الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْبَابُ الْأَوَّلُ تَعْرِيفُ الْبِدَعِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ لَفْظًا]
[تَعْرِيفُ الْبِدْعَةِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا]
وَأَصْلُ الْمَادَّةِ " بَدَعَ " لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَمِنْهُ:
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، أَيْ: مُخْتَرِعُهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ; أَيْ: مَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ.
وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ بِدْعَةً، يَعْنِي ابْتَدَأَ طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سَابِقٌ. وَهَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ، يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الْحُسْنِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً، فَاسْتِخْرَاجُهَا لِلسُّلُوكِ عَلَيْهَا هُوَ الِابْتِدَاعُ، وَهَيْئَتُهَا هِيَ الْبِدْعَةُ، وَقَدْ يُسَمَّى الْعِلْمُ الْمَعْمُولُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِدْعَةً.
فَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِدْعَةً، وَهُوَ إِطْلَاقٌ أَخَصُّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ.
ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ ثَلَاثَةٌ: حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ; كَانَ لِلْإِيجَابِ أَوِ النَّدْبِ، وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ، كَانَ لِلْكَرَاهَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ. وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ.
فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَقْوَالُهُمْ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ: مَطْلُوبٌ فِعْلُهُ، وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ، وَمَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ.
وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ لَمْ يُطْلَبْ تَرْكُهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، لَكِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ وَيُنْهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً خَاصَّةً مَعَ مُجَرَّدِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا; سُمِّيَ فِعْلًا مَعْصِيَةً وَإِثْمًا وَسُمِّيَ فَاعِلُهُ عَاصِيًا وَآثِمًا، وَإِلَّا، لَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ; حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا يُسَمَّى بِحَسَبِ الْفِعْلِ جَائِزًا وَلَا مُبَاحًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالنَّهْيِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ وَيُنْهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ التَّشْرِيعِ; مِنْ جِهَةِ ضَرْبِ الْحُدُودِ، وَتَعْيِينِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَالْتِزَامِ الْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ مَعَ الدَّوَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الِابْتِدَاعُ وَالْبِدْعَةُ، وَيُسَمَّى فَاعِلُهُ مُبْتَدِعًا.
فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ عِبَارَةٌ عَنْ: طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُدْخِلُ الْعَادَاتِ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا
يَخُصُّهَا بِالْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَدْخَلَ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ، فَيَقُولُ:
الْبِدْعَةُ: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِّ:
فَالطَّرِيقَةُ وَالطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ وَالسَّنَنُ هِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا رُسِمَ لِلسُّلُوكِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ بِالدِّينِ، لِأَنَّهَا فِيهِ تُخْتَرَعُ، وَإِلَيْهِ يُضِيفُهَا صَاحِبُهَا، وَأَيْضًا; فَلَوْ كَانَتْ طَرِيقَةً مُخْتَرَعَةً فِي الدُّنْيَا عَلَى الْخُصُوصِ، لَمْ تُسَمَّ بِدْعَةً; كَإِحْدَاثِ الصَّنَائِعِ وَالْبُلْدَانِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَلَمَّا كَانَتِ الطَّرَائِقُ فِي الدِّينِ تَنْقَسِمُ، فَمِنْهَا مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِيهَا، خُصَّ مِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِّ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْمُخْتَرَعُ، أَيْ: طَرِيقَةٌ ابْتُدِعَتْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّارِعِ، إِذِ الْبِدْعَةُ إِنَّمَا خَاصَّتُهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ.
وَبِهَذَا الْقَيْدِ انْفَصَلَتْ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ، كَعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَأُصُولِ الدِّينِ، وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، فَأُصُولُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ:
إِذِ الْأَمْرُ بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ.
وَعُلُومُ اللِّسَانِ هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَحَقِيقَتُهَا إِذًا
أَنَّهَا: فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا; كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى؟
وَأُصُولُ الْفِقْهِ; إِنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نُصْبَ عَيْنٍ وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةُ الْمُلْتَمَسِ.
وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ، إِنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرًا لِأَدِلَّتِهَا فِي الْفُرُوعِ الْعِبَادِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ تَصْنِيفَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْتَرَعٌ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ، فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهَا بِحَوْلِ اللَّهِ:
فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٍ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جُزْءٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي عِلْمِ الْبِدَعِ؛ كَانَتْ قَبِيحَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَيْسَ إِذًا بِبِدْعَةٍ. وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ
الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ جُزْئِيٌّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، بِدْعَةً أَصْلًا.
وَمَنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً: فَإِمَّا عَلَى الْمَجَازِ; كَمَا سَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قِيَامَ النَّاسِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِدْعَةً، وَإِمَّا جَهْلًا بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَدًّا بِهِ وَلَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِّ: " تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ " ; يَعْنِي أَنَّهَا تُشَابِهُ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُضَادَّةٌ لَهَا مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
مِنْهَا: وَضَعُ الْحُدُودِ; كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ، ضَاحِيًا لَا يَسْتَظِلُّ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ، وَالِاقْتِصَارُ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ.
وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، كَالذِّكْرِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَاتِّخَاذُ يَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِيدًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ لَهَا ذَلِكَ التَّعْيِينُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَالْتِزَامِ صِيَامِ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ.
وَثَمَّ أَوْجُهٌ تُضَاهِي بِهَا الْبِدْعَةُ الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُضَاهِي الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ لَمْ تَكُنْ بِدْعَةً، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ إِنَّمَا يَخْتَرِعُهَا لِيُضَاهِيَ بِهَا السُّنَّةَ حَتَّى
يَكُونَ مُلَبِّسًا بِهَا عَلَى الْغَيْرِ أَوْ تَكُونَ هِيَ مِمَّا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ، إِذِ الْإِنْسَانُ لَا يَقْصِدُ الِاسْتِتْبَاعَ بِأَمْرٍ لَا يُشَابِهُ الْمَشْرُوعَ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاعِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا وَلَا يُجِيبُهُ غَيْرُهُ إِلَيْهِ.
وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْمُبْتَدِعَ يَنْتَصِرُ لِبِدْعَتِهِ بِأُمُورٍ تُخَيِّلُ التَّشْرِيعَ، وَلَوْ بِدَعْوَى الِاقْتِدَاءِ بِفُلَانٍ الْمَعْرُوفِ مَنْصِبُهُ فِي أَهْلِ الْخَيْرِ.
فَأَنْتَ تَرَى الْعَرَبَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي تَغْيِيرِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام كَيْفَ تَأَوَّلُوا فِيمَا أَحْدَثُوا احْتِجَاجًا مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِشْرَاكِ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وَكَتَرْكِ الْحُمْسِ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ ; لِقَوْلِهِمْ: لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ اعْتِدَادًا بِحُرْمَتِهِ، وَطَوَافِ مَنْ طَافَ مِنْهُمْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا; قَائِلِينَ: لَا نَطُوفُ بِثِيَابٍ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا وَجَّهُوهُ لِيُصَيِّرُوهُ بِالتَّوْجِيهِ كَالْمَشْرُوعِ.
فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ عُدَّ أَوْ عَدَّ نَفْسَهُ مِنْ خَوَاصِّ أَهْلِ الْمِلَّةِ؟! فَهُمْ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَهُمُ الْمُخْطِئُونَ، وَظَنُّهُمُ الْإِصَابَةَ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا; ظَهَرَ أَنَّ مُضَاهَاةَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ ضَرُورِيَّةُ الْأَخْذِ فِي أَجْزَاءِ الْحَدِّ.
وَقَوْلُهُ: " يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى " هُوَ تَمَامُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ، إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَشْرِيعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الدُّخُولِ فِيهَا يَحُثُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فَكَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ رَأَى أَنَّ
الْمَقْصُودَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ فِيهِ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالْحُدُودِ كَافٍ، فَرَأَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِمَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ قَوَانِينَ مُنْضَبِطَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُرْتَبِطَةٍ، مَعَ مَا يُدَاخِلُ النُّفُوسَ مِنْ حُبِّ الظُّهُورِ أَوْ عَدَمِ مَظِنَّتِهِ، فَدَخَلَتْ فِي هَذَا الضَّبْطِ شَائِبَةُ الْبِدْعَةِ.
وَأَيْضًا; فَإِنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَمَلُّ وَتَسْأَمُ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُرَتَّبَةِ، فَإِذَا جُدِّدَ لَهَا أَمْرٌ لَا تَعْهَدُهُ، حَصَلَ بِهَا نَشَاطٌ آخَرُ لَا يَكُونُ لَهَا مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ; بِحُكْمِ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَنْ قَالَ: كَمَا تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ، فَكَذَلِكَ تَحْدُثُ لَهُمْ مُرَغِّبَاتٌ فِي الْخَيْرِ بِقَدْرِ مَا حَدَثَ لَهُمْ مِنَ الْفُتُورِ.
وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه: فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ فَيَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَّأْتُ الْقُرْآنَ، فَلَا يَتَّبِعُنِّي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ، فَكُلُّ مَا اخْتُرِعَ مِنَ الطُّرُقِ فِي الدِّينِ مِمَّا يُضَاهِي الْمَشْرُوعَ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعَبُّدُ; فَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، كَالْمَغَارِمِ الْمُلْزَمَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا عَلَى نِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْرٍ مَخْصُوصٍ مِمَّا يُشْبِهُ فَرْضَ الزَّكَوَاتِ وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ، وَغَسْلُ الْيَدِ بِالْأُشْنَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا لَا تُسَمَّى بِدَعًا عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ.
وَأَمَّا الْحَدُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى; فَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ، إِلَّا قَوْلُهُ:" يُقْصَدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ "، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ; لِتَأْتِيَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدَهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ، لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ; فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا.