الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ إِنَّمَا كَانَ دُعَاءً لِنَفْسِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ، اللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ.
وَإِنَّمَا حَمَلَ النَّاسُ الْحَدِيثَ عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ مِنَ السُّجُودِ وَغَيْرِهِ، لَا فِيمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمُتَأَوِّلُ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَالِكٍ؛ أَجَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْمَأْمُومِينَ، ذَكَرَهُ فِي " النَّوَادِرِ ".
وَلَمَّا اعْتَرَضَهُ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَكَلَامُ السَّلَفِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ أَخَذَ يَتَأَوَّلُ وَيُوَجِّهُ كَلَامَهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمُرْتَبِكَةِ، وَوَقَعَ لَهُ فِي [ذَلِكَ] كَلَامٌ عَلَى غَيْرِ تَأَمُّلٍ لَا يَسْلَمُ ظَاهِرُهُ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّدَافُعِ لِوُضُوحِ أَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نَقَلَهَا، لَكِنْ تَرَكْتُ هُنَا اسْتِيفَاءَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا لِطُولِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ.
[فَصْلٌ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ كُلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَهُوَ بِدْعَةٌ أَمْ غَيْرُ بِدْعَةٍ]
فَصْلٌ
وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ كُلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ: أَهُوَ بِدْعَةٌ فَيُنْهَى عَنْهُ؟ أَمْ غَيْرُ بِدْعَةٍ فَيُعْمَلُ بِهِ؟ فَإِنَّا إِذَا اخْتَبَرْنَاهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَجَدْنَاهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي قَدْ نُدِبْنَا إِلَى تَرْكِهَا؛ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ، وَالْمَحْظُورُ هُنَا هُوَ الْعَمَلُ بِالْبِدْعَةِ، فَإِذَا؛ الْعَامِلُ بِهِ لَا يَقْطَعُ أَنَّهُ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَنَّهُ عَمِلَ بِسُنَّةٍ، فَصَارَ مِنْ جِهَةِ هَذَا التَّرَدُّدِ غَيْرَ عَامِلٍ بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعَمَلِ بِهَا جُمْلَةً.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ إِنَّمَا هُوَ حِمَايَةٌ أَنْ يَقَعَ فِي
ذَلِكَ الْمَمْنُوعِ الْوَاقِعِ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ:
فَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَيْتَةُ بِالذَّكِيَّةِ؛ نَهَيْنَاهُ عَنِ الْإِقْدَامِ، فَإِنْ أَقْدَمَ؛ أَمْكَنَ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ آكِلًا لِلْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ، فَالنَّهْيُ الْأَخَفُّ إِذًا مُنْصَرِفٌ نَحْوَ الْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ؛ كَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا النَّهْيُ الْأَشَدُّ فِي التَّحَقُّقِ.
وَكَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الرَّضِيعَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ النَّهْيُ فِي الِاشْتِبَاهِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الرَّضِيعَةِ؛ كَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا فِي التَّحَقُّقِ.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُشْتَبِهَاتِ؛ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ نَهْيُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُشْتَبَهِ إِلَى خُصُوصِ الْمَمْنُوعِ الْمُشْتَبَهِ.
فَإِذًا؛ الْفِعْلُ الدَّائِرُ بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً أَوْ بِدْعَةً؛ إِذَا نُهِيَ عَنْهُ فِي بَابِ الِاشْتِبَاهِ؛ نُهِيَ عَنِ الْبِدْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ أَقْدَمَ عَنِ الْعَمَلِ، فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي بَابِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ بِدْعَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْعَامِلِ بِالْبِدْعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْإِضَافِيَّةَ هِيَ الْوَاقِعَةُ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ.
وَلِهَذَا النَّوْعِ أَمْثِلَةٌ:
(أَحَدُهُمَا): إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الْفُلَانِيَّ مَشْرُوعٌ يُتَعَبَّدُ بِهِ أَوْ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، أَوْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِنَسْخٍ أَوْ تَرْجِيحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فَرْضَهُ التَّوَقُّفَ، فَلَوْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى دَلِيلِ التَّشْرِيعِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ؛ لَكَانَ عَامِلًا بِمُتَشَابِهٍ؛ لِإِمْكَانِ صِحَّةِ الدَّلِيلِ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ،
فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ عَنِ الْحُكْمِ رَأْسًا، وَهُوَ الْفَرْضُ فِي حَقِّهِ.
(وَالثَّانِي): إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَقْوَالُ عَلَى الْمُقَلِّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكُونُ الْعَمَلُ بِدْعَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْأَرْجَحُ مِنَ الْعَالِمِينَ بِأَعْلَمِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ فَحَقُّهُ الْوُقُوفُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَرْجَحُ، فَيَمِيلُ إِلَى تَقْلِيدِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى تَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَالْمِثَالَانِ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ.
(وَالثَّالِثُ): أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم [كَانُوا] يَتَبَرَّكُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ. . . الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: " كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ» ".
وَعَنِ الْمِسْوَرِ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ: «وَمَا انْتَخَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً؛ إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ» .
وَخَرَّجَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي التَّبَرُّكِ بِشِعْرِهِ وَثَوْبِهِ وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى
أَنَّهُ مَسَّ بِإِصْبَعِهِ أَحَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَلَمْ يَحْلِقْ ذَلِكَ الشَّعْرَ الَّذِي مَسَّهُ عليه السلام حَتَّى مَاتَ.
وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ، حَتَّى شَرِبَ دَمَ حِجَامَتِهِ. . . إِلَى أَشْيَاءَ كَهَذَا كَثِيرَةٍ.
فَالظَّاهِرُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقٍّ مَنْ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ وَاتِّبَاعُهُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْ يُتَبَرَّكَ بِفَضْلِ وَضُوئِهِ، وَيُتَدَلَّكَ بِنُخَامَتِهِ، وَيُسْتَشْفَى بِآثَارِهِ كُلِّهَا، وَيُرْجَى نَحْوُ مِمَّا كَانَ فِي آثَارِ الْمَتْبُوعِ الْأَعْظَمِ صلى الله عليه وسلم.
إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَنَا فِي ذَلِكَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي مَتْنِهِ، مُشْكِلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم بَعْدَ مَوْتِهِ عليه السلام لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَلَّفَهُ، إِذْ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ فِي الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، فَهُوَ كَانَ خَلِيفَتَهُ، وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عُمَرَ رضي الله عنهما، وَهُوَ كَانَ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ سَائِرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَا أَحَدَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي الْأُمَّةِ، ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مَعْرُوفٍ أَنَّ مُتَبَرِّكًا تَبَرَّكَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَوْ نَحْوِهَا، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالسِّيَرِ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَهُوَ إِذًا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي وَجْهِ تَرْكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا): أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ الِاخْتِصَاصَ، وَأَنَّ مَرْتَبَةَ النُّبُوَّةِ يَسَعُ فِيهَا ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِلْقَطْعِ بِوُجُودِ مَا الْتَمَسُوا مِنَ الْبَرْكَةِ وَالْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ نُورًا كُلُّهُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فَمَنِ الْتَمَسَ مِنْهُ نُورًا؛ وَجَدَهُ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ الْتَمَسَهُ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّهُ ـ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ نُورِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ـ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ عَلَى حَالٍ تُوَازِيهِ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَلَا يُقَارِبُهُ فَصَارَ هَذَا النَّوْعُ مُخْتَصًّا بِهِ؛ كَاخْتِصَاصِهِ بِنِكَاحِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَإِحْلَالِ بُضْعِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا لَهُ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْقَسَمِ عَلَى الزَّوْجَاتِ. . . وَشِبْهِ ذَلِكَ.
فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ؛ لَا يَصِحُّ لِمَنْ بَعْدَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي التَّبَرُّكِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْوُجُوهِ وَنَحْوِهَا، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ بِدْعَةً، كَمَا كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِدْعَةً.
(الثَّانِي): أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا الِاخْتِصَاصَ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً؛ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي اتِّبَاعِ الْآثَارِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا تَقْتَصِرُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدٍّ، بَلْ تَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحُدُودَ، وَتُبَالِغُ بِجَهْلِهَا فِي الْتِمَاسِ الْبَرَكَةِ، حَتَّى يُدَاخِلَهَا لِلْمُتَبَرَّكِ بِهِ تَعْظِيمٌ يَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْحَدِّ، فَرُبَّمَا اعْتَقَدَ فِي الْمُتَبَرَّكِ بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَهَذَا التَّبَرُّكُ هُوَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ، وَلِأَجَلِهِ قَطَعَ عُمَرُ رضي الله عنه الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ هُوَ كَانَ أَصْلَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ ـ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ ـ، فَخَافَ عُمَرُ رضي الله عنه أَنْ يَتَمَادَى الْحَالُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ حَتَّى تُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ يَتَّفِقُ عِنْدَ التَّوَغُّلِ
فِي التَّعْظِيمِ.
وَلَقَدْ حَكَى الْفَرْغَانِيُّ مُذَيِّلُ " تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ " عَنِ الْحَلَّاجِ: أَنَّ أَصْحَابَهُ بَالَغُوا فِي التَّبَرُّكِ بِهِ، حَتَّى كَانُوا يَتَمَسَّحُونَ بِبَوْلِهِ، وَيَتَبَخَّرُونَ بِعَذْرَتِهِ، حَتَّى ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ؛ وَإِنْ ظَهَرَ لَهَا فِي الظَّاهِرِ آثَارٌ؛ فَقَدْ يَخْفَى أَمْرُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرٍ بَاطِنٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَرُبَّمَا ادُّعِيَتِ الْوِلَايَةُ لِمَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ، أَوِ ادَّعَاهَا هُوَ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَظْهَرَ خَارِقَةً مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ هِيَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَةِ لَا مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، أَوِ الْخَوَاصِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالسِّحْرِ، فَيُعَظِّمُونَ مَنْ لَيْسَ بِعَظِيمٍ، وَيَقْتَدُونَ بِمَنْ لَا قُدْوَةَ فِيهِ، وَهُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا تَقَدَّمَ ـ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ ـ؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ.
وَقَدْ يَظْهَرُ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَرْجَحُ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ مَزِيَّةٍ أُعْطِيَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ لِأُمَّتِهِ أُنْمُوذَجًا مِنْهَا، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ.
إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ رَاجِحٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى التَّرْكِ، إِذْ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُمُ التَّشْرِيعَ؛ لَعَمِلَ بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ، أَوْ عَمِلُوا بِهِ ـ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ: إِمَّا وُقُوفًا مَعَ أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلِامْتِنَاعِ.