المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع) - شرح النووي على مسلم - جـ ٨

[النووي]

فهرس الكتاب

- ‌(بَابُ اسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ لِلْحَاجِّ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ)

- ‌(باب صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ)

- ‌(كَانَ يَصُومُ التَّاسِعَ)[1134]وفي الرواية الأخرى (عن بن عَبَّاسٍ أَنَّ

- ‌(بَابُ تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ)

- ‌(بَابُ تَحْرِيمِ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ)

- ‌(بَابُ كَرَاهَةِ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ لَا يُوَافِقُ عَادَتَهُ)

- ‌(باب بيان نسخ قول الله تَعَالَى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ

- ‌(بَابُ جَوَازِ تَأْخِيرِ قضاء رمضان ما لم يجيء رَمَضَانُ آخَرُ

- ‌(بَابُ قَضَاءِ الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ)

- ‌(بَابُ نَدْبِ الصَّائِمِ إِذَا دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ وَلَمْ يُرِدِ الْإِفْطَارَ)

- ‌(باب فَضْلِ الصِّيَامِ)

- ‌(باب فَضْلِ الصِّيَامِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمَنْ يُطِيقُهُ بِلَا ضَرَرٍ وَلَا

- ‌(باب جَوَازِ صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال)

- ‌(باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر)

- ‌(باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان)

- ‌(بَابُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ لِمَنْ تَضَرَّرَ به أو فوت به حقا)

- ‌(باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (وصوم يوم

- ‌(قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُ غَضَبِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَرِهَ

- ‌(بَابُ صَوْمِ شَهْرِ شَعْبَانَ[1161]فِيهِ (عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ

- ‌(باب فَضْلِ صَوْمِ الْمُحَرَّمِ[1163]قَوْلُهُ (عَنْ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

- ‌(باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعا لرمضان

- ‌(باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ والحث على طلبها وبيان محلها

- ‌(كتاب الاعتكاف هُوَ فِي اللُّغَةِ الْحَبْسُ وَالْمُكْثُ وَاللُّزُومُ

- ‌(باب الِاجْتِهَادِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ[1174]قَوْلُهَا

- ‌(بَابُ صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ[1176]فِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ

- ‌(كِتَابُ الْحَجِّ الْحَجُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ هُوَ الْمَصْدَرُ وَبِالْفَتْحِ

- ‌(باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة لبسه ومالا يباح

- ‌(بَابُ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ)

- ‌(باب التَّلْبِيَةِ وَصِفَتِهَا وَوَقْتِهَا)

- ‌(باب أَمْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْإِحْرَامِ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُحْرِمَ حِينَ تَنْبَعِثُ بِهِ رَاحِلَتُهُ)

- ‌(قَالَ الْقَاضِي وَالسِّينُ فِي جَمِيعِ هَذَا مَكْسُورَةٌ قَالَ وَالْأَصَحُّ

- ‌(باب استحباب الطيب قبل الاحرام في البدن واستحبابه

- ‌(باب تحريم الصيد المأكول البري)

- ‌(قَالَ أَصْحَابُنَا يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ

- ‌(باب مَا يَنْدُبُ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ قَتْلَهُ مِنْ الدَّوَابِّ فِي الْحِلِّ

- ‌(بَابُ جَوَازِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا كَانَ بِهِ أذى)

- ‌(باب جواز الحجامة للمحرم)

- ‌(باب جَوَازِ مُدَاوَاةِ الْمُحْرِمِ عَيْنَيْهِ)

- ‌(بَابُ جَوَازِ غَسْلِ الْمُحْرِمِ بَدَنَهُ وَرَأْسَهُ)

- ‌(باب مَا يُفْعَلُ بِالْمُحْرِمِ إِذَا مات)

- ‌(باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه)

- ‌(باب احرام النفساء واستحباب اغتسالها للاحرام وكذا

- ‌(بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُ الْحَجِّ وَالتَّمَتُّعِ)

- ‌(وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَارِنًا فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْعَوْا بَيْنَ الصَّفَا

- ‌(بَابُ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَابُ جَوَازِ تَعْلِيقِ الْإِحْرَامِ)

- ‌(باب جَوَازِ التَّمَتُّعِ)

- ‌(باب وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَأَنَّهُ إِذَا عَدَمَهُ لَزِمَهُ)

- ‌(باب بيان أن القارن لا يتحلل الا في وقت تحلل الحاج

- ‌(باب جواز التحلل بالاحصار وجواز القران واقتصار)

- ‌(باب في الافراد والقران)

- ‌(باب استحباب طواف القدوم للحاج والسعى بعده)

- ‌(باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل

- ‌(باب جواز العمرة في اشهر الحج)

- ‌(باب اشعار الهدى وتقليده عند الاحرام)

- ‌(بَابُ قَوْلِهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا هَذَا الْفُتْيَا التى قد تشغفت (أو

- ‌(باب جواز تقصير المعتمر من شعره وأنه لا يجب حلقه)

- ‌(باب جواز التمتع في الحج والقران)

- ‌(باب بَيَانِ عَدَدِ عُمَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَمَانِهِنَّ)

الفصل: ‌(باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع)

فَالشَّجَرَةُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَمَّا الْبَيْدَاءُ فَهِيَ بِطَرَفِ ذي الحليفة قال القاضي يحمل أَنَّهَا نَزَلَتْ بِطَرَفِ الْبَيْدَاءِ لِتَبْعُدَ عَنِ النَّاسِ وَكَانَ مَنْزِلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَقِيقَةً وَهُنَاكَ بَاتَ وَأَحْرَمَ فَسُمِّيَ مَنْزِلُ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِاسْمِ مَنْزِلِ إِمَامِهِمْ

(بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُ الْحَجِّ وَالتَّمَتُّعِ)

(وَالْقِرَانِ وَجَوَازِ إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ ومتى يحل للقارن مِنْ نُسُكِهِ) قَوْلُهُمْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهَا وَكَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ اعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى جَوَازِ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ وَجَوَازِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَأَمَّا النَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما فَسَنُوَضِّحُ مَعْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْإِفْرَادُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَيَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَعْتَمِرَ وَالتَّمَتُّعُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا جَمِيعًا وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ طَوَافِهَا صَحَّ وَصَارَ قَارِنًا فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا لَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ وَالثَّانِي يَصِحُّ وَيَصِيرُ قَارِنًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ مِنَ الْحَجِّ وَقِيلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَقِيلَ قَبْلَ فِعْلِ فَرْضٍ وَقِيلَ قَبْلَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَوْ غَيْرِهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ أَيُّهَا أَفْضَلُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَكَثِيرُونَ أَفْضَلُهَا الْإِفْرَادُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْقِرَانُ وَقَالَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ أَفْضَلُهَا

ص: 134

التَّمَتُّعُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ أَفْضَلُهَا الْقِرَانُ وَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ قَوْلَانِ آخَرَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ تَفْضِيلُ الْإِفْرَادِ ثُمَّ التَّمَتُّعِ ثُمَّ الْقِرَانِ وَأَمَّا حَجَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَلَفُوا فِيهَا هَلْ كَانَ مُفْرِدًا أَمْ مُتَمَتِّعًا أَمْ قَارِنًا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ مَذَاهِبهِمُ السَّابِقَةِ وَكُلُّ طَائِفَةٌ رَجَّحَتْ نَوْعًا وَادَّعَتْ أَنَّ حَجَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ كَذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلًا مُفْرِدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَدْخَلَهَا عَلَى الْحَجِّ فَصَارَ قَارِنًا وَقَدِ اخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم فِي صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَجَّةِ الْوَدَاعِ هَلْ كَانَ قَارِنًا أَمْ مُفْرِدًا أَمْ مُتَمَتِّعًا وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ رِوَايَاتِهِمْ كَذَلِكَ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا مَا ذَكَرْتُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلًا مُفْرِدًا ثُمَّ صَارَ قَارِنًا فَمَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ هُوَ الْأَصْلُ وَمَنْ رَوَى الْقِرَانَ اعْتَمَدَ آخِرَ الْأَمْرِ وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ أَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَالِارْتِفَاقُ وَقَدِ ارْتَفَقَ بِالْقِرَانِ كَارْتِفَاقِ الْمُتَمَتِّعِ وَزِيَادَةٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ وَبِهَذَا الْجَمْعِ تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فِي كِتَابٍ صَنَّفَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ خَاصَّةً وَادَّعَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا وَتَأَوَّلَ بَاقِي الْأَحَادِيثِ وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِأَدِلَّتِهِ وَجَمِيعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَعَلَّقِ بِهَا وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ فِي تَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ بِأَنَّهُ صَحَّ ذَلِكَ مِنْ رواية جابر وبن عمر وبن عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مَزِيَّةٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى غَيْرِهِمْ فَأَمَّا جَابِرٌ فَهُوَ أَحْسَنُ الصَّحَابَةِ سِيَاقَةً لِرِوَايَةِ حَدِيثِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا مِنْ حِينِ خُرُوجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى آخِرِهَا فَهُوَ أضبط لها من غيره وأما بن عُمَرَ فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ رَجَّحَ قَوْلَ أَنَسٍ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ كَانَ أَنَسٌ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُكْشِفَاتٌ الرُّءُوسَ وَإِنِّي كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّنِي لُعَابُهَا أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَأَمَّا عَائِشَةُ فَقُرْبُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْرُوفٌ وَكَذَلِكَ اطِّلَاعُهَا عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ وَظَاهِرِهِ وَفِعْلِهِ فِي خَلْوَتِهِ وَعَلَانِيَتِهِ مَعَ كَثْرَةِ فقهها وعظم فطنتها وأما بن عَبَّاسٍ فَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَالْفَهْمِ الثَّاقِبِ مَعْرُوفٌ مَعَ كَثْرَةِ بَحْثِهِ وَتَحَفُّظِهِ أَحْوَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي لَمْ يَحْفَظْهَا غَيْرُهُ وَأَخْذُهُ إِيَّاهَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَمِنْ دَلَائِلِ تَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدُوا الْحَجَّ وَوَاظَبُوا

ص: 135

عَلَى إِفْرَادِهِ كَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رضي الله عنهم وَاخْتَلَفَ فِعْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ مُفْرِدًا لَمْ يُوَاظِبُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ وَقَادَةُ الْإِسْلَامِ وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِي عَصْرِهِمْ وَبَعْدَهُمْ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى خِلَافِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الْخِلَافُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا فَعَلُوهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ وَمِنْهَا أَنَّ الْإِفْرَادَ لَا يَجِبُ فِيهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ لِكَمَالِهِ وَيَجِبُ الدَّمُ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَهُوَ دَمُ جُبْرَانٍ لِفَوَاتِ الْمِيقَاتِ وَغَيْرِهِ فكان مالا يَحْتَاجُ إِلَى جَبْرٍ أَفْضَلَ وَمِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ الْإِفْرَادِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَكَرِهَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا التَّمَتُّعَ وَبَعْضُهُمُ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ فَكَانَ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي صِفَةِ حَجَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ مُشَاهَدَةٍ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَمِنْ مُجِيدٍ مُنْصِفٍ وَمِنْ مُقَصِّرٍ مُتَكَلِّفٍ وَمِنْ مُطِيلٍ مُكْثِرٍ وَمِنْ مُقْتَصِرٍ مُخْتَصِرٍ قَالَ وَأَوْسَعُهُمْ فِي ذَلِكَ نَفَسًا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ فِي زِيَادَةٍ عَلَى أَلْفِ وَرَقَةٍ وَتَكَلَّمَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ ثُمَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ثُمَّ الْمُهَلَّبُ وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ وَالْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ الْبَغْدَادِيُّ وَالْحَافِظُ أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَوْلَى مَا يُقَالُ فِي هَذَا عَلَى مَا فَحَصْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَاخْتَرْنَاهُ مِنَ اخْتِيَارَاتِهِمْ مِمَّا هُوَ أَجْمَعُ لِلرِّوَايَاتِ وَأَشْبَهُ بِمَسَاقِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لِلنَّاسِ فِعْلَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِيَدُلَّ عَلَى جَوَازِ جَمِيعِهَا وَلَوْ أَمَرَ بِوَاحِدٍ لَكَانَ غَيْرُهُ يظن انه لا يجزئ فَأُضِيفَ الْجَمِيعُ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَأَبَاحَهُ لَهُ وَنَسَبَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِمَّا لِأَمْرِهِ بِهِ وَإِمَّا لِتَأْوِيلِهِ عَلَيْهِ وَأَمَّا إِحْرَامُهُ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ فَأَخْذَ بِالْأَفْضَلِ فَأَحْرَمَ مُفْرِدًا لِلْحَجِّ وَبِهِ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَمَعْنَاهَا أَمَرَ بِهِ وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ بِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا فَإِخْبَارٌ عَنْ حَالَتِهِ الثَّانِيَةِ لَا عَنِ ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ بَلْ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ حِينَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ حَجِّهِمْ وَقَلَبَهُ إِلَى عُمْرَةٍ لِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَكَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ فِي آخِرِ إِحْرَامِهِمْ قَارِنِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَدْخَلُوا الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ وَفَعَلَ ذَلِكَ مُوَاسَاةً لِأَصْحَابِهِ وَتَأْنِيسًا لَهُمْ فِي فِعْلِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِكَوْنِهَا كَانَتْ مُنْكَرَةً عِنْدَهُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يمكنه

ص: 136

التَّحَلُّلُ مَعَهُمْ بِسَبَبِ الْهَدْيِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي تَرْكِ مُوَاسَاتِهِمْ فَصَارَ صلى الله عليه وسلم قَارِنًا فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَقَدِ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَشَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَمَنَعَهُ وَقَالَ لَا يَدْخُلُ إِحْرَامٌ عَلَى إِحْرَامٍ كَمَا لَا تَدْخُلُ صَلَاةٌ عَلَى صَلَاةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ على الحج فجوزه أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَجَعَلُوا هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِضَرُورَةِ الِاعْتِمَارِ حِينَئِذٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ وَكَذَلِكَ يُتَأَوَّلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَيْ تَمَتَّعَ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفَعَلَهَا مَعَ الْحَجِّ لِأَنَّ لَفْظَ التَّمَتُّعِ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ فَانْتَظَمَتِ الْأَحَادِيثُ وَاتَّفَقَتْ قَالَ وَلَا يَبْعُدُ رَدُّ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ فِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَيَكُونُ الْإِفْرَادُ إِخْبَارًا عَنْ فِعْلِهِمْ أَوَّلًا وَالْقِرَانُ إِخْبَارًا عَنْ إِحْرَامِ الَّذِينَ مَعَهُمْ هَدْيٌ بِالْعُمْرَةِ ثَانِيًا وَالتَّمَتُّعُ لِفَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ ثُمَّ إِهْلَالِهِمْ بِالْحَجِّ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا كَمَا فَعَلَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِنَّهُ أَحْرَمَ صلى الله عليه وسلم إِحْرَامًا مُطْلَقًا مُنْتَظِرًا مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ إِفْرَادٍ أَوْ تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ ثُمَّ أُمِرَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أُمِرَ بِالْعُمْرَةِ مَعَهُ فِي وَادِي الْعَقِيقِ بِقَوْلِهِ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ قَالَ الْقَاضِي وَالَّذِي سَبَقَ أَبْيَنُ وَأَحْسَنُ فِي التَّأْوِيلِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَعْدَهُ لَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ أَحْرَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْرَامًا مُطْلَقًا مُبْهَمًا لِأَنَّ رِوَايَةَ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مُصَرِّحَةٌ بِخِلَافِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ أَنْعَمَ الشَّافِعِيُّ بِبَيَانِ هَذَا فِي كِتَابِهِ اخْتِلَافُ الْحَدِيثِ وَجودُ الْكَلَامِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِي اقْتِصَاصِ كُلِّ مَا قَالَهُ تَطْوِيلٌ وَلَكِنَّ الْوَجِيهَ وَالْمُخْتَصَرَ مِنْ جَوَامِعِ مَا قَالَ أَنَّ مَعْلُومًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ جَوَازُ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْأَمْرِ كَجَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ كَقَوْلِكَ بَنَى فُلَانٌ دَارًا إِذَا أَمَرَ بِبِنَائِهَا وَضَرَبَ الْأَمِيرُ فُلَانًا إِذَا أَمَرَ بِضَرْبِهِ وَرَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَاعِزًا وَقَطَعَ سَارِقَ رداء صَفْوَانَ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمُ الْمُفْرِدُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَالْقَارِنُ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْخُذُ عَنْهُ أَمْرَ نُسُكِهِ وَيَصْدُرُ عَنْ تَعْلِيمِهِ فَجَازَ أَنْ تُضَافَ كُلُّهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا وَأَذِنَ فِيهَا قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَهُ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ فَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ أَفْرَدَ وَخَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَعُمْرَةٍ فَلَمْ يَحْكِ إِلَّا مَا سَمِعَ وَسَمِعَ أَنَسٌ وَغَيْرُهُ الزِّيَادَةَ وَهِيَ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَلَا يُنْكَرُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ وَإِنَّمَا

ص: 137

يَحْصُلُ التَّنَاقُضُ لَوْ كَانَ الزَّائِدُ نَافِيًا لِقَوْلِ صَاحِبِهِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُثْبِتًا لَهُ وَزَائِدًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِي سَمِعَهُ يَقُولُ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ فَيَقُولُ لَهُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّلْقِينِ فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ ظَاهِرًا لَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا سَهْلٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (من كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ) يُقَالُ هَدْيٌ بِإِسْكَانِ الدَّالِ وتخفيف الياء وهدي بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الْأُولَى أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إِلَى الحرم من الأنعام وسوق الهدي سنة لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ قَوْلُهُ (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ قَالَتْ وَلَمْ أُهِلَّ إِلَّا بِعُمْرَةٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ عَائِشَةَ فِيمَا أَحْرَمَتْ بِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَذَكَرَ مُسْلِمٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْهَا خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ وَفِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْهَا خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ وَفِي رِوَايَةٍ لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عَنْهَا نُلَبِّي لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فَقَالَ مَالِكٌ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَنَا قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتَرَجَّحُ أَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ لِأَنَّهَا رِوَايَةُ عَمْرَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالْقَاسِمِ وَغَلَّطُوا عُرْوَةَ فِي الْعُمْرَةِ وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَرَجَّحُوا رِوَايَةَ غَيْرِ عُرْوَةَ عَلَى رِوَايَتِهِ لِأَنَّ عُرْوَةَ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زيد عن هاشم عَنْهُ حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا دَعِي عُمْرَتَكِ فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الْحَدِيثَ مِنْهَا قَالَ الْقَاضِي رحمه الله وَلَيْسَ هَذَا بِوَاضِحٍ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِمَّنْ حَدَّثَهُ ذَلِكَ قَالُوا أَيْضًا وَلِأَنَّ رِوَايَةَ عَمْرَةَ

ص: 138

وَالْقَاسِمِ نَسَّقَتْ عَمَلَ عَائِشَةَ فِي الْحَجِّ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْقَاسِمُ عَنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ أَنْبَأَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ قَالُوا وَلِأَنَّ رِوَايَةَ عُرْوَةَ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ إِحْرَامِ عَائِشَةَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ مُمْكِنٌ فَأَحْرَمَتْ أَوَّلًا بِالْحَجِّ كَمَا صَحَّ عَنْهَا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ وَكَمَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ حِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَهَكَذَا فسره الْقَاسِمُ فِي حَدِيثِهِ فَأَخْبَرَ عُرْوَةُ عَنْهَا بِاعْتِمَارِهَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ أَمْرِهَا قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ تَعَارَضَ هَذَا بِمَا صَحَّ عَنْهَا فِي إِخْبَارِهَا عَنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْإِحْرَامِ وَأَنَّهَا أَحْرَمَتْ هِيَ بِعُمْرَةٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ ثُمَّ فَسَخَتْهُ إِلَى عُمْرَةٍ حِينَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْفَسْخِ فَلَمَّا حَاضَتْ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا إِتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهَا وَإِدْرَاكُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ فَصَارَتْ مُدْخِلَةً لِلْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَقَارِنَةً وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ارْفُضِي عُمْرَتَكِ لَيْسَ مَعْنَاهُ إِبْطَالُهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا فَإِنَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالتَّحَلُّلِ بَعْدَ فَرَاغِهَا بَلْ مَعْنَاهُ ارْفُضِي الْعَمَلَ فِيهَا وَإِتْمَامَ أَفْعَالِهَا الَّتِي هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَتَقْصِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ فَأَمَرَهَا صلى الله عليه وسلم بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَأَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَتَصِيرَ قَارِنَةً وَتَقِفَ بِعَرَفَاتٍ وَتَفْعَلَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ فَتُؤَخِّرَهُ حَتَّى تَطْهُرَ وَكَذَلِكَ فَعَلَتْ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ بَعْدَ هَذَا فِي آخِرِ رِوَايَاتِ عَائِشَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ بَهْزٍ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ فَقَدِمَتْ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفْرِ يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ فَأَبَتْ فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ هَذَا لَفْظُهُ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ عُمْرَتَهَا بَاقِيَةٌ صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ وَأَنَّهَا لَمْ تُلْغِهَا

ص: 139

وَتَخْرُجْ مِنْهَا فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَدَعِي عُمْرَتَكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رَفْضِ الْعَمَلِ فِيهَا وَإِتْمَامِ أَفْعَالِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَمَّا مَضَتْ مَعَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ (هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا عُمْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ عَنِ الْحَجِّ كَمَا حَصَلَ لِسَائِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فَسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَأَتَمُّوا الْعُمْرَةَ وَتَحَلَّلُوا مِنْهَا قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ثُمَّ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَحَصَلَ لَهُمْ عُمْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ وَحَجَّةٌ مُنْفَرِدَةٌ وَأَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا عُمْرَةٌ مُنْدَرِجَةٌ فِي حَجَّةٍ بِالْقِرَانِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفْرِ يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ أَيْ وَقَدْ تَمَّا وَحُسِبَا لَكِ جَمِيعًا فَأَبَتْ وَأَرَادَتْ عُمْرَةً مُنْفَرِدَةً كَمَا حَصَلَ لِبَاقِي النَّاسِ فَلَمَّا اعْتَمَرَتْ عُمْرَةً مُنْفَرِدَةً قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ أَيِ الَّتِي كُنْتِ تُرِيدِينَ حُصُولَهَا مُنْفَرِدَةً غَيْرَ مُنْدَرِجَةٍ فَمَنَعَكِ الْحَيْضُ مِنْ ذَلِكَ وَهَكَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهَا يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ أَيْ يَرْجِعُونَ بِحَجٍّ مُنْفَرِدٍ وَعُمْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا وَلَيْسَ لِي عُمْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ وَإِنَّمَا حَرَصَتْ عَلَى ذَلِكَ لِتُكْثِرَ أَفْعَالَهَا وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْقِرَانُ أَفْضَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[1211]

وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي) فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ نَقْضَ الرَّأْسِ وَالِامْتِشَاطَ جَائِزَانِ عِنْدَنَا فِي الْإِحْرَامِ بِحَيْثُ لَا يَنْتِفُ شَعْرًا وَلَكِنْ يُكْرَهُ الِامْتِشَاطُ إِلَّا لِعُذْرٍ وَتَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ فِعْلَ عَائِشَةَ هَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَعْذُورَةً بِأَنْ كَانَ فِي رَأْسِهَا أَذًى فَأَبَاحَ لَهَا الِامْتِشَاطَ كَمَا أَبَاحَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْحَلْقَ لِلْأَذَى وَقِيلَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِامْتِشَاطِ هُنَا حَقِيقَةَ الِامْتِشَاطِ بِالْمُشْطِ بَلْ تَسْرِيحَ الشَّعْرِ بِالْأَصَابِعِ للغسل لاحرامها بالحج لاسيما إِنْ كَانَتْ لَبَّدَتْ رَأْسَهَا كَمَا هُوَ السُّنَّةُ وَكَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَصِحُّ غُسْلُهَا إِلَّا بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ شَعْرِهَا وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا نَقْضُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا

ص: 140

جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ عَنْ طَوَافِ الرُّكْنِ وَأَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ وَتَنْدَرِجُ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ كُلُّهَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عن بن عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ وَهُوَ محكي عن علي بن أبي طالب وبن مسعود والشعبي والنخعي والله أعلم قولهن (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 141

عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْأَحَادِيثِ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ إِحْرَامِهِمْ بِالْحَجِّ فِي مُنْتَهَى سَفَرِهِمْ وَدُنُوِّهِمْ مِنْ مَكَّةَ بِسَرِفَ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَوْ بَعْدَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيِهِ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ ويحتمل تكرارا الْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَنَّ الْعَزِيمَةَ كَانَتْ آخِرًا حِينَ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ قَوْلُهَا (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيَتَحَلَّلْ وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ) هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَمُوَافِقِهِمَا فِي أَنَّ الْمُعْتَمِرَ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِمَا أَنَّهُ إِذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ كَانَ سَاقَ هَدْيًا أَمْ لَا وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ وَبِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مِنْ نُسُكِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ كَمَا لَوْ تَحَلَّلَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَأَجَابُوا عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَهَا وَالَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلَهَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عام حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْمَحْذُوفِ مِنَ الرِّوَايَةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَتَقْدِيرُهَا وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ وَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ وَاحِدَةٌ وَالرَّاوِي وَاحِدٌ فَيَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

ص: 142

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ) فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا وَإِنَّمَا أَمْسَكَتْ عَنْ أَعْمَالِهَا وَأَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ فَأَدْرَجَتْ أَعْمَالَهَا بِالْحَجِّ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَدَعِي عُمْرَتَكِ أَنَّ الْمُرَادَ رَفْضُ إِتْمَامِ أَعْمَالِهَا لَا إِبْطَالُ أَصْلِ الْعُمْرَةِ قَوْلُهَا (فَأَرْدَفَنِي) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِرْدَافِ إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مُطِيقَةً وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِذَلِكَ وَفِيهِ جَوَازُ إِرْدَافِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ مِنْ مَحَارِمِهِ وَالْخَلْوَةِ بِهَا وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فليهل وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ) فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ

ص: 143

عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِهَا كَمَا سَبَقَ قَوْلُهَا (فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ) هِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَفَرُوا مِنْ مِنًى فَنَزَلُوا فِي الْمُحَصَّبِ وَبَاتُوا بِهِ قَوْلُهَا (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ) أَيْ مُقَارِنِينَ لِاسْتِهْلَالِهِ وَكَانَ خُرُوجُهُمْ قَبْلَهُ لِخَمْسٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) هَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ التَّمَتُّعِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَمَنَّى إِلَّا الْأَفْضَلَ وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِتَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ هَذَا مِنْ أَجْلِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ خَاصَّةً لِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ التَّمَتُّعَ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ وَقَالَ هَذَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ أَصْحَابِهِ وَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ لَا تَسْمَحُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي بَعْدَ هَذَا فَقَالَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْكَلَامَ وَمَعْنَاهُ مَا يَمْنَعُنِي مِنْ مُوَافَقَتِكُمْ فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ إِلَّا سَوْقِي الْهَدْيَ وَلَوْلَاهُ لَوَافَقْتُكُمْ وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ هَذَا الرَّأْيَ وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِي لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا قَوْلُهَا (فَقَضَى اللَّهُ حَجَّنَا وَعُمْرَتَنَا وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى إِخْبَارِهَا عَنْ نَفْسِهَا أَيْ لَمْ يَكُنْ

