الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: فيما يوضع عليه الخراج من الأرضين وما لا يوضع
الأرض أما أن تكون للمسلمين أو للكفار فأماأرض المسلمين فهي قسمان: أحدهماأرض لها مالك معين من المسلمين وهي ما أحياها المسلمون من غير أرض العنوة أو ما أسلم أهلها عليها ولم يكن ضرب عليهم خراج قبل الاسلام فهذه لاخراج عليها وكذلك ما ملكها بعض المسلمين من الكفار ابتداء كأرض قاتلوا عليها الكفار وقسمها الامام بين الغانمين فكل هذه من أراضي المسلمين مملوكة لمن هي في يده ولا خراج على المسلم في خالص ملكه الذي لا حق لأحد فيه وهذا لا يعلم فيه خلاف ونص عليه الامام أحمد في: إحياء الموات وفيمن أسلم على أرض بيده ونقل حنبل عنه فيمن أسلم على شيء فهو له ويؤخذ منه خراج الارض قال القاضي: هذا محمول على أنه كان في يده أرض من أرض الخراج فلا يسقط خراجها بإسلامه.
وفي مسائل حرب قال احمد مرة: أرض الصلح هي خراج قيل: كيف قال الرجل يكون في يده الأرض فيسلم ويصالح على أرضه؟! فهذا هو خراج قال حرب هذا عندي وهم ولا أدري كيف هذا لأن الرجل اذا لم يسلم وصالح على أرضه أخذ منه ما صالح عليه فإذا أسلم بعد الصلح فان أرضه عشر انما الخراج العنوة.
وقال لي أحمد مرة أخرى: أرض الصلح هي عشر كيف يؤخذ منها الخراج ولا أدري لعلي أنا لم أفهم عن أبي عبد الله القول الأول في أرض الصلح.
وسمعت أحمد مرة أخرى يقول: اذا فتح المسلمون الأرض عنوة فصارت فيأ لهم فهو خراج قال: وأرض العشر الرجل يسلم بنفسه من غير قتال وفي يده الأرض فهو عشر مثل المدينة ومكة.
وفي كتاب الخلال عن حرب ويعقوب بن بختان عن احمد في الذمي يسلم وله أرضون قال: يقوم بخراجها ويمكن تأويله على أنه كانت بيده أرض خراج كما تأول عليه القاضي رواية حنبل والله أعلم.
وذهب الحنفية الى أن من حيى مواتا في أرض الاسلام وسقاه من أرض الخراج أن عليه الخراج وهذا بنوه على أصلهم في أن الاعتبار في وجوب الخراج بالماء المسقي به لا بالارض.
القسم الثاني
أرض للمسلمين عموما ليس لها مالك معين فهذه التي يوضع عليها الخراج في الجملة وسواء كانت في أيدي المسلمين أو الكفار وأما أرض الكفار التي صالحونا على أنها لهم ولنا عليها الخراج فيثبت الخراج عليها أيضا بحسب ما صالحوا عليه وهذا كله مجمع عليه في الجملة لا يعلم فيه خلاف إلا أن يحيى بن آدم حكي في كتابه عن شريك أنه قال: إنما أرض الخراج ما كان صلحا على خراج يؤدونه الى المسلمين قال: وأما السواد فانه أخذ عنوة فهو فيء ولكنهم تركوا فيه ووضع عليهم شيء وليس بالخراج وكأن مأخذه في ذلك والله أعلم أن الخراج ما وضع على الكفار على وجه الصغار عليهم والذلة و هذا انما يكون فيما وضع على
أرضهم بسبب الكفر كالجزية الموضوعة على رؤسهم بسبب الكفر وسمى الجزية خراجا كما سبق ذكره بخلاف ما وضع على أرض المسلمين فانه ليس موضوعا على وجه الصغار وانما هو في الحقيقة كالاجرة له وهذا نزاع لفظي لا يترتب عليه حكم شرعي ويحتاج ههنا الى الكلام على مسألتين:
أحداهما الارض التي لعموم المسلمين نوعان: أحدهما أرض الفيء وهي ما لم يتعلق حق مسلم معين بها ابتداء كأرض هرب أهلها من الكفار واستولى المسلمون عليها فهذه فيء.
وأرض من مات من الكفار ولا وارث له فانها فيء عند الشافعي واحمد في المشهور عنه وكذا عند أبي حنيفة وأصحابه إلا أنهم جعلوها مصروفة في مصالخ خاصة وعند مالك والنخعي ماله لأهل ملته ودينه وعن احمد نحوه.
واختلف العلماء في حكم أرض الفيء هل تصير وقفا بمجرد انتقالها الى المسلمين أم لا؟ نص الشافعي أنها تصير وقفا ما عدا الخمس لأن الفيء عنده يخمس واختلف أصحابه على طريقين:
أحدهما أن يصير هذا بالوقفية على قوله أن مصرف الفيء المصالح فأماعلى قوله انه للمقاتلة فيجب قسمتها بينهم.
والثاني أنه وقف على القولين جميعا لكن ان قلنا مصرف الفي المصالح صرفت غلة هذه الأرض في المصالح وان قلنا المقاتلة خاصة صرفت الغلة في مصالحهم.
واختلف أصحابنا هل تصير أرض الفي وقفا بمجرد استيلاء المسلمين عليها أم لا على وجهين:
فمنهم من حكى هذا لخلاف في الارض التي جلى أهلها عنها خاصة
كأبي الخطاب ومن تبعه ومنهم من حكاه في أرض من مات ولا وارث له خاصة كالقاضي في الاحكام السلطانية وجعل حكمها حكم أرض العنوة على ما سيأتي ان شاء الله تعالى.
وذكر أن الامام له أن يصطفي لبيت المال من مال الغانمين باستطابة نفوسهم أو بحق الخمس ويكون ملكا لجميع المسلمين أو لأهل الخمس فان شاء الامام؟ استغله ومنهم من حكى في الارض التي جلى عنها الكفار حتى تصير وقفا بمجرد ذلك أم لا تصير وقفا بدون وقف الامام روايتين ولم يحك في أرض بيت المال الموروثة أنها لا تصير وقفا بدون وقف الامام كصاحب المحرر والمنصوص عن أحمد في ذلك ما نقله عنه صالح وأبو الحارث قال: كل أرض جلي عنها أهلها بغير قتال فهي فيء.
ونقل عنه المروزي انه قال: الأرض الميتة اذا كانت لم تملك فان ملكت فهي فيء للمسلمين مثل من مات وترك مالا لا يعرف له وارث والقاضي يتأول قول أحمد أنها فيء بأن المراد أنها وقف وظاهر كلام احمد يأبى ذلك ويدل على أنها مملوكة لعموم المسلمين.
ومن الأصحاب من جعل أرض العنوه المضروب عليها كذلك كما سنذكره ان شاء الله تعالى.
وإذا قلنا لا تصير وقفا بدون وقف الامام فحكمها قبل ذلك حكم مال الفيء المنقول صرح به صاحب المحرر وكذا ذكره القاضي في الأحكام السلطانية في أرض بيت المال الموروثة دون الارض التي اصطفاها الامام لبيت المال فانه جعلها كالوقف المؤبد وفي ذلك نظر.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر أن يزارع أرض الصوافي بجزء معلوم فان لم يوجد من يزارع عليها فلتمنح فان لم يوجد من يأخذها أنفق عليها من بيت المال ولا تبور أخرجه يحيى بن آدم.
ونقل يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح في جميع هذه الأراضي أن أمرها إلى الامام فان شاء أقام فيها من يعمرها ويؤدي الى بيت مال المسلمين عنها شيئا ويكون الفضل له وان شاء أنفق عليها من بيت المال واستأجر من يقوم فيها ويكون فضلها للمسلمين وإن شاء أقطعها رجلا ممن له غناء عن المسلمين.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه ما يدل على أنه جعلها كأرض العنوة في التخيير سواء.
قال الأثرم: حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا أبو طلق حدثني أبو حنظلة بن نعيم أن سعدا كتب إلى عمر رضي الله عنه إنا أخذنا أرضا لم يقاتلنا أهلها فكتب اليه عمر رضي الله عنه إن شئتم أن تقسموها بينكم فاقسموها وإن شئتم أن تدعوها فيعمرها أهلها فمن جاء منكم بعد ذلك كان له فيها نصيب فإني أخاف أن تشاحنوا فيها وفي شربها فيقتل بعضكم بعضا.
ورورى الحسن بن زياد في كتاب الخراج عن الحسن بن عمارة عن محمد بن عبيد الله وعبد الرحمن بن سابط عن يعلى بن أمية أن عمر رضي الله عنه. استعمله على نجران وأوصاه أيما أرض جلي عنها أهلها فادفع الأرض وما فيها من النخيل والشجر إلى من يعملها ويقوم عليها على أن ما كان يسقى سيحا أو تسقيها السماء فلهم الثلث وللمسلمين الثلثان وما كان يسقى بغرب فلهم الثلثان وللمسلمين الثلث واسناده ضعيف جدا (1).
النوع الثاني: ما تعلق به ابتداء حق مسلم معين وهي أرض العنوة
(1) لأن الحسن ين عمارة رما ابن المديني بالوضع وقال مسلم متروك.
التي قوتل الكفار عليها واخذت منهم قهرا فاختلف العلماء قديما وحديثا في حكم هذه الارض اختلافا كبيرا وحاصله يرجع الى أقول ثلاثة:
أحدهما أنه يتعين قسمتها بين الغانمين بعد اخراج الخمس منها كما تقسم المنقولات وهذا قول الشافعي وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور واختاره وحكاه الخلال في كتاب الاموال رواية عن أحمد من رواية عبد الله عنه وإلى الآن لم نقف على نقل صريح عن أحد معين قبل الشافعي بهذا القول إلا أن يحيى بن آدم حكاه عن قائل لم يسمه وحكاه أحمد عن أهل المدينة وأما ما روي عن الزبير رضي الله عنه من طلب قسمة أرض مصر وعن بلال رضي الله عنه من طلب قسمة أرض الشام فذاك إنما يدل على جواز قسمته لا على أنه لا يجوز غير ذلك ولهذا لما أبى عمر رضي الله عنه عليهم القسمة لم ينكروا عليه ولا قال أحد منهم إن ذلك غير جائز (1) أو أنه مخالف لكتاب الله عز وجل.
والقول الثاني أنها تصير فيأ للمسلمين بمجرد الاستيلاء عليها لا يملكها الغانمون ولا يجوز قسمتها عليهم وهذا قول مالك وأصحابه وهو رواية عن أحمد واختاره أبو بكر من أصحابنا قال أحمد في رواية حنبل ما كان عنوة كان المسلمون فيه شرعا واحدا وعمر ترك السواد لذلك ومما روي عنه أن أرض العنوة فيء من السلف الحسن البصري وعطاء بن السائب وشريك بن عبد الله النخعي والحسن بن صالح ويحيى بن آدم لكنه مع ذلك قال يتخير الامام بين قسمتها وتركها ولعل من قبله يقول كذلك الا مالكا فانه منع القسمة.
القول الثالث: أن الإمام يخير بين الأمرين إن شاء قسمها بين
(1) إلا بلالا ومعاذا واتباعهما فانهم نازعوه في أرض الشام وراجعوه حتى دعا عليهم عمر فماتوا والقصة باسنادها في الأموال وسنن البهقي.
الغانمين وان شاء لم يقسمها لعموم المسلمين وهذا قول أكثر العلماء في الجملة منهم أبو حنيفة والثوري وابن المبارك ويحيى بن آدم وأحمد في المشهور عنه وأبو عقيل وإسحاق واختلفوا في كيفية تخير الامام فقالت طائفة يخير بين أن يقسمها بين الغانمين وبين وقفها وهو المشهور عن أحمد.
وروي عن الثوري وابن المبارك وأبي عبيد واختلفوا هل تخمس اذا قسمها أم لا على قولين: حكاهما يحيى بن آدم والقول بالتخميس منصوص عن أحمد والثوري وعلى هذا فلا يجوز أن ترد على أهلها تمليكا بخراج ولا غيره ذكره القاضي أبو يعلى في خلافه وغيره وقالت طائفة يخير بين قسمتها وأهلها بين الغانمين وبين إقرار أهلها عليها ويجعل عليها وعليهم الخراج فتكون ملكا لهم هذا قول أبي حنيفة وحكاه الطحاوي عن الثوري.
وحكي عن أبي حنيفة أنه إن شاء أيضا صرف عنها أهلها ونقل إليها قوما بالخراج وليس له عنده وقفها.
وقالت طائفة يخير بين أربعة أشياء: الوقف والقسمة وإقرار أهلها على ملكهم بالخراج والجزية وأن يجلي أهلها عنها وينقل إليها قوما لذلك وهذا قول طائفة من أصحابنا كالقاضي في المحرر ومن تابعه واختلفوا هل يوضع الخراج على جميع أراضي العنوة أم يستثنى بعضها فمن أصحابنا من قال يوضع الخراج على جميع أراضي العنوة حتى على مزارع ملكة إذا قلنا فتحت عنوة وهو قول أبي الخطاب في كتاب الانتصار والسامري وغيرهما وقيل إن قولهما خلاف الاجماع وقالت طائفة لا خراج على مزارع مكة سواء قلنا فتحت عنوة أو صلحا وهو قول أبي عبيد واكثر أصحابنا فان النبي صلى الله عليه وسلم لما رد مكة على أهلها لم يضرب عليهم خراجا وقد قيل في تعليله إن مكة لا يقر فيها كافر بحال فكذلك ما هو في الأصل على الكافر
والخراج في معنى الجزية فتصان مكة عنه. وإن قيل انه أجرة فبيوت مكة لا تؤجر لكن من منع إجارة بيونتها فأكثرهم خصوا ذلك بالمساكن إلا أن القاضي ابا يعلى ذكر في الاحكام السلطانية أن ما هو داخل في حدود الحرم كله لا يباع ولا يؤجر وذكر أن أحمد نص عليه في رواية مثنى الانباري.
وقيل في تعليل منع وضع الخراج على مزارع مكة إن العرب كما لا جزية على رقابهم فكذلك لا جزية على أرضهم ولكن في أخذ الجزية منهم نزاع مشهور ومقتضى هذا التعليل أنه لا يضرب الخراج على جميع أرض العرب الذي لا يؤخذ منهم الجزية وهذا قول الكوفيين الحسن بن صالح ويحيى بن آدم وحكي عن أبي حنيفة وفي كلام أبي عبيد ما يدل عليه.
وأعلم أن مآخذ الاختلاف بين العلماء في هذه المسألة ينبني على تحرير الكلام في ثلاثة أصول:
أحدهما أن الأرض المأخوذة عنوة هل هي داخلة في آية الغنيمة أو في آية الفيء؟
الثاني حكم خبير وهل قسمها النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يقسمها؟
الثالث ما فعله عمر رضي الله عنه بأرض السواد وغيره من أرض العنوة.
الأصل الأول أن الأرض المعنوة هل هي داخلة في آية الغنائم المذكورة في سورة الانفاق وهي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (1) الآية. أم هي داخلة في آية الفيء المذكورة في سورة الحشر وهي قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (2) الآية. ثم
(1) الانفال اية 41.
(2)
سورة الحشر اية 7.
ذكر تلاوة اصناف المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم فقالت طائفة: الأرض داخلة في آية الغنيمة فانه تعالى قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} . وشيءنكره في سياق النفي فيعم كل ما يسمى شيئا قالوا: وأية الفي لم يدخل فيها حكم الغنيمة كما أن آية الغنيمة لم يدخل فيها الفيء بل الغنيمة والفيء لكل واحد منهما حكم يختص به وهذا قول من قال من الفقهاء إن الأرض تتعين قسمتها بين الغانمين وقال طائفة بل الأرض داخلة في آية الفيء وهذا قول أكثر العماء صرحوا بذلك وممن روي عنه عمر بن عبد العزيز وقد سبق ذكر من قال من السلف إن السواد فيء ونص عليه الامام أحمد.
