الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك هو مقتضي العمل بدلالة اللفظ، والمعنى الذي وضع له في اللغة، وهو إجماع الصحابة وأهل اللغة، فإنهم بأجمعهم قد أجروا الألفاظ العامة من نصوص الكتاب والسنة على عمومها وشملوا بها كل الأفراد التي تدخل فيها إلا ما ثبت الدليل على استثنائه من العموم أو تخصيصه بحكم خاص غير الحكم الثابت في النص العام.
فاتفقوا على العمل بالعموم في قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278].
وقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]. وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110].
وغير ذلك كثير من صيغ العموم في الكتاب والسنة. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بعض الصحابة وهو في الصلاة فلم يجبه، قال صلى الله عليه وسلم:«أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [لِمَا يُحْيِيكُمْ]} [الأنفال: 24]» أخرجه البخاري من حديث أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى والترمذي من حديث أُبَيٍّ بْنِ كَعْبٍ (1). وهذا استدلال بالعموم كما قال السرخسي (2).
قَطْعِيَّةُ دَلَالَةِ العَامِّ:
الا أن الحنفية اختلفوا بعد ذلك مع الجمهور في طبيعة هذه الدلالة التي أفادها النص العام على العموم، هل هي قطعية أو ظنية؟
والمراد بالدلالة القطعية هنا: أن النص العام لا يحتمل الخصوص احتمالاً ناشئًا عن دليل، أو أن دلالته لا شبهة فيها.
(1)" البخاري " في (فضائل القرآن): جـ 6 ص 187، والترمذي: جـ 5 ص 155 و 156 وصححه.
(2)
" أصول السرخسي ": جـ 1 ص 35.
والمراد بالدلالة الظنية أن النص العام يحتمل الخصوص احتمالاً ناشئًا عن دليل أو أن دلالته على العموم فيها شبهة.
فقال الحنفية وهو رواية عن الإمام أحمد وقال به بعض الحنابلة منهم ابن عقيل والفخر إسماعيل: إن النص العام يثبت الحكم في جميع ما يتناوله على سبيل القطع، وهو في ذلك عندهم كالخاص سواء بسواء.
وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو المعتمد عند الحنابلة: إنه يثبت الحكم فيما يتناوله على سبيل الظن، وهو في ذلك مخالف للنص الخاص، فإن الخاص عندهم قطعي الدلالة على مدلوله (1).
استدل الحنفية على مذهبهم فقالوا: إن اللفظ متى وضع لمعنى كان هذا المعنى لازمًا له وثابتًا به قطعًا، حتى يقوم الدليل على خلافه، والعموم قد وضع له اللفظ العام اتفاقًا بيننا وبينكم، فيكون ثابتًا به ولازمًا له قطعًا حتى يقوم الدليل على صرفه عنه إلى غيره.
واستدل الجمهور على أن العام ظني الدلالة فقالوا: كل عام يحتمل التخصيص، والتخصيص شائع فيه حتى صار قولهم:«مَا مِنْ عَامٍّ إِلَاّ وَقَدْ خُصِّصَ» بمنزلة المثل، ولهذا يؤكد العام بكل وأجمع، لإزالة هذا الاحتمال، والقطع لا يثبت مع الاحتمال، لأنه عبارة عن قطع الاحتمال.
وقد دارت بين الفريقين محاورات ومناقشات لا حاجة بنا هنا إلى
(1) انظر المسألة وفروعها في " أصول السرخسي ": جـ 1 ص 137 - 143، و" التنقيح " وشرحه " التوضيح "، و" حاشية التفتازاني ": جـ 1 ص 39 - 41، و" فواتح الرحموت ": جـ 1 ص 265 - 267، و" شرح الكوكب المنير ": جـ 3 ص 114 مع الحاشية.
بسطها، غير أنا نستطع أن نجد ما يقوي مذهب الحنفية في هذه المسألة الهامة، وكذلك أن تجويز أن يراد بالنص العام بعض الأفراد دون البعض من غير قرينة أو دليل كما ذهب مخالفو الحنفية أمر مستبعد موقع في الارتباك أمام النصوص، وذلك لأنه يؤدي إلى ارتفاع الأمان عن اللغة وعن الشرع؛ وإلى التلبيس على السامع، لأن عن كل ما ورد في اللغة عَامًّا فإنه يحتمل الخصوص حينئذٍ، فلا يستقيم فهم العموم منه.
وكذلك في الشرع، لأن معظم خطابات الشرع عامة، فإذا جاز إرادة بعض من غير قرينة لما صح فهم الأحكام على وجه العموم، وأدى ذلك إلى التلبيس على المخاطبين، وتكليفهم بالمحال، وهو باطل.
كما يقوي مذهب الجمهور ما استدل به ابن النجار الحنبلي (1)«إن التخصيص بالمتراخي لا يكون نَسْخًا ولو كان العام نَصًّا على أفراده لكان نَسْخًا، وذلك أن صيغ العموم ترد تارة باقية على عمومها، وتارة يراد بها بعض الأفراد، وتارة يقع فيها التخصيص، ومع الاحتمال لا قطع، بل لما كان الأصل بقاء العموم فيها كان هو الظاهر المعتمد للظن» .
وقد تضمنت كلمته هذه جواب استدلال الحنفية حين قال: «لما كان الأصل بقاء العموم فيها كان هو الظاهر المعتمد للظن» .
(1)" شرح الكوكب المنير ": جـ 3 ص 115.