ص: 144

عَلَيَّ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ ثُمَّ إِنَّهُ مُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَالْقَارِنُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَكَذَلِكَ الْمُتَمَتِّعُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ دَمُ ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَالطِّيبِ وَسَتْرِ الْوَجْهِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ وَإِزَالَةِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَيْ لَمْ أَرْتَكِبْ مَحْظُورًا فَيَجِبُ بِسَبَبِهِ هَدْيٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَوْمٌ هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي تَأْوِيلِهِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي حَجٍّ مُفْرَدٍ لَا تَمَتُّعٍ وَلَا قِرَانٍ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى وُجُوبِ الدَّمِ فِيهِمَا إِلَّا دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ فَقَالَ لَا دَمَ عَلَى الْقَارِنِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهَذَا اللَّفْظُ وهو قوله وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ ظَاهِرُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ وَلَكِنْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ فِي مَعْنَى الْمُدْرَجِ قَوْلُهَا (خَرَجْنَا مُوَافِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ مَعْنَاهُ لَا نَعْتَقِدُ أَنَّا نُحْرِمُ إِلَّا بِالْحَجِّ لِأَنَّا كُنَّا نَظُنُّ امْتِنَاعَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ

ص: 145

قَوْلُهَا (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ بِقُرْبِ مَكَّةَ عَلَى أَمْيَالٍ مِنْهَا قِيلَ سِتَّةٌ وَقِيلَ سَبْعَةٌ وَقِيلَ تِسْعَةٌ وَقِيلَ عَشَرَةٌ وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (أَنَفِسْتِ) مَعْنَاهُ أَحِضْتِ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الْفَتْحُ أَفْصَحُ وَالْفَاءُ مَكْسُورَةٌ فِيهِمَا وَأَمَّا النِّفَاسُ الَّذِي هُوَ الْوِلَادَةُ فَيُقَالُ فِيهِ نُفِسَتْ بِالضَّمِّ لَا غَيْرَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَيْضِ (هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ) هذا تسلية لها وتخفيف لهما وَمَعْنَاهُ أَنَّكِ لَسْتِ مُخْتَصَّةً بِهِ بَلْ كُلُّ بَنَاتِ آدَمَ يَكُونُ مِنْهُنَّ هَذَا كَمَا يَكُونُ مِنْهُنَّ وَمِنَ الرِّجَالِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَغَيْرُهُمَا وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ كَانَ فِي جَمِيعِ بَنَاتِ آدَمَ وَأَنْكَرَ بِهِ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الْحَيْضَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ وَوَقَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي) مَعْنَى اقْضِي افْعَلِي كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَاصْنَعِي وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ وَالْمُحْدِثَ وَالْجُنُبَ يَصِحُّ مِنْهُمْ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ وأقواله وهيأته إِلَّا الطَّوَافَ وَرَكْعَتَيْهِ فَيَصِحُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ وَغَيْرُهُ كَمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ الْأَغْسَالُ

ص: 146

الْمَشْرُوعَةُ فِي الْحَجِّ تُشْرَعُ لِلْحَائِضِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ ذَكَرْنَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحَائِضِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ هِيَ شَرْطٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ فَمَنْ شَرَطَ الطَّهَارَةَ قَالَ الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِ طَوَافِ الْحَائِضِ عَدَمُ الطَّهَارَةِ وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا قَالَ الْعِلَّةُ فِيهِ كَوْنُهَا مَمْنُوعَةً مِنَ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ قَوْلُهَا (وَضَحَّى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَهُنَّ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ تَضْحِيَةَ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ لَا تَجُوزُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ فِي أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالْبَقَرِ أَفْضَلُ مِنْ بَدَنَةٍ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَفْضِيلِ الْبَقَرِ وَلَا عُمُومُ لَفْظٍ إِنَّمَا هِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ مُحْتَمِلَةٌ لِأُمُورٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَا قَالَهُ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالْبَدَنَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْبَقَرَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً إِلَى آخِرِهِ قَوْلُهَا (فَطَمِثْتُ) هُوَ

ص: 147

بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ حِضْتُ يُقَالُ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ وَتَحَيَّضَتْ وَطَمِثَتْ وَعَرَكَتْ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَنَفِسَتْ وَضَحِكَتْ وَأَعْصَرَتْ وَأَكْبَرَتْ كُلُّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَالِاسْمُ مِنْهُ الْحَيْضُ وَالطَّمْسُ وَالْعَرَاكُ وَالضَّحِكُ وَالْإِكْبَارُ وَالْإِعْصَارُ وَهِيَ حَائِضٌ وَحَائِضَةٌ فِي لُغَةِ غَرِيبَةٍ حَكَاهَا الْفَرَّاءُ وَطَامِثٌ وَعَارِكٌ وَمُكْبِرٌ وَمُعْصِرٌ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ حَجِّ الرَّجُلِ بِامْرَأَتِهِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا اسْتَطَاعَتْهُ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلَ الْمَحْرَمُ لَهَا مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ وَأَمَّا حَجُّ الْفَرْضِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ له منعها منه وللشافعي فيه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَمْنَعُهَا مِنْهُ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ وَأَصَحُّهُمَا لَهُ مَنْعُهَا لِأَنَّ حَقُّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَالْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي قَالَ أَصْحَابُنَا وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَحُجَّ بِزَوْجَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ قَوْلُهَا (ثُمَّ أَهَلُّوا حِينَ رَاحُوا) يَعْنِي الَّذِينَ تَحَلَّلُوا بِعُمْرَةٍ وَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ حِينَ رَاحُوا إِلَى مِنًى وَذَلِكَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِيمَنْ هُوَ بِمَكَّةَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَلَا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ قَوْلُهَا (أَنْعُسُ) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ قولها (فاهللت منها بعمرة جزاء لعمرة النَّاسِ) أَيْ تَقُومُ مَقَامَ عُمْرَةِ النَّاسِ وَتَكْفِينِي عَنْهَا قَوْلُهَا (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهَلِّينَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفِي حُرُمِ الْحَجِّ وَلَيَالِي الْحَجِّ) قَوْلُهَا

ص: 148

حُرُمِ الْحَجِّ هُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالرَّاءِ كَذَا ضَبَطْنَاهُ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ عَنِ جُمْهُورِ الرُّوَاةِ قَالَ وَضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ فَعَلَى الضَّمِّ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْأَوْقَاتَ وَالْمَوَاضِعَ وَالْأَشْيَاءَ وَالْحَالَاتِ أَمَّا بِالْفَتْحِ فَجَمْعُ حُرْمَةٍ أَيْ مَمْنُوعَاتِ الشَّرْعِ وَمُحَرَّمَاتِهِ وَكَذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِنَسَبٍ حُرْمَةٌ وَجَمْعُهَا حُرُمٌ وَأَمَّا قَوْلُهَا في اشهر الحج فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِأَشْهُرِ الْحَجِّ فِي قول الله تعالى الحج أشهر معلومات فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ تَمْتَدُّ إِلَى الْفَجْرِ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ بكماله وهو مروي أيضا عن بن عباس وبن عُمَرَ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْجُمْهُورِ قَوْلُهَا (فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَنْ لَمْ يكن

ص: 149

مَعَهُ مِنْكُمْ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا فَمِنْهُمُ الْآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ بَعْدَ هَذَا أنه صلى الله عليه وسلم قال أو ما شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ يَعْنِي بِعُمْرَةٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ فَحِلُّوا قَالَ فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا وَأَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَ يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا الذي قدمتم بِهَا مُتْعَةً قَالُوا كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سمينا الحج قَالَ افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ أَمْرَ عَزِيمَةٍ وَتَحَتُّمٍ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ قَالَ الْعُلَمَاءُ خَيَّرَهُمْ أَوَّلًا بَيْنَ الْفَسْخِ وَعَدَمِهِ مُلَاطَفَةً لَهُمْ وَإِينَاسًا بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهَا مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ثُمَّ حَتَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَسْخَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ أَمْرَ عَزِيمَةٍ وَأَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ وَكَرِهَ تَرَدُّدَهُمْ فِي قَبُولِ ذَلِكَ ثُمَّ قَبِلُوهُ وَفَعَلُوهُ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (سَمِعْتُ كَلَامَكَ مَعَ أَصْحَابِكَ فَسَمِعْتُ بِالْعُمْرَةِ) كَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ فَسَمِعْتُ بِالْعُمْرَةِ قَالَ الْقَاضِي كَذَا رَوَاهُ جُمْهُورُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ وهو الصواب قولها (قال ومالك قلت

ص: 150

لَا أُصَلِّي) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْكِنَايَةِ عَنِ الْحَيْضِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُسْتَحَى مِنْهُ وَيُسْتَشْنَعُ لَفْظُهُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ حَاجَةً كَإِزَالَةِ وَهْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِيقَاتُهُ لَهَا أَدْنَى الْحِلِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنَ الْحَرَمِ فَإِنْ خَالَفَ وَأَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحَرَمِ وَخَرَجَ إِلَى الْحِلِّ قَبْلَ الطَّوَافِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَطَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ يَصِحُّ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْمِيقَاتَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ لِيَجْمَعَ فِي نُسُكِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَمَا أَنَّ الْحَاجَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يَقِفُ بِعَرَفَاتٍ وَهِيَ فِي الْحِلِّ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ لِلطَّوَافِ وَغَيْرِهِ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ الْخُرُوجُ لِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يَخْرُجْ لَزِمَهُ دَمٌ وَقَالَ عَطَاءٌ لاشيء عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُجْزِئُهُ

ص: 151

حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَالَ مَالِكٌ لَا بُدَّ مِنْ إِحْرَامِهِ مِنَ التَّنْعِيمِ خَاصَّةً قَالُوا وَهُوَ مِيقَاتُ الْمُعْتَمِرِينَ مِنْ مَكَّةَ وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ أَنَّ جَمِيعَ جِهَاتِ الْحِلِّ سَوَاءٌ وَلَا تَخْتَصُّ بِالتَّنْعِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ أَوْ قَالَ نَفَقَتِكِ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الثَّوَابَ وَالْفَضْلَ فِي الْعِبَادَةِ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ

ص: 152

النَّصَبِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمُرَادُ النَّصَبُ الَّذِي لَا يَذُمُّهُ الشَّرْعُ وَكَذَا النَّفَقَةُ قَوْلُهَا (قَالَتْ صَفِيَّةُ مَا أرانى إلا حابستكم قال عقرى حلقى أو ما كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَتْ بَلَى قَالَ لَا بَأْسَ انْفِرِي) مَعْنَاهُ أَنَّ صَفِيَّةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاعِ فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرُّجُوعَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَتْ مَا أَظُنُّنِي إِلَّا حَابِسَتَكُمْ لِانْتِظَارِ طُهْرِي وَطَوَافِي لِلْوَدَاعِ فَإِنِّي لَمْ أَطُفْ لِلْوَدَاعِ وَقَدْ حِضْتُ وَلَا يُمْكِنُنِي الطَّوَافُ الْآنَ وَظَنَّتْ أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْحَائِضِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا كُنْتِ طُفْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَتْ بَلَى قَالَ يَكْفِيكِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّوَافُ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ وَأَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (عَقْرَى حَلْقَى) فَهَكَذَا يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَلِفِ الَّتِي هِيَ أَلِفُ التَّأْنِيثِ وَيَكْتُبُونَهُ بِالْيَاءِ وَلَا يُنَوِّنُونَهُ وَهَكَذَا نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُحْصَوْنَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ رِوَايَةِ الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ صَحِيحٌ فَصِيحٌ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ اللُّغَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَى عَقْرَى

ص: 153

عقرها الله تعالى وحلقى حَلَقَهَا اللَّهُ قَالَ يَعْنِي عَقَرَ اللَّهُ جَسَدَهَا وَأَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقِهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَهُ عَقْرَى حَلْقَى وَإِنَّمَا هُوَ عَقْرًا حَلْقًا قَالَ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ وُقُوعُهُ قَالَ شَمِرٌ قُلْتُ لِأَبِي عُبَيْدٍ لِمَ لَا تُجِيزُ عَقْرَى فَقَالَ لِأَنَّ فَعْلَى تَجِيءُ نَعْتًا وَلَمْ تَجِئْ فِي الدُّعَاءِ فَقُلْتُ رَوَى بن شُمَيْلٍ عَنِ الْعَرَبِ مَطْبَرَى وَعَقْرَى أَخَفُّ مِنْهَا فَلَمْ يُنْكِرْهُ هَذَا آخِرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ عَقْرَى حَلْقَى مَعْنَاهُ عَقَرَهَا اللَّهُ وَحَلَقَهَا أَيْ حَلَقَ شَعْرَهَا أَوْ أَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقِهَا قَالَ فَعَقْرَى ها هنا مَصْدَرٌ كَدَعْوَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَعْقِرُ قَوْمَهَا وَتَحْلِقُهُمْ بِشُؤْمِهَا وَقِيلَ الْعَقْرَى الْحَائِضُ وَقِيلَ عَقْرَى حَلْقَى أَيْ عَقَرَهَا اللَّهُ وَحَلَقَهَا هَذَا آخِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ جَعَلَهَا اللَّهُ عَاقِرًا لا تلد وحلقى مشؤمة عَلَى أَهْلِهَا وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَهِيَ كَلِمَةٌ كَانَ أَصْلُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ اتَّسَعَتِ الْعَرَبُ فِيهَا فَصَارَتْ تُطْلِقُهَا وَلَا تُرِيدُ حَقِيقَةَ مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا وَنَظِيرُهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ وَقَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ وَمَا أَشْعَرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَلَا يَلْزَمُهَا الصَّبْرُ إِلَى طُهْرِهَا لِتَأْتِيَ بِهِ وَلَا دَمَ عَلَيْهَا فِي تَرْكِهِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ شَاذٌّ مَرْدُودٌ وَقَوْلُهَا

