المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثامن: في حكم تصرفات أرباب الأرض الخراجية فيها - الاستخراج لأحكام الخراج

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌الباب الثامن: في حكم تصرفات أرباب الأرض الخراجية فيها

‌الباب الثامن: في حكم تصرفات أرباب الأرض الخراجية فيها

قد ذكرنا أن الأرض الخراجية على ضربين مملوكة لأهلها وهي أرض الصلح بالخراج على ثبوت ملكهم فيها فهؤلاء ملاك يتصرفون فيها تصرف الملاك وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم وذكرنا حكم الشراء منهم وأن أبا عبيد حكى في ملكهم خلافا وقد سبق ذلك كله مستوفى في آخر الباب الرابع والثاني أرض العنوة فمن قال إن عمر رضي الله عنه ملكهم أياها بالخراج فحكمها عنده حكم أرض الصلح المذكور وهو قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة وسفيان وغيرهم وأما من قال ليست ملكا لمن في يده وإنما هي فيء للمسلمين وهو قول العنبري وابن شبرمة ومالك والشافعي وأحمد واسحاق وأبي عبيد وعيرهم فهؤلاء يقولون هي لعموم المسلمين وأكثرهم يقول هي وقف على المسلمين عموما وقد ذكر أبو بكر في كتاب زاد المسافر أن أحمد قال: هي وقف وأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين في رواية جماعة من أصحابه منهم الميموني وحنبل وغيرهما ولكن أكثر كلام أحمد إنما فيه أنها فيء وأنها مشتركة بين المسلمين فمن الأصحاب من قال إن عمر رضي الله عنه وقفها وقفا خاصا على المسلمين بلفظه وادعوا أن الارض لا تصير وقفا بدون لفظ من الامام منهم القاضي وغيره إذا قلنا إن الامام مخير فيها بين القسمة والوقف بخلاف ما إذا قلنا يصير وقفا بمجرد الاستيلاء كما هو مذهب مالك فانها تصير وقفا بغير لفظ.

ص: 95

وقال المحققون كصاحب المغني وغيرهم من المتأخرين لا يحتاج إلى لفظ بكل حال بل وقفها هو تركها فيئا لجميع المسلمين يؤخذ خراجها يصرف في مصالحهم ولا يختص أحد بملك شيء منها وهذا معنى الوقف لا سيما على قول من يقول إن الوقف يصح بالفعل الدال عليه كفتح المساجد للصلاة ونحو ذلك فها هنا تركها من غير قسمة وضرب الخراج عليها فعل يدل على تحبيسها على المسلمين وان لم يكن بمعنى الوقف الخاص.

وقد صرح أحمد بأنها وقف في رواية جماعة أيضا ويمكن أن يكون عنه في المسألة روايتان وإذا تقرر أنها ليست مملوكة لأحد معين من المسلمين ولا لمن هي في يده من الكفار أو غيرهم فيتفرع على ذلك مسائل كثيرة:

الأولى: بيع رقبتها وهو ممتنع على هذا الأصل الذي قررناه لانتفاء الملك عليها المعني هذا قول من سمينا قوله إنها فيء وممن نهى عن شرائها من السلف عبد الله بن معقل بن مقرن والنخعي والحسن بن صالح وقال مجاهد لا تشترها ولا تبعها وقد نص أحمد على منع بيعها في رواية جماعة منهم حنبل فقال السواد وقفه عمر رضي الله عنه على المسلمين فمثله كمثل رجل وقف أرضا على رجل وعلى ولده لاتباع وهو الذي أوقف عليه فاذا مات الموقوف عليه كان لولده بالوقف الذي أوقف الأب لا يباع كذلك السواد لا يباع ويكون الذي بعده يملك منه مثل الذي يملك الذي قبله على ذلك أبدا ويدل على ذلك ما روى الشعبي قال: اشترى عتبة بن فرقد أرضا على شط الفرات فذكر ذلك لعمر رضي الله عنه فقال: ممن اشتريتها؟ قال: من أربابها فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر رضي الله عنه قال: هؤلاء أهلها فهل اشتريت منهم شيئا؟ قال: لا، قال: فارددها على من اشتريتها منه وخذ مالك. خرجه أبو عبيد. وخرجه يحيى بن آدم عن الشعبي عن عتبة بن فرقد قال: اشتريت

ص: 96

عشرة أجربة من أرض السواد فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه فقال لي اشتريتها من أصحابها؟ قلت: نعم. قال: رح إلى فرحت إليه فقال: يا هؤلاء أبعتموه شيئا؟ قالوا: لا، قال: ابغ مالك حيث وضعته.

وروى ابن أبي شيبة عن حميد بن عبد الرحمن عن حسن بن صالح عن مطرف عن بعض أصحابه قال اشترى طلحة بن عبيدالله أرضا عند السيلحين فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له فقال: إني اشتريت أرضا معجبة فقال له عمر رضي الله عنه ممن اشتريتها؟ اشتريتها من أهل الكوفة؟ اشتريتها من القادسية؟ قال طلحة: وكيف اشتريتها من أهل القادسية كلهم؟ قال: إنك لم تصنع شيئا إنما هي فيء.

وروى أبو عبيد باسناده عن الحسن قال قال عمر رضي الله عنه لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا أرضهم قيل للحسن ولم؟ قال: لأنهم فيء للمسلمين.

وروى يحيى بن آدم باسناده عن قتاة عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره أن يشتري من أرض الخراج شيئا ويقول عليها خراج المسلمين.

وروى الاحوص بن حكيم عن أبي عون عن سعيد بن المسيب قال أرسل ابن عمر إلى رافع بن خديج رضي الله عنه يسأله عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض العجم؟ قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع أرض العجم وشرائها". وكرائها خرجه حرب عن إسحاق بن راهويه عن عيسى بن يونس عن الأحوص به والأحوص ضعيف جدا ولا ريب أن بيع رقبة أرض العنوة عند من يرى أنها فيء أو وقف لا يجوز لمن هي في يده لأنه غير مالك لها فان كان فيها بناء له فان

ص: 97

كان البناء من تراب الأرض فحكمه حكمها وإن كانت بناء بآلة مملوكة لصاحبها فهو مملوك له

وحكى القاضي وابن عقيل وصاحب المغني وغيرهم من أصحابنا روايتين عن أحمد في جواز بيعه إحداهما المنع لأن أحمد قال في رواية المروزي وابن بختان إذا قال أبيعك النقض يعني البناء ولا أبيعك رقبة الارض هذا خداع والثانية الجواز نقلها محمد بن الحكم

وروى أبو بكر الخطيب باسناده عن جعفر بن محمد المؤدب أنه سأل أحمد وبشر بن الحرث عن بيع أرض السواد فاتفق قولهما على بيع الانقاض دون الارض وهذه الرواية أصح عند القاضي وابن عقيل ولم يذكر ابن أبي موسى سواها لان هذا البناء مملوك له فجاز بيعه كبنائه في أرض الوقف المستأجرة ومن الاصحاب من تأول الأولى على أن البناء كان بآلات من الأرض وتأوله القاضي في كتاب الروايتين والآمدي على أن البناء لم يعلم هل كان قبل الوقف أو بعده فمنع من بيعه لعدم تحقق ملكه فأما أن تحقق أنه ليس بوقف جاز بيعه رواية واحدة

قال الآمدي ونقل حنبل عن أحمد في النزول في السواد فقال: قد ورثت شيئا فأنا فيه أصلحه وأعمره ولا أرى بيعه ولا هبته لأحد فاذا مت تركته على وقفه والعمارات والبناء والغرس للذي أحدث فيها وإنما أوقف القرى والارضين وقال نقلها الخلال في كتاب الاموال والاظهر أن أحمد إنما أراد النهي عن أخذ العوض عن رقبة الارض بهذه الحيلة وبهذا قال هذا خداع وهذا يفيد أنه لا يجوز بيع آلاته بأكثر من قيمتها وقد صرح بذلك في رواية المروزي.

قال في كتاب الورع: قلت لأبي عبد الله يبيع الرجل سكنى داره قال: أي شيء يبيع؟ قلت: ماله من الوقوف قال: يبيع الذي له بما يسوي وكره أن يبيع بأكثر من ذلك وأنكر هذا البيع.

ص: 98

وكذلك نقل ابن هاني عن أحمد قال يقوم دكان وما فيه من غلق وكل شيء يحدثه فيه فيعطي ذلك ولا أرى أن يبيع سكنى دار ولا دكان ولو كان له فيها غراس أو زرع فباعه بقيمته فلا يوقف في جوازه وقد ذكره القاضي في كتاب الروايتين وأما في الأحكام السلطانية فجعل الغراس كالبناء على الخلاف فيه وأما بيع ماله من الانتفاع بأرض العنوة كبيع سكنى دورها فقد أنكره أحمد وعلى قياسه بيع منافع أرض الزرع التي يستحقها بالخراج ومن الناس من أجاز بيعها وجعله اجارة لها حكاه القاضي في الأحكام السلطانية وذكر ان كلام أحمد يدل على خلافه لأنه فرق بين البيع والاجارة وكذلك حمل أبو عبيد شراء ابن مسعود أرض الخراج لى أن يكون خراجها على البايع على الكري وذكر باسناده عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن القرطبي قال: ليس بشرى أرض الجزية بأس يريد كراها قال: وقال: ذلك أبو الزناد وقول من قال: أن الشرى هنا يراد به الكري إن أراد به أن يكون إجارة إلى مدة معينة فاطلاق البيع ينافي ذلك وإنما الخلاف في صحة الاجارة بلفظ البيع اذا قدرت المدة وإن أريد به الاجارة إلى غير مدة فهذا في الحقيقة نقل اليد بعوض ومعاوضة عن المنافع المملوكة وقد رجح جواز ذلك الشيخ أبو العباس بن تيمية وخرجه من نص أحمد على جواز دفع هذه الارض عوضا عن الصداق الذي يستحقه قال: وقال: هذه الأرض إن قيل إنها وقف فإنها تخالف الوقف على معين لأن هذه توقف وتوهب ولا يبطل حق المسلمين من خراجها بانتقالها من يد إلى يد بخلاف الوقف على معين فإنه يبطل حق البطن الثاني بانتقاله إلى غيرهم ولهذا يورث المكاتب ويوهب ويجوز بيعه عندنا ويبقى مكاتبا على حاله.

وأيضا فقد سبق أن التحقيق في معنى كونها وقفا أنها محبوسة عن القسمة متروكة فيئا مشتركة بين عموم المسلمين أولهم وآخرهم وحقهم في

ص: 99

خراجها وخراجها لا يبطل بانتقالها من رجل إلى آخر وأصل هذه المسألة مسألة بيع المنافع المجردة عن الأعيان وقد صرح طائفة من الأصحاب فيها بالمنع كالقاضي وابن عقيل والتحقيق في ذلك أن المنافع نوعان أحدهما منافع الأعيان المملوكة التي تقبل المعاوضة مع أعيانها فيجوز بيعها مفردة وذلك في صور منها أصل وضع الخراج على أرض العنوة على قولنا إنها فيء فإنه ليس بأجرة محضة بل شبيه بالأجرة ومتردد بينها وبين البيع كما سبق بل هو للبيع للإطلاق مدته أقرب ومنها المصالحة بعوض على وضع الاخشاب وفتح الابواب ومرور المياه في الاملاك وهو أيضا شبيه بالبيع ومنها لو أعتق عبده واستثنى خدمته سنة فهل له أن يبيعها منه على روايتين عن أحمد منصوصتين عنه فان هذه المنافع كان يملك المعاوضة عليها قبل العتق وقد استبقها في العتق بحق الملك فاستمر حكم المعاوضة عليها كما يستمر عندنا حكم وطء المكاتبة إذا استثناه في عقد الكتابة ثم إن الكتابة عقد معاوضة على المنافع أيضا.

والنوع الثاني المنافع المملوكة مجردة عن الأعيان ومنافع الأعيان التي لا تقبل المعاوضة فإن كانت المعاوضة عنها مؤقتة جاز كإجارة العين المستأجرة والوقف ونحوه وإن كانت مؤبدة فالمذهب عدم جوازه كالمعاوضة عن الكلب المباح نفعه فإنه لا يجوز عندنا ان كانت المدة مطلقة وإن كانت مؤقته على وجه الاجارة فوجهان وجعلوا المعاوضة هنا على نقل اليد ولو كان ذلك صحيحا لجاز نقل اليد فيه بعوض مطلقا ولما ورد النهي عن بيعه دل على أنه لا يجوز أخذ العوض عنه إلا أن يقال هذا لا مالية فيه ولا يملك منفعته بل الانتفاع به وكذا من يحجر مواتا أو قطعه له الامام فانه لا يملكه بذلك ويثبت له فيه حق التملك وينتقل عنه بهبة وميراث وفي نقله بعوض وجهان إلا أن يقال هنا ثبت له حق التملك لا ملك شيء من المنافع ولا غيرها وهذا بخلاف منافع الأرض الخراجية فإنها مملوكة لمن هي

ص: 100

في يده كمنافع الوقف وأم الولد لكن لم يثبت لنا إلى الآن جواز المعاوضة عن هذه المنافع المملوكة وحدها على وجه التأبيد بل على وجه الاجارة لكن قد يقال إن من بيده الأرض الخراجية مستأجرة على التأبيد فله أن يؤجر على التأبيد كما هو مستأجر عليه وأما الكلام في إصداقها فسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وعن أحمد رواية أنه يجوز الشري دون البيع فمن الأصحاب من حكاها مطلقة لأن أحمد أطلق جواز الشراء دون البيع في رواية منها وغيره ومنهم من قيد ذلك بالحاجة بقدرها ومنهم القاضي في الأحكام السلطانية لأن أكثر نصوص أحمد مقيدة بذلك.

وقال في رواية المروزي لا يشترى إلا مقدار القوت فإن كان أكثر من القوت تصدق به وقال أيضا في روايته لمن سأله عن الشراء: إن كنت في كفاية فلا وقال في رواية أبي طالب: يشترى ما يقوم به ويوقت عياله فما كان أكثر من القوت فلا وقال في رواية المروزي ليس هنا قياس إنما هو استحسان وذكر أن أصله أن الصحابة رضي الله عنهم رخصوا في شراء المصاحف دون بيعها وقال في رواية الأثرم كان الشري أسهل يشتري الرجل بقدر ما يكفيه عن الناس هو رجل من المسلمين كأنه يقول إنما هي أرض المسلمين فهذا إنما في يديه ما يستغني به وهو رجل من المسلمين.

وكره البيع في أرض السواد قال الأصحاب لأن المشتري مستنقذ لها من الظالم البايع فهو كافتداء الأسير ونحوه قال القاضي وهذا العقد بين المسلمين و المشركين فهو كافتداء الأسير وفي هذا التعليل ضعف سبق التنبيه عليه.

وقال ابن عقيل: إنما يصح الشراء للافتكاك لا للتمليك وهو أيضا مخالف لنص أحمد فإن أحمد أجاز شراء قدر القوت قدل على أنه أراد الشراء

ص: 101

للاشتغال ووجه اعتبار الحاجة أنه قد يجوز في حال الحاجة من العقود مالا يجوز مع عدمها كما في بيع العرايا قال صاحب المغني: وشراؤها هو نقل لليد فيها بعوض لا نقل بملك الرقبة.

وروي عن الحسن والحسين أنهما اشتريا من أرض الخراج وهو مشهور عنهما ذكره يحيى بن آدم وأبو عبيد في كتابيهما.

وروي أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال عمرو بن علي الفلاس: سمعت عبد الله بن داود قال: سمعت إسحاق بن الصباح من ولد الاشعث بن قيس يحدث عن عبد الملك بن عمير قال: اشترى موسى ابن طلحة أرضا من أرض السواد فأرسل الى القاسم بن عبد الرحمن يستشهده فأبى فقال موسى: فأنا أشهد على أبيك يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه اشترى أرضا من أرض السواد واشهدني عليها وذكر عن يحيى القطان كلاما يدل على أنه أنكره من أجل إسحاق بن الصباح فانه ليس بمشهور.

ومن الاصحاب من حكى رواية بجواز البيع والشراء منهم الحلواني وابنه ولعلها تؤخذ من مفهوم قول أحمد في رواية حنبل ليس لأهل الذمة أن يشتروا ما فتحه المسلمون عنوة وكذا وقع في كلام أبي بكر تخصيص أهل الذمة بالمنع معللا بأن الأرض ملك للمسلمين فلا يثبت للكفار معهم ملك لكن مقتضى هذا منع أهل الذمة من شرائها دون المسلمين.

وقد قال أحمد في رواية جماعة لا يعجبني بيعها وقوله: لا يعجبني يقتضى الكراهة على أحد طريقي الأصحاب وابن عقيل يشير إلى أن لنا رواية أنه قسمت وملكت وسنذكر ذلك فيما بد إن شاء الله تعالى.

وللمنع من شراء أرض العنوة مأخذ آخر وهو أن المسلم إن اشتراها

ص: 102

فان التزم خراجها فقد ألزم نفسه جزية وصغارا وإن أسقط خراجها فقد أسقط حق المسلمين من فيئهم.

وروى يحيى بن آدم من طريق قتادة عن سفيان العقيلي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى أن يشتري أحد من أرض الخراج أو رقيقهم شيئا وقال: لا ينبغي للمسلم أن يقر بالصغار في عنقه.

ومن طريق كليب بن وائل قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: اشتريت أرضا قال: الشراء حسن، قلت: فإني أعطي من كل جريب درهما وقفيزا من طعام قال: لا تجعل في عنقك الصغار.

ومن طريق ميمون بن مهران عن عمر رضي الله عنهما قال ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها بالصغار على نفسي.

ومن طريق جابر الجعفي عن القاسم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال من أقر بالطسق فقد أقر بالصغار يعني بالطسق الخراج وخرج أبو عبيد من طريق شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال: تبعنا ابن عباس رضي الله عنهما فسأله رجل قال: إني أكون بهذا السواد فاتقبل ولست أريد أن أزداد ولكني أدفع عني الضيم؟ فقرأ عليه ابن عباس: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1). قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تنزعوه من أعناقهم وتجعلوه في أعناقكم.

وروي باسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "ألا أخبركم بالراجع على عقبيه؟ رجل أسلم فحسن إسلامه وهاجر وحسنت

(1) سورة التوبة اية 29، ص "80"

ص: 103

هجرته وجاهد فحسن جهاده فلما فعل حمل أرضا بجزيتها فذلك الراجع على عقبيه".

وعن قبيصة بن ذؤيب قال: "من أخذ أرضا بجزيتها فقد باء بما باء به أهل الكتابين".

وقال الأوزاعي: جمع أصحابنا بين خصلتي سوء دخلوا في الخراج وهو شريعة من شريعة الكفر ومنعوا به فريضة من فرائض الاسلام. أخرجه حرب الكرماني وكأنه يريد به من قال إن العشر لا يؤخذ مع الخراج.

وقد سبق في الباب الثاني عن خالد بن معدان وغيره التغليظ في ذلك مع أحاديث مرفوعة وقد علل بهذا الامام أحمد وأبو عبيد أيضا.

قال أحمد في رواية حنبل: لا تشتري الضياع بالسواد يؤدي الخراج هو من الصغار. وقال في رواية حرب في المسلم يشتري من أرض الخراج ويؤدي الخراج قال مكروه.

وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: هو صغار. وفسر إسحاق بن راهويه في كتاب الجامع القبالات التي كرهها الصحابة رضي الله عنهم كأبن عمر وابن عباس بتقبل أرض الخراج لما فيه من الصغار وعلى هذا المأخذ فلو اشتراها المسلم بشرط أن يكون خراجها على البائع فقد أجازه ابن مسعود رضي الله عنه وفعله كما روى يحيى بن آدم من طريق حجاج عن القاسم بن عبد الرحمن قال: جاء دهقان إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: اشتر مني أرضي، فقال عبد الله: على أن تكفيني خراجها قال: نعم فاشتراها منه وقد سبق قول ابن مسعود: من أقر بالفسق فقد أقر بالصغار فإذا اشتراها على أنه لا يؤدي الخراج فقد تخلص من

ص: 104

الصغار. وتأوله أبو عبيد على أنه استأجرها لأنه لو اشتراها لم يكن خراجها على البايع ولكن لعل ابن مسعود رضي الله عنه رأى جواز هذا الشرط في البيع وينبني على هذا المأخذ أيضا جواز بيع أرض الخراج دون شرائها وهو مذهب إسحاق نقل عنه حرب أنه قال في بيع أرض الخراج رخص فيه سفيان واشترى الحسن والحسين من أرض الخراج قلت أتكرهه؟ قال: إنما كرهوا الشراء فأما البيع فلا بأس به ورخص فيه وينبني عليه أيضا أنه لو باعها من وصي لم يكره وأنكر آخرون أن يكون الخراج جزية وقالوا بل هو أجرة محضة كأجرة أرض الوقف.

وذكل الليث بن سعد عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال إنما الجزية على الرؤوس وليس على الأرض جزية خرجه أبو عبيد قال وحدثنا ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن رجاء أبي المقدام عن نعيم بن عبد الله أن عمر بن عبد العزيز أعطاه أرضا بجزيتها قال عبد الرحمن يعني من أرض السواد.

ويدل على أن الخراج ليس جزية أنه يستدام على الكافر بعد إسلامه فلو كان جزية لسقط باسلامه فدل على أنه أجرة وقد أقر عمر وعلي وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم الدهاقين بعد إسلامهم على أرضهم بخراجها ولا نعلم في هذا خلافا إلا ما سنذكره على الأوزاعي رحمه الله ولما كان أكثر أصحابنا يقولون إن الخراج أجرة أشكل على بعضهم كراهة الدخول في الخراج فقال ابن عقيل في كتاب عمدة الأدلة لم يكرهه أحمد لكونه ليس بأجرة وإنما كرهه لما كان من زيادة السلاطين في زمنه على وظيفة عمر رضي الله عنه وحبسهم وضربهم على ذلك وأخذه وصرفه فيما لا يشرع صرفه قال: ولا يجوز أن ينصرف كراهته الى الخراج الذي دخلت فيه الصحابة رضي الله عنهم ورضيت به أداء وأخذا ولكن الحوادث حدثت أو جبت معاونة ومشاركة في الباطل "انتهى".

ص: 105

وهذا تعليل غريب وهو مخالف لنفي أحمد.

قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن الذي يأخذ السلطان من الخراج من أصحاب القرى أيدخل في المعونة لهم؟ قال: لا، ثم قال: أرجو أن لا يدخل ثم قال الخراج لا بد منه والخراج مكروه قال: وسئل عن المؤدي اليهم آثم في جور السلطان قال: أرجو أن لا يكون عونا لهم.

وذكر بعضهم مأخذا آخر لكراهة شراء المسلم الأرض الخراجية وهي أنه يسقط خراجها فيسقط بذلك حق المسلمين فينهي عنه كما ينهي الذمي عن شراء الأرض العشرية لما فيه من إسقاط حق المسلمين من العشر ثم هل يسقط عنه العشر إذا فعل أو يضاعف عليه أو يبطل بيعه؟ على أقوال معروفة وهذا إن أريد به أن المسلم إذا اشتراها فلا خراج عليه فهذا لا نعلم به قائلا وإن أريد الواقع كان بينهم كذلك فالمنهي عنه هو إسقاط حق المسلمين من الخراج لا اشتراء الأرض الخراجية وقد روي عن عمر ما يشهد لهذا من رواية مجالد عن الشعبي أن عتبة بن فرقد اشترى أرضا من أرض الكوفة فطلب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجعلها صدقة فقال اشتريتها من أهلها؟ قال: اشتريتها ممن كانت في يده، قال: اشتريتها من أهلها ثم أدى عنها الخراج خرجه حرب الكرماني.

وذكر بعضهم مأخذا آخر للكراهية وهو الاشتغال بالفلاحة عن الجهاد وذلك مذموم وقد سبق عن عبد الله بن عمرو بن العاص ما يدل عليه ولكن على هذا المأخذ لا فرق بين أرض الخراج وأرض العشر وقد وردت أحاديث تدل على كراهة الاشتغال عن الجهاد بالحراثة والتجارة كما ورد في سنن أبي داود عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنهم لما أرادوا أن يثمروا أموالهم ويدعوا الجهاد نهوا عن ذلك وأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا

ص: 106

فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1). وفيها أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايعتم بالعينة وتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم". وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى سكة حرث فقال: "ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل". وخرج الاسماعيلي من طريق بكر بن عمرو المعافري عن عبد الله بن هبيرة السبائي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بنكثان الهجرة بينما الرجل في أريضته وبقيراته وغنيماته إذ وقع في نفسه الهجرة فخرج حتى إذا استحر بدار الهجرة قال: لو رجعت فاتخذت أريضة إلى أريضتي وبقيرة إلى بقيراتي وغنيمة الى غنيمتي فذلك نكثان الهجرة". غريب ومنكر ولعله موقوف.

وقد روي عن علماء الشاميين لكراهة شراء الأرض الخراجية مأخذا آخر غير ما تقدم فروى أبو القاسم بن عساكر من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي وغيره أن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمع رأيهم على إقرار ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون عنها خراجا إلى المسلمين فمن أسلم منهم رفع عن راسه الخراج وصار ما كان في يده من الأرض وداره بين أصحابه من أهل قريته يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها ولا يرون أنه وإن أسلم أولى بما كان في يديه من ارضه من أصحابه من أهل بيته وقرابته لا يجعلونها صافية للمسلمين ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما في أيديهم من الأرض كرها لما احتجوا به على المسلمين من إمساكهم عن قتالهم فهابوا لذلك قسمتهم وأخذ ما في أيديهم من الأرض وكرهوا للمؤمنين شراءها طوعا لما كان من ظهور المسلمين على البلاد وعلى من كان يقاتلهم عنها ولتركهم

(1) سورة البقرة اية 195.

ص: 107

فان البعث إلى المسلمين وولاة الأمر في طلب الآمان قبل ظهورهم عليه قالوا: كرهوا شراها منهم طوعا لما كان من وقف عمر رضي الله عنه وأصحابه الأرض محبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين المجاهدين لا تباع ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين "نتهى".

وهذا الكلام يتضمن أن من أسلم من أهل الخراج تؤخذ الأرض منه وتنقل إلى أهل قريته من أهل الذمة وهو غريب جدا وهو خلاف المروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما من وجوه متعددة أنهما كان يقران من أسلم منهم في أرضه يؤدي عنها خراجا إذا اختار ذلك وعليه جمهور العلماء ويتضمن أيضا أن الأرض الخراجية لا تورث وسيأتي الكلام في إرثها إن شاء الله تعالى ويتضمن أن منع الصحابة من قسمتها بين الغانمين إنما هو لأن الدهاقين الذين كانت أرض الخراج بأيديهم ادعوا أنهم لم يقاتلوا المسلمين وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينهي عن قتل الفلاحين لكن هب أنهم لم يقاتلوا أليسوا كفارا والكافر وإن لم يحارب يجوز أخذ ماله وإنما يمتنع قتل من لا أهلية فيه للقتال كالشيوخ ونحوهم ولا يمنع ذلك أخذ أموالهم ولعل الأوزاعي وأهل الشام يقولون من امتنع قتله لعدم أهليته للقتال يمتنع أخذ ماله وهو غريب وظاهر قول الأوزاعي أن الأرض كانت لهم وأنها تركت لهم ملكا وقد سبق ما يدل على أن الأرض لم تكن للفلاحين إنما كانت معهم مخارجة كما كانت معهم في حال الاسلام ويتضمن أيضا أن منع المسلمين من شرائها منهم له مأخذان أحدهما أنه لما تعارض في حقهم أمارتان أحدهما يقتضي حقن دمائهم وأموالهم وهو ما تقدم والثانية يقتضي إباحتها وهي ظهور المسلمين على البلاد عموما وترك هؤلاء طلب الأمان قبل الفتح وذلك يقتضي أن الأرض فيء للمسلمين أو غنيمة لهم فلما تعارضت هاتان الأمارتان تركت

ص: 108

الأرض لهم ولم يتعرض عليها بعد ذلك بشراء منهم ولا غيره وهذا فيه نظر فان الأرض إذا كانت في الظاهر للمسلمين وقامت شبهة فيها للكفار فاذا تركت الأرض لهذه الشبهة لم يمتنع ذلك أخذنا لها منهم بعقد تراض من شراء أوغيره والمأخذ الثاني هو مأخذ الوقفية الذي نص عليه أحمد وغيره وقد سبق تقريره.

وتوقف الشعبي في شراء أرض الخراج وقال لا آمر به ولا أقول هو ربا وروي عن شريح أنه اختصم اليه في ذلك فلم يقض فيه بشيء وقال عبد الله العنبري إذا جوزه السلطان فهو جائز يشير إلى أنه عقد مختلف فيه والسلطان له الحكم في المختلفات وكذلك قال صاحب المغني من أصحابنا أنه لو باع منه الامام شيئا لمصلحة عمارة ونحوها جاز قال ولو حكم بصحة البيع مطلقا حاكم نفذ حكمه للاختلاف فيه وهذا في الحكم بالصحة لا إشكال فيه.

وأما بيع الامام فينبني على أن فعله هل هو حكم أم لا وفيه وجهان أحدهما هو حكم وهو قول أبي الخطاب وغيره فينفذ ولا يجوز نقضه والثاني ليس بحكم قاله القاضي في خلافه وصاحب المحرر فيحتاج الى حكم به منه أو من غيره ليمتنع نقضه وكلام صاحب المغني هاهنا أنه حكم إلا أن يفرق بين الامام الأعظم ومن دونه ولو أذن الامام في بيع بعض أراضي بيت المال فقد قيل إنه ينفذ إما لأن أذنه حكم في مختلف فيه وإما لوجوب طاعته فيما لا يعلم أنه معصية.

وقد وقع في كلام طائفة من أصحابنا وغيرهم ما يقتضي وجوب طاعة السلطان فيما لا يعلم أنه محرم واعترض ذلك بعض أئمتنا المتأخرين وقال إنما يطاع في الأمر المجهول من علم علمه وعدله وأما من ليس كذلك فلا يطاع إلا فيما علم أنه ليس بمعصية وهذا أشبه بكلام الامام أحمد والله أعلم.

ص: 109

وها هنا فرع قرأته بخط القاضي أبي يعلى قال إنسان ابتاع من أرض الخراج في نصف الحول احتمل أن يسقط خراج هذه السنة كما لو أسلم في أثناء الحول سقط الجزية وهما سؤالان هذا خراج الرؤوس وهذا خراج الأرض "انتهى". ولعل مراده أنه يسقط الخراج عن البائع ويستأنف المشتري حولا وظاهره أنه يسقط خراجها مطلقا فأما سقوط الخراج عن البائع بالبيع في أثناء الحول فظاهر لأن الخراج إنما يجب في آخر الحول إذا كان مماسحة وإن كان مقاسمة فيجب عند تصفية الزرع كما سبق فاذا زال الملك قبل ذلك فلا وجوب كما لا يجب الزكاة على النصاب إذا زال الملك قبل الحول فيه وأما التعليل بأنه جزية فيسقط بالاسلام فضعيف لوجهين: أحدهما أن الخراج أجرة عند أصحابنا لا جزية والأجرة لا تسقط بانتقال الملك لكن ظاهر كلام أصحابنا أنه لا تسقط على مدة الحول كالأجرة وإنما يجب بآخر المدة ويدل عليه مسألة تعجيل الخراج التي ذكرناها في آخر الباب الماضي. والثاني أن الاسلام لا يسقط الخراج فيكف يصح إلحاقه بالجزية وأما المشتري فظاهر كلام القاضي أنه لا خراج عليه في هذه السنة ولا يستألف حولا من حين ملكه بخلاف مشتري نصاب الزكاة والفرق بينهما أن الخراج مضروب على عموم الأرض في وقت واحد وكل أهله مشتركون في وقت وجوبه فلا يفرد بعضهم فيه بحول عن بعض بخلاف أموال الزكاة وفي هذا نظر ولا يبعد أن المشتري أن كان اشتغل في مدة ملكه أن الخراج عليه لأن الخراج عليه معتبر بالتمكن من الانتفاع وقد تمكن وانتفع وكذا لو تمكن ولم ينتفع وأما ان كان الخراج مقاسمة فلا إشكال في وجوبه على المشتري اذا اشتغل في مدته وهذا حكم الوارث اذا انتقل إليه أرض موروثه الخراجية في أثناء الحول.

"فصل" قد سبق قول أحمد إن أرض السواد لا يشتري منها أكثر من

ص: 110

القوت وأن ما زاد عليه يتصدق به وله مثل ذلك نصوص كثيرة قال المروزي عن كتاب الورع قال أبو عبد الله: هذه الغلة ما يكون قوتنا وإنما ذهب فيه إلى أن لنا فيه شيئا قال: ودار بيني وبينه كلام وأخبرته عن رجل قال لو أن أبا عبد الله ترك الغلة وكان يبضع له صديق كان أعجب إلي فقال أبو عبد الله: هذه طعمة سوء أو قال: ردية من تعود هذا لم يصبر عنه ثم قال: هذا اعجب إلي يعني الغلة ثم قال لي أنت تعلم إلى أن هذه الغلة لا تقيمنا وإنما آخذها على الاضطرار وذهب إلى أن يأخذ الرجل من السواد القوت ويتصدق بالفضل قلت له: وترى أن يتخذ الرجل الضيعة في السواد؟ قال: حسبك يكون الرجل يتخذ القوت قال: وقال لي أبو عبد الله بشر بن الحارث كان يأكل من غلة بغداد؟ قلت: لا هو كان ينكر على من يأكل قال: إنما قوي بشر لأنه كان وحده لم يكن له عيال ليس من كان معيلا كمن كان وحده لو كان إلى ما بالبيت ما أكلت قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: لو وجدت السبيل لخرجت من ها هنا.

قال: وسئل أحمد عن مسألة من الورع فقال أنا لا ينبغي لي أن اتكلم فيها أنا آكل من غلة بغداد لو كان بشر كان ينبغي أن يتكلم.

وقال أحمد في رواية أبي طالب: لا يتمول الرجل من السواد فان عمر رضي الله عنه أوقفه على المسلمين وإنما يجوز له قوته وقوت عياله

وقال في رواية حنبل أقمت ما ورثت من السواد مقام المضطر الذي ليست له حيلة أن يأكل ما لا بد له منه من الميتة فعلى هذا المعني أنزل السواد والمقام فيه وأحمد رحمه الله كان قد ورث من أبيه دورا وحوانيت ببغداد فكان ينزل الدور ويكري الحوانيت ويقتات منها وعنده أن بغداد من جملة أرض السواد نص على ذلك في رواية صالح وغيره لأنها كانت من أرض الخراج في زمن عمر رضي الله عنه.

ص: 111

قال القاضي في الأحكام السلطانية: الأصل في بغداد أنها وقف وقد تداولتها أيدي السلاطين وغيرهم بالبيع والاقطاع ورفع أيدي القوم الذين أقرهم فيها بالخراج الذي هو أجره فتحصل في حكم المغصوبة ومن أصله أن الزرع في الأرض المغصوبة لصاحب الأرض ولهذا اختار التقلل منها لأنها حال ضرورة والضرورة قد تؤثر في الاباحة "انتهى".

فالقاضي ظن أن غلة بغداد التي كرهها أحمد زرعها وليس كذلك ولم يكن لأحمد بها زرع ولا بالسواد وإنما كان له ببغداد حوانيت يؤجرها فما وجه القاضي به كلام أحمد ها هنا غير متوجه

وقال في كتاب المجرد قال أحمد: التجارة أحب الي من غلة بغداد وإنما أخذها على الاضطرار فقيل له: لم كرهتها وقد وقفها عمر رضي الله عنه فقال من أجل ما غير هؤلاء قال القاضي: فقد بين علة الكراهة وهو ان حكم هذه الأرض أنها وقف على جماعة المسلمين لا يجوز لأحد أن ينفرد منها بزيادة على الحاجة وقد حدث من لم يعتبر هذا بل يملكها واستكثر منها فما يكون من غلتها يكون في أرض بغير حق ولهذا كرهه انتهى وهو عائد الى ما قبله من أن الغلة هي الزرع المزروع في الأرض وقد بينا أنه ليس ذلك مراد احمد وقال في كتاب الخلاف كلام أحمد هذا يدل على أن الفيء يصرف في الحاجات قال في رواية المروزي: من كان في العطا إنما أخذوا على الفقر وأعجبه حديث طلحة قال مالك: قلت لطلحة: يا أبا عبد الله لو وجدت غنا عن العطاء لتركته قال: طلحة هكذا نقول قال وقال في رواية بكر بن محمد الفيء لكل مسلم فيه حق إن رآه الامام وإعطاء الناس وأن يبلغ ذلك ولم يعط الامام وكان عدلا وهو على ما يرى فيه ويجتهد وهذا المحمل أشبه بكلام أحمد مما قبله وإن الفيء عنده يتقدم فيه ذوو الحاجات بقدر حاجاتهم وأنه على حسب اجتهاد

ص: 112

الامام العادل ولكن الامام العادل يتعذر وجوده في أغلب الأوقات فيأخذ كل مستحق منه بقدر حاجته عند الضرورة وليس له الزيادة على الحاجة ولهذا قال لا يتمول الرجل من السواد فإن عمر رضي الله عنه أوقفه على المسلمين وإنما يجوز له قوته وقوت عياله وهذا يدل على أن الأموال المشتركة إما بين عموم المسلمين أو بين قوم موصوفين بصفة كالوقف على الفقهاء ونحوهم لا يتمول منه وإنما يأخذ الانسان منه قدر قوته وقوت عياله لا سيما ان لم يوجد أمام عادل يقسمه بالعدل وذلك هو الغالب ولا يقال إن منه ما يوجد أجرة عن عمل كالتدريس ونحوه لا أولا لا نسلم أن ذلك أجرة محضة بل هو رزق وإعانة على العلم بهذه الأموال وأيضا فلو سلم أنه أجرة فالواقفون إنما أرادوا به إعانة جنس طلبة العلم مثلا لتكثيره ونشره فلا يجوز لواحد الاستبداد بالجميع فان هذا ينعكس به المقصود وأيضا فلو كان قوم من العمال يطلبون العمل في موضع فجاء من يستعملهم فطلب واحد منهم أن يتقبل جميع الأعمال في ذمته ويقيم من يعملها ويمنع بقية رفقائه من العمل فان هذا لا يخفي قبحه وتحريمه وهو أشد تحريما من احتكار الأقوات المحتاج اليها ومن تلقي الأجلاب وبيع الحاضر للبادي ونحو ذلك مما نهي عنه للتضيق على الناس.

ولكن المشهور عن أحمد أن الفيء مشترك بين الغني والفقير نقله عنه جماعة من أصحابنا فعلى هذا ينبغي أن يجوز الأخذ منه للغني والفقير لا سيما إن أعطاه الامام لكن مع تخصيص الامام لم توجد القسمة المعتبرة ولهذا اختلف في ذلك الحسن وابن سيرين فتورع ابن سيرين من الأخذ لكونهم لم يعملوا بالقسمة وأخذ الحسن لأن الامام له ولاية التخصيص وان كان غير عدل ثم إن ههنا حالتين إحداهما أن يحصل للانسان من مال بيت المال بقسمة من هو غير عادل فهنا توقف أحمد وغيره من أهل التدقيق في الورع كابن سيرين كما توقفوا في أخذ العطاء من المملوك.

ص: 113

وعلل أحمد بأن الثغور معطلة غير مشحونة والفيء غير مقسوم بين أهله وهذا لأن الفيء يجب فيه البداءة بمهمات المسلمين العامة ثم الباقي يقسم بين عموم المسلمين على رواية عنه وعلى أخرى يقدم ذوو الحاجات بقدرها ويقسم بالسوية من غير تفاضل على إحدى الروايتين فإذا خص بعضهم قبل سد مهمات المسلمين لم يعلم أنه يستحق بقدر ما أخذه وأيضا فهو كتخصيص المدين لبعض غرمائه بالعطاء دون بعض وهو غير جائز ولهذا يثبت للآخر حق الرجوع عليه وقد يجاب عن هذا بأن الفيء إذا علم أن فيه فضلا عن المهمات وقلنا يجوز قسمته على التفاضل فلا مانع حينئذ من الأخذ.

والحالة الثانية أن يحصل في يد الانسان شيء بغير قسمة فسنذكره في باب مفرد إن شاء الله تعالى فمن ها هنا كان أحمد يتورع عن أجرة دور بغداد فتارة كان يخرج منها الخراج وتارة كان لا يخرج ويقدم حاجته ويتصدق بالفضل وأما أرض السواد فان كان الملوك يعطونها بغير خراج فهي كدور بغداد إلا أن يضعوا عنه الخراج فان فيه خلافا بين أحمد وإسحاق وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

وأما إن كانوا يعطونها بالخراج فهذه مأخوذة معاوضة والأئمة لهم ولاية ذلك فلا ينبغي التوقف في جوازه وإنما وقعت الكراهة في كلام أحمد على الحالة الأولى لأن الغالب كان في زمانه استيلاء الملوك على السواد واستقطاعه واستصفاؤه لأنفسهم وأعوانهم ولهذا كان أهل الورع الدقيق من العلماء كابن سيرين والثوري وأحمد يتشددون في قطائع الأمراء وصوافهم لأنفسهم وأعوانهم ولا يرون السكنى فيها ولا الأكل من زعرها لأنها في أيديهم كالغصب لأنها من مال الفيء وهم مستولون عليها بغير حق ولا يعطون المسلمين بخراج ولا غيره.

ص: 114

وفي زاد المسافر قال أبو عبد الله في رواية حنبل: مكة إنما كره إجارة بيوتها لأنها عنوة دخلها النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف فكلما كان عنوة كان المسلمون فيه شرعا واحدا وعمر رضي الله عنه إنما ترك السواد لذلك وقال عمر رضي الله عنه: لا يمنعوا نازلا بليل أو نهار لأهل مكة لأنه لم يجعل لهم ملكا دون الناس فالحاج فيه سواء العاكف فيه والباد المقيم فيه والقادم والسواد وكل عنوة كذلك انتهى وتمام هذه الرواية ذكرها غير أبي بكر وهو قال: ولا يعجبني بيع منازل السواد ولا أرضهم قيل لأبي عبد الله فأراد السلطان أن يفعل ذلك؟ قال: كل إمام يقوم بذلك وكان له ذلك إلى السلطان الامام يصرف كيف شاء إلا الصلح لهم ما صولحوا عليه وهذا غريب جداأن السواد وكل عنوة لا يؤجر كبيوت مكة ويكون الناس فيه شرعا واحدا والمعروف من مذهب أحمد أن مكة لا تباع دورها ولا تؤجر فمن الأصحاب من بني ذلك على القول بأنها فتحت عنوة كما دل عليه كلام أحمد.

هذا وقال: إن قلنا فتحت صلحا فهي ملك لأهلها فتباع وتؤجر ومنهم من قال بل تباع وتؤجر على القولين لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة ثم ردها إلى أهلها ولم يقسمها فصارت ملكا لهم وهو اختيار صاحب المغني وقد أنكر أحمد في رواية الميموني قول من قال إن دورهم ليست لهم ومنهم من علل بأنها بقاع المناسك ويحتاج المسلمون كلهم الى نزولها فيشتركون فيها للحاجة الى ذلك ثم منهم من يقول هذا على كلا القولين سواء قلنا فتحت عنوة أو صلححا ويجب بذل الفاضل من المساكن عليهم مجانا للواردين كما يجب بذل فضل الأموال في مواضع ومنهم من يقول بل النبي صلى الله عليه وسلم أزال ملكهم عنها بعد الفتح وجعلها مشتركة بين المسلمين وأما الحاق أراضي العنوة بها في ذلك وأنه لا يمنع منازلها ولا أرضها فهو غريب جدا وإنما يكون ذلك في فاضل المنازل المتسعة للسكنى خاصة كما في بيوت

ص: 115

مكة وأولى وإذا منع أهلها من النزول إلا بأجرة فانه يعطيهم الأجرة وإن لم يجز لهم أخذها كما يعطي الحجام الأجرة وإن لم يطب له أكلها كذلك نص عليه أحمد في درو مكة وكان سفيان يهرب ولا يعطيهم شيئا وأنكر ذلك أحمد من فعله قال القاضي: لأنه لما استأجر منهم فقد عقد عقدا مختلفا فيه فيكره مخالفته وظاهر كلام القاضي أنه لا يجب عليه الوفاء لهم بالأجرة وكلام أحمد يدل على خلافه.

"المسئلة الثانية" إجارة أرض العنوة وهي نوعان إجارة الدور للسكنى وإجارة المزارع للاستغلال أما إجارة الدور للسكنى فقد ذكر آنفا رواية حنبل عن أحمد: لا يعجبني بيع منازل السواد ولا أرضهم وهذه والله أعلم على طريق الكراهة لا التحريم فان أحمد كان له ببغداد دور يكريها ويقتات من كرائها إلى أن مات ووصى عند موته أن يقضي دينه من أجرتها إلا أنه كان يتأول في ذلك أنه مضطر إليه وأماإجارة المزارع للأزدراع فيجوز قال أحمد في رواية الأثرم وأبي داود ومحمد بن حرب: إذا استأجر أرضا من أرض السواد ممن هي في يده فجائز ويكون فيها مثلهم.

وأكثر الأصحاب لم يحكوا في جواز ذلك خلافا لأن أرض الخراج مستأجرة في يد متقبلها بالخراج فيجوز له إجارتها كسائر الأرض المستأجرة من الوقف وغيره وفرق القاضي بين إجارة أرض العنوة واجارة بيوت مكة كان أرض العنوة ضرب الخراج عليها إجارة لها وقد فعله من فتحها بخلاف بيوت مكة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إجارتها لكن النهي المرفوع عن إجارة بيوت مكة يضعف والصواب وقفه على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وحكى القاضي وابن عقيل أيضا رواية أخرى بعدم جواز إجارة أرض العنوة مطلقا من غير تفصيل بين المساكن والمزارع وذكر في كتاب

ص: 116

الروايتين أنها اختيار أبي بكر وجزم بذلك ابن عقيل في فتوته وإن حكم إجارتها حكم بيعها فلا ترد الاجارة إلا على البنيان دون المزارع مع أن في بيع البنيان خلافا سبق ذكره وعلل القاضي المنع بأنها أرض عنوة فلم تجز إجارتها كرباع مكة وهذه الرواية تؤخذ من روايته السابقة التي سوى أحمد فيها بين بيوت مكة وغيرها وقال: لا يعجبني بيع منازل السواد ولا أرضهم فسوى بين المزارع ولكن القاضي إنما أخذها مما رواه إسحاق بن هانيء عن أحمد في الرجل يستأجر أرضا من أرض السواد قال: يزارع رجلا أحب إلي من أن يستأجرها قال في كتاب الروايتين: فظاهر هذا في رجل استأجر من أرض السواد شيئا ممن هو في يديه هو جاز يكون فيها مثلهم وقال: يزارع رجلا أحب إلي من أن يستأجرها فصرح بجواز الاجارة مع استحبابه المزارعة عليها.

قال القاضي في الأحكام السلطانية: وإنما اختار المزارعة على الاجارة لأن الاجارة أخذ عوض عن منفعة الأرض وقد منع من أخذ العوض عليها والمزارعة بذل منفعة عن عوض العامل ولذلك اختاره على الاجارة انتهى

ومتى كانت اجارة أرض الخراج إجارة عين مستأجرة فينبغي أن يتخرج فيها الخلاف المذكور في إجارة عين المتسأجرة وهل يجوز بأزيد من الأجرة مطلقا أم لايجوز مطلقا لدخوله في ربح ما لم يضمن أو يفرق بين أن يكون قد جدد فيها شيئا أم لا؟ وإذا قلنا يصح استئجارها وهو الصحيح فيكون الخراج باقيا علىالمؤجر وعلى المستأجر له الأجرة هذا قول أكثر أصحابنا القاضي ومن اتبعه وهو قول شريك والحسن بن صالح وأبي حنيفة وأبي بكر بن عياش وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز والزهري في المسلم إذا زرع في أرض الخراج من غير تفصيل بين

ص: 117

الاجارة وغيرها ووجه ذلك أن الخراج لازم لمن كانت الأرض في يده على الدوام وهو المتقبل بالخراج ويده باقية على الانتفاع والتمكن منه زرع أو لم يزرع فاذا أجر فقد انتفع بالأرض فاستقر الخراج عليه وقال أبو حفص العكبري من أصحابنا: الخراج على المستأجر لأنه المنتفع بالأرض حقيقة وأخذ ذلك من رواية أبي الصفر عن أحمد في الرجل يتقبل الأرض من أرض السواد: يتقبلها من السلطان فعلى من يتقبلها أن يؤدي وظيفة عمر رضي الله عنه ويؤدي العشر بعد وظيفة عمر رضي الله عنه وللأصحاب في رواية أبي الصفر تأويلان أحدهما أن أحمد أراد ما أخذ المسلم أرضا من أرض الخراج من السلطان بخراجها وهذا لا إشكال فيه فإن هذا بمنزلة من يقبل الأرض بخراجها من عمر رضي الله عنه عند الفتح وليس هذا بمستأجر ممن عليه الخراج لأن السلطان لا خراج عليه وإنما هو ناظر للمسلمين وعلى هذا حمله القاضي في الأحكام السلطانية وأبو البركات بن تيمية وهو الصحيح والثاني أن المستأجر رضي بالتزام الخراج من جملة الأجرة وكان الخراج معلوما عنده فصار مستأجرا بقدر الخراج المؤجل وبالأجرة المعجلة قاله ابن عقيل وفيه بعد.

وفي مسائل الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يستأجر أرضا من قصر عبدويه الجريب بكذا وكذا فقال: أرض السواد من استأجر منها شيئا ممن هو في يديه فهو جائز يكون فيها مثله قيل له: إنها من هذه القطائع من قصر عبدويه فقبض يده وقال أما هذه فلا أدري ما هي ثم قال: هذه القطائع يخرجونها من أيدي من شاؤا ويدفعونها إلى من شاؤا وكره الدخول فيها قلت لأبي عبد الله: فما كان من أرض السواد في يدي من كانت في يديه فلا بأس أن يستأجرها رجل بأجر معلوم يؤدي الذي في يديه قال نعم لا بأس بهذا.

ونقل محمد بن أبي حرب عن أحمد معنى ذلك وظاهر قوله يكون فيها

ص: 118

مثله أي مثل المؤجر فيؤدي خراجها وقد تأوله القاضي في بعض تعاليقه على أنه استأجرها بأجرة معلومة وبقدر خراجها كما تأول ابن عقيل رواية أبي الصفر وفيه بعد ومن المتأخرين من حملها على أنه يقبلها ممن عليه الخراج على التأبيد فيقبل يده عنها بعوض فقام مقامه في تأدية الخراج عنها والانتفاع بها إلى غير غاية وهذا معنى بيع منفعتها كما تقدم وفيه أيضا نظر ويحتمل أن يقال قوله فيها هو مثله أي في جواز الانتفاع والاستغلال لكن هذا يقتضي أيضا عموم الانتفاع ولو كان مستأجرا حقيقة لكان انتفاعه مختصا بما استأجر له وتفريق أحمد بين الاستئجار ممن عليه الخراج وبين الاستئجار من المقطعين لأن المقطع قد تملكها بغير خراج وذلك منهى عنه كما سبق بخلاف المتقبل لها بالخراج فإنها في يده بحق.

"فصل" فلو ساقى على أرض الخراج أو زارع عليها فالخراج عليه لا ينتقل عنه ذكره القاضي في المجرد وهو ظاهر ما نقله صالح بن أحمد عن أبيه وكان ابن سيرين يدفع أرضه الخراجية بالثلث ويؤدي عنها الخراج ولو أعار أرض الخراج فالخراج عليه أيضا ذكره القاضي في الأحكام السلطانية وكذا ذكره يحيى بن آدم في كتابه ويتخرج أن الخراج على المستعير كالمستأجر ولو غصب أرض الخراج فزرعها الغاصب واستغلها فقال أبو البركات بن تيمة: قياس المذهب أنه كالمستأجر عليه العشر وفي الخراج روايتان: قال وقال محمد بن الحسن: إن نقصت الأرض الرزاعة دخل بعض الأرض في الخراج فان كان النقص مثل الخراج أو أكثر فالخراج في ذلك النقص وإن كان أقل فالخراج على الغاصب ويسقط النقص لدخوله فيه وقال أبو يوسف: قول أبي حنيفة إن الخراج على الغاصب لأنه لما لزمه غرامة النقص صار كالمستأجر وأما العشر فلا يجب عندهم بحال "انتهى".

ص: 119

وقد سبق الحكاية عن ابي حنيفة أن الخراج على المؤجر وهو مخالف ما ذكره هنا فليحقق.

المسئلة الثالثة: رفع صاحب الخراج يده عنها بالكلية وأصل ذلك أن تقبل الأرض بخراجها عقد لازم من جهة الامام ما دام المتقبل قادرا على أداء خراجها وعمارتها فان عجز عن عمارتها رفعت يده عنها وكذا إن امتنع من أداء الخراج.

روى حصين بن عبد الرحمن قال: كتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إن شاء أهل السواد سألوا أن يوضع عليهم الصدقة ويرفع عنهم الخراج؟ فكتب إليه عمر إني لا أعلم شيئا أثبت لمادة الاسلام من هذه الأرض التي جعلها الله تعالى فيأ لهم فاسألهم؟ فمن كان له في الأرض أهل ومسكن فأجر على كل جدول منها ما يجري على أرض الخراج ومن لم يكن له بها أهل ولا مسكن فارددها إلى البنك من أهلها قال حصين: وأصل هذا أنه من كانت في يده أرض فرضي بأن يؤدي عنها الخراج وإلا فليردها فيمن يؤدي عنها الخراج من أهلها خرجه يحيى بن آدم وأبو عبيد واللفظ له وإنما أقر عمر رضي الله عنه من له أهل ومسكن بالخراج لأن أخذ مسكنه منه وإخراج أهله منه فيه عليه ضرر بخلاف إخراج من ليس له أهل ولا مسكن وهو عقد جائز من جهة المتقبل فله أن يخرج من الأرض إذا شاء وقد خير عمر وعلي وغيرهما من الخلفاء رضوان الله عليهم أجمعين من أسلم على أرض خراج إن شاء أقام وإن شاء ترك أرضه للمسلمين.

ولو أراد أحدهم الخروج وله ماء أو غراس في الأرض فهل يقال للامام أن يتملكه للمسلمين من مال الفيء إذا رآه أصلح كما يتملك الناظر للوقف ما غرس فيها أو بنى بالأجرة بعد انقضاء المدة؟ لا يبعد أن

ص: 120

يجوز ذلك بل هي أولى بذلك من ناظر الوقف لوقوع الاختلاف في ملك الموقوف عليهم لرقبة الوقف وأما المسلمون فانهم يملكون رقبة أرض العنوة وإن وهب للأرض وآثر بها غيره جاز أيضا وقام الثاني مقامه في الانتفاع وأداء الخراج ذكره أصحابنا و منهم من قال: لا يصح هبتها ولذلك نص عليه أحمد معللا بالوقفية ومراده هبة رقبتها لأنها ليست مملوكة له أما رفع يده عنها ونقلها إلى غيره بغير عوض فيجوز ولو وصى بداره من أرض السواد جاز فإن كان فيها بناء يملكه فهو محسوب من الثلث ولا يحسب رقبة الأرض من الثلث.

قال أحمد في رواية بكر بن محمد في رجل له دار يريد أن يوصي بثلث داره فقال أحمد: أكره أن تباع الدار من أرض السواد إلا أن يباع البناء فإذا كان للرجل مال وله دار نظر إلى بناء الدار والملك الذي عنده فإذا أوصي بثلث ذلك وكان له دار تساوي عشرة آلاف دينار وبناؤها خمسة آلاف سوى بحسبها على خمسة آلاف ولو وقف داره من أرض السواد قال أحمد في رواية أبي طالب فيمن كانت له دار في الربض أو بقطيعة فأراد أن يخرج منها ويتنزه عنها كيف يصنع؟ قال: يوقف قلت: لله، قال: نعم، وسألته عن القطائع توقف؟ قال: نعم، إذا كان للمساكين يرجع إلى الأصل إذا جعلها للمساكين وحمل القاضي هذه الرواية على أحد أمرين إما على أن الوقف كان للبناء المملوك وفيه بعد أو على أن وقفه طابق الوقف الأول لا أنه أنشأ وقفا جديدا وأخذ ابن عقيل من هذا رواية بأن أرض السواد يملكها من هي في يده بالخراج وهذا مخالف لما تواتر عن أحمد فلا يثبت عنه خلاف ذلك بكلام محتمل والأظهر أنه أراد بوقفها وقف بنائها ورفع يده عن رقبتها إلى مستحقها وهم المساكين لأنهم مستحقوا الفيء ولكن يقال: الفيء لا يختص المساكين باستحقاقه بل هم أحد جهاته فكيف يخصون بما هو مشترك بينهم وبين المسلمين عموما؟ وقد يخرج

ص: 121

هذا على قوله بتقديم الفقراء والمساكين منه كما تقدم تقريره وكذلك المروزي عن أحمد فيمن ورث ضياعا وأراد التنزه عنها قال: لا يدعها في يد أخوته لكن يشهد أن ميراثه منها وقف قال: وأعجب إلي أن يقفها على قرابته فإن لم يكن فجيرانه أو من أحب من أهل المسكنة قوم يعرفهم يقفها لهم ويدعها في أيديهم ثم يخرج فإن كانت هذه الضياع من أرض السواد فهذا نص من أحمد على جواز وقفها على بعض مستحقي الفيء وإن كانت من غير السواد وإنما تنزه عنها لشبهة غصب ونحوه فالأمر واضح لأن المغصوب التي لا يعرف أربابها يتصدق بها واقفها على بعض جهات البر كالصدقة بها ويحتمل أن يقال إن الوقف هنا للمنفعة المملوكة له ملكا مؤبدا مدة حياته و تورث عنه بعد وفاته وإذا كان ذلك فيحتمل أن وقفها يأتي على منفعة للأرض دائما لكونها مالا له موروثا عنه وليس في ذلك إبطال لحق المسلمين لأن حقهم في الخراج وهو باق عليها ويحتمل أن يقال: يصح وقفها مدة حياته فقط كوقف أم الولد عند من أجازه من الشافعية ولكن وقف المنافع مما لا يجوز عند الأصحاب.

وقال أحمد في رواية المروزي في رجل وقف غلته على المساكين أو على أم ولده قال: الغلة لا توقف أنما توقف الأرض فما أخرج منها فهي عليهم وهذا يدل على الثمرة لا توقف إنما يوقف أصلها ولكن الوقف في منافع الأرض الخراجية ليس واردا على عين ما يخرج من ثمر وزرع بل على منفعة الأرض المملوكة بالخراج التي يستحق بها الزرع والغراس في الأرض وأرض العنوة إنما هي فيء للمسلمين ليست وقفا على معنى الوقف الخاص كما تقدم تقريره.

وذكر القاضي وابن عقيل فيمن وقف ضيعة قال: تكون الغلة بعد عمارتها وحق السلطان الى جهة عينها أنه يصح وهذا يدل على صحة وقف

ص: 122

الأرض الخراجية كما ذكرناه فان منفعهتها مملوكة لمن هي في يده بعقد لازم من جهة الأمام وهي تورث عنه ويده ثابتة على رقبتها فهي كاملاكه المحضه.

"فصل" وأما انتقالها ميراثا إلى الورثة فهو ثابت لا سيما إن كان فيها بناء أو غراس ذكره القاضي وأخذه من نص أحمد في رواية حنبل على أن السواد كوقف وقفه رجل على ولده ثم على ولد ولده وقد ذكرنا لفظه فيما سبق وبعضهم نقل الإجماع عليه.

وممن ورث الأرض الخراجية ابن سيرين و رثها عن أبيه وكان يزارع عليها مع تشدده ومبالغته في الورع وكذلك الأمام أحمد ورث عن أبيه دورا وكان يستغلها حتى مات وورث من زوجته أيضا قال أبو جعفر بن المنادي سأل رجل أحمد بن حنبل عن العقار الذي كان يستغله وسكن في دار منه كيف سبيله عنده؟ فقال: هذا شيء قد ورثته عن أبي فإن جاءني أحد فصحح أنه له خرجت عنه ودفعت اليه وقال الخلال: أخبرني محمد ابن علي السمسار قال: كانت لأم عبد الله بن أحمد دار معنا في الدرب يأخذ منها درهما حق ميراثه فاحتاجت الى نفقة فأصلحها عبد الله فترك أبو عبد الله الدرهم الذي كان يأخذه وقال: قد افسده علي.

وقد سبق عن الأوزاعي نحو ذلك. ولعل مراده القربة أيضا قال القاضي: ونقل المروزي أن أحمد سئل هل ترى أن يورث الرجل من السوادقال وهل يجري في هذا ميراث قال القاضي إنما أراد أن رقبته لا تورث وهذا حق.

وفي مسائل صالح سألت أبي عن رجل مات وترك ورثة وترك دكانا عليه خراج للسلطان فأحرق الدكان فأعطى بعض الورثة الخراج كله وبني الدكان من عنده بعلم الورثة إلا أنهم لم يروا فجاءوا بعد يطلبون حصتهم

ص: 123

من الدكان وقالوا: هو بيننا قال أبي: أما الخراج فيلزمهم كلهم وأما البناء فإن كانوا أذنوا فهو بينهم جميعا فإن لم يكونوا أذنوا فالبناء بناؤه ولهم أن يقولوا انقض بناءك فهو لك وحقهم ثابت في الدكان إلا أن يتراضوا به بينهم ويؤدوا إليه ما أنفق وهذا نص في إرث أرض الخراج وان خلت عن بناء لأن البناء المورث لهم ملكا قد احترق كله و بقيت عرصة الأرض ومع هذا فقد جعلها حقا بين الورثة كلهم وجعل الخراج عليهم جميعا.

