المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل من البدع