ووجه دخول الأرض في الفي أن الله تعالى قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} الآية. فجعل الفيء لثلاثة أصناف المهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم ولذلك لما تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية قال: "استوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق غلا بعض من تملكون من أرقائكم". أخرجه أبو داود من طريق الزهري عن عمر رضي الله عنه منقطعا.
وروي من وجه آخر عن الزهري موصولا ورواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أيضا ثم إن عمر رضي الله عنه جعل أرض العنوة فيأ وأرصدها للمسلمين إلى يوم القيامة فدل على أنه فهم دخولها في آيات الفيء ولذلك قرره أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في رسالته المشهورة التي بين فيها أحكام الفيء وقد اعتمد عليها مالك وأخذ بها كما ذكر ذلك القاضي إسماعيل في كتاب أحكام القرآن وساقها بتمامها باسناده.
وذكر البخاري في صحيحه بعضها تعليقا وبين دخول الأرض في الفيء وان هذه الآيات ليست بسبب بني النضير وبنو النضير أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد أن حاصرهم.
قال الزهري: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وهم سبط من اليهود بناحية من المدينة حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الابل من الأمتعة إلا الحلقة فأنزل الله فيهم يعني أول سورة الحشر. أخرجه أبو عبيد وخرجه أبو داود مطولا من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا طويلا وفيه ان النبي صلى الله عليه وسلم غزا على بني النضير بالكتاب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء فجلت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الابل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها فدل أن نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} (1) يقول فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين وقسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار كانا ذوي حاجة وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة رضي الله عنها وهذا الكلام أكثره مدرج من قول الزهري والله أعلم.
وخرج أبو داود من قوله كانت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وسلم الى آخره من قول الزهري.
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزلت فيهم هذه الآية: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} (2) الآية.
(1) سورة الحشر اية6.
(2)
سورة الحشر اية 5.
وفي الصحيحين أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه قال كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجب المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ثم ما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز و جل. وإذا علم أن الآية نزلت بسبب بني النضير فبنو النضير بما تركوا أرضهم ونخلهم و سلاحهم وقد جعله الله فيأ وخصه برسوله إما لأنه كان يملك الفيء في حياته أو لإنه كان يقسمه باجتهاد ونظره بخلاف الغنيمة.
ولا ريب أن بني النضير لم يتركوا أرضهم إلا بعد حصار ومحاربة ولم ينزلوا من حصونهم إلا خشية القتل ومع هذا فقد جعل الله أرض بني النضير فيأ وقوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} تذكير بنعمة الله عليهم في أنهم لم يحتاجوا في أخذ ذلك إلى كثير عمل ولا مشقة.
وقال مجاهد في قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} قال يذكرهم ربهم أنه نصرهم بغير كراع ولا عدة في بني قريضة وخيبر خرجه آدم بن أبي إياس عن ورقاء عن أبي نجيح عنه.
ومعلوم أن خيبر وقع فيها قتال لكن يسير فتكون الآية كقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (1) وحينئذ فاما أن تكون الأرض تستثنى من عموم قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية! فيكون ذلك تخصيصا من العام وإما أن يكون هذا ناسخا لحكم الأرض من آية الغنيمة فان قصة بني النضير بعد قصة بدر بالاتفاق والأشبه التخصيص إلا أن يقال إن قصة بدر لم يدخل فيها إلا المنقولات إذ لم يكن في غنيمة بدر أرض وهذا على قول من يرى التخصيص
(1) سورة ال عمران اية 123.
بالسبب ظاهر ومما يدل على تخصيص آية الغنيمة بالمنقولات أن الله تعالى خص هذه الأمة باباحة الغنيمة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة.
والذي خصت باباحته هو المنقولات دون الأرض فان الله تعالى أورث بني إسرائيل أرض الكفار وديارهم ولم يكن ذلك ممتنعا عليها لأن الأرض ليست بداخلة في مطلق الغنيمة وإنما كان ممتنعا عليهم المنقولات ولهذا كانوا يحرقونها بالنار. وانما خص الغانمون من هذه الأمة بالمنقولات دون الأرض لأن قتالهم وجهادهم لله عز وجل لا للغنيمة وانما الغنيمة رخصة من الله تعالى ورحمة بهم فخصوا بما ليس له أصل يبقى وأما ماله أصل يبقى فانه يكون مشتركا بين المسلمين كلهم من وجد منهم ومن لم يوجد بعد ذلك ويبين هذا أن الله تعالى نسب الغنيمة للغانمين فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} فأما الأرض فاضافها الى الرسول لقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إشارة إلى أن كل قرية يفيئها الله على أمته الى يوم القيامة فهي مضافة الى الرسول غير مختصة بالغانمين والامام يقول مقام الرسول في قسمتها بالاجتهاد وقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} من الأرض خاصة. وقد صح عن عطاء بن السائب والحسن البصري وغيرهما من السلف انهم قالوا الأرض فيء وإن أخذت بقتال وتقدم ذكر ذلك عن جماعة من العلماء يدل على ذلك انه جعلها لثلاثة أصناف المهاجرين والانصار ومن جاء بعدهم من المسلمين وهذا لا يمكن في المنقولات قطعا لأن المنقولات تستهلك ويختص به من يأخذه فلا يمكن اشتراك جميع المسلمين فيه.
وقد قيل ان هذه الآية نزلت في قرى عرينة التي فتحت على النبي صلى الله عليه وسلم أو فيها وفي قرى بني قريظة والنضير وحنين وقيل بل الآية تعم كل
ما فتح الى آخر الدهر وهو أصح وان كان سبب نزولها في قرى عرينة فان سبب النزول لا يخص الحكم العام قال معمر بلغنا أن هذه الآية نزلت في الجزية والخراج خراج القرى يعني القرى تؤدي الخراج ذكره ابن أبي حاتم..
وكذا قال الحسن بن صالح: إن الفيء ما أخذ من الكفار بصلح من جزية أو خراج وكذا فسر أحمد الفيء بأنه ما صولح عليه من الأرضين وجزية الرؤس وخراج الأرض. وقال: فيه حق لجميع المسلمين ولم يذكر في هذه الآية بغير إيجاف كما ذكره في الآية الأولى.
وقد تقدم عن مجاهد أنه حمل الآية الأولى على خيبر وقريظة مع ما فيها من نفي الايجاف فما لم يذكر فيه نفي الايجاف أولى أن يحمل على حالة القتال فمن هنا قالت طائفة من السلف المراد به ما أخذه المسلمون بقتال من الأرض.
ذكر ابن إسحاق عن أبيه عن المغيرة بن عبد الرحمن قال ابن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر دخل حديث أحدهما في الآخر قال أنزل الله تعالى في بني النضير سورة الحشر فكانت أموال بني النضير مما لم يوجف المسلمون عليه خيلا ولا ركابا فجعل الله أموالهم لنبيه صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء ثم قال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ما أوجف المسلمون عليه بالخيل والركاب وفتح بالحرب فلله وللرسول ولذي القربى فهذا قسم آخر بين المسلمين على ما وضعه الله عز وجل فقسم الفيء لمن سمي من المهاجرين والأنصار ولمن جاء بعدهم أخرجه القاضي إسماعيل.
ونحو هذا قال قتادة ويزيد بن رومان وإن هذه القرى مما أخذ بالقتال لكنهم قالوا نسخ ذلك بآية الأنفال فان أرادوا النسخ الاصطلاحي وهو رفع الحكم فلا يصح لأن آية الأنفال نزلت عقب بدر
قبل بني النضير وإن أرادوا أنها بينت أمرها وأن المراد بأية الحشر خمس الغنيمة خاصة وهذا قول عطاء الخراساني ذكره آدم بن أبي إياس في تفسيره عن أبي شيبة عنه على تقدير أن يكون المراد الخمس خاصة ولو قيل على تقدير أني كون المراد الخمس خاصة بآية الحشر أنها بينت ان خمس الغنيمة لا يختص بالاصناف الخمس بل يشترك فيها جميع المسلمين كان متوجها ويستدل بذلك على أن مصرف الخمس كله مصرف الفيء وهو أقوى الاقوال وهو قول مالك وقرره عمر بن عبد العزيز في رسالته في الفيء تقريرا بليغا شافيا رضي الله عنه فهذه ثلاثة أقول في الآية.
إذا قلنا إن الفيء هنا ما أخذ بقتال هل هي منسوخة أو أن المراد بها خمس الغنيمة أو أن المراد بها الأرض خاصة وهذا الثالث أصح ويقرر هذا أن الفيء يستعمل كثيرا فيما أخذ بقتال.
وروى إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال أفاء الله على رسوله خيبر فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا وذكر الحديث.
وروى يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر قسمها ستة وثلاثين سهما وذكر الحديث خرجه أبو داود وإذا تقرر هذا فمن رأى دخول الأرض في أية الغنيمة خاصة أوجب قسمتها بين الغانمين ومن رأى دخولها في آية الفيء خاصة فمنهم من أوجب ارصادها للمسلمين عموما كقول مالك وأصحابه ومنهم من خير بين ذلك وبين قسمتها وهو قول الأكثرين.
ثم أن أبا عبيد زعم ان الصحابة رضي الله عنهم رأوا دخولها في كلتا الأثنتين فلذلك منهم من أشار بقسمتها ومنهم من أشار بحبسها ورد ذلك أصحاب مالك وقالوا: لو دخلت في آية الغنيمة لكانت حقا للغانمين
كالمنقولات فكيف يخير الامام بين اعطائها لأهلها المستحقين لها وبين منعهم حقهم؟! وقد يقال ان من رأى قسمتها كالزبير وبلال رضي الله عنهما وهو أول اختياري عمر رضي الله عنه لم يكن مأخذه في ذلك دخولها في آية الغنيمة وإنما يكون مأخذهم في ذلك أنها لما كانت فيئا لجميع المسلمين وحقا مشتركا بينهم جاز تخصيص الغانمين بها لانهم من جملة المسلمين ولهم خصوصية على غيرهم بحصول هذه الارض بقتالهم عليها فإذا كانت المصلحة في تخصيصهم بها جاز وهذا كما أقطع عثمان رضي الله عنه جماعة من الصحابة بعض أرض السواد إقطاع تمليك ونظيره وقف الامام بعض أراضي بيت المال على بعض المسلمين وقد أفتي بجواز ذلك ابن عقيل من أصحابنا وطوائف من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ومن الشافعية من منع ذلك وسنذكر ذلك مستوفى فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الأصل الثاني حكم خيبر وقد اختلف الناس فيما فعله فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالت طائفة قسمها جميعا بين أهل الحدبية ومن شهد خيبر ومن غاب عنها وهذا قول الزهري ذكره أبو داود في سننه وقد تقدم أن عمر رضي الله عنه قال: "لولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر". وكذا روى ابن وهب في مسنده عن ابن لهيعة عن يزيد (1) بن أبي حبيب عمن سمع عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة يقول سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول لما افتتحت مصر قال الزبير بن العوام لعمرو بن العاص رضي الله عنهما أقسمها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال عمرو: لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر رضي الله عنه
(1) يزيد هذا ممن يكثر الرواية عنه ابن لهيعة وهو مجهول.
أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة (1). وأخرجه الامام أحمد وأبو عبيد
وروى أبو إسحاق الفزاري في كتاب السير عن ابن المبارك عن جرير ابن حازم قال: سمعت نافعا يقول: أصاب الناس فتحا بالشام فيهم بلال قال: وأظنه ذكر معاذا فكتبوا إلى عمر رضي الله عنه: إن الفيء الذي أصيب لك خمسه ولنا ما بقي ليس لأحد فيه شيء كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر فكتب عمر رضي الله عنه إنه ليس على ما قلتم ولكن أقفها للمسلمين فراجعوه الكتاب وراجعهم بأبون ويأبى فلما أبوا قام عمر رضي الله عنه فدعا عليهم فقال اللهم اكفني بلالا وأصحاب بلال فما حال الحول حتى ماتوا جميعا.
وقالت طائفة: لم يقسم فيها شيء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما قسمت في عهد عمر رضي الله عنه فهذا قول الطحاوي قال وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم غلاتها ولم يقسم الأرض وإنما قسم أرضها عمر رضي الله عنه في خلافته حين أجلى اليهود عنها.
وقالت طائفة: بل قسم بعضها وترك بعضها بغير قسمة للمصالح وهذا هو الأظهر.
ويدل عليه ما خرجه أبو داود من رواية أسامة بن زيد عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنه أنه قال: جزأ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ثلاثة أجزاء جزأين بين المسلمين وجزء نفقة لأهله فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين.
وخرج أيضا من طريق ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين نصف
(1) يعني ولد الولد كنابة عن وقفها على عموم المسلمين.
لنؤائبه وحاجته ونصف بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما.
ومن طريق أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار قال: لما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به وعزل النصف الآخر فقسمه بين المسلمين.
وأخرجه أيضا من طريق أبي شهاب عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار أنه سمع نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالو فذكر هذا الحديث. وقال كان النصف سهام المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزل النصف للمسلمين لما ينوبه من الأمور والنوائب.
وأخرجه أيضا من طريق محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن بشير ابن يسار عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين النصف من ذلك وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والامور ونوائب الناس فهذا صريح في أن نصف خيبر قسم على أهلها ونصفها تركه النبي صلى الله عليه وسلم فيأ يتصرف فيه تصرفه في الفيء.
وخيبر انما قسمت على أهل الحديبية خاصة.
وروى علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كانت خيبر فقال الزهري وابن اسحاق كان منهم من غاب عنها وأخذ من نصيبه وقال موسى بن عقبة لم يتخلف عن خيبر أحد من أهل الحديبية.
واختلفوا هل اعطى من القسمة من شهد خيبر ممن لم يشهد الحديبية على قولين حكاهما القاضي إسماعيل في كتاب الاموال له.
وذكر ابن إسحاق ان خيبر قسمت على نخل من شهدها من أهل الحديبية قال القاضي إسماعيل ولم تختلف الرواية أنها قسمت بين أهل الحديبية من شهد منهم خيبر ومن غاب عنها.
وفي صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه لما أجلى اليهود من خيبر قال: "من كان له سهم بخيبر فليحضر"، فقسمها عمر رضي الله عنه بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية.
وهذا يدل بمفهومه على أنه لم يقسم منها لمن لم يشهد خيبر من أهل الحديبية وقد أشرك النبي صلى الله عليه وسلم معهم جماعة جاءوا بعد الفتح منهم جعفر وأبو موسى وأصحابه وأبو هريرة وأصحابه فقيل: كان ذلك برضى من المستحقين قاله موسى بن عقبة ومحمد بن سعد.
وفي مسند أحمد حديث يدل على ذلك ويحتمل أن يكون أعطاهم من الخمس واختلفوا هل كانت خيبر كلها عنوة أم لا.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فأصبناها عنوة.
وقال الزهري: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال خرجه أبو داود من طريق يونس عنه.
وخرج أيضا من طريق مالك عن ابن شهاب أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحا.
وعن الزهري أن سعيد بن المسيب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اففتح بعض خيبر عنوة.
وخرج أيضا من طريق ابن إسحاق عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر وبعض ولد محمد بن مسلمة قالوا: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا
فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويسيرهم ففعل فسمع بذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
قال القاضي إسماعيل: ما كان من خيبر أخذ من غير قتال جرى مجرى بني النضير.
وسئل الامام أحمد عن أرض خيبر فقال: ما صح لي من أمرها شيء. نقله عنه اسحق بن منصور وعن إسحاق بن راهويه مثله.
