فتوضأت فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشر ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فآذنه بلال بالصلاة فصلى ولم يتوضأ. وكان يقول في دعائه:
في النصف الآخر "قعد ينظر إلى السماء" للتدبر، فقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وما فيهما من العجائب {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان "حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها" بكسر الشين المعجمة، فنون فألف فقاف خيط يربط به فمها، "ثم صب في الجفنة" بفتح الجيم، "ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين" من غير تقتير ولا تبذير، وفسره بقوله:"لم يكثر" من الماء "وقد أبلغ" الوضوء أماكنه دون أن يصب من الماء كثيرا، "فقام فصلى فقمت فتوضأت".
وفي رواية: فصنعت مثل ما صنع، "فقمت عن يساره فأخذ بأذني" اليمنى يفتلها كما في رواية:"فأدارني عن يمينه" فسر هذه الإدارة في رواية أخرى بقوله: فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني، كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن، "فتتامت" بفوقيتين، أي: تكاملت وهي رواية لمسلم أيضا "صلاته ثلاث عشرة ركعة" كذا اتفق أكثر أصحاب كريب عن ابن عباس عليه وخالفهم شيك عنه، فقال: فصلى إحدى عشرة روايتهم مقدمة لما معهم من الزيادة، ولأنهم أحفظ، وحمل بعضهم الزيادة على الركعتين بعد العشاء لا يخفى بعده لا سيما مع رواية للشيخين، فصلى ركعتين ثم ركعتين فعد ست مرات ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فصلى ركعتين خفيفتين، هكذا قال الحافظ أول كلامه وهو بغير في قوله آخره المحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة، وأما ثلاث عشرة، فيحتمل أن منها سنة العشاء، ويوافقه رواية عند البخاري عن ابن عباس: كانت صلاته صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا؟ وبينها في رواية النسائي بلفظ: كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح، ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر حديث الباب فيمن حمل قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين، أي: ركعتين قبل أن ينام ويكون منها سنة العشاء، وقوله: ثم ركعتين
…
إلخ، أي: بعد أن قام. انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التعسف البعيد، وأول كلامه يرده كما رأيت وهو خير من هذا، "ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ" إشارة إلى أن ذلك عادته لا أنه اتفاقي هذه الليلة، "فآذنه" بالمد أعلمه "بلال بالصلاة فصلى ولم يتوضأ" وهذا من خصائصه، لأن عينيه تنامان
"اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا"، وزاد بعضهم:"وفي لساني نورا". وذكر: عصبي ولحمي ودمي وشعري
ولا ينام قلبه ليعي الوحي إذا أوحي إليه في المنام، "وكان يقول في دعائه" تلك الليلة، ولمسلم: فجعل يقول في صلاته أو في سجوده، وفي رواية له: فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول: ولا خلف، فقال ذلك في الصلاة الليلية وفي حال خروجه إلى صلاة الصبح:"اللهم اجعل في قلبي نورا" عظيما كما يفيده التنكير يكشف لي عن المعلومات "وفي بصري نورا" يكشف لي عن المبصرات ليتحلى بأنواع المعارف وتتجلى له صنوف الحقائق، "وفي سمعي نورا" مظهرا للمسموعات، "وعن يميني نورا وعن يساري نورا".
قال الطيبي: خص القلب والبصر والسمع بفي الظرفية، لأن القلب بيت الفكر في آلاء الله والبصر مسارح آيات الله المصونة، وإلا سماع مراسي أنواع وحي الله ومحط آياته المنزلة، وخص اليمين والشمال بعن إيذانا بتجاوز الأنوار عن قلبه وسمعه وبصره إلى من عن يمينه وشماله من أتباعه "وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا" عظيما شاملا للأنوار السابقة وغيرها كأنوار الأسماء الإلهية وأنوار الأرواح العلوية وغير ذلك.
وفي رواية لمسلم: أو قال واجعلني نورا، ثم رواه من وجه آخر وقال فيه: وقال واجعلني نورا ولم يشك وله في رواية أخرى بدل ذلك، وعظم لي نورا بشد الظاء المعجمة، وفي لفظ: أعظم بهمزة قطع سأل النور في أعضائه وجهاته ليزداد في أفعاله وتصرفاته ومتقلباته نورا على نور، فهو دعاء بدوام ذلك فإنه كان حاصلا له لا محالة، أو هو تعليم لأمته.
وقال الشيخ أكمل الدين: أما النور الذي عن يمينه فهو المؤيد له والمعين على ما يطلبه من النور الذي بين يديه والنور الذي عن يساره فنور الوقاية، والنور الذي خلفه هو النور الذي يسعى بين يدي من يقتدي به ويتبعه، فهو لهم من بين أيديهم، وهو له صلى الله عليه وسلم من خلفه فيتبعونه على بصيرة، كما أنه المتبع على بصيرة قال الله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] وأما النور الذي فوقه فهو تنزل نور إلهي قدسي، بعلم غريب لم يتقدمه خبر ولا يعطيه نظر وهو الذي يعطي من العلم بالله ما ترده الأدلة العقلية إذا لم يكن لها إيمان، فإن كان لها إيمان نوراني قبلته بتأويل للجمع بين الأمرين.
"وزاد بعضهم" أي: رواة حديث ابن عباس عند مسلم،" "وفي لساني نورا" عقب قوله:"وفي قلبي نورا". "وذكر: عصبي" بفتح المهملتين وموحدة أطناب المفاصل "ولحمي ودمي وشعري وبشري"" ظاهر جسمه الشريف فتحصل أربع عشرة دعوة.
وبشري".
وفي رواية: فصلى ركعتين خفيفتين، ثم قرأ فيهما بأم الكتاب في كل ركعة، ثم سلم، ثم صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر ثم نام، فأتاه بلال فقال: الصلاة يا رسول الله! فقام فركع ركعتين ثم صلى بالناس.
وفي رواية: فقام فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه في كل ركعة بقدر:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} .
وفي رواية: فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن.
وفي رواية النسائي: أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام حتى
وفي رواية لمسلم: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ تسع عشرة كلمة، قال سلمة: حدثنيها كريب فحفظت منها اثنتي عشرة ونسيت ما بقي، فذكرها وقال في آخره:"واجعل في نفسي نورا، وأعظم لي نورا".
وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: "اللهم اجعل لي نورا في قبري" ثم ذكر القلب ثم الجهات الست والسمع والبصر، ثم الشعر والبشر، ثم اللحم والدم، ثم العظام، ثم قال في آخره:"اللهم أعظم لي نورا وأعطني نورا واجعلني نورا".
وعند ابن أبي عاصم في آخره: "وهب لي نورا على نور".
"وفي رواية: فصلى ركعتين خفيفتين ثم قرأ فيهما بأم الكتاب في كل ركعة" ثم للترتيب الذكرى بمعنى الواو، "ثم سلم، ثم صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام فأتاه بلال، فقال: الصلاة" حضرت فهو بالرفع أو النصب، أي: أحضر الصلاة "يا رسول الله! فقام فركع ركعتين" سنة الصبح "ثم صلى بالناس" في المسجد الصبح.
"وفي رواية: فقام فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه في كل ركعة بقدر:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} ، أي: قراءتها.
"وفي رواية" عند النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: "فصلى ركعتين ركعتين" بالتكرير "حتى صلى ثمان ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن"، أي: صلاها بتشهد واحد وهذه صريحة في الوصل، والرواية السابقة محتملة فتحمل على هذه، لكن عند ابن خزيمة يسلم من كل ركعتين فيحتمل تخصيصه بالثمان فلا خلف.
"وفي رواية النسائي أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر"، كأنه لم يعد الركعتين
استثقل فرأيته ينفخ فأتاه بلال، الحديث.
وفي أخرى: فتوضأ واستاك، وهو يقرأ هذه الآية:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 90] ثم صلى ركعتين، ثم عاد فنام حتى سمعت نفخه، ثم قام فتوضأ واستاك ثم صلى ركعتين، ثم نام ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين وأوتر.
ولمسلم: فاستيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ وهو يقرأ هذه الآيات، ثم أوتر بثلاث.
الخفيفتين اللتين افتتح بهما صلاته، "ثم نام حتى استثقل" أي: استغرق في نومه، "فرأيته ينفخ فأتاه بلال الحديث".
"وفي أخرى له" أي: النسائي "فتوضأ واستاك وهو يقرأ هذه الآية" أي: جنسها، فلا ينافي أنه قرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى ختم السورة، "ثم صلى ركعتين، ثم عاد فنام حتى سمعت نفخه، ثم قام فتوضأ واستاك، ثم صلى ركعتين، ثم نام، ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين وأوتر" بخمس ركعات، وقد صلى قبلها ست ركعات، فتكون إحدى عشرة، فنقص منها ركعتين.
"ولمسلم" عن ابن عباس أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاستيقظ" الفاء عطفت ما بعدها على محذوف، فقوله إنه رقد عند رسول الله معنى قول ابن عباس لا حكاية لفظه، فالتقدير أنه قال: رقدت في بيت خالتي ميمونة ورقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستيقظ "فتسوك وتوضأ" تجديدا للوضوء أو أن قلبه المقدس أحس بحدوث حدث "وهو يقول {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين، أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات" غير الركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح الصلاة بهما فتبلغ ثمانية، وقوله: ست مع ما بعده من ثلاث مرات، لأنه إذا حصل في كل ركعة ركوعان صح أن يبدل ست ركعات من ثلاث مرات، أي: يفعل ذلك في ست ركعات، وثم في قوله: ثم فعل ذلك لتراخي الأخبار وتقريرا وتأكيدا لا لمجرد العطف لئلا يلزم منه أنه فعل ذلك أربع مرات، "كل ذلك يستاك ويتوضأ وهو يقرأ هذه الآيات ثم أوتر بثلاث" فالجميع إحدى عشرة وهي بعد الركعتين الخفيفتين، لأن ذكره تطويل الركعتين يدل على أنهم غير الخفيفتين فيتم العدد ثلاث عشرة فتتفق، الأحاديث ولا تختلف، كذا قاله
وأما حديث عائشة، فعن سعد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: كان خلقه القرآن، قلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات ولا يجلس فيها إلا في الثامنة،
المصنف في شرح مسلم وفيه نظر، لأنها إنما تمت ثمانيا بالركعتين الخفيفتين، فكيف يعدهما ثانيا ويعلله بما ذكر.
وقد قال في فتح الباري: زاد، أي: في هذه الرواية على الرواة تكرار الوضوء وما معه، ونقص عنهم ركعتين أو أربعا، ولم يذكر ركعتي الفجر أيضا، وأظن ذلك من حبيب بن أبي ثابت أحد رواته، فإن فيه مقالا. انتهى.
"وأما حديث عائشة" قسيم قوله أولا، فأما حديث ابن عباس، "فعن سعد بن هشام" بن عامر الأنصاري ابن عم أنس بن مالك "قال: انطلقت إلى عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بضم الخاء واللام وبسكون اللام أيضا، "قالت: ألست تقرأ القرآن، قلت: بلى، قالت: كان خلقه القرآن" في العمل بأحكامه والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وحسن تلاوته، ويحتمل كما قال القرطبي أن تريد الآيات التي أثنت عليه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وكقوله {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيِّ} [الأعراف: 157] وما في معنى ذلك قال بعضهم: وفيه إيماء إلى التخلق بأخلاق الله، فعبرت عن المعنى بقولها: ذلك استحياء من سبحات الجلال وسترا للحال بلطف المقال، وهذا من وفور علمها وأدبها "قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنا نعد" بضم النون وكسر العين من أعد، أي: نهيئ "له سواكه وطهوره" الماء الذي يتطهر به، "فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه" أي: يوقظه من النوم وما موصولة، والعائد محذوف، أي: ما شاء فيه، تعني المقدار و"من الليل" بيانية.
قال الطيبي: إن قلت تقرر عند علماء المعاني أن مفعول شاء وأراد لا يذكر في الكلام الفصيح إلا أن تكون فيه غرابة، نحو قوله: ولو شئت أن أبكي دما لبكيته، وقوله تعالى:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى} [الزمر: 4] فأين الغرابة في قوله ما شاء أن يبعثه، قلت: كفى بلفظ البعث شاهدا على الغرابة، كأنه تعالى نبه حبيبه لقضاء نهمته من مناغاة ومناجاة بينهما ومن مكاشفات وأحوال، قال تعالى:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] فأي غرابة أغرب من هذا، "فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات ولا يجلس
فيذكر الله يحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم من الوتر وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني. رواه مسلم.
وللنسائي: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيستاك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، ويحمد الله ويصلي على نبيه ويدعو بينهن ولا يسلم، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد. زاد في أخرى: فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن صلى الله عليه وسلم وأخذه
فيها إلا في الثامنة" بالميم، "فيذكر الله يحمده ويدعوه" أي: يتشهد، فالحمد إذن لمطلق الثناء إذ ليس في التحيات لفظ الحمد، والمراد يذكر الله ويحمده ويدعو بعد التشهد "ثم ينهض" من الركعة الثامنة "ولا يسلم" منها، "ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله تعالى ويحمده" يثني عليه بالتشهد، "ويدعوه" بعد التشهد "ثم يسلم تسليما يسمعنا" ليستيقظ نائمنا "ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم من الوتر وهو قاعد" بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر وصلاة النفل قاعدا.
قال أحمد: لا أفعلهما ولا أمنع فعلهما وأنكره مالك. "فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني" خطاب من عائشة لسعد، "فلما أسن" بألف، وفي معظم نسخ مسلم: سن بدونها والأول هو المشهور "صلى الله عليه وسلم، وأخذه اللحم" أي: غلب عليه حتى سمن، فضعفت حركته وقدرته على القيام "أوتر بسبع" بسين فموحدة، "وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول فتلك تسع يا بني، رواه مسلم" مطولا وفيه قصة "وللنسائي: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله لما" أي: للوقت الذي "شاء أن يبعثر من الليل" بيان له، "فيستاك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ويحمد الله".
وقوله: "ويصلي على نبيه" زيادة على ما في مسلم "ويدعو بينهن" أي: فيهن "ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويقعد ويحمد الله ويصلي على نبيه" زيادة أيضا على ما في مسلم، فذكر رواية النسائي لهذه الزيادة في الموضعين، "ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد".
"زاد في أخرى: فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر
اللحم أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما سلم، فتلك تسع، يا بني.
وفي رواية له: فصلى ست ركعات يخيل إليّ أنه سوى بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس ثم يضع جنبه.
وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. رواه مسلم وأحمد.
وعنها: كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاته العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، ويسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة من ذلك بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين لنا الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة، رواه أبو داود.
بسبع" بموحدة بعد السين، "ثم صلى ركعتين وهو جالس، بعدما سلم" حملهما بعضهم على أنهما ركعتا الفجر، وفيه: بعد "فتلك تسع"، "بفوقية فسين"، "يا بني".
"وفي رواية له" للنسائي: "فصلى ست ركعات يخيل إليّ أنه سوى بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة ثم يصلي ركعتين وهو جالس، ثم يضع جنبه" على الأرض يستريح حتى يأتيه المؤذن.
"وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين" لخفة القراءة فيهما، أو لاقتصاره على الفاتحة لينشط بهم لما بعدهما، "رواه مسلم وأحمد" ولم يروه البخاري.
"وعنها" أيضا: "كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، ويسلم من كل ركعتين ويوتر" منها "بواحدة" فيه أن الوتر يكون واحدة وأن الركعة الواحدة صلاة، ومنعه أبو حنيفة وقال: لا تكون صلاة والحديث يرده "فيسجد السجدة من ذلك بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن" أي: فرغ "من" أذان "صلاة الفجر" الصبح "وتبين" أي: ظهر "لنا" كذا في النسخ والذي في الصحيح له "الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين" سنة الصبح، وهذا يدل على أن التبين لم يكن بالأذان وإلا لما كان لقولها وتبين له الفجر فائدة بعد قولها سكت المؤذن، "ثم اضطجع" للاستراحة من سهر التهجد "على شقه الأيمن" لأنه كان يحب التيمن "حتى يأتيه المؤذن للإقامة، رواه أبو داود" وهو في مسلم بدون قوله فيسجد السجدة إلى قوله، فإذا سكت وباقيه سواء فلم يعزه لمسلم لهذه الزيادة، نعم هو في البخاري عنا كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته، يعني:
وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شيء إلا في آخرها. رواه البخاري ومسلم.
وفي البخاري عن مسروق: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: سبعا وتسعا وإحدى عشرة، سوى ركعتي الفجر.
وعنده أيضا، عن القاسم بن محمد، عنها: كان صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر.
بالليل فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة، "وعنها" أي: عائشة "قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي" من الليل كما في الحديث فسقط من قلم المصنف، أي: بعضه "ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شيء" من الخمس "إلا في آخرها" وما قبلها كان يسلم من كل ركعتين كما في رواية أبي داود بلفظ: يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتيه قبل الصبح يصلي ستا مثنى مثنى ويوتر بخمس لا يقعد بينهن إلا في آخرهن، "رواه البخاري ومسلم" من طرق عن هشام عن أبيه، عنها قال أبو عبد الله الأبي: طريق هشام هذه أنكرها مالك ورواها في موطئه كالناس، وقال: منذ صار هشام بالعراق أتانا منه ما لم نعرف انتهى.
ولفظ الموطأ وأخرجه البخاري من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت كان: رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، قال ابن عبد البر ذكر قوم من رواة هذا الحديث عن هشام أنه كان يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس إلا في آخرها، رواه حمد بن سلمة وأبو عوانة ووهيب وغيرهم، وأكثر الحافظ: رووه عن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حدث بها عن هشام أهل العراق وما حدث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم.
"وفي البخاري عن مسروق" بن الأجدع قال: سألت عائشة عن" عدد "صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالليل، "فقالت:" يصلي "سبعا" تارة "وتسعا" أخرى "وإحدى عشرة" وقع ذلك منه في أوقات بحسب اتساع الوقت وضيقه، أو لعذر من مرض أو غيره وكبر سن.
وفي النسائي عنها: كان يصلي من الليل تسعا، فلما أسن سبعا "سوى ركعتي الفجر وعنده" أي: البخاري "أيضا عن القاسم بن محمد عنها" أي: عائشة: "كان يصلي من الليل" أي: بعضه "ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر" وهو في مسلم عن القاسم، عنها بلفظ: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع ركعتي
قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم، حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب. وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدا، وأخبرت عن وقت واحد.
والصواب: أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة، وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز. انتهى.
فأما ما أجابت به مسروقا، فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة يصلي سبعا وتارة يصلي تسعا وتارة إحدى عشرة.
وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله.
قيل: والحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة: أن التهجد والوتر مخصوصان بصلاة الليل، وفرائض النهار: الظهر وهي أربع، والعصر وهي أربع، والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلا، وأما مناسبة "ثلاث عشرة" فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها. انتهى.
الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة.
"قال القرطبي" أبو العباس في شرح مسلم: "أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم" لتباينها ببادي الرأي "حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب" الموجب للضعف، "وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا وأخبرت عن وقت واحد، والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة" بحسب اتساع الوقت تارة وضيقه أخرى، والمرض والصحة ونحو ذلك "وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز" لفظ القرطبي: وليبين أن ذلك جائز "انتهى".
"فأما ما أجابت به مسروقا" حين سألها، "فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة يصلي سبعا" بسين فموحدة، "وتارة يصلي تسعا" بفوقية فسين، "وتارة إحدى عشرة، وأما حديث القاسم عنها: فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله" وبهذا تجتمع رواياتها وتدفع دعوى اضطرابها "قيل: والحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة" ركعة في تهجد الليل "أن التهجد والوتر مخصوصان بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلا، وأما مناسبة ثلاث عشرة، فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها.
وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة، قال: فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما،
انتهى".
وهذا قد ذكره الحافظ بلفظ: وظهر لي أن الحكمة
…
إلخ، فمرضه المصنف لأنه قال في شرحه للبخاري: يعكر عليه صلاة الصبح، فإنها نهارية لآية:{كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، والمغرب ليلية لحديث:"إذا أقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم". فليتأمل. انتهى.
وقد تأملته فوجدت ذلك لا يعكر عليه، فإنه قد صرح كما رأيت بأن الصبح نهارية وهو الصواب وعن الأعمش ليلية وهو شاذ.
عن الشعبي وقت منفرد لا من الليل ولا من النهار والمغرب وإن كانت ليلية لكنها تضاف للنهار، باعتبار أنها وتره كما أفاده قوله وتر النهار ولابن خزيمة وابن حبان والبيهقي في حديث عائشة وتركت صلاة المغرب لأنا وتر النهار، أي: تركت على أصل الفرض فلم تقصر للسفر، "وعن زيد بن خالد الجهني" بضم ففتح المزني صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة "أنه قال: لأرمقن" بضم الميم وشد النون، وأصله النظر إلى الشيء شزرا نظر العداوة، واستعير هنا لمطلق النظر وعدل عن الماضي فلم يقل رمقت نظرا لاستحضار تلك الحالة الماضية ليقررها للسامع أبلغ تقرير، أي: لأنظرن نظرا طويلا "صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة".
قال المصنف: الظاهر أن زيدا لم يكن مضجعه داخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لأه غير محرم، فيحتمل أنه كان في موضع مقابل للموضع الذي كان صلى الله عليه وسلم فيه بالليل، فإما أن يكون ذلك في حجرة الحصير الذي كان في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، وإما أن يكون في السفر، وعند أبي داود وابن ماجه في هذا الحديث: فتوسدت عتبته أو فسطاطه وهو محمول على أن ذلك كان حين سمعه قام يصلي لا قبل ذلك، لأنه من التجسس المنهي عنه، وأما ترقبه للصلاة فمن الترقب المحمود. انتهى.
فجزم شيخنا بأنه كان في سفر يحتاج لنقل "قال" زيد "فصلى" رسول الله "ركعتين خفيفتين" هما الركعتان اللتان كان يفتتح بهما قيام الليل، "ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين" ثلاثا تأكيدا وإرادة لغاية الطول وانتهائه، ثم أخذ يترك شيئا فشيئا فقال، "ثم صلى ركعتين وهما دون" الركعتين "اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" في
ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة. رواه مسلم.
وقوله: "ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" أربع مرات، هكذا في صحيح مسلم وموطأ مالك وسنن أبي داود، وجامع الأصول لابن الأثير.
فقد كان قيامه عليه الصلاة والسلام بالليل أنواعا.
أحدها: ست ركعات، يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بثلاث، كما في حديث ابن عباس، عند مسلم.
ثانيها: أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم يتم إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بركعة واحدة. رواه البخاري ومسلم من
الطول، "ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" في الطول، "ثم أوتر" بواحدة، "فذلك ثلاث عشرة ركعة" ذكر هذا مع أنه مستفاد من العد لئلا يسقط ركعتان منه، "رواه مسلم" والترمذي والنسائي الثلاثة عن قتيبة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن عبد الله بن قيس بن مخرمة أخبره عن زيد بن خالد فذكره، "وقوله: ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" ذكره "أربع مرات" بعد الركعتين الطويلتين الواقعتين بعد الركعتين الخفيفتين، "هكذا في صحيح مسلم وموطأ مالك" عند جميع رواته إلا يحيى الأندلسي فغلط، فذكرها خمس مرات "وسنن أبي داود" عن القعنبي عن مالك به، و"جامع الأصول" الصحيحين والموطأ وأبي داود والترمذي والنسائي "لابن الأثير" أبي السعادات المبارك صاحب النهاية مراد المصنف، بذلك رد ما وقع ليحيى الأندلسي حيث ذكر وهما دون اللتين قبلهما خمس مرات بناء على ما عنده في أول الحديث: صلى ركعتين طويلتين طويلتين.
قال ابن عبد البر: لم يتابعه أحد من رواة الموطأ والذي فيه عند جميعهم، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، فأسقط يحيى ذكر الخفيفتين وقال: طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاثا فوهم يحيى في الموضعين، وذلك مما عد عليه من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد. انتهى.
"فقد كان قيامه عليه الصلاة والسلام بالليل أنواعا، أحدها ست ركعات يسم من كل ركعتين، ثم يوتر بثلاث كما في حديث ابن عباس عند مسلم" ومر قريبا "ثانيها: أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ثم يتم ورده إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة واحدة، رواه" أي: مجموعه لا جميعه "البخاري ومسلم من حديث عائشة" وإلا
حديث عائشة.
ثالثها: ثلاث عشرة ركعة، كذلك رواه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني.
رابعها: ثماني ركعات، يسلم من كل ركعتين، ثم يوتر بخمس سردا متوالية صفة كاشفة سرد الحديث أتى به على الولاء لا يجلس إلا في آخرهن. رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس.
خامسها: تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الركعة الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله يحمده ويدعو ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم قاعدا. رواه مسلم من حديث عائشة.
سادسها: يصلي سبعا كالتسع، ثم يصلي بعدها ركعتين جالسا. رواه مسلم أيضا من حديثها.
فالافتتاح بركعتين خفيفتين ليس في البخاري، وقد مر قريبا أن المصنف عزاه لمسلم وأحمد، "ثالثها: ثلاث عشرة ركعة، كذلك رواه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني" ومر قريبا "رابعها: ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بخمس سردا" بفتح فسكون "متوالية صفة كاشفة سرد الحديث، أتى به على الولاء لا يجلس إلا في آخرهن، رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس" وسبق ما فيه "خامسها: تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الركعة الثامنة" بالميم" فيذكر الله ويحمده ويدعوه" أي: يتشهد، فالحمد إذن لمطلق الثناء إذ ليس في التحيات لفظ الحمد، أو المراد أنه يذكر الله ويحمده ويدعوه بعد التشهد، "ثم ينهض" من الركعة الثامنة "ولا يسلم" منه، "ثم" يقوم "يصلي" الركعة "التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده" أي: يتشهد "ويدعو" بعد التشهد "ثم يسلم" أسقط منه تسليما يسمعنا، "ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم قاعدا" لفظ مسلم: وهو قاعد لبيان جواز الصلاة بعد الوتر وصلاة النفل قاعدا، "رواه مسلم من حديث عائشة" في جملة حديث طويل "سادسها: يصلي سبعا كالتسع، ثم يصلي بعدها ركعتين جالسا، رواه مسلم أيضا من حديثها" فيه تسمح، فهو حديث واحد لفظها في مسلم بعد قوله وهو قاعدا، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، وقد قدمه المصنف قريبا على الصواب، وأجاب بعضهم عن هذا الحديث، بأن المراد بالقعود الجلوس الطويل الذي يشتغل فيه بالذكر والتحميد بعد التشهد لا
سابعها: كان يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن. رواه أحمد عنها.
ثامنها: ما رواه النسائي عن حذيفة أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فركع فقال في ركوعه:"سبحان ربي العظيم" مثل ما كان قائما، ثم جلس يقول:"رب اغفر لي، رب اغفر لي". فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة.
ورواه أبو داود، ولفظه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فكان يقول: "الله أكبر" ثلاثا، "ذو الملك والملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه: "سبحان
الجلوس للتشهد فقط، فإنه يجلس بعد كل ركعتين كما في الروايات الأخرى، والمراد بالسلام بعد التاسعة التسليم الذي يرفع به صوته لإيقاظهم، لأنه قرب الصبح ووقت الوتر، لا أنه لا يسلم بعد كل ركعتين، فالمنفي في قولها لا يجلس إلا في الثامنة، ولا يسلم إلا في التاسعة الجلوس المقيد بالطول والتسليم المقيد برفع الصوت لا مطلق الجلوس والتسليم، ويؤيده رواية أبي داود في هذا الحديث، فيصلي ثمان ركعات يسوي في القراءة والركوع والسجود ويسلم تسليمة شديدة توقظنا، فبين بهذه الزيادة أن تخصيص الثمان لأجل تسوية القراءة والركوع والسجود فيها، وذكر التسليم بعد التاسعة لبيان أنه جلوس طويل، فالمنفي إنما هو صفة الجلوس لا الجلوس نفسه، وكذا في التسليم.
"سابعها: كان يصي مثنى مثنى" أي: اثنين اثنين وإعادة مثنى مبالغة في التأكيد، "ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن، رواه أحمد عنها" وصححه الحاكم، وفعل ذلك لبيان الجواز، فلا حجة فيه لتعين الثلاث موصولة، فإن الأخبار الصحيحة تأباه، "ثامنها، ما رواه النسائي عن حذيفة" بن اليمان "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" ذات ليلة "في رمضان، فركع" صلى الله عليه وسلم "فقال في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" مثل ما كان قائما" أي: نحوا من قيامه كما يأتي "ثم جلس يقول": "رب اغفر لي، رب اغفر لي" بالتكرار، "فما صلى إلا أربع ركعات" من ابتداء صلاته "حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة" أي: صلاة الصبح، "ورواه أبو داود" عن حذيفة، "ولفظه، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل" أي: بعضه، "فكان يقول:"الله أكبر" ثلاثا "ذو الملك والملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" ثم استفتح" بعد أم القرآن، "فقرأ البقرة ثم ركع فكان ركوعه نحوا" أي: قريبا "من قيامه" فأطلق المثل في السابقة على النحو إذ الحديث واحد، "وكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" ثم رفع رأسه من الركوع،
ربي العظيم"، ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: "لربي الحمد" ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى" ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي". فصلى أربع ركعات، قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام، شك شعبة.
ورواه البخاري ومسلم عن حذيفة بلفظ: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم
فكان قيامه نحوا من ركوعه يقول" فيه "لربي الحمد" أي: بعدما قال: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد" كما في الرواية التالية، "ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول في سجوده:"سبحان ربي الأعلى" ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده" فيه إطالة الجلوس بين السجدتين، والمرجح خلافه لأدلة أخرى، "وكان يقول" فيه: "رب اغفر لي رب اغفر لي" أي: يكرر هذا القول إلى أن يسجد الثانية، "فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام، شك شعبة" بن الحجاج أحد رواته، "ورواه البخاري ومسلم" في قوله البخاري نظر فإنه لم يروه لكونه ليس على شرطه كما في فتح الباري وتبعه المصنف على البخاري وإنما هو من أفراد مسلم "عن حذيفة، بلفظ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت" في نفسي "يركع عند المائة، ثم مضى" في القراءة ولم يركع، "فقلت" في نفسي: "يصلي بها" أي: البقرة "في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها".
قال النووي قوله يصلي بها في ركعة معناه ظننت أنه يسلم بها فيقسمها على ركعتين، وأراد بالركعة الصلاة بكمالها وهي ركعتان، قال: ولا بد من هذا التأويل لينتظم الكلام بعده، وعلى هذا فقوله: ثم مضى معناه قرأ معظمها بحيث غلب على ظني أنه لا يركع الركعة الأولى إلا في آخر البقرة، فحينئذ قلت: يركع الركعة الأولى بها وقال الأبي قوله، فقلت: يركع بها انظر هذا مع قوله أولا، فقلت: يصلي بها في ركعة.
وأجيب بأن المراد بالركعة التسليمة، أو أن الثاني تأكيد "ثم افتتح سورة النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرآها" حال كونه"يقرأ مترسلا" أي: بالرفق والترتيل إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل" لفظ مسلم وإذا مر بآية فيها سؤال وإذا مر بتعوذ
ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم"، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: "سمع الله لمن حمده" زاد في رواية: "ربنا لك الحمد" ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: "سبحان ربي الأعلى"، فكان سجوده قريبا من قيامه.
وزاد النسائي: لا يمر بآية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكر.
وقد كانت هيئة صلاته عليه الصلاة والسلام ثلاثة:
تعوذ" قال المصنف في شرح مسلم فيه استحباب تطويل قراءة نافلة الليل وأن طول القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود، واستدلال المخالف بحديث أبي ذر مرفوعا من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة.
أجيب: بأن لا دلالة فيه على أن كثرتهما أفضل من طول القيام، بل على أن الله تعالى يعطي للمصلي في كل ركوعه وسجوده، ثوابا ويحط عنه ذنوبا لا أنه تعالى لا يعطيه في طول القيام شيئا وفيه أيضا أن ترتيب السور على ما في المصحف العثماني ليس بتوقيف، بل على سبيل الاجتهاد وهذا مذهب مالك والجمهور واختيار القاضي أبي بكر الباقلاني، وأصح القولين عنده مع احتماليهما، وأما من يقول إنه توقيف واستقر الأمر على ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة فيحمل فعله هذا على أنه قبلها واستقرار الأمر على ما ذكر هنا كانت السورتان في مصحف أبي، واتفق على أن للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي صلى بها في الأولى، نعم يكره ذلك في الركعة الواحدة أو لمن يتلو القرآن، وأجازه بعضهم وتأول نهي من نهى من السلف عن قراءة من قرأ منكوسا، أن ذلك فيمن يقرأ من آخر السورة آية بعد آية، كما يفعله من يظهر قوة الحفظ، اتفق على أن تأليف كل سورة وترتيب أيها توقيف من الله تعالى على ما عليه الآن في المصحف وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. انتهى.
"ثم ركع فجعل يقول" في ركوعه "سبحان ربي العظيم". فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال:"سمع الله لمن حمده"، زاد في رواية لمسلم:"ربنا لك الحمد" بغير واو قبل لك، "ثم قياما طويلا قريبا مما ركع".
قال النووي: فيه جواز تطويل الاعتدال عن الركوع وأصحابنا يقولون: لا يجوز ويبطلون به الصلاة، "ثم سجد فقال" في سجوده:"سبحان ربي الأعلى". فكان سجوده قريبا من قيامه.
"وزاد النسائي" في روايته لهذا الحديث: "لا يمر بآية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكره" أي: فكر في أمر ما مر به واستحضره ليزداد قربه من الله تعالى، "وقد كانت هيئة" أي: صفة "صلاته عليه الصلاة والسلام ثلاثة" من الأنواع، "أحدها أنه كان أكثر صلاته قائما، فعن
أحدها: أنه كان أكثر صلاته قائما: فعن حفصة قالت: ما رأيته صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعدا، حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي في سبحته قاعدا، الحديث رواه أحمد ومسلم والنسائي وصححه الترمذي.
الثاني: كان يصلي قاعدا ويركع قاعدا. رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة بلفظ: وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد.
الثالث: كان يقرأ قاعدا، فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائما. رواه مسلم من حديث عائشة ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا، ويقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك.