المسئلة الرابعة: قضاء الديون منها ولها ثلاث أحوال:

أحدها أن يبيعها في قضاء الدين فإن باع رقبتها لذلك لم يجز نص عليه وإن باع البناء وحده ففيه ما سبق.

الحالة الثانية أن يقضي الدين من أجرتها أو من ثمن ما يستغله منها من ثمرة أو زرع فيجوز لأن ذلك كله يملكه ونقل المروزي وغيره أن أحمد وصى في مرضه أن عليه خمسة وأربعين دينارا دينا فأوصى أن تعطى الغلة حتى يستوفي حقه يعني من أجرة ما يكون يكريه وذلك في وصيته أنه يعطي فورا كل شهر شيئا مسمى من الغلة ويعطي أم ولده ثمانية دراهم في كل شهر ما أقامت على ولدها قال القاضي: ووجه ذلك أنها في يده بعقد إجارة يعني الخراج والاجارة لا تبطل بموت المستأجر فكانت باقية على حكم ملكه ولذلك يصح وصيته منها وقوله إن الدور كانت معه بعقد إجارة ممنوع بل كانت معه ميراثا ولم يكن على مساكن بغداد خراج وإنما كان أحمد أحيانا يؤدي الخراج من عنده على ما سبق وقوله إن الاجارة لا تبطل بالموت فتبقى على حكم ملكه يقتضي أن استأجر شيئا مرة ثم مات في أثنائها فإن منافع بقية مدة الاجارة كمنافع الأعيان المملوكة له ومنافع الأعيان المملوكة له له الوصية بها كمنافع دوره

ص: 124

ورقيقه وما يحدث من حمل شجرة وأمانة وما يقبض من نجوم كتابة رقيقه فله التصرف في ذلك كله بالوصية وله أيضا أن يوصي بقضاء ديونه من بعضها كما يوصي بقضاء دين عليه من نجوم مكاتبه بعد موته فيصح ويلزم تنفيذها وقد صرح بذلك أصحابنا كالقاضي وابن عقيل والسر في ذلك أن المالك يملك منافع أمواله وفوائدها أبدا فالتصرف فيما يحدث منها بعد موته نفذ تصرفه والوراث إنما يستحق ما فضل عن حقوق موروثه وتصرفاته المعتبرة وليس له الاعتراض على ما تعلق به حق موروثه وتصرفاته المعتبرة وليس له الاعتراض على ما تعلق به حق موروثه من المنافع والأعيان ثم القاضي وابن عقيل ذكرا في باب الكتابة أن الثمرة الحادثة بعد موت الموصي كالثمرة الموصي بها وكنجوم الكتابة لا يدخل في التركة وهذا خلاف ما قرراه في وصاياهما فإن أرادا أنها تحدث ابتداء على ملك الموصي له ولا يحسب من ثلث مال الميت فهذا مخالف لما قرراه وهو بعيد وإن أرادا أن الوصية به لا تصح لحدوثه على ملك الورثة فكذلك أيضا وصرح طائفة من أصحابنا بقضاء ديون الميت من ثمرة أشجاره ونمائه مطلقا سواء أوصى بذلك أو لم يوص ومنهم ابن السني وقد دل عليه قضاء عمر دين أسيد بن حضير من ثمره أربع سنين كما تقدم ذكره وأما ما يتجدد من منافع الأعيان الموقوفة فإنها تنتقل إلى من يستحق الوقف بعده بمجرد موته لأن الطبقات كلها تتلقى الوقف عن الواقف على الصحيح ولا نعلم في شيء من ذلك خلافا إلا ما قاله المالكية فيمن كان له سكنى دار وقفا عليه فمات أن امرأته تستحق السكنى حتى تنقضي عدتها لأنه من تمام سكنى عياله المتعلق به وإذا تقر هذا فمنافع الأرض الخراجية إذا كانت مع من هو متقبل لها بالخراج أو مع من يجوز له الانتفاع بها من مستحقي الفي فهو مالك لها وما يحدث من أجورها أو ثمراتها حكمه حكم ثمرات ملكه الخالص فلذلك جازت الوصية بقضاء الديون من نجوم الكتابة كما صرح به الاصحاب وكما تصح الوصية بذلك تبرعا

ص: 125

للأجنبي ولهذا تورث الأرض الخراجية بخلاف الأوقاف على معين وقد أثر كل هذا على كثير من الأصحاب فلم يجوزوه وظنوا أن الخراجية إذا قلنا هي وقف كالوقف على معين فلا يقضي ما يحدث بعد موت المستحق لها شيء من ديونه ولا يتعدى وصاياه ولما رأوا وصية الامام أحمد بخلاف ذلك قالوا أرض الخراج مختلف فيها هل هي ملك أو وقف فلما دخلها الشبه والتأويل ألحقت بالملك كما أجاب بذلك الآمدي وهو جواب ضعيف.

الحالة الثالثة يدفع الأرض بمنافعها معاوضة عن الديون اللازمة له فيصح. نص عليه أحمد في رواية حنبل ومحمد بن أبي حرب الجرجاني في رجل لامرأته عليه صداق وله ضيعة بالسواد امرأته وغيره بالسواد يسلمها إليها وقال في رواية إسحاق بن هانيء في ر جل يكون له ضيعة بالسواد وعليه دين: لا يبيع ضيعته في السواد وإن كان لامرأته عليه مهر يدفع إليه بمالها من الأرض ولا يبيعها قال القاضي: معناه أنه يسلم إليه حقه من منافعها ولم يرد تسليم الرقبة وهذا ظاهر لأن ملكه إنما هو المنافع وأما الرقبة فهي يده لاستيفاء المنافع المستحقة له كالعين المستأجرة فأراد أحمد أن يجوز دفع هذه المنافع عوضا عن الديون التي عليه لأنها مال قابل للمعاوضة ولا سيما إن كان فيها له ملك من بناء أو غراس ولو تزوج امرأة وأصدقها هذه المنافع ابتداء صيح نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله في رجل تزوج امرأة على أرض السواد ثم طلقها قال: إن دخل بها تدفع إليها الأرض وإن لم يدخل بها فلها نصف الأرض قال القاضي: ظاهر هذا يقتضي جواز أن يكون منفعة السواد عوضا في الصداق مع قوله لا يجوز بيعها وغير ممتنع أن تكون منفعة الرقبة صداقا وإن لم يجز بيع الرقبة كمنفعة الوقف على رجل يعينه وكمنفعة أم الولد قال ويجب أن تكون المسئلة محمولة على أنه شرط لها مدة معلومة كما يجوز ذلك في منفعة

ص: 126

الوقف على معين وفي منفعة أم الولد أو شرط أجلا مطلقا فتكون مدته الفرقة "انتهى". وحاصله أن المهر يجوز أن يكون منفعة مملوكة وإن كانت الرقبة غير قابلة للمعاوضة كمنافع الوقف وأم الولد ونحوهما وأما منافع الحر ففي صحة أصداقها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه لكونها غير مملوكة حيقيقة.

ولو قدر أنها ملحقة بالأموال منافع الأرض الخراجية كمنافع الوقف بل هي من جملة منافع الوقف عند كثير من الأصحاب فيصح أن يكون صداقا ومن هنا أخذ بعضهم جواز بيع هذه المنافع قال: لأنه إذا جاز جعلها صداقا جاز جعلها ثمنا وأجرة حيث قال: الأصحاب ما جاز أن يكون ثمنا وأجرا أن يكون صداقا قال: وما جاز أن يكون ثمنا جاز ان يكون مثمنا وأما قول القاضي: أن المسألة محمولة على أنه شرط مدة معلومة كمنافع الوقف وأم الولد ففيه نظر وظاهر كلام أحمد أنه جعل صداقها منافع الأرض أبدا والفرق بينهما وبين منافع أم الولد والوقف أن تلك لا تستحق منافعها على التأبيد بل يبطل حقه من منافعها بموته بخلاف هذه المنافع فانه يستحقها كما يستحق منافع أملاكه فكذلك ملك المعاوضة عليها على التأبيد وقوله انه إذا أطلق الشرط كانت مدته الفرقة يعني إذا أصدقها منافع الأرض الخراجية مطلقا من غير توقيت كانت موفية بمدة الزوجية كما قالوا إذا تزوجها على مهر مؤجل فانه يحل بالفرقة وقد بينا أن كلام أحمد إنما يدل على أن الصداق هو هذه المنافع على التأبيد فتقوم الزوجة مقامه فيها ويكون الخراج عليها وأما الدين المؤجل فلا بد من حلوله وإلا لم يكن له فائدة فجعل أجله الفرقة.

ص: 127