وإذا تقرر هذا فمن زعم أن خيبر كلها قسمت استدل بذلك على وجوب قسمة الأرض بين الغانمين ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم شيئا من أرضها استدل بذلك على أن الأرض لا تقسم بل تترك فيأ وأما قسمة عمر رضي الله عنه لها دون أرض العنوة التي فتحها فلأن المسلمين كثر فيهم من يعمل على الأشجار فاستغنوا عن اليهود وأرض خيبر من أرض الحجاز وهي أرض عرب فلا يضرب عليهم الخراج ولا يبقى فيها كافر بعد إجلاء عمر رضي الله عنه اليهود عنها فتعين قسمتها بين أهلها ليشتغل كل واحد منهم نصيبه ومن رأى أن بعضها قسمه النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها تركه فيأ استدل بذلك على جواز الأمرين وزعم ابن جرير الطبري أن ما قسمه النبي صلى الله عليه وسلم منها كان فتح عنوة وما لم يقسم منها كان أخذه صلحا واعترض القاضي إسماعيل على من استدل بقسمة خيبر على قسمة أرض الفيء بأن قسمة خيبر لا يجوز القياس عليها لأنها قسمت على أهل الحديبية من غاب منهم ومن حضر واشترك فيها من لم يحضر الوقعة من غير أهل الحديبية ومع هذا يمتنع الحاق غيرها بها ويجاب على ذلك بأنه يحتمل أن أهل الحديبية لم يتخلف منهم أحد عن شهود فتح خيبر كما ذكر موسى بن عقبة ويحتمل أن اعطاء أبي موسى وأبي هريرة وأصحابهما رضي الله عنهم
كان بطيب نفس الغانمين كما قاله موسى بن عقبة ومحمد بن سعد وأن يكون لحوقهم قبل احراز الغنيمة فاستحقوا مع الغانمين بناء على ان الغنيمة لا تملك بدون الحيازة فمن أدركهم قبل حال الملك ملك معهم وهو كلام الخرقي من أصحابنا.
وأيضا فان النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم بدر لبعض من كان غائبا عنها كعثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم وهذا يدل على أن الغنيمة ليست كمباح اشترك فيه ناس مثل الاصطياد والاحتطاب فان ذلك الفعل مقصوده هو اكتساب المال بخلاف الغنيمة فان المقصود للجهاد اعلاء كلمة الله والغنائم لم تبح لمن كان قبلنا وإنما ابيحت لنا معونة على مصلحة الدين وأهله فمن نفع المجاهدين بنفع استعانوا به على تمام جهادهم جعل منهم وان لم يحضر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "المسلمون يد واحدة يسعى بذمتهم أدناهم ويرد مستريهم على قاعدهم فانما المتسري انما يسري بقوة القاعد" فالمعاونون للمجاهدين من المجاهدين فاذا رأىالامام اشراك من فيه منفعة للمسلمين في الغنيمة جاز كما يجوز أن يفضل بعض الغانمين على بعض للمصلحة في أصح القولين وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويدل عليه اعطاء النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة من غنائم حنين وكان شيئا كثيرا لا يحتمله الخمس
ومما يستدل به على أن الأرض لا يجب قسمتها فان النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة وكان فتحه عنوة على أصح القولين كما دلت عليه النصوص الصحيحة ولم يقسمها بل أطلقها لأهلها ومن عليهم بأنفسهم وديارهم واموالهم حيث أسلموا قبل قسمة ذلك كله ولم يعوض أحدا من الجيس معه عن ذلك شيئا بخلاف مال هوازن لما رده عليهم بعد القسمة فانه عوض من لم يرض بالرد.
"الأصل الثالث" فعل عمر رضي الله عنه في أرض العنوة التي فتحت في زمانه فانه لم يقسمها بين الغانمين وكان قد عزم على قسمة بعضها ثم رجع عن ذلك ورأى قسم بعضها ثم استردها قسمة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وقد سبق بعض الآثار عن عمر رضي الله عنه بذلك وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى فاختلف الناس في وجه ما فعله عمر رضي الله عنه فقالت طائفة: رأى أن الأرض تكون فيأ للمسلمين فلا تقسم بين الغانمين وهذا قول جمهور العلماء كمالك وسفيان وأحمد وغيرهم وقد سبق عن عمر رضي الله عنه ما يدل على ذلك وروى أبو عبيد من طريق الماجشون قال: قال بلال لعمر رضي الله عنه في القرى التي فتحوها عنوة أقسمها بيننا وخذ خمسها فقال عمر رضي الله عنه لا هذا عين المال ولكني أحبسه فيما يجري عليهم وعلى المسلمين.
قال: وأخبرني زيد بن أسلم قال: قال عمر رضي الله عنه فيما فعله أحد من الصحابة (1).
ولما ولي عثمان رضي الله عنه بعده أقر الأمر على ما كان عليه ولكن أقطع من السواد لبعض الصحابة رضي الله عنهم وهذا يدل على أنه رأه فيأ ولم يره ملكا للغانمين وكذلك على بعذه أقر الأمر على ذلك ولم يغيره وروي أنه هم بقسمه ثم تركه فروى يحيى بن آدم في كتابه عن قران الأسدي عن أبي سنان الشيباني عن عميرة عن علي رضي الله عنه قال: "لقدهممت أن أقسم السواد ينزل أحدكم القرية فيقول قريتي ليدعوني وإلا قسمته"(2).
(1) كذا بالأصل.
(2)
لفظه كما في الخراج ينزل أحد كم القرية فيقول لتكفروني أو قال لتدعوني والا قسمته.
ومن طريق ثعلبة بن يزيد عن علي رضي الله عنه: "لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم". وهذا يدل على أنه لم ير قسمته لازمة بل رآها سائغة موكولة إلى اجتهاد الامام ولعله أراد قسمة بعضه بين بعض المسلمين كما أقطع عثمان رضي الله عنه بعضهم.
وقالت طائفة: إنما وقفه عمر رضي الله عنه وجعله فيأ للمسلمين باستطابة نفوس الغانمين وعوض من لم يرض بترك حقه منه مجانا وهذا قول: الشافعي وأصحابه واستدلوا بما روي عن اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال رأيت بجيلة ربع الناس يوم القادسية فجعل لهم عمر ربع السواد فأخذوا سنتين أو ثلاثا قال: فوفد عمار بن ياسر إلى عمر ومعه جرير رضي الله عنهم فقال عمر لجرير رضي الله عنهما يا جرير لولا إني قاسم مسئول لكنتم على ما جعل لكم وأرى الناس قد كثروا فأرى أن ترده عليهم ففعل ذلك جرير رضي الله عنه بثمانين دينارا وروى إسماعيل أيضا عن قيس قال: قالت امرأة من بجيلة يقال لها ام كرز لعمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد وإني لم أسلم فقال لها يا أم كرز إن قومك قد صنعوا ما قد علمت قالت إن كانوا صنعوا ما صنعوا فاني لست أسلم حتى تحملني على ناقة ذلول عليها قطيفة حمراء وتملأ كفي ذهبا قال: ففعل عمر رضي الله عنه ذلك فكانت الدنانير نحوا من ثمانين دينارا أخرجهما يحيى بن آدم وأبو عبيد وغيرهما وأجاب أبو عبيد عن ذلك بأن جريرا رضي الله عنه وقومه كان عمر قد نفلهم ذلك قبل القتال ثم أمضى لهم نفلهم بعده فكانوا قد ملكوه بذلك ولم يأخذوه بالقسمة من الغنيمة ثم روي من طريق داود عن الشعبي أن عمر رضي الله عنه كان أول من وجه إلى الكوفة جرير بن عبد الله رضي الله عنه بعد قتل أبي عبيد فقال له هل لك في الكوفة وأنفلك الثلث بعد الخمس فقال: نعم فبعثه. وأجاب
ابن المذنر عما قال أبو عبيد بجوابين أحدهما أن أثر الشعبي منقطع فلا يعارض المتصل لأن الشعبي لم يسمع من عمر وإسماعيل بن أبي خالد سمع منه والثاني أنهما مختلفان في المعنى فلا تنافي بينهما فيجوز أن يكون عمر رضي الله عنه جعل لهم الثلث نفلا ثم أعطاهم الربع قسمة حيث كانوا ربع أهل القتال ويمكن الجواب عن حديث إسماعيل بن أبي خالد بجواب آخر غير ما ذكره أبو عبيد وهو أنا نسلم أن جريرا وقومه من بجيلة قسم لهم عمر رضي الله عنه ربع السواد لكونهم ربع المقاتلة فان الامام يجوز له أن يقسم الأرض بين الغانمين وأن لا يقسم كما سبق تقريره فما قسم لهم عمر رضي الله عنه ذلك ملكوه بالقسمة ثم رأى عمر رضي الله عنه أن ترك السواد كله فيأ أصلح للمسلمين فاحتاج الى استرضائهم وتعويض من لم يرض بترك حقه مما ملكه بغير عوض وهذا واضح لا إشكال فيه على قول من يرى أن الامام مخير بين القسمة وتركها وإنما يشكل على قول من يرى أن القسمة لا تجوز كمالك ومن وافقه ثم أن قصة جرير مع عمر رضي الله عنهما تدل على أن القسمة غير واجبة لأن عمر رضي الله عنه لم يقسم بقية السواد بين الغانمين ولم يستطب نفوس بقية الغانمين ممن لم يقسم لهم فلو كانت الأرض حقا ثابتا للغانمين جميعهم لاحتاج عمر رضي الله عنه إلى استطابة نفوس الغانمين جميعهم من قسم لهم ومن لم يقسم فلما استطاب نفوس من قسم له خاصة دل على أن من لم يقسم له لا حق له ثابت حتى يحتاج الى استطابة نفسه وأن المقسوم له كان له حق وقد ملكه بالقسمة.