حفصة" أم المؤمنين "قالت: ما رأيته" الضمير من المصنف اختصارا لقولها رسول الله "صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته" بضم السين وسكون الموحدة، سميت النافلة بذلك لاشتمالها على التسبيح من تسمية الكل اسم البعض، وخصت به دون الفريضة.
قال ابن الأثير: لأن التسبيح في الفرائض نفل، وفي النوافل نوافل في مثلها "قاعدا" بل قام حتى تورمت قدماه، "حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعدا" إبقاءه على نفسه ليستديم الصلاة "الحديث" بقيته: ويقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها، "رواه أحمد ومسلم والنسائي وصححه الترمذي" كلهم من طريق مالك وغيره وهو في الموطأ.
"الثاني: كان يصلي قاعدا ويركع قاعدا، رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة بلفظ" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا وكان إذا قرأ قائما، ركع قائما "وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد" فيه التنفل قاعدا مع القدرة على القيام وهو إجماع.
"الثالث: كان يقرأ قاعدا، فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائما، رواه مسلم" وكذا البخاري، فكأن المصنف سها عنه أو سقط من نساخه "من حديث عائشة، ولفظه" أي: الحديث عندهما عنها، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي" النافلة "جالسا" قبل موته بعام، كما في حديث حفصة:"ويقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية" تحتمل أو الشك من الراوي أيهما، قالت عائشة وإنها قالتهما معا بحسب وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم مرة كذا ومرة كذا أو بحسب طول الآيات وقصرها، "قام وقرأ وهو قائم" فجمع بين ما يطيقه من القيام والجلوس إبقاء على نفسه ليستديم الصلاة "ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة
وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا. رواه الدارقطني.
وكان عليه الصلاة والسلام يصلي ركعتين بعد الوتر جالسا تارة، وتارة يقرأ فيهما وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع. قالت عائشة: كان يوتر بواحدة، ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع. رواه ابن ماجه.
وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما:{إِذَا زُلْزِلَتِ} و"الكافرون" رواه أحمد.
واختلف في هاتين الركعتين فأنكرهما مالك وكذا النووي في المجموع. وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعه. انتهى.
والصواب: أنه إنما فعلهما بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر، وجواز النفل جالسا. ولفظة "كان" لا تفيد دواما ولا أكثرية هنا. وغلط من ظنهما سنة راتبة، فإنه صلى الله عليه وسلم
الثانية مثل ذلك" المذكور من القراءة وغيرها.
"وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا" سمي بذلك لأنه جعل نفسه أرباعا تلي الأرض، ففيه فضل التربع الواقع بدل القيام، وعليه مالك في المشهور، لأنه أقوى في إراحة الأعضاء فلا يشوش على الخشوع.
"رواه الدراقطني: وكان عليه الصلاة والسلام يصلي ركعتين بعد الوتر جالسا" كما في مسلم عن عائشة: كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، وقيده المصنف بقوله:"تارة" للإشارة إلى أنه لم يداوم على ذلك فليسا بسنة إنما فعلهما لبيان الجواز، "وتارة يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع" واستدل لذلك بقوله: "قالت عائشة: كان يوتر بواحدة" مفصولة عن شفع قبلها، "ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، رواه ابن ماجه" محمد القزويني.
"وعن أبي أمامة" صدي بن عجلان الباهلي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما {إِذَا زُلْزِلَتِ} و"الكافرون" رواه أحمد" الإمام اب حنبل، "واختلف في هاتين الركعتين فأنكرهما مالك وكذا النووي في المجموع" شرح المهذب "وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعه. انتهى".
"والصواب أنه إنما فعلهما بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر وجواز النفل جالسا ولفظة كان لا تفيد دواما ولا أكثرية هنا" إذ لا قرينة تدل على ذلك على قول من قال تفيدهما بالقرينة نحو كان حاتم يقري الضيف، "وغلط من ظنهما سنة راتبة" للوتر "فإنه صلى الله عليه وسلم ما داومهما" أي:
ما داومهما، ولا تشبه السنة بالفرض حتى يكون للوتر صلاة بعده.
وأما قيامه عليه الصلاة والسلام ليلة النصف من شعبان، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت إليه حتى حركت إبهامه فتحرك فرجعت، فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته، فقال:"يا عائشة" أو "يا حميراء أظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاس بك"، قلت: لا والله يا رسول الله، ولكني ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك، فقال:"أتدرين أي ليلة هذه"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله عز وجل يطلع على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد
ما داوم فعلهما حتى يكونا سنة، "ولا تشبه السنة بالفرض حتى يكون للوتر صلاة بعده" راتبة كالظهر والعشاء، إذ السنة يجوز تركها رأسا بخلاف الفرض فلا جامع، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد وهو سنة فلم يصل قبله ولا بعده.
"وأما قيامه عليه الصلاة والسلام ليلة النصف من شعبان" أي: ذكره بدليله، "فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل" ليلة النصف من شعبان، "صلى فأطال السجود" زيادة على عادته "حتى ظننت أنه قد قبض" أي: مات، "فلما رأيت ذلك" أي: أبصرته وعلمته "قمت إليه" وما زلت أتفقده "حتى حركت إبهامه" أي: إبهام قدمه فتحرك" إبهامه أو شخصه كله ليعلمها أنه حي فتطمئن وقد زادت في رواية: فاطمأننت، وفي أخرى: ففرحت، وفي رواية للبيهقي وضعت يدي على باطن قدميه، فكأنها حركت الإبهام مع الوضع فلا خلف، "فرجعت فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته" إشارة إلى أنه لما حركته فتحرك لم يخفف سجوده ولا رفع رأسه فورا، بل استدام إطالة السجود، "فقال:"يا عائشة". أو "يا حميراء" تصغير حمراء وهي البيضاء المشرب بياضها بالحمرة وهو أحسن الألوان والشك من الراوي: "أظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاس" بخاء معجمة وسين مهملة، أي: غدر "بك" وذهب في ليلتك إلى غيرك من أزواجه، مع أن الله منحه العصمة وجعله واسطة بينه وبين خلقه، فوضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن الغدر لا ينبغي أن يظن بالأنبياء لكمال عصمتهم عنه وعن غيره من النقائص البشرية والعيوب الإنسانية، "قلت: لا والله يا رسول الله ولكني ظننت أنك قبضت لطول سجودك، فقال:"أتدرين" بهمزة الاستفهام وفي رواية: بحذفها، أي: أتعلمين، "أي" بالنصب والرفع "ليلة هذه" في الفضل وكثرة الثواب للقائم فيها، إذ هي عالمة بأنها ليلة نصف شعبان، "قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"هذه ليلة النصف من شعبان" ولها عند الله
كما هم". رواه البيهقي من طريق العلاء بن الحارث عنها، وقال: هذا مرسل جيد، يعني أن العلاء لم يسمع من عائشة.
وقد ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة، لكن ضعفها الأكثرون، وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه، ومن أمثلها -كما نبه عليه الحافظ ابن رجب- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت فإذا هو بالبقيع، رافعا رأسه إلى السماء، فقال: "أكنت تخافين أن
شرف عظيم، كما أفاده قوله:"إن الله عز وجل يطلع على عباده" اطلاع غفران ورحمة "ليلة النصف من شعبان" لم يقل فيها وإن كان أخصر لئلا يتوهم أن اطلاعه خاص بليلة نصف تلك السنة فقط، فأشار إلى أنه في كل سنة "فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين" بكسر الحاء طالبي المغفرة والرحمة، "ويؤخر أهل الحقد" بكسر الحاء الانطواء على العداوة والبغضاء "كما هم"، أي: يتركهم بحقدهم فلا يغفر لهم حتى يتوبوا ويزيلوا عقد إصرار حقدهم، لأنهم مبغضون له بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليبغض الذين يكنزون البغضاء لإخوانهم في صدورهم". رواه الديلمي وفيه تحذير شديد وتنفير عظيم من العداوة والبغضاء وتغيير القلوب، يفيد أنه من أعظم الكبائر وأفظع القبائح لا سيما إن كانوا أقارب.
"رواه البيهقي" في الشعب "من طريق العلاء بن الحارث" بن عبد الوارث الحضرمي الدمشقي صدوق فقيه رمي بالقدر، واختلط مات سنة ست وثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة، روى له مسلم والأربعة "عنها" أي: عائشة "وقال" البيهقي هذا "مرسل جيد يعني أن العلاء لم يسمع من عائشة" فأراد بالإرسال الانقطاع قال البيهقي ويحتمل أن يكون العلاء أخذه عن مكحول.
"وقد ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة، لكن ضعفها الأكثرون" من المحدثين لضعف رواتها وكون بعضهم مجهولين، "وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه" تساهلا في بعضها وإطلاقا لاسم الصحيح على الحسن في بعضها بجامع الاحتجاج بهما، "ومن أمثلها" أصل معناه أفضلها، والمعنى هنا أقربها للقبول وإن كان ضعيفا، لأن ضعفه لم يشتد "كما نبه عليه الحافظ" عبد الرحمن "بن رجب" الحنبلي "حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: فقدت" بفتح القاف، أي: عدمت "النبي صلى الله عليه وسلم" ليلة كما في الرواية وفي لفظ ذات ليلة، أي: طلبته في فراشه وفي البيت ليلة نصف شعبان فلم أجده.
وفي رواية للبيهقي والدارقطني عنها: كانت ليلة النصف ليلتي وكان صلى الله عليه وسلم عندي، فلما كان في جوف الليل فقدته، فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة، فتلفعت بمرطي، "فخرجت" من البيت
يحيف الله عليك ورسوله". فقلت: يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: "إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب". رواه أحمد، وقال الترمذي: إن البخاري ضعفه.
أطلبه، زاد في رواية: فتطلبته في حجر نسائه فلم أجده، "فإذا هو بالبقيع" أي: بقيع الغرقد مقبرة المدينة حال كونه "رافعا رأسه إلى السماء" يبتهل إلى الله تعالى ويستغفر لأهل البقيع، فلما رآه علم أنها ظنت أنه ذهب لبعض ضراتها، "فقال: أكنت تخافين أن يحيف" يجوز "الله عليك ورسوله" استفهام إنكاري توبيخي، وفي ذكر الله إيماء إلى أن وقوعه من رسوله محال، إذ كأنه من الله تعالى والظلم عليه محال، إن الله لا يظلم مثقال ذرة، "فقلت: يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك" أي: أزواجك، وذلك جائز لعدم وجوب القسم عليك وإن كانت تقول بوجوبه، فالوقت زمن نسخ، فجوزت أنه أبيح له بعد المنع، فلا يرد كيف تظن حيفه مع علمها بعصمته، وقد قالت في رواية: ما ذاك بي، أي: خوف الحيف.
وفي أخرى: ما بي من ذلك، ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، "فقال" مجيبا لها عن خطأ، ظنها معلمها لها أنه لم يخرج من بيتها طالبا لشيء من شهوات الدنيا، وإنما هو لأمر جليل عظيم أخروي، "إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا" أي: القربى منا.
قال ابن العربي: النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، فهو عبارة عن ملكه النازل بأمره ونهيه، فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك، أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل، فسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة، فحاصله أنه تأوله بوجهين إما أمره أو الملك أو استعارة بمعنى لطفه بالداعين وإجابتهم ونحو ذلك.
وحكى الأول عن مالك وضعفه ابن عبد البر بأن أمره بما شاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت، ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت، وقيل: غير ذلك ومذهب الأكثر تفويض معناه إلى الله مع اعتقاد صرفه عن ظاهره وهو أسلم، إذ التأويل المعين لا يجب كما قال البيهقي:"فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب" بفتح فسكون فموحدة.
