الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: كتاب ميوير عن السيرة
كان ميوير من كبار موظفي الحكومة البريطانية في الهند وكانت له صلة وطيدة مع الجمعيات الإرسالية العاملة في الهند وقتذاك، ولا سيما مع المنصِّر الشهير كارل غوتالب فندار "Carl Gottaleb Pfander" الذي كان يعمل في البنغال وشمال الهند. وفي الواقع كان ميوير حكماً من جانب النصارى في المناظرة بأكرا سنة 1853م/1269هـ بين فندر والشيخ رحمة الله الكيرانوي، وكان فندر هو الذي حرض ميوير على تصنيف كتاب عن السيرة كما يعترف به ميوير في مقدمة كتابه.
وفي ذلك الوقت صدر عدد من المصادر للسيرة. ففي سنة 1856م/1272هـ طبع بكلكتة ترجمة موجزة لمغازي الواقدي، وقام بها المستشرق الشهير فون كريمر "Von kremer" بعنوان:
"History of Muhammad's Campaigns by Aboo Abd-Allah Mohammad Omar al-Waqidi"
كما صدر في الوقت نفسه الإصابة لابن حجر العسقلاني، والطبقات لابن سعد، وذلك بتحقيق ويليم ناسؤليز "William Nassau Lees" وهو عميد المدرسة العالية بكلكتة وقتذاك. وفي أوربا صدرت سيرة ابن هشام سنة 1859م/1275هـ بتحقيق: ف. وستنفلد
"F. Wustenfeld".
استفاد ميوير من هذه المصادر، وكتب في أول الأمر ثلاث مقالات عن السيرة بعناوين:
"مولد محمد صلى الله عليه وسلموطفولته"
"The Birth and Childhood of Mahomet"
و"حياة محمد صلى الله عليه وسلممن شبابه إلى سن الأربعين"
"The Life of Mahomet، from his youth to his fortieth year"
و"اعتقاد محمد صلى الله عليه وسلم في الوحي إليه"
"Belief of Mahomet in his inspiration".
صدرت هذه المقالات الثلاث في عددين متتالين من مجلة كلكتا ريفيو "The Calcutta Review" لسنة1852م. وتجدر الإشارة إلى أن المقالين الأول والثاني هما الفصلان الأولان في كتابه عن السيرة.
يقع الكتاب في ثلاثة أجزاء: الجزء الأول مخَصَّص للكلام على مصادر السيرة. وخلاصة قول ميوير في هذا الموضوع أن الكتب في السيرة مثل كتاب ابن إسحاق متحيزة ومليئة بأساطير وقصص غير معقولة، فينبغي تنقيحها وتأويل الحقائق المسجلة فيها. أما الأحاديث/ الروايات فجميعها أو أغلبها مفتريات من قبل الأطراف المعنية، فلا يعتمد عليها إلا التي هي لغير صالح النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ـ يقول ميوير ـ لا يمكن إشاعة مثل هذا النوع من الروايات إلا أن تكون صحيحة.
إن ميوير مخطئ في مزاعمه هذه بالنسبة للمصادر، وهو يتجاهل الحقيقة الهامة أن العلماء المسلمين وضعوا ضوابط وقواعد دقيقة لتمييز الروايات الصحيحة من الموضوعة. ولكن هدفه خفي وهو تمهيد السبيل إلى التلاعب بالمصادر وطرح الافتراضات لصالح آرائه. على أية حال فإن خَلَفَهُ مثل جولد تسيهر "Goldziher" وشاخت "J. Schacht" قد اتخذا تلميحاته في كتابيهما عن السنة. حتى نولديكه يعتمد على إشارات ميوير في كتابته عن تاريخ القرآن (1) .
يسعى ميوير لتطبيق نظرياته بشأن المصادر في معالجته العهد المكي والعهد المدني في الجزأين الأخيرين من كتابه، فيشكك في المعلومات التي لا تتفق مع آرائه أو يحرف معناها ويستخدم الروايات المؤيدة لنظرياته بدون النظر في أسانيدها وصحتها، ويلجأ إلى الافتراضات والظنون في كثير من الأمور. وبهذه الأساليب يعيد ويضخم جميع الادعاءات والافتراءات القديمة والمتعلقة بالموضوعات الرئيسة للسيرة.
أولاً: بالنسبة لخلفية الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ميوير: إن الكعبة ليست لها أية صلة بإبراهيم عليه السلام وإن الذبيح هو إسحاق لا إسماعيل عليهما السلام، ثم يفترض أن المستعمرين الأولين بمكة كانوا من سكان اليمن الذين جاؤوا إليها بالوثنية وعبادة الحجر، وهم الذين بنوا الكعبة، وربطوا دينهم وعبادة الحجر الأسود بها وببئر زمزم. أما هاجر وإسماعيل فسكنا
(1) انظر اعتراف نولديكه في مقالاته عن القرآن في الموسوعة البريطانية الطبعة التاسعة 1891م ص597 وما بعدها.
في فاران في شمال الجزيرة العربية، ثم بعد زمن طويل جاءت قبيلة إسماعيل إلى مكة نظراً لأهميتها التجارية وسكنت فيها. فهم الذين استوردوا الأسطورة الإبراهيمية، وطعموها بالكعبة والخرافات الموجودة هناك. فاستخدم محمد صلى الله عليه وسلم فيما بعد هذه الأسطورة الإبراهيمية لغرضه (1) .
ثانياً: أما بالنسبة لحياته صلى الله عليه وسلم المبكرة يجدد ميوير الادعاء القديم أنه كان مصاباً بداء الصرع الذي تصاحبه الغشية والغيبوبة، وأنه استخدم هذه القرائن فيما بعد لتلقي الوحي (2) .
ثالثاً: يعيد ميوير الادعاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان طموحاً للتقدم والرقي واستهدف توحيد الجزيرة العربية سياسياً وإخضاعها لسلطته.
يقول ميوير:
"Behind the quiet retiring exterior of Mahomet lay hid a high resolve، a singleness and unity of purpose، a strength and fixedness of will; a sublime determination، destined to achieve the marvellous work of bowing towards himself the heart of all Arabia as the heart of one man"(3) .
"كان وراء ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وشخصيته الهادئة والانطوائية عزيمة مخفية وتفانٍٍ في سبيل هدف واحد، وقوة الإرادة والثبات وهمة سامية،
1 Muir، Life of Mahomet etc.، st edition، vol. i، pp. cxi، cxv، cxxv- cxxvi.
2 المرجع نفسه: ص21-24
3 Muir، Life of Mahomet etc.، third edition، pp.
جميعها موجهة إلى إنجاز العمل البديع وهو إخضاع الجزيرة العربية إليه كقلب رجل واحد".
كما يقول ميوير بهذا الصدد إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعد نفسه للدور الذي قام به فيما بعد، وذلك بحضور المنافسة الأدبية في أسواق عكاظ وذي المجنة.
رابعاً: وامتداداً لادعائه السابق، يكرر ميوير الحجة القديمة أنه صلى الله عليه وسلم تزوَّد بالمعلومات عن الديانتين اليهودية والنصرانية وقد أتى بها من أفراد اليهود والنصارى الموجودين في مكة والمدينة والذين لقيهم خلال رحلتيه إلى الشام، ولا سيما من أفراد مثل ورقة بن نوفل بمكة، كما يكرر ميوير ما كان قد قاله بريدو من قبل: أن انطباع محمد صلى الله عليه وسلم لهاتين الديانتين كان خاطئاً، حيث حصل على معلوماته من الكاثوليك المنحرفين.
يقول ميوير:
".... the misnamed catholicism of the Empire thus grievously misled the mastermind of the age، and through him eventually so great a part of the eastern world."(1) .
"هكذا أضلت الكثلكة في الإمبراطورية عقل العصر المدبر، ومن ثم الجزء الكبير من العالم الشرقي".
خامساً: بالنسبة لأمر الوحي والرسالة يقول ميوير: "إنها من نتائج تأمل محمد صلى الله عليه وسلم وتدبره في غار حراء، فتبادر إلى ذهنه بعض التصورات عن
(1) المرجع نفسه: ص20-21.
الله والبعث بعد الموت والتي أشاعها في قطع صغيرة من الشعر وتعبيرات زاخرة بالعواطف. فالوحي من ذات محمد صلى الله عليه وسلم ونفسه وهو أمر نفسي على الأرجح" (1) . وقد سبق أن أشرنا إلى أن ميوير يربط داء الصرع المزعوم بالوحي.
سادساً: وبالنسبة للمرحلة الأولى للدعوة، يقول ميوير:"إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يتخل عن الوثنية تماماً في بداية الأمر وأنه لم يدَّع النبوة إلا بعد أن قال له المشركون إنهم لو كان قد أرسل إليهم نبي لآمنوا به"(2) .
كما يصدق ميوير قصة الغرانيق، ويقول:"إن محمداً صلى الله عليه وسلم قام بالاتفاق مع الوثنيين وإنه كان في الواقع يتلقى الوحي من الشيطان".
يقول ميوير:
"Our belief in the power of the Evil One must lead us to consider this as at least one of the possible causes of the fall of Mahomet
…
into the meshes of deception. May we conceive that a diabolical influence and inspiration was permitted to enslave the heart of him who had deiliberately yielded to the compromise with the evil".
"إن اعتقادنا بقوة الشيطان ليقودنا إلى الأخذ في الاعتبار أن هذه كانت على الأقل من أسباب محتملة لسقوط محمد صلى الله عليه وسلم في شبكة الخدعة.
(1) المرجع نفسه: ص35-41.
(2)
المرجع نفسه: ص42-43.
ويمكننا أن نتصور أن أثراً شيطانياً قد أوحى إليه واستولى على القلب الذي استسلم عمداً للتسوية مع الشر".
هكذا يعيد ميوير بعبارات أخرى ما كان قد قاله مارتن لوثر وبريدو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مُدَّعياً، وتابعاً للشيطان.
سابعاً: أما بالنسبة لمعارضة المشركين فيتعاطف ميوير مع اعتراضاتهم ويقلل من معاناة المسلمين واضطهادهم، يقول ميوير:"إن المسلمين الأرقاء الذين لم تكن لهم صلة وطيدة مع أسر ذات نفوذ في المجتمع تعرضوا للعذاب، ولكن الذين ينتمون إلى الأسر والقبائل نجوا من خطر الاضطهاد"(1) .
ثامناً: أما بالنسبة للهجرة فيقول ميوير مثل قول جيبون من قبله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تحول إلى رجل دولة واستخدم الوحي لتحقيق أغراضه الدنيوية والشخصية"(2) .
تاسعاً: أما بالنسبة للعلاقة مع مكة بعد الهجرة، فيعيد ميوير كذلك الحجة القديمة "أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالاعتداءات والهجوم على قريش، وأنها قاتلت دفاعاً عن نفسها فقط"(3) .
يقول ميوير:
"Vindictive thoughts died out of Mecca
…
The thoughts of Mahomet، on the other hand، from the day of his flight،
(1) المرجع نفسه: ص 61.
(2)
المرجع نفسه: ص53.
(3)
المرجع نفسه ص196-206.
were not thought of peace. In his revelation vengeance was threatened against his enemies – a vengeance not postponed to a future life، but immediate and overwhelming even now. Sheltered in his present refuge، he might become the agent for executing the divine sentence، and at the same time truimphantly impose the true religion on those who had rejected it. Hostility to the Coreish lay a seed germinating in his heart; it wanted but a favourable opportunity to spring up" (1) .
"إن أفكار الضغينة خمدت في مكة، ولكن أفكار محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن من يوم هجرته أفكار سلام، ففي وحيه جاء التهديد بالانتقام على أعدائه. انتقام لا يؤجل إلى مستقبل الأيام بل هو عاجل وساحق على الفور. وكان بإمكانه ـ وهو آمن في مأواه الحالي ـ أن يكون منفذاً للحكم الإلهي وفي الوقت نفسه أن يفرض دينه وينتصر على الذين كانوا قد رفضوه. كان العدوان على قريش كامناً في صدره كبذرة ناشئة تنتظر فرصة ملائمة لتنبت".
عاشراً: أما بالنسبة لمعاملته صلى الله عليه وسلم ليهود المدينة، فيتهمه بالظلم والقسوة عليهم ويخفف أو يخفي دورهم المعادي والخياني ونقضهم العهود (2) .
حادي عشر: وكعادة السابقين له يتهم ميوير النبي صلى الله عليه وسلم بالشهوة بسبب تعدد زوجاته رضي الله عنهن، كما يقول في زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب
(1) المرجع نفسه: ص196.
(2)
المصدر نفسه ص: 234-235، 271-276، 304-312.
بنت جحش رضي الله تعالى عنها "أنه استعان بوحي إلهي لإنقاذ سمعته"(1) .
ثاني عشر: فإن ميوير لا يعيد الحجة القديمة أنه صلى الله عليه وسلم نشر وفرض دينه بالقوة والعنف فحسب بل يعيد أيضاً ادعاء مارتن لوثر ومَنْ قبله "أن الإسلام خطر على الغرب والحضارة"، فيقول في ختام كتابه:
"The sword of Mahomet and the Coran are the most stubborn enemies of Civilisation، Liberty and Truth which the world has yet known"(2) .
"إن سيف محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن هما ألدُّ أعداء الحضارة والحرية والحق حتى الآن".
هكذا يعيد ميوير جميع الادعاءات والافتراءات المبثوثة من قبله، وذلك بأساليب وافتراضات شتى، وجميع هذه الادعاءات والافتراضات باطلة وقابلة للدحض بالأدلة النقلية والعقلية. وفي الواقع قد فَنَّدْتُ تلك التي تخص العهد المكي في كتابي "سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمستشرقون"(3) ، وأنوي معالجة البقية في مؤلف آخر إن شاء الله. وتجدر الإشارة هنا إلى أن جميع ما كتب عن السيرة باللغة الإنجليزية بعد ميوير ينتهج منهجه في تكرير
(1) المصدر نفسه: ص238.
(2)
المصدر نفسه: ص506.
(2)
M. M. Ali، Sîrat al-Nabî and the Orientalists، Vols.، Madina،
الادعاءات المشار إليها بالنسبة للموضوعات الرئيسة للسيرة، مع الغلو فيها، وبالإضافة إليها بنظريات جديدة وافتراضات فرعية. فلننظر إلى كتاب مرغوليوث في السيرة.