وقالت طائفة من أصحابنا منهم أبو بكر عبد العزيز: أن عمر رضي الله عنه كان أقطعهم ذلك اقطاعا ثم رجع فيه وإنما عوضهم عنه لأن الاقطاع تملك وقدنقل حنبل عن أحمد أن عمر رضي الله عنه كان أقطع بجيلة من السواد ثم رجع وروى أبو طالب عن أحمد كلاما فيه اشكال
قال في حربه كان لهم سهم في قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون كيف تصنع بأرضهم هذه؟ قال هذه فيء المسلمين من قاتل عليه حتى أخذه فيؤخذ خمسة فيقسم بين خمسة واربعة اخمسا كاللذين أفاءوا ويكون سهم الأمير خراجا للمسلمين مثل ما أخذ عمر رضي الله عنه السواد عنوة فأوقفه على المسلمين ذكره الخلال في كتاب الاجارة. وقوله يكون سهم الأمير خراجا يقتضي أنه لا يوقف إلا سهم الأمير الذي هو حقه ويقتضي أن عمر رضي الله عنه صار السواد كله حقا له وقالت طائفة إنما لم يقسم عمر رضي الله عنه الأرض بين الغانمين لأنهم لم يستولوا عليها قهرا ولم يملكوها عنوة وهذا قول ساقط ظاهر الفساد ومن أنكر أن يكون شيء من أرض السواد أو أرض العراق أو مصر أو الشام أخذ عنوة فهو مكابر مباهت فلا حاجة الى الكلام معه ومن تأمل كتب التواريخ والسير وغيرها علم بطلان ذلك قطعا وقالت طائفة ممن يقول إن الأرض فيء وليست غنيمة إنما ترك عمر رضي الله عنه الخراج مع الدهاقين لأنه رد عليهم الأرض ملكا وضرب الخراج على أرضهم كما ضرب الجزية على رؤسهم فصارت الأرض ملكا لهم وللمسلمين عليهم الخراج وهو قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة وسفيان في رواية عنه وهؤلاء وافقوا على أن الأرض فيء لا يقسم لكنهم زعموا أن الامام له ردها على أهلها والمن عليهم كما من النبي صلى الله عيه وسلم على أهل مكة إلا أنه لا يمن عليهم بذلك مجانا بل يضرب على أرضهم الخراج أو على رؤسهم الجزية إذا كانوا من أهل الجزية وهذا يرده قول عمر رضي الله لعتبة بن فرقد لما اشترى أرضا من أرض الخراج ممن هي في يده أذ باعه الأرض ليس مالكها انما مالكها أهل القادسية وسنذكره فيما بعذ إن شاء الله تعالى ويرده اقطاع عثمان رضي الله عنه لبضع أرض السواد ويرده أيضا قول علي رضي الله عنه: "لتدعنني وإلا قسمته"، يعني السواد فلو كان السواد ملكا
لمن هو في يده من الكفار لجاز الشراء منهم ولما جاز إقطاعه للمسلمين ولا قسمه بينهم.
فصل: احتج من أوجب قسمة الأرض بين الغانمين بما في صحيح مسلم من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما قرية أقمتم بها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فان جميعها لله وروسوله ثم هي لكم". قال ابن مشيش: سألت أحمد عن هذاالحديث ما معناه قال: "أيما قرية كانوا فيها ففتحوها فسهمكم فيها". قلت: فهذا خلاف ما حكم عمر رضي الله عنه قال: أي لعمري انتهى. وقد يقال ليس في الحديث ان القرية التي سهمهم فيها كانوا قد افتتحوها ولهذا فرق بين القرية التي أقاموا فيها والتي عصت الله ورسوله فالمفتتحة هي الثانية دون الأولى فيمكن ان يراد بالاقامة في القرية إحياء الموات ونحوه وأما القرية التي عصت الله وروسوله فقوله أن خمسها لله ولرسوله ثم هي لكم لا يدل على أنها ملك للغانمين لوجوه أحدهما أنه يجوز ان يكون المراد أموال القرية المنقولة كمافي قوه تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} (1) وقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} (2) الاية. وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} (3) وأمثال هذا كثير في القرآن والمراد بذلك أهل القرى ومنه قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (4). الثاني أنه إن كان المراد نفس الأرض فهذا الحديث يدل على جواز قسمة الأرض بين الغانمين وانتفاء وجوبه مدلول عليه بأدلة اخرى والثالث إن قيل إن
(1) سورة الحج اية 45.
(2)
سورة النحل اية 112.
(3)
سورة الطلاق اية 8.
(4)
سورة يوسف اية 82.
الحديث يدل على وجوب ذلك هو حجة على أنها ليست ملكا للغانمين بخصوصهم لأن قوله: "ثم هي لكم" خطاب لعموم المسلمين وهذا يقضي كونها فيأ إذ لو كانت مختصة بالغانمين لقال: ثم هي لمن قاتل عليها أو لمن أخذها ونحو ذلك فلما قال: "ثم هي لكم" دل على أنها مستحقة أو مملوكة لعموم المسلمين كقوله: "عادى الأرض لله ورسوله ثم هو لكم" فان هذا إباحة لعموم المسلمين أن يملكوه.
"المسألة الثانية" أرض الخراج التي بيد الكفار نوعان أحدهما أرض صالحونا على أنها لنا ونقرها معهم بالخراج فالمشهور عند أصحابنا أنها تصير وفقا على المسلمين بمجرد ملكنا لها وحكى طائفة منهم رواية أخرى أن الامام يخير فيها كما يخير في أرض العنوة وحقيقة القول في هذه الأرض عندنا أنا تملكناها منهم بشرط أن نكريها منهم قال الشيخ أبو العباس بن تيمية رحمه الله وجواز مثل هذا في البيع قوي على أصلنا فإنا إذا جوزنا أن تشتري الأرض وتبقى منفعتها للبائع بلا عوض فكذلك بالعوض لكن فيه جمع بين عقدين "انتهى".
وخرج ابن عقيل وجها بصحة الجمع بين بيع سلعة وإجارتها من المشتري مدة معينة في عقد واحد بناء على أنه استثنى المنفعة وأجره إياها فصح فإجارة المشتري للبائع أولى بالجواز قال القاضي أبو يعلى في كتاب الأحكام السلطانية ويكون الخراج المضروب على هذه الأرض أجرة لا تسقط باسلامهم وقر في أيديهم ما أقاموا على صلحهم ولا تنزع من أيديهم كما لا تنزع الأرض المستأجرة من مستأجرها وذكر القاضي وأبو الخطاب أنها تصير دار اسلام لا يقرون فيها يغير جزية سنة كاملة دون ما دونها وأخذ القاضي ذلك من قول أحمد في رواية حنبل: ما فتح عنوة فهو فيء المسلمين وما صولحوا عليه فهو لهم يؤدون الى المسلمين ما صولحوا
عليه ومن أسلم منهم تسقط عنه الجزية والأرض للمسلمين قال فقد بين أن الأرض فيء وهذا على أن الأرض لنا فتكون فيئا يعني وقفا وذكر ابن عقيل في التذكرة أنه روي عن أحمد ما يدل على أن خراجها يسقط باسلامهم.