ص: 154

(فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ فَقُلْتُ مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ قَالَ أو ما شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ) أَمَّا غَضَبُهُ صلى الله عليه وسلم فَلِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ وَتَرَدُّدِهِمْ فِي قَبُولِ حُكْمِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ويسلموا تسليما فَغَضِبَ صلى الله عليه وسلم لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ انْتَهَاكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ وَالْحُزْنِ عَلَيْهِمْ فِي نَقْصِ إِيمَانِهِمْ بِتَوَقُّفِهِمْ وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِاسْتِحْبَابِ الْغَضَبِ عِنْدَ انْتَهَاكِ حُرْمَةِ الدِّينِ وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُخَالِفِ لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ قَالَ الْحَكَمُ كَأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ أَحْسِبُ) قَالَ الْقَاضِي كَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِشْكَالٌ قَالَ وَزَادَ إِشْكَالَهُ تَغْيِيرٌ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ قَالَ الْحَكَمُ كَأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ وَكَذَا رواه بن أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَكَمَ شَكَّ فِي لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا مَعَ ضَبْطِهِ لِمَعْنَاهُ فَشَكَّ هَلْ قَالَ يَتَرَدَّدُونَ أَوْ نَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ أَحْسِبُ أَيْ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا لَفْظُهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مُسْلِمٍ بَعْدَهُ فِي حَدِيثِ غُنْدَرٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّكَّ مِنَ الْحَكَمِ فِي قَوْلِهِ يَتَرَدَّدُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ لَوْ فِي التَّأَسُّفِ عَلَى فوات أمور

ص: 155

الدِّينِ وَمَصَالِحِ الشَّرْعِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي أَنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّأَسُّفِ عَلَى حُظُوظِ الدُّنْيَا وَنَحْوِهَا وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِعْمَالِ لَوْ فِي غَيْرِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَنَحْوِهَا فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (يجزى عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ) فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَلَمْ تَرْفُضِ الْعُمْرَةَ رَفْضَ إِبْطَالٍ بَلْ تَرَكَتْ الِاسْتِمْرَارَ فِي أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ بِانْفِرَادِهَا وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ وَسَبَقَ هُنَاكَ الِاسْتِدْلَالُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم هُنَا يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ (عَنْ عَائِشَةَ فَجَعَلْتُ أَرْفَعُ خِمَارِي أَحْسِرُهُ عَنْ عُنُقِي فَيَضْرِبُ

ص: 156

رِجْلِي بِعِلَّةِ الرَّاحِلَةِ قُلْتُ لَهُ وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) أَمَّا قَوْلُهَا أَحْسِرُهُ فَبِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ أَيْ أَكْشِفُهُ وَأُزِيلُهُ وَأَمَّا قَوْلُهَا بِعِلَّةِ الرَّاحِلَةِ فَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَتَيْنِ ثُمَّ لَامٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ هَاءٍ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ نَعْلَةِ يَعْنِي بِالنُّونِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْبَاءِ قَالَ وَهُوَ كَلَامٌ مُخْتَلٌّ قَالَ قَالَ بعضهم صوابه ثغنة الرَّاحِلَةِ أَيْ فَخِذَهَا يُرِيدُ مَا خَشُنَ مِنْ مَوَاضِعِ مَبَارِكِهَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ كُلُّ مَا وَلِيَ الْأَرْضَ مِنْ كُلِّ ذِي أَرْبَعٍ إِذَا برك فهو ثغنة قَالَ الْقَاضِي وَمَعَ هَذَا فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْكَلَامُ وَلَا جَوَابُهَا لِأَخِيهَا بِقَوْلِهَا وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ وَلِأَنَّ رِجْلَ الرَّاكِبِ قَلَّ مَا تبلغ ثغنة الرَّاحِلَةِ قَالَ وَكُلُّ هَذَا وَهَمٌ قَالَ وَالصَّوَابُ فَيَضْرِبُ رِجْلِي بِنَعْلَةِ السَّيْفِ يَعْنِي أَنَّهَا لَمَّا حَسَرَتْ خِمَارَهَا ضَرَبَ أَخُوهَا رِجْلَهَا بِنَعْلَةِ السَّيْفِ فَقَالَتْ وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي قُلْتُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ فَيَضْرِبُ رِجْلِي بِسَبَبِ الرَّاحِلَةِ أَيْ يَضْرِبُ رِجْلِي عَامِدًا لَهَا فِي صُورَةِ مَنْ يَضْرِبُ الرَّاحِلَةَ وَيَكُونُ قَوْلُهَا بِعِلَّةِ مَعْنَاهُ بِسَبَبِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَضْرِبُ رِجْلَهَا بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حِينَ تَكْشِفُ خِمَارَهَا عَنْ عُنُقِهَا غَيْرَةً عَلَيْهَا فَتَقُولُ لَهُ هِيَ وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ أَيْ نَحْنُ فِي خَلَاءٍ لَيْسَ هُنَا أَجْنَبِيٌّ أَسْتَتِرُ مِنْهُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ أَوْ كَالْمُتَعَيِّنِ لِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلَفْظِ الَّذِي صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ وَلِلْمَعْنَى وَلِسِيَاقِ الْكَلَامِ فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهَا (وَهُوَ بِالْحَصْبَةِ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ بِالْمُحَصَّبِ قَوْلُهَا (فَلَقِيَنِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا) وَقَالَتْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (فَجِئْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ هَلْ فَرَغْتِ فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَذَّنَ فِي أَصْحَابِهِ فَخَرَجَ فَمَرَّ بِالْبَيْتِ وَطَافَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (فَأَقْبَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْحَصْبَةِ) وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَائِشَةَ مَعَ أَخِيهَا بَعْدَ نُزُولِهِ الْمُحَصَّبَ وَوَاعَدَهَا أَنْ تَلْحَقَهُ بَعْدَ اعْتِمَارِهَا ثُمَّ خَرَجَ هُوَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَهَابِهَا فَقَصَدَ الْبَيْتَ لِيَطُوفَ طواف الوداع

ص: 157

ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَكُلُّ هَذَا فِي اللَّيْلِ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَلَقِيَهَا صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَادِرٌ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ لِطَوَافِ عُمْرَتِهَا ثُمَّ فَرَغَتْ مِنْ عُمْرَتِهَا وَلَحِقَتْهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بَعْدُ فِي مَنْزِلِهِ بِالْمُحَصَّبِ وَأَمَّا قَوْلُهَا فَأَذَّنَ فِي أَصْحَابِهِ فَخَرَجَ فَمَرَّ بِالْبَيْتِ وَطَافَ فَيُتَأَوَّلُ عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَأَنَّ طَوَافَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا إِلَى الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ رُجُوعِهَا وَأَنَّهُ فَرِغَ قَبْلَ طَوَافِهَا لِلْعُمْرَةِ

[1213]

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (أَنَّ عَائِشَةَ عَرَكَتْ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَمَعْنَاهُ حَاضَتْ يُقَالُ عَرَكَتْ تَعْرُكُ عُرُوكًا كَقَعَدَتْ تَقْعُدُ قُعُودًا قَوْلُهُ (أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثامن من ذي الحجة وسبق بَيَانُهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ اسْتُحِبَّ

ص: 158

لَهُ أَنْ يُحْرِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَلَا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ) هَذَا الْغُسْلُ هُوَ الْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَوَاءٌ الْحَائِضُ وَغَيْرُهَا قَوْلُهُ (حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَضَمِّهَا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ قَوْلُهُ (حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ قَالَ قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا) هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ عُمْرَتَهَا لَمْ تَبْطُلْ وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا وَأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَدَعِي عُمْرَتَكِ مُتَأَوَّلٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي أَوَائِلِ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ (حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ قَالَ قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا) يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ حَسَنَةٍ إِحْدَاهَا أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ قَارِنَةً وَلَمْ تَبْطُلْ عُمْرَتُهَا وَأَنَّ الرَّفْضَ الْمَذْكُورَ مُتَأَوَّلٌ كَمَا سَبَقَ وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ وَالثَّالِثَةُ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُشْتَرَطُ وُقُوعُهُ بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تَصْنَعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ تَسْعَ كَمَا لَمْ تَطُفْ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ السَّعْيُ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَقَدُّمِ الطَّوَافِ عَلَيْهِ لَمَا أَخَّرَتْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ طُهْرَ عَائِشَةَ

ص: 159

هَذَا الْمَذْكُورَ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا هَذَا يَوْمَ السَّبْتِ أَيْضًا لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذي الحجة سنة عشر ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَوْلُهُ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا سَهْلًا حَتَّى إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ) مَعْنَاهُ إِذَا هَوِيَتْ شيئا لانقص فِيهِ فِي الدِّينِ مِثْلَ طَلَبِهَا الِاعْتِمَارَ وَغَيْرَهُ أَجَابَهَا إِلَيْهِ وَقَوْلُهُ سَهْلًا أَيْ سَهْلَ الْخُلُقِ كَرِيمَ الشَّمَائِلِ لَطِيفًا مُيَسَّرًا فِي الْخُلُقِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَفِيهِ حُسْنُ مُعَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وعاشروهن بالمعروف لَا سِيَّمَا فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِ الطَّاعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ مَعَنَا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ) الْوِلْدَانُ هُمُ الصِّبْيَانُ فَفِيهِ صِحَّةُ حَجِّ الصَّبِيِّ وَالْحَجِّ بِهِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُ يَصِحُّ حَجُّ الصَّبِيِّ وَيُثَابُ عليه ويترتب عليه أحكام حَجُّ الْبَالِغِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عَنْ فَرْضِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا بَلَغَ بَعْدَ ذَلِكَ وَاسْتَطَاعَ لزمه فرض

ص: 160

الْإِسْلَامِ وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجُمْهُورَ فَقَالَ لَا يَصِحُّ لَهُ إِحْرَامٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الحج قال وإنما يحج به ليتمرن ويتعلم ويتجنب محظوراته للتعلم قال وكذلك لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَالصَّوَابُ مَذْهَبُ الجمهور لحديث بن عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ نَعَمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَمَسِسْنَا الطِّيبَ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ الْأُولَى هَذِهِ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ وَفِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ بِفَتْحِهَا حَكَاهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَالْجَوْهَرِيُّ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ يُقَالُ مَسِسْتُ الشَّيْءَ بِكَسْرِ السِّينِ أَمَسُّهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَسًّا فَهَذِهِ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ قَالَ وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ مَسَسْتُ الشَّيْءَ بِالْفَتْحِ أَمُسُّهُ بِضَمِّ الْمِيمِ قَالَ وَرُبَّمَا قَالُوا مست الشيء يحذفون منه السِّينَ الْأُولَى وَيُحَوِّلُونَ كَسْرَتَهَا إِلَى الْمِيمِ قَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحَوِّلُ وَيَتْرُكُ الْمِيمَ عَلَى حَالِهَا مَفْتُوحَةً قَوْلُهُ (وَكَفَانَا الطَّوَافُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) يَعْنِي الْقَارِنَ مِنَّا وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْحَجِّ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَبَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ قَوْلُهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ) الْبَدَنَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ لَكِنَّ غالب استعمالها في البعير والمراد بها ها هنا الْبَعِيرُ وَالْبَقَرَةُ وَهَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ تَجْزِي الْبَدَنَةُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِإِجْزَاءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةِ أَنْفُسٍ وَقِيَامِهَا مَقَامَ سَبْعِ شِيَاهٍ وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِجَوَازِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ فَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ اشْتَرَاكُ السَّبْعَةِ فِي بَدَنَةٍ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ وَسَوَاءٌ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ أَوْ مُتَطَوِّعِينَ وَسَوَاءٌ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ كُلَّهُمْ أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ رُوِيَ هذا عن

ص: 161

بن عُمَرَ وَأَنَسٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ إِنْ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ وَلَا يَجُوزُ إِنْ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ جَازَ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ قُرْبَتُهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ لَمْ يَصِحَّ لِلِاشْتِرَاكِ

[1214]

قَوْلُهُ (أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى قَالَ فَأَهْلَلْنَا مِنَ الْأَبْطَحِ) الْأَبْطَحُ هُوَ بَطْحَاءُ مَكَّةَ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْمُحَصَّبِ وَقَوْلُهُ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى يَعْنِي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلْمُتَمَتِّعِ وَكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِهِ إِلَّا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَقَالَ مَالِكٌ وَآخَرُونَ يُحْرِمُ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ بِأَدِلَّتِهَا أَمَّا قَوْلُهُ فَأَهْلَلْنَا مِنَ الْأَبْطَحِ فَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُ لِلْمَكِّيِّ وَالْمُقِيمِ بِهَا الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا مِنْ دَاخِلِ مَكَّةَ وَأَفْضَلُهُ مِنْ بَابِ دَارِهِ وَقِيلَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالثَّانِي يَجُوزُ مِنْ مَكَّةَ وَمِنْ سَائِرِ الْحَرَمِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْمَوَاقِيتِ فَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي احْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا لِأَنَّهُمْ أَحْرَمُوا مِنَ الْأَبْطَحِ وَهُوَ خَارِجُ مَكَّةَ لَكِنَّهُ مِنَ الْحَرَمِ وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ قَالَ إِنَّمَا أَحْرَمُوا مِنَ الْأَبْطَحِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَازِلِينَ بِهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ دُونَ الْمِيقَاتِ الْمَحْدُودِ فَمِيقَاتُهُ مَنْزِلُهُ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْمَوَاقِيتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[1215]

قَوْلُهُ (لَمْ يَطُفْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَهُوَ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ) يَعْنِي النَّبِيَّ

ص: 162