زاد في رواية البيهقي في الدعوات، قيل: وما غنم كلب، قال: قبيله لم يكن في العرب أكثر غنما منهم وكلب عدة قبائل باليمن وقضاعة وبني عامر وغيرهم، ولم يبين في الحديث أيها أراد.
قال بعضهم: لكن الظاهر أنه أراد التي باليمن، لأنها الأشهر يومئذ، ودل قوله: أكثر على قوله في رواية أخرى: بعدد شعر غنم كلب، ليس المراد حصر المغفرة في عدد شعرها، بل هو كناية عن كثرة المغفرة، وأصرح منه حديث فيغفر لجميع خلقه إلا كذا وكذا، "رواه أحمد"
وفي سنن ابن ماجه، بإسناد ضعيف، عن علي مرفوعا: "إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارا، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى
وابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه والبييهقي، كلهم من طريق الحجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة.
"وقال الترمذي: إن البخاري ضعفه" لفظ الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج، وسمعت محمدًا يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى لم يسمع من عروة والحجاج لم يسمع من يحيى. انتهى.
وهو مسلم في الثاني: وأما سماع يحيى من عروة، فنفاه أيضا أبو زرعة وأبو حاتم فيما ظنه، وأثبته ابن معين، والمثبت مقدم على النافي، وقول الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه تقصير، فقد جاء من ثلاثة أوجه غيره، كما بينه الحافظ الزين العراقي، وبالجملة فبعضها يعضد بعضا، فيرتقي إلى الحسن لغيره، ولذا قال ابن رجب، إنه من أمثلها، قال: ومن أمثلها أيضا حديث معاذ، رفعه: يطلع الله ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن، فإن ابن حبان قد صححه وكفى به عمادا. انتهى.
وفيه رد على قول ابن دحية لم يصح في ليلة نصف شعبان شيء إلا أن يريد نفي الصحة الاصطلاحية، فإن حديث معاذ هذا حسن لا صحيح، وقد رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي، ورواه ابن ماجه من حديث أبي موسى بلفظ: إن الله ليطلع
…
إلخ، ورواه البزار والبيهقي من حديث أبي بكر، قال الحافظ، المنذر وإسناده لا بأس به، "وفي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف" كما جزم به المنذري والعراقي مبينا وجه ضعفه، لكن ليس فيه كذاب ولا وضاع وله شواهد تدل على ثبوت أصله، "عن علي" أمير المؤمنين "مرفوعا" عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا كان" كذا في النسخ، ووجد بخط الحافظين الزين العراقي والسيوطي: كانت "ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها" أي: أحيوه بالعبادة وانصبوا أقدامكم لله قانتين، "وصوموا نهارها" استحبابا فيهما، "فإن الله تعالى ينزل" بفتح التحتية "فيها لغروب الشمس" أي: عند غروب شمس رابع عشر شعبان، أي: تواريها في مغيبها، واللام للتوقيت نحو كتبته لخمس خلون، والمعنى، أن وقت نزوله مقارن غروب الشمس "إلى سماء الدنيا" من قبيل مسجد الجامع والقياس السماء الدنيا كما في عدة أحاديث أخر نزول رحمة ومزيد لطف وإجابة دعوة وقبول معذرة لا نزول حركة وانتقال تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وبقوله: لغروب الشمس علم مزيتها على غيره من الليالي، فإن النزول الإلهي من الثلث الأخير أو من نصف الليل، "فيقول: ألا" بفتح الهمزة وخفة اللام حرف
فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر". انتهى.
تنبيه يدل على تحقق ما بعده، وتوكيده "مستغفر فأغفر له" ذنوبه فلا أعاقبه عليها، والظاهر أن المراد بالاستغفار المقرون بالتوبة المتوفرة الشروط، ولذا قيل: الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين، وروى البيهقي مرفوعا:"المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه"، فإن لم يكن توبة فالمرجو من الله المغفرة إذا سألها العبد بخلوص رغبة وكسر قلب، كما أشار إلى ذلك الغزالي، بقوله: الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو الاستغفار بمجرد اللسان بدون شركة القلب فيه، كما يقال بحكم العادة وعند الغفلة: أستغفر الله من غير تأثر قلبه، فإنه يرجع لمجرد حركة اللسان ولا جدوى له، فإن أضيف إليه تضرع القلب وابتهاله في طلب المغفرة بإخلاص فهو حسنة في نفسها تصلح لدفع السيئة، وعليه يحمل حديث:"ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة". ثم قال: بل الاستغفار باللسان فقط حسنة أيضا، إذ حركة اللسان عن غفلة خير من حركته في تلك الساعة بغيبة أو فضول، سيما في الليالي الفاضلة كليلة النصف، وإنما هو نقص بالإضافة إلى عمل القلب، ولذا لما قال بعضهم لأبي عثمان المغربي: لساني يجري بالذكر والقرآن وقلبي غافل، قال له: أحمد الله الذي استعمل جارحة من جوارحك في ذكره، "ألا مسترزق" طالب رزق "فأرزقه" فإني أنا الكريم المتكفل بأرزاق العباد وفيه توبيخ على غفلة عن السؤال، لا سيما في مواطن الإجابة.
وفي الترمذي وغيره، مرفوعا أنه "من لم يسأل الله يغضب عليه". ولأبي يلى مرفوعا:"سلوا الله في كل شيء حتى الشسع، فإن الله إن لم ييسره لم يتيسر". "ألا مبتلى فأعافيه" من بلائه، خص هذه الثلاثة بالذكر، لأنها مدار كل مطلوب، أما على جلب الملائم وهو ديني أو دنيوي، وأشار بالاستغفار إلى الأول، وبطلب الرزق إلى الثاني، وأما على دفع ما لا يلائم، وإليه أشار بسؤال العافية وزاد قوله:"ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر" قصدا لمزيد التعمم، وإشارة إلى كثرة الجود والعطاء والإفضال والإنعام في تلك الليلة والإذن فيها بالدعاء بكل نافع في الدين أو الدنيا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، كما في حديث: ومثلهما كل ما لا يجوز الدعاء به.
قال الزين العراقي: مزية ليلة نصف شعبان مع أن الله ينزل كل ليلة فيغفر لمن استغفر، ويعتق من النار من شاء أنه ذكر مع النزول فيها وصفا آخر، وهو أن يعتق من النار بعدد شعر غنم كلب، وليس ذلك في نزول كل ليلة، ولأن النزول كل ليلة موقت بشطر الليل أو ثلثه وفيها من الغروب، فحصلت المزية على تقدير صحة الحديث في باطن الأمر، وإلا فلا يصح شيء من طرقه. "انتهى".
وقد كان التابعون من أهل الشام، كخالد بن معدان، ومكحول يجتهدون ليلة النصف من شعبان في العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال: إنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس فيه فمنهم من قبله منهم، وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء، وابن أبي مليكة عبد الله، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: إن ذلك كله بدعة.
واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: إنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، وكان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في
"وقد كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان"، "بفتح فسكون" الكلاعي الحمصي، سمع أبا أمامة وثوبان والمقدام وكثير بن مرة وخلقا كثيرا، يقال: لقي سبعين صحابيا وهو ثقة عابد يرسل كثيرا، روى له الجماعة، مات سنة ثلاث ومائة، ويقال سنة أربع وثمان ومائة "ومكحول" الدمشقي، ثقة، فقيه، كثير الإرسال، روي عن أنس وأبي أمامة وواثلة وغيرهم، خرج له مسلم والأربعة مات سنة بضع عشرة ومائة، زاد غير المصنف ولقمان بن عامر، "يجتهدون ليلة النصف من شعبان في العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال: إنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس فيه، فمنهم من قبله منهم" ومنهم من أباه.
"وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء" بن أبي رباح مفتي مكة ومحدثها "وابن أبي مليكة عبد الله" بفتح العين ابن عبيد الله، بضمها ابن عبد الله، بفتحها ابن أبي مليكة، يقال: اسمه زهير التيمي المدني، ثقة، فقيه، من رجال الجميع، أدرك ثلاثين من الصحابة، "ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم" من الشافعية، والمراد بعضهم، وإلا فأكثرهم لم يتعرضوا لذلك أصلا، "وقالوا: إن ذل كله بدعة" إذ لم يأت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه.
"واختلف علماء أهل الشام" القائلون بذلك "في صفة إحيائها على قولين: أحدهما أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، وكان خالد بن معدان ولقمان بن عامر" الحمصي التابعي، روى عن أبي أمامة وغيره "يلبسون" من إطلاق الجمع على الاثنين، وإلا فالقياس يلبسان "فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون" بالعود ونحوه، "ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم
المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المسجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله عنهم حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع لها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم.
ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة النصف من شعبان، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان عنه في قيام ليلتي العيد، فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه فعلها، واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود، وهو من التابعين، وكذلك قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، إنما ثبت عن جماعة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام. انتهى ملخصا من اللطائف.
تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المسجد جماعة ليس ذلك ببدعة، نقله عنهم حرب الكرماني في مسائله، والثاني: أنه يكره الاجتماع لها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه" للأحاديث المصرحة بطلب قيامها وإن كانت مفرداتها ضعيفة، لأنه لم يشتد ضعفها، واندرجت تحت مطلق الأمر بقيام الليل.
قال ابن رجب: "وهذا" أقرب وهو "قول الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمر و"إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم".
قال الحاكم: كان إمام عصره عموما وأهل الشام خصوصا، "ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة النصف من شعبان، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد، فإنه في رواية لم يستحب قيامهما جماعة، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه فعلها، واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود وهو من التابعين، وكذلك قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن" أحد من "أصحابه، إنما ثبت عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام" فيتخرج عن أحمد القولان على قياس قوليه في العيد. "انتهى ملخصا من اللطائف" لابن رجب.
وأما قوله تعالى في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] فالمراد بها إنزاله تعالى القرآن في ليلة القدر، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وكان ذلك في شهر رمضان، كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] .
قال الحافظ ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، كما روي عن عكرمة، فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان. وأما الحديث الذي
"وأما قوله تعالى في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، فالمراد بها إنزاله تعالى القرآن في ليلة القدر، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، الشرف والعظم، "وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} " من اللوح المحفوظ إلى الماء الدنيا.
"قال الحافظ ابن كثير: ومن قال: إنها" أي: الليلة المباركة "ليلة النصف من شعبان، كما روي" عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم "عن عكرمة" في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] قال: في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحجاج، فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد، "فقد أبعد النجعة""بضم فسكون"، أي: أغرب في القول حيث تكلم بكلام بعيد، وأصل الانتجاع الذهاب لطلب الكلام في موضعه، "فإن نص القرآن أنها" أي: الليلة المباركة "في رمضان" لقوله: في ليلة القدر مع قوله: الذي أنزل فيه القرآن ولذا قال الجمهور: الفرق إنما يكون في ليلة القدر، وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس، قال: حتى إنك ترى الرجل يمشي في الأسواق، وقد وقع اسمه في الموتى، ثم قرأ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} إلى آخرها قال: يعني ليلة القدر ففي تلك الليلة يفرق أمر السنة إلى مثلها من قابل موقوف حكمه الرفع، لأنه لا يقال رأيا، فلا معدل عنه وتبع عكرمة شرذمة قليلة، وبالجملة فهو قول ضعيف جدا، بل قال ابن العربي وغيره: إنه باطل، وفي الكشاف قيل: أي جمعا بين القولين يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، أي نصف شعبان، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت. انتهى.
وروى البغوي عن ابن عباس، أنه قال: إن الله يقضي الأقضية ليلة النصف من شعبان، ثم يسلمها إلى الملائكة في ليلة القدر، وهذا إن صح يؤيد الجمع المذكور ويعكر على جمع بعضهم أن ابتداء ذلك يكون ليلة نصف شعبان وتمامه في ليلة القدر، ثم دفع ابن كثير عن نفسه
رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري، أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى". فهو حديث مرسل، ومثله لا يعارض به النصوص. انتهى.
وأما قيامه عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، وهو الذي يسمى بالتراويح: جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، وسميت بذلك لأنهم أول
ما يرد على تصويب، أن الليلة المباركة ليلة القدر من حديث "تقطع الآجال من شعبان" بأنه حديث ضعيف وإن رواه البيهقي وغيره، فقال:"وأما الحديث الذي رواه عبد الله بن صالح" المصري "عن الليث" بن سعد الإمام "عن عقيل" بالتصغير ابن خالد "عن الزهري" بن شهاب، قال: أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس"، "بالفتح وإسكان المعجمة" الثقفي الأخنسي الحجازي، صدوق، له أوهام، روى له الأربعة: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان" أي: تميز وتفرد أسماء من يموت تلك اللية إلى مثلها من العام القابل عن أسماء من لم يمت في تلك المدة، لكن يسلم ذلك إلى ملك الموت في ليلة القدر، كما مر عن ابن عباس، ونقله القرطبي عنه بلفظ: أن ابن عباس قال: إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى مدبرات الأمور في ليلة القدر، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل وميكائيل وجبرائيل وعزرائيل "حتى إن الرجل لينكح" المرأة "ويولد له" الولد، "وقد خرج اسمه في" ديوان "الموتى" وحتى إن المرأة لتنكح وتحمل وتلد، وقد خرج اسمها في ديوان الموتى، فاكتفى بأحد النظيرين عن الآخر للقطع بعدم الفارق. وظاه قوله: "تقطع الآجال" أن ذلك لا يختص بالآدميين، ولا يضر قوله: "حتى إن الرجل"
…
إلخ، لأنه خص النوع الإنساني لشرفه بالقوة الفاهمة المدركة للخطاب، "فهو حديث مرسل"؛ لأن عثمان بن محمد من صغار التابعين، وقد وصله الديلمي من وجه آخر عن عثمان بن محمد المذكور، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال ابن المديني: عثمان روى عن ابن المسيب مناكير، ولذا قال:"ومثله لا يعارض به النصوص. انتهى" كلام ابن كثير، أي: لإرساله وللاختلاف في عثمان، فوثقه ابن معين وضعفه غيره.
وقال بعض الحفاظ: إرساله أصح من وصله وله شاهد عن ابن مردويه بسند فيه مقال، "وأما قيامه عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان وهو الذي يسمى بالتراويح جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة" كتسليمة من السلام، "وسميت" الصلاة جماعة في ليالي رمضان "بذلك" أي: تروايح، "لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل
ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين.
فعن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
ولمسلم: قالت: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي
تسليمتين" من صلاتين وكل تسليمة من ركعتين.
قال الليث: قدر ما يصلي الرجل كذا وكذا ركعة، "فعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر" أي: عشر الليالي الأواخر، إما وحدها أو بأيامها، فغلب المؤنث على المذكور، ولذا حذفت الهاء، لكن لفظ الأواخر ليس في حديث عائشة، بل في حديث علي عند ابن أبي شيبة، كما صرح به المصنف كغيره بلفظ: العشر الأخير "من رمضان أحيا الليل" استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، أو أحيا معظمه لقولها في الصحيح: ما علمته قام ليلة حتى الصباح، "وأيقظ أهله" للصلاة والعبادة، "وجد" اجتهد في العبادة زيادة على العادة، "وشد المئزر"، "بكسر الميم وسكون الهمزة" أي: إزاره، قيل: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة، كما يقال: فلان يشد وسطه ويسعى في كذا، وفيه نظر، فإنها عطفت شد المئزر على الجد، وهو يقتضي التغاير، والصحيح أن المراد به اعتزال النساء، وبهذا فسره السلف والأئمة المتقدمون، وجزم به عبد الرزاق عن الثوري، واستشهد بقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
…
عن النساء ولو باتت بأطهار
ويحتمل أن يراد الاعتزال والتشمير معا، فلا ينافي في شد المئزر حقيقة، ولابن أبي عاصم بإسناد مقارب عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء وللطبراني عن أنس: كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فرشه واعتزل النساء، "رواه البخاري" في الصوم، لكن بلفظ: كان إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، قال المصنف: من باب الاستعارة شبه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام، أي: أحيا ليله بالطاعة، أو أحيا نفسه بسهره فيه، لأن النوم أخو الموت وأضافه إلى الليل اتساعا، لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، "ومسلم" في الصوم واللفظ له، "وأبو داود والنسائي" في الصلاة وابن ماجه في الصوم، "ولمسلم" عن عائشة، "قالت: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان" في أنواع العبادات، فللبيهقي، عنها: كان إذا دخل رمضان تغير لونه وكثرت صلاته وابتهل في الدعاء وانتسف لونه، ولابن سعد عنها، والبيهقي عن ابن عباس: كان إذا دخل رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل "ما لا يجتهد في غيره" من الشهور "و" يجتهد "في
العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره.
وفي رواية الترمذي: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
وعنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم عليه الصلاة والسلام فلما أصبح قال:"قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". وذلك في رمضان. رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
العشر الأواخر منه" زيادة على اجتهاده فيه من أوله "ما لا يجتهد في غيره" من العشرين قبله، قيل: الأولى في غيرها، لأن العشر اسم لمجموع الليالي والأيام وهي مؤنثة تغليبا للمؤنث هنا على المذكر، لكثرة دوران العدد على ألسنة العرب، ومنه:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} كما في المصباح، وهو مردود بصحة هذا عن عائشة في مسلم، وهي من الفصاحة بمكان، واحتمال أنه من تغيير الرواة، وفيهم: من ليس بعربي يمنع الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة فلا يلتفت إليه، لا سيما وقد جاء على الأصل من تغليب المذكر.
"وفي رواية الترمذي" عنها: "كان يجتهد في العشر الأواخر" جمع آخرة "ما لا يجتهد في غيره" أي: يجتهد في العبادة في رمضان ويزيد فيها في العشر الأخير، فهو بمعنى ما قبله إذ المخرج متحد، "وعنها" أي: عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه سلم صلى" صلاة الليل "في المسجد" ذات ليلة من ليالي رمضان.
وفي رواية للبخاري: صلى في حجرته وليس المراد بها بيته، بل الحصير التي كان يحتجز بها بالليل في المسجد فيجعلها على باب بيت عائشة، فيصلي فيه ويجلس عليه كما جاء صريحا عند البخاري في اللباس: كان يحتجز حصيرا بالليل فيصلي عليه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، ولأحمد عن عائشة: فأمرني أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي، ففعلت، فخرج "فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من" الليلة "القابلة" ولبعض الرواة من القابل، بالتذكير، أي: الوقت، ولأحمد من الليلة المقبلة، "فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم عليه الصلاة والسلام" رفقا بهم، "فلما أصبح" أي: خرج لصلاة الصبح، "قال" بعدما صلاها كما في الرواية التالية:"قد رأيت الذي صنعتم" من الاجتماع للصلاة "ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" فتعجزوا عنها، "وذلك في رمضان" من قول عائشة.
وفي رواية: "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر". "رواه البخاري ومسلم وأبو داود".
وفي رواية للبخاري ومسلم، أنه صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل فصلى بصلاته رجال، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج عليه الصلاة والسلام في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كان في الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، فطفق رجال منهم يقولون: أفلا يخرج إليهم، حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد
"وفي رواية البخاري ومسلم" عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم خرج" من حجرته "من جوف الليل فصلى بصلاته رجال" مقتدين بها، "فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع" في الليلة الثانية "أكثر منهم" برفع أكثر فاعل اجتمع، "فخرج عليه الصلاة والسلام في الليلة الثانية، فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج" صلى الله عليه وسلم، "فصلوا بصلاته" وفي لفظ: فصلى، فصلوا بصلاته، وفي آخر: فصُلي بصلاته، بضم الصاد مبني للمفعول وإسقاط فصلوا أيضا، "فلما كان في الليلة الرابعة عجز" أي: ضاق "المسجد عن أهله" ولأحمد: امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله، وله أيضا: غص المسجد بأهله، "فلم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم فطفق رجال منهم يقولون: أفلا يخرج إليهم:" أي: إلى القوم الذين ينتظرونه، وكأنهم أرادوا غير أنفسهم، فلم يقولوا إلينا، أو هو التفات، ولأحمد: حتى سمعت ناسا منهم يقولون: الصلاة، وله أيضا فقالوا: ما شأنه، وفي حديث زيد بن ثابت: ففقدوا صوته وظنوا أنه قد تأخر، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، وفي لفظ عن زيد: فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، رواهما البخاري.
قال ابن عبد البر تفسر هذه الليالي المذكورات في حديث عائشة بما رواه النعمان بن بشير، فذكر حديثه الآتي قريبا في المتن، ثم قال: وأما عدد ما صلى، ففي حديث ضعيف عن ابن عباس أنه صلى عشرين ركعة والوتر، أخرجه ابن أبي شيبة، وروى جابر أنه عليه الصلاة والسلام صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر، وهذا أصح.
وقال الحافظ: لم أر في شيء من طرق حديث عائشة بيان عدد صلاته في تلك الليالي، لكن روى ابن خزيمة وابن حبان عن جابر: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثم أوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا، ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله الحديث، فإن كانت القصة واحدة احتمل أن جابرا ممن جاء في الليلة التالية، فلذا اقتصر على وصف ليلتين "حتى خرج لصلاة الفجر" أي: الصبح، "فلما قضى الفجر" أي: أتم صلاته "أقبل على الناس" بوجهه الوجيه "ثم تشهد" في صدر الخطبة، "فقال: "أما بعد، فإنه
فقال: "أما بعد، فإنه لم يخف عليّ شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها".
وفي رواية بنحوه ومعناه مختصرا. قال: وذلك في رمضان.
قال في فتح الباري: ظاهر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال وقد بناه بعض المالكية على قاعدتهم في أن الشروع ملزم، وفيه نظر لأن وجوبه.
وأجاب المحب الطبري: بأنه يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه: إنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم.
لم يخف عليّ شأنكم"، لفظ مسلم ولفظ البخاري: مكانكم "الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها" "بكسر الجيم مضارع عجز بفتحها" أي: تشق عليكم فتتركوها مع القدرة عليها، وليس المراد العجز الكلي، لأنه يسقط التكليف من أصله.
"وفي رواية" للبخاري في الصيام "بنحوه، ومعناه مختصرا" بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وذلك في رمضان، قال المصنف كغيره، ساقه هنا مختصرا جدا، فذكر كلمة من أوله وشيئا من آخره، وساقه تاما في أبواب التهجد.
"قال: وذلك في رمضان" من قول عائشة رضي الله عنها، "قال في فتح الباري: ظاهر هذا الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها وفي ذلك إشكال" لأن المواظبة على النوافل لا تقتضي ذلك، فقد واظب على رواتب الفرائض وتابعه أصحابه ولم تفرض.
"وقد بناه بعض المالكية على قاعدتهم في أن الشروع ملزم" للإتمام "وفيه نظر، لأن وجوبه" بالشروع لا يخرجه عن كونه نفل لا يلزمه أن يأتي به قبل أن يشرع فيه، والكلام هنا في خوف وجوب الابتداء به إذا وجدت المواظبة عليه.
"وأجاب المحب الطبري" الحافظ أحمد المكي تبعا للباجي، "بأنه يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم" فترك ذلك.
زاد الباجي: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك سيفرض عليهم لما جرت عادته أن ما داوم عليه على وجه الاجتماع من القرب فرض على أمته. انتهى.
وتعقب بأنه واظب على رواتب وتابعه أصحابه ولم تفرض.
وقيل: خشي أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب، قال القرطبي: أي يظنونه فرضا، فيجب على من ظن ذلك، كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به.
وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية، مع ما ثبت في حديث الإسراء، من أن الله تعالى قال: هن خمس وهم خمسون لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة، وهذا يدفع في صدور الأجوبة المتقدمة.
وأجاب عنه الخطابي: بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها -يعني عند المواظبة- فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر، فتجب
"وقيل:" وهو احتمال ثالث للباجي أيضا، "خشي أن يظن أحد من الأمة" بعده "من مداومته عليها الوجوب".
"قال القرطبي: أي يظنونه فرضا، فيجب على من ظن ذلك كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو تحريمه، فإنه يجب عليه العمل به" وهذا أقرب من الاحتمالين قبله.
"وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: هن خمس" في الفعل "وهن خمسون" في الثواب، "لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة" إذ لو وقعت كانت تبديلا وهو محال، "وهذا يدفع في صدور الأجوبة المتقدمة" أي: يرد به عليها، فتسقط شبه الأجوبة بأناس لها صدور إذا قوبلت بأقوى منها سقطت، لكن المذكور هنا جوابان فقط، والحافظ إنما ذكر هذا بعد ذكرهما، وذكر الاحتمال الذي زدته عن الباجي، وبعد ذكر قول ابن بطال: يحتمل أن هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم لما كان قيام الليل فرضا عليه دون أمته، فخشي إن خرج إليهم والتزموه معه أن يسوي بينهم وبينه في حكمه، لأن أصل الشرع المساواة بين النبي وأمته في العبادة، ويحتمل أنه خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصي تاركها بترك اتباعه صلى الله عليه وسلم، فهذه خمسة أجوبة، قال الحافظ: بعد ذكرها وجوابي الخطابي الآتيين وذكر الحديث الإلهي وهذا يدفع في صدور هذه الأجوبة كلها، "وأجاب عنه" أي الإشكال "الخطابي بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها يعني: عند المواظبة" لا مطلقا، "فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به" في القرآن "لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس وهذا كما يوجب المرء على
عليه ولا يلزم من ذلك زيادة فرض في أصل الشرع.
قال: وفيه احتمال آخر، وهو أن الله تعالى قد فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام منه، لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضا عليهم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تلقى هذين الجوابين عن الخطابي جماعة كابن الجوزي، وهو مبني على أن قيام الليل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفي كل من الأمرين نزاع.
ثم أجاب عنه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة النفل بالليل، قال: ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: "حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم
نفسه صلاة نذر فتجب عليه، ولا يلزم من ذلك زيادة فرض في أصل الشرع" لأنه وجوب عرض بالنذر على الناذر لا مطلقا.
"قال" الخطابي: "وفيه احتمال آخر، وهو: أن الله تعالى قد فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمهما بشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها، والتزمت ما استعفي لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام منه لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضا عليهم" كما التزم ناس الرهبانية من قبل أنفسهم، ثم عاب الله عليهم التقصير فيها بقوله:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] ، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يكون سبيلهم سبيل أولئك، فقطع العمل شفقة عليهم، هذا بقية كلام الخطابي.
"قال الحافظ ابن حجر: وقد تلقى هذين الجوابين عن الخطابي جماعة كابن الجوزي، وهو مبني على أن قيام الليل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفي كل من الأمرين نزاع،" أي: اختلاف بين العلماء "ثم أجاب" الحافظ "عنه" أي: الإشكال، فقال بعد قوله: وحديث هو خمس يدفع في صدور هذه الأجوبة كلها، وقد فتح الباري "بثلاثة أجوبة" سواها.
"أحدها: أنه يحتمل أنه يكون المخوف" منه "افتراض قام الليل، بمعنى: جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة النفل بالليل، قال: ويومئ"، "بالهمزة لا بالياء" أي: يشير "إليه قوله في حديث زيد بن ثابت": "حتى خشيت أن يكتب" يفرض "عليكم" قيام
به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم" فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه لهم في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم.
وثانيها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوه.
وثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في حديث الباب أن ذلك كان في رمضان، وفي حديث سفيان بن حسين "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر" فعلى هذا يرتفع الإشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون لك قدرا زائدا على الخمس. وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول.
وعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ليلة ثلاث
الليل، "ولو كتب عليكم ما قمتم به" لغلبة النوم والكسل "فصلوا أيها الناس في بيوتكم". "فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقا" أي: خوفا "عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه لهم في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم"، متعلق بقوله: أمن.
"وثانيها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون زائدا على الخمس" المفروضة على الأعيان، "بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوه" كصلاة الفرض جماعة أنه فرض كفاية وليس بزائد على الخمس.
"وثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة" دون غيره، "فقد وقع في حديث الباب" المذكور عن عائشة "أن ذلك كان في رمضان" بقولها: وذلك في رمضان.
"وفي حديث سفيان بن حسين" أحد رواة الحديث عن الزهري عن عروة، عن عائشة عند أحمد:"خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر" أي: رمضان "فعلى هذا يرتفع الإشكال" من أصله، "لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس" الذي جاء منه الإشكال "وأقوى منه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول" لاعتضاده بحديث زيد بن ثابت، ويليه الثالث لاعتضاده بأن ذلك كان في رمضان، لا سيما تصريح بعض طرق بقوله:"خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر".
"وعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث
وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكانوا يسمونه السحور. رواه النسائي.
واختلف العلماء: هل الأفضل في صلاة التراويح أن تصلي جماعة في المسجد، أو في البيوت فرادى؟
فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة، واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد.
فإن قلت: قد ذكرت أن الحافظ ابن حجر حمل قوله عليه الصلاة والسلام: "إني خشيت أن تفرض عليكم" على التجميع في المسجد، وقال: إنه أقوى الأجوبة، فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لما مات حصل الأمن من ذلك، ورجح عمر التجميع لما في الاختلاف من اختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين
وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين".
قال ابن عبد البر: وهذا الحديث يفسر به الليالي المذكورات في حديث عائشة يعني: لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، فليست غيرها "حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح وكانوا يسمونه" أي: الفلاح "السحور" وكان فيه قلبا، والأصل يسمون السحور الفلاح، "رواه النسائي" في السنن.
"واختلف العلماء هل الأفضل في صلاة التراويح أن تصلى جماعة في المسجد، أو في البيوت فرادى، فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر بن الخطاب" إذ جمعهم على أبي بن كعب "والصحابة واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد" التي الأفضل فعلها جماعة.
فإن قلت: قد ذكرت أن الحافظ ابن حجر حمل قوله عليه الصلاة والسلام: أني خشيت أن تفرض عليكم على التجميع في المسجد، وقال: إنه أقوى الأجوبة" وذلك يصادم التعليل المذكور، "فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لما مات حصل الأمن ذلك" أي: خشية فرضها، "ورجح عمر التجميع لما في الاختلاف من اختلاف" وفي نسخ "من افتراق الكلمة،
وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل صلاتها فرادى في البيوت، لقوله عليه الصلاة والسلام:"أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، قالوا: وإنما فعلها صلى الله عليه وسلم في المسجد لبيان الجواز، أو لأنه كان معتكفا.
وأما عدد الركعات التي كان صلى الله عليه وسلم يصليها في رمضان، فعن أبي سلمة أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: "يا عائشة! إن عيني
ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين، وقال مالك وأبو يوسف" يعقوب، "وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل صلاتها فرادى في البيوت، لقوله عليه الصلاة والسلام:"أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ففي المسجد أفضل، "قالوا: وإنما فعلها صلى الله عليه وسلم في المسجد" في الليالي الثلاث "لبيان الجواز، أو لأنه كان معتكفا" ومحل فضلها فرادى في البيوت عند مالك ما لم تعطل المساجد وأن ينشط إلى فعلها وحده، "وأما عدد الركعات التي كان صلى الله عليه وسلم يصليها في رمضان" فهي إحدى عشر بالوتر، "فعن أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف "أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في" ليالي "رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" أي: غير ركعتي الفجر كما رواه القاس عنها، وفيه، أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، ولا ينافيه حديثها: كان إذا دخل العشر يتهجد فيه ما لا يتهجد في غيره لحمله على تطويل الركعات دون زيادة العدد، "يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن" أي: أنهن في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيان بظهور ذلك عن السؤال عنه، "ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن" يعني: أربعا في الحسن والطول وترتيب القراءة ونحو ذلك، فلا ينافي أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى" ومحال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه، "ثم يصلي ثلاثا" يوتر منها بواحدة والركعتان شفع، ففي مسلم عن عروة، عنها: كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة.
وزاد في بعض طرق الحديث: يسلم من كل ركعتين، "قالت عائشة: فقلت" بفاء العطف على السابق "يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر"؟ بهمزة الاستفهام الاستخباري، لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر، لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أول الليل، فكان مقررا عندها أن
تنامان ولا ينام قلبي". رواه البخاري ومسلم.
وأما ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر. فإسناده ضعيف. وقد عارضه حديث عائشة هذا، وهي أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من غيرها.
وقد كان الأمر من زمنه عليه السلام استمر على أن كل واحد يقوم في رمضان في بيته منفردا، حتى انقضى صدر من خلافة عمر.
وفي البخاري: أن عمر خرج ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال
لا نوم قبل الوتر، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كغيره، "فقال":"يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن، وإنما يكون ذلك للأنبياء، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا" ولا يعارضه نومه بالوادي، لأن رؤية الفجر تتعلق بالعين لا بالقلب كما سبق مبسوطا، "رواه البخاري ومسلم" والسنن الثلاث، كلهم من طريق مالك عن سعيد المقبري عن أبي سلمة به.
"وأما ما رواه ابن أبي شيبة" عبد الله بن محمد بن إبراهيم وهو أبو شيبة "من حديث ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر، فإسناده ضعيف" وعبر عنه بعضهم بمنكر والمنكر من أقسام الضعيف، فهما بمعنى فلا عليك من الخيالات العقلية، "وقد عارضه حديث عائشة هذا" المتفق على صحته، "وهي أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من غيرها" فيقدم حديثها لهذين الوجهين، "وقد كان الأمر من زمنه عليه السلام، استمر على أن كل واحد يقوم في رمضان في بيته منفردا حتى انقضى صدر،" أي: مدة نحو سنتين "من خلافة عمر" بن الخطاب كما رواه مالك عن ابن شهاب.
"وفي البخاري" عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرمن بن عبد "أن عمر خرج ليلة" لفظه، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة "في رمضان إلى المسجد" النبوي، "فإذ الناس أوزاع"، "بفتح الهمزة وسكون الواو فزاي فألف فعين مهملة" جماعات "متفرقون" نعت لفظي للتأكيد مثل نفخة واحدة، لأن الأوزاع الجماعات المتفرقة لا واحد له من لفظه.
وقال ابن فارس والجوهري والمجد: الأوزاع الجماعات لم يقولوا متفرقون، فعليه يكون النعت للتخصيص، أراد أنهم كانوا يتنقلون في المسجد بعد صلاة العشاء متفرقين، "يصلي
عمر: إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أجمع، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى فإذا الناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط" ما بين ثلاثة إلى عشرة، وهذا بيان لما أجمله أولا بقوله: أوزاع "فقال عمر" والله "إني لأرى" من الرأي "لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أجمع" لفظ الموطأ: لكان أمثل، أي: لأنه أنشط لكثير من المصلين ولما في الاختلاف من افتراق الكلمة، "ثم عزم" صمم على ما رآه، "فجمعهم على أبي بن كعب" أي: جعله إماما لهم.
قال الباجي وابن التين وغيرهما: استنبط عمر ذلك من تقريره صلى الله عليه وسلم: من صلى معه تلك الليالي وإنما كره لهم ذلك خشية أن تفرض عليهم، فلما مات صلى الله عليه وسلم أمن ذلك، وقال ابن عبد البر: إنما سن عمر رضي الله عنه ما رضيه صلى الله عليه وسلم ولم يمنعه من المواظبة عليه إلا خشية أن يفرض على أمته وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما، فلما أمن ذلك عمر أقامها وأحياها في سنة أربع عشرة من الهجرة، "ثم خرج" لفظ الرواية عن عبد الرحمن ثم خرجت معه "ليلة أخرى، فإذا الناس يصلون بصلاة قارئهم" أي: إمامهم، قال ابن عبد البر: فيه أن عمر كان لا يصلي معهم إما لشغله بأمر النار وإما لانفراده بنفسه في الصلاة "فقال: نعمت البدعة هذه" قال الباجي: نعمت بالتاء على مذهب البصريين، لأن نعم فعل لا يتصل به إلا التاء وفي نسخ: نعمة بالهاء وذلك على أصول الكوفيين، وهذا تصريح منه بأنه أول من جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد، لأن البدعة ما ابتدأ بفعلها المبتدع ولم يتقدمه غيره، فابتدعه عمر تابعه الصحابة والناس إلى هلم جرا. انتهى.
وقال ابن عبد البر: وصفها بنعمت، لأن أصل ما فعله سنة، وإنما البدعة الممنوعة خلاف السنة انتهى. فسماها بدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسن لها الاجتماع ولا كانت في زمن الصديق، وهي لغة ما أحدث على غير مثال سبق وتطلق شرعا على مقابل السنة، وهي ما لم يكن في العهد النبوي، ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة، وحديث:"كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، وقد رغب فيها عمر بقوله: نعمت البدعة، وهي كلمة تجمع المحاسن كلها، كما أن بئس تجمع المساوئ كلها وإذا أجمع الصحابة على ذلك مع عمر زال عنه اسم البدعة "والتي تنامون" بفوقية، أي: الصلاة وتحتية، أي: الفرقة أو الجماعة التي ينامون "عنها أفضل من" الصلاة "التي تقومون" بفوقية وتحتية كسابقه "يريد آخر الليل" فهذا تصريح منه بأن الصلاة آخر الليل أفضل
وإنما اختار أبيا لأنه كان أقرأهم، كما قال عمر.
وروى سعيد بن منصور من طريق عروة: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء.
وفي الموطأ: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس في رمضان.
وروى البيهقي بإسناد صحيح أن الناس كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة.
من أوله، وقد أثنى الله على المستغفرين بالأسحار.
وقال المفسرون في قول يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي أخرهم إلى السحر، لأنه أقرب للإجابة، "وكان الناس يقومون أوله" ثم جعله عمر آخر الليل كما قاله ابن عبد البر، "وإنما اختار أبيا لأنه كان أقرأهم" وقد قال صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرؤهم". "كما قال عمر" علي أقضانا وأبي أقرؤنا وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي قاله ابن عبد البر.
"وروى سعيد بن منصور من طريق عروة" بن الزبير "أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرحال وكان تميم" بن أوس ابن خارجة "الداري" الصحابي الشهير، أسلم سنة تسع وأقام بالمدينة إلى أن قتل عثمان، فسكن بيت المقدس حتى مات سنة أربعين "يصلي بالنساء" ورواه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل من هذا الوجه، فقال سليمان بن أبي حثمة بدل تميم.
قال الحافظ: ولعل ذلك كان في وقتين "وفي الموطأ" عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: "أمر عمر" بن الخطاب "أبي بن كعب وتميما الداري" بالألف عند أكثر رواة الموطأ، ومنهم: ابن القاسم والقعنبي، ورواه يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير وغيرهما الديري، بالياء، وكلاهما صواب لاجتماع الوصفين له، فبالألف نسبة إلى جده الأعلى الدار بن هانئ، وبالياء نسبة إلى دير كان فيه تميم قبل إسلامه، "أن يقوما للناس في رمضان" بإحدى عشرة ركعة، وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي وما كنا ننصرف إلا في فروغ الفجر، هذا بقيته في الموطأ إلا أنه ليس فيه لفظ في رمضان، فلعل أصل عبارة المصنف، أي: في رمضان بأي التفسيرية.
"وروى البيهقي بإسناد صحيح" عن السائب بن يزيد، "أن الناس كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، قال الحليمي: والسر" أي: الحكمة
قال الحليمي: والسر في كونها عشرين أن الرواتب في غير شهر رمضان عشر ركعات، فضوعفت لأنه وقت جد أو تشمير.
وفي الموطأ: بثلاث وعشرين ركعة. وجمع البيهقي بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث.
وفي الموطأ: عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة، وقال عبد العزيز: إحدى وعشرون.
والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس.
"في كونها عشرين أن الرواتب في غير شهر رمضان عشر ركعات" يعني: المؤكدة، لأن الرواتب عند الشافعية اثنان وعشرون منها عشرة مؤكدة، "فضوعفت لأنه" أي: رمضان "وقت جد أو تشمير" اعتناء بالعبادة.
"وفي الموطأ" عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان "بثلاث وعشرين ركعة، وجمع البيهقي بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث" بعد العشرين فلا خلف، "وفي الموطأ عن محمد بن يوسف" الكندي المدني الثقة الثبت عن السائب بن يزيد"، "بتحتية فزاي" الكندي آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة إحدى وتسعين "أنها إحدى عشرة" أي: أمر عمر أبيا وتميما بإحدى عشرة ومر لفظه قريبا.
قال الباجي: لعل عمر أخذ ذلك من قول عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، "وقال عبد العزيز" بن محمد الدراوردي عن محمد بن يوسف عن السائب "إحدى وعشرون" وصححه ابن عبد البر، وزعم أن مالك تفرد بقوله: إحدى عشرة، وأنه وهم، وليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال: إحدى عشرة، كما قال مالك، مع أن شرط الشذوذ تعذر الجمع، وقد قال ابن عبد البر نفسه: يحتمل أن يكون ذلك أولا، ثم خفف عنهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين، ونحوه قول البيهقي: قاموا بإحدى عشرة ثم بعشرين وأوتروا بثلاث، وكذا نحو قول المصنف.
"والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال" فأمرهم أولا بإحدى عشرة ثم بإحدى وعشرين، "ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات" لأن تطويل القراءة أفضل، فأمرهم به أولا "وبالعكس" حيث تكثر
وقد روى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس، قال: أدركت الناس في إمارة إبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز -يعني بالمدينة- يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. وقال مالك: هو الأمر القديم عندنا.
وعن الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق.
وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إليّ. انتهى.
وهل يجوز لغير أهل المدينة صلاتها ستا وثلاثين، قال النووي قال الشافعي: لا يجوز ذلك لغيرهم، لأن لأهلها شرفا بهجرته عليه الصلاة والسلام ومدفنه، ويخالفه قول الحليمي: من اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين فحسن أيضا.
الركعات تقل القراءة تخفيفا عليهم، واستدرك بعض الفضيلة بزيادة الركعات قاله الباجي بمعناه.
"وقد روى محمد بن نصر" المروزي "من طريق داود بن قيس" المدني الثقة الفاضل، "قال: أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان" بن عفان "وعمر بن عبد العزيز، يعني: بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث، وقال مالك" الإمام "هو الأمر القديم عندنا" بالمدينة:"وعن الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين وليس في شيء من ذلك ضيق" لأنه نافلة، "وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلي" لقوله صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة طول القنوت". "انتهى".
"وهل يجوز لغير أهل المدينة صلاتها ستا وثلاثين، قال النووي: قال الشافعي لا يجوز ذلك لغيرهم لأن لأهلها شرفا بهجرته عليه السلام" إليها "ومدفنه" بها "ويخالفه: قول" الشفعي فوقه ليس في شيء من ذلك ضيق، لأنه نافلة وقد أسنده عنه البيهقي، وقول "الحليمي: من اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين فحسن أيضا" لأنهم إنما أرادوا بما صنعوا الاقتداء بأهل مكة في الاستكثار من الفضل، لا المنافسة كما ظن بعضهم، هكذا علله الحليمي نفسه.
قال المصنف: وإنما فعل أهل المدينة هذا إرادة مساواة أهل مكة، فإنهم كانوا يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات وقد حكى الولي العراقي أن والده الحافظ لما ولي إمامة مسجد المدينة أحيا سنتهم القديمة في ذلك مع مراعاة ما عليه الأكثر، فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد، ثم يقوم آخر الليل في المسجد بست عشرة ركعة فيختم في الجماعة في شهر رمضان ختمتين، واستمر على ذلك
وينبغي أن يسلم من كل ركعتين، فلو صلى أربعا بتسليمة لم تصح وفاقا للقاضي حسين في فتاويه، ولو صلى سنة الظهر أو العصر أربعا بتسليمة واحدة جاز، والفرق: أن التراويح بمشروعية الجماعة أشبهت الفرائض، قاله النووي في فتاويه، وصرح به في "الروضة".
وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره. وقد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان، قال: فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فآذنه بالصلاة. أخرجه أحمد وأخرجه النسائي.
وعنده أيضا: أنه ما صلى إلا أربع ركعات.
وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة.
عمل أهل المدينة فهم عليه إلا الآن.
"وينبغي" أي: يجب "أن يسلم من كل ركعتين، فلو صلى أربعا بتسليمة لم تصح" صلاته وفاقا للقاضي حسين في فتاويه، ولو صلى سنة الظهر أو العصر أربعا بتسليمة واحدة جاز، والفرق أن التراويح بمشروعية الجماعة" فيها أشبهت الفرائض فلا تغير عما ورد، "قاله النووي في فتاويه، وصرح به في الروضة" اسم كتاب شهير للنووي.
"وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره" دليل ذلك أنه "قد صلى معه حذيفة" بن اليمان "ليلة في رمضان، قال: فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران" فيه حجة لقول الجمهور أن ترتيب السور ليس بتوقيف بل اجتهاد وصححه الباقلاني، ومن يقول أنه توقيف يحمل فعله هذا على أنه قبل العرضة الأخيرة "لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل" أي استعاذ من ذلك.
وفي مسلم: وإذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بآية فيه سؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، "قال" حذيفة:"فما صلى" النبي صلى الله عليه وسلم "الركعتين حتى جاءه بلال فآذنه" بالمد، أعلمه "بالصلاة" أي صلاة الصبح.
"أخرجه أحمد وأخرجه النسائي وعنده" أي النسائي "أيضا أنه ما صلى إلا أربع ركعات" حتى جاءه بلال يدعوه إلى صلاة الغداة.
وفي أبي داود: فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام شك شعبة، وأصل الحديث في مسلم بدون قوله في رمضان، ولذا لم يعزه له هنا وقد مر قربا، "وكان للشافعي" الإمام "في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة" واحدة ليلا وأخرى بالنهار.