النوع الثاني
أن يصالحونا على أن الأرض لهم على شيء معلوم من خراج أو غيره فالأرض ملكهم وما صولحوا عليه لازم لهم مدة بقائهم على كفرهم والدار دار كفر يقرون فيها بغير جزية سواء صولحوا على جزية رؤسهم أو على خراج أرضهم أو على عشر زرعهم وثمارهم أو على صدقة مواشيهم وسواء كان المصالح عليه قدر الجزية أو دونها أو أزيد منها هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء منهم مالك والشافعي.
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي ما يؤخذ من مواشي أهل الذمة وأراضيهم قال إن كانت أرض صلح فعليهم ما صولحوا وقال جعفر ابن محمد سمعت أبا عبد الله احمد يقول اذا صالح الكفار السلطان على شيء معلوم في أرض ثم أسلموا فعليهم العشر قال: وسمعت أبا عبد الله سئل عن الصلح فقال إذا صالح الامام قوما صلحا يؤدونه على أنفسهم يقرهم على كفرهم ثم اسلموا سقط عندي عنهم الصلح وعليهم العشر قيل فان صولحوا على شيء معلوم لم يزد الامام عليه شيئا؟ قال: لا وقال أبو حنيفة: هذه الدار دار اسلام كأرض العنوة فاذا صالحوا على خراج أرضهم وجزية رؤسهم كان حكم ذلك حكم أرض العنوة التي فتحت ثم ردها الامام الى أهلها وضرب عليهم الخراج وهذا بناء على أصله المتقدم في أرض العنوة وعلى قوله إذا أسلموا سقط عنهم جزية رؤسهم وبقي عليهم خراج الأرض كأرض العنوة سواء ووافقهم على
قولهم جماعة من الكوفيين منهم ابن شبرمة والحسن بن حي وأما على أصلنا وأصل مالك والشافعي فسقط ما صولحوا عليه من خراج أو غيره بالاسلام لأن حكمه حكم جزية الرؤوس وهو قول سفيان أيضا قال حرب سألت أحمد قلت أرض صلح على النصف أو أكثر أو أقل أخذ السلطان حقه هل فيما بقي العشر؟ قال: أرض الصلح هي أرض العشر كيف يؤخذ النصف قلت: إنهم يأخذون قال: يظلمون ولم ير عليه فيما بقي شيئا وقال: إذا أخذ منه السلطان فلا شيء عليه فأنكر أحمد أن يؤخذ منه بعد الاسلام شيء من الصلح وقال: أنه ظلم ثم أنه اعتد له بذلك من العشر إذا أخذه السلطان وهذا قد يقال: إنه يشبه ما إذا ظلم الساعي بأخذ زيادة في الزكاة هل يعتد به زكاة في سنة أخرى أو مال آخر أم لا؟ وفيه روايتان لأن هذا الذي أخذه السلطان كان مقاسمة فهو مأخوذ من نفس الزرع فيحسب به من عشرة والله أعلم قال ابن منصور: قلت لأحمد قول سفيان ما كان من أرض صولح عليها ثم أسلم أهلها بعد وضع الخراج عنها قال أحمد جيد قال سفيان وما كان من أرض أخذت عنوة ثم أسلم صاحبها وضعت عنها الجزية وأقر على أرضه بالخراج قال أحمد: جيد.
ومما يدل على سقوط هذا الخراج عنهم بالاسلام ما روى موسى بن أعين عن ليث عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل الذمة: "ما أسلموا عليه من أموالهم وأرضهم وذراريهم وعبيدهم وماشيتهم ليس عليهم فيها إلا الصدقة". أخرجه الامام أحمد والبزاز وحكى طائفة من أصحابنا كأبي الخطاب وابن عقيل ومن تابعهما رواية عن أحمد أن خراج هذه الأرض لا يسقط بالاسلام مما نقله حنبل عن أحمد قال ما فتح عنوة فهو فيء للمسلمين وما صولحوا عليه فهو لهم
يؤدون عنه ما صولحوا عليه ومن أسلم منهم تسقط عنه الجزية والأرض للمسلمين يعني خراجها.
ونقل عنه حنبل أيضا أنه قال: من أسلم على شيء فهو له ويؤخذ منه خراج الأرض وتأول القاضي هذه الرواية الثانية على أن الأرض كانت من أراضي العنوة التي عليها الخراج للمسلمين ورد ذلك أبو الخطاب وقال: لفظ الرواية الأولى يسقط تأويله يعني أن أحمد فرق بين أرض العنوة والصلح.
وفي مسائل أبي داود قلت لأحمد أرض صولحوا على مال مسمى يؤدي كل سنة فيؤدون العشر أعني من غلاتهم من الزروع والتمر أيؤدون هذا الذي صولحوا عليه؟ قال: نعم يؤدونه.
وفي كتاب زاد المسافر لأبي بكر قال أبو عبد الله في رواية حنبل الذي صولحوا عليهم فدمهم لهم وعليهم الجزية ويؤدون الى المسلمين الذي صولحوا عليه في رقابهم وهذا يدل على مثل قول أبي حنيفة أن أرض الصلح دار إسلام لا يقيمون فيها بدون جزية ونقل حرب عن أحمد أن الخراج لا يسقط بالاسلام إلا أنه قال هذا عندي وهم وقد سبق حكايته في أول هذا الباب.
وحكى أبو عبيد في أهل الصلح اذا أسلموا قولين أحدهما أن الخراج باق حكاه عن الزهري وعمر بن عبد العزيز والثاني أنه يسقط عنهم الخراج حكاه عن ابن سيرين والحسن بن صالح ومالك وبني هذا الخلاف على أن أرض الصلح هل هي ملك للمسلمين أو للكفار كذا قاله وفيه نظر ولا يجيء هذا فيما إذا صولحوا على أن الأرض لهم وحكي عن أبي حنيفة أن الصلح باق بحاله بعد الاسلام وروى المغيرة عن محمد بن يزيد عن حيان الأعرج أن العلاء بن الحضرمي قدم البحرين فقال: تكون
الأرض بين رجل مسلم ومشرك فيأخذ من هذا الخراج ومن هذا العشر وأخرجه الحاكم من طريق أبي حمزة السكوني عن المغيرة الازدي عن محمد ابن يزيد عن حيان الأعرج عن العلاء بن الحضرمي قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخليطين يكون أحدهما مسلما والآخر مشركا إن أخذ من المسلم العشر ومن المشرك الجزية وأرض البحرين صلح بغير خلاف ولم يفرق بين من أسلم ابتداء ومن أسلم بعد وضع الخراج عليه.
وروى الحرث الكرماني حدثنا أبو معمر الرقاشي حدثنا أبو عمران الرازي حدثنا الحسن بن محمد التميمي حدثناابو جرير حدثنا عامر الشعبي أن حذيفة كتب إلى عمر رضي الله عنه إني وضعت الخراج فأسلم رجال قبل أن أضع الخراج على أرضهم وعلى رؤسهم فكتب اليه عمر رضي الله عنه أيما رجل أسلم قبل أن تضع الخراج على أرضه وعلى رأسه فخذ من أرضه العشر والغ عن رأسه ولا تأخذ من مسلم خراجا وأيما رجل أسلم بعدما وضعت الخراج على أرضه ورأسه فخذ من أرضه فقد أحرزنا أرضه في شركة قبل أن يسلم اسناده فيه نظر ولا يمكن حمله على أرض العنوة لأن أرض العنوة يوضع عليها الخراج بكل حال ولا عبرة باسلام من هي في يده وهذا بخلاف ما رواه يحيى بن آدم باسناده عن النخعي قال جاء رجل الى عمر رضي الله عنه فقال إني أسلمت فضع عن أرضي الخراج قال لا لأن أرضك أخذت عنوة فان هذا صريح في أنه كان معه من أرض العنوة وروى يحيى بن آدم من طريق جابر عن الشعبي قال أسلم رجل فأعطاه عمر رضي الله عنه أرضه بخراجها وفرض له العين فأرضه كانت صلحا كما رواه يحيى عن قيس بن الربيع عن ابراهيم بن مهاجر عن شيخ من بني زهرة أن الرفيل أتى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير
المؤمنين على ما صالحتمونا قال: على أن تؤدوا الينا الجزية ولكم أرضكم وأموالكم وأولادكم وذكر الحديث.
وحكى يحيى بن آدم في كتابه عن الحسن بن صالح أن من صولح من الكفار على شيء فعليه ما صولح عليه ويخلى بينه وبين أرضه ولا يوضع عليها شيء ما أقاموا بما صولحوا عليه فان عجزوا عن ذلك خفف عنهم وان احتملوا أكثر من ذلك فلا يزاد عليهم ولا يطرح عنهم شيء مما صولحوا عليه لموت من مات ولا لاسلام من أسلم منهم ويؤخذ بذلك جميعه من بقي منهم ما كانوا يطيقونه ويحتملونه فمن أسلم منهم رفع الخراج عن رأسه وأرضه وتصير أرضه أرض عشر إلا أن يكونوا صولحوا على أن توضع على رؤسهم الجزية وعلى أرضهم الخراج فمن أسلم رفعت الجزية عن رأسه وكان الخراج على أرضه بماله قال يحيى وسمعنا في بعض الحديث أن ر جلين من اهل الليس ماتا أو أسلما فرفع عمر رضي الله عنه جزيتهما من جميع الخراج وذلك أن أهل الليس كانوا صلحا انتهى.
ومراده أنه روي عن عمر رضي الله عنه خلاف ما قاله الحسن بن صالح في أن الصلح لا يخفف عنهم بموت من مات منهم ولا باسلام من أسلم منهم وحاصل قول الحسن بن صالح هذا أنه يفرق بين أن يصالحوا على شيء مطلقا أما مع الجزية أو بدونها فسقط باسلام من أسلم منهم وبين أن يصالحوا على وضع الخراج على أرض فلا يسقط بالاسلام ووافقه يحيى على هذا في موضع آخر من كتابه وقال إذا وضع عليها الخارج فهي أرض خراج لا يغير وفي كلام ابن أبي موسى من أصحابنا في كتاب الارشاد ما يقتضي موافقة الحسن بن صالح على مقالته فانه قال وأما أرض الذمة فلا عشر فيها وإن كانت أرض صلح لم يكن عليهم إلا ما صولحوا عليه وشرط
لهم ما أقاموا على كفرهم فان أسلموا سقط عنهم الصلح ولزمهم العشر وإن كانت ارضهم أرض خراج قرره عليهم الامام لم يكن عليهم إلا الخراج ولا عشر عليهم وإن ابتاعها منهم مسلم كان عليه الخراج ومن أحيا من أهل الذمة مواتا فهي له ولا عشر عليه فيما أخرجت.
وقد روي عنه رواية أخرى أنه لا خراج على أهل الذمة في أرضهم ويؤخذ منهم العشر فيما يخرج مضاعفا عليهم والأول عنه أظهر فهذا الكلام يدل على أن الصلح إن كان على شيء في الذمة سقط بالاسلام وإن كان على خراج مضروب على الأرض لم يسقط كما لا يسقط بانتقاله الى مسلم ولا يحمل ذلك على أرض العنوة لأن تلك ليس له بيعها ولا شراؤها وقد صرح بذلك ابن أبي موسى بعد هذا كله فقال وليس للذمي أن يبتاع أرضا فتحها المسلمون عنوة وحاصل الأمر أن هذه الأرض التي صالحونا عليها ملك لأهلها من الكفار لا نعلم في ذلك خلافا إلا ما حكاه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز والزهري وليس كلامهما بالبين في ذلك أما الزهري فانه قال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس البحرين قال الزهري فمن أسلم منهم قبل اسلامه وأحرز نفسه وماله إلا الأرض فانها فيء للمسلمين من أجل أنه لم يسلم أول مرة وهو في منعة قال أبو عبيد ليس يريد بقوله أرضه فيء أنها تنتزع منه إنما يريد أنها تكون أرض خراج على حالها لأنها فيء للمسلمين وأما عمر بن عبد العزيز فانه قال أيما قوم صولحوا على جزية يعطونها فمن أسلم منهم كانت أرضه لبقيتهم قال أبو عبيد مراده أنه تكون سنته كسنتهم وحكمه في الأداء عنها كحكمهم وهذا فيه نظر وقد روي عن عمر رضي الله عنه من وجوه أخر لكن في أهل الأرض العنوة وتلك لا إشكال فيها.
واخرج يحيى بن آدم عن حفص بن غياث عن ابن أبي ذئب عن
الزهري قال قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيمن أسلم من أهل البحرين أنه قد أحرز دمه وماله إلا أرضه فإنها فيء للمسلمين لأنهم لم يسلموا وهم ممتنعون ورواية أبي عبيد المتقدمة رواها عن يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن الزهري وهي أصح ويزيد أحفظ من حفص وهو قد جعله من كلام الزهري لم يرفعه.
وأرض صلح ليست عنوة وعلى قول الجمهور أنها ملك لأهلها فيجوز لهم بيعها وهبتها وسائر التصرفات فيها لكن هل يكره للمسلم شراؤها فيه قولان أحدهما يكره لما فيه من الدخول في الصغار وهو الخراج وهو قول شريك وغيره ممن يقول لا يسقط خراجها بالاسلام ونقل عن أحمد كراهية شراء أرض الخراج لأنه صغار وحمله القاضي في المجرد على أرض الصلح لأن أرض العنوة لا يصلح بيعها عنده بحال والقاضي وان كان يقول يسقط الخراج بالاسم المصالح إلا أنه يقول في كتاب المجرد إن للامام في أرض العنوة أن يردها إلى أهلها بخراج يضربه عليها فهذا لا يسقط بالاسلام.
روى عن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم النهي عن شراء أرض الخراج لما فيه من الدخول في الصغار إلا أن الحسن علل نهي عمر رضي الله عنه بأن الأرض فيء للمسلمين وهذا انما يكون في أرض العنوة.
"والثاني" وهو قول الجمهور لا يكره بناء على أنها إذا انتقلت إلى مسلم لم يكن عليه خراج وهو قول مالك وأحمد والشافعي وروي عن عبد الله ابن معقل بن مقرن وهو قول الحسن بن صالح وحكى أبو الخطاب وغيره رواية أخرى عن أحمد أن خراجها باق عليها على الرواية التي تقول: أن
خراجها لا يسقط بالاسلام وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى الذي تقدم بلفظه.
واخلتف أصحاب مالك فيما إذا باعها من مسلم أو ذمي فقال ابن القاسم الخراج باق على الكافر البائع إلا أن يسلم فيسقط عنه ولو شرط المسلم المشتري خراجها عليه لم يصح وقال أشهب بل الخراج على المشتري ويزول عنه باسلام البائع.
وروى ابن نافع عن مالك في أهل الذمة إذا صالحوا على الجزية فان أرضهم يجوز لهم بيعها وهي كغيرها من أموالهم إذا لم يكن على الأرض جزية هذا كله نقله صاحب التهذيب البرادعي منهم ورواية ابن نافع تدل على أنه إذا كان عليها خراج لم يصح بيعها من مسلم وقال أصحاب الشافعي إذا ضرب الامام جزية الرقبة على ما يخرج من أرض الذمي من ثمر أو زرع جاز فإن باع الأرض من مسلم صح البيع لأنه ماله وينتقل ما ضرب عليها إلى رقبته ذكره صاحب المهذب وغيره.
وعند أصحابنا إن باعها المصالح من أهل الصلح أيضا فالخراج بحاله وإن باعها من مسلم سقط على الصحيح وإن باعها من ذمي غير أهل الصلح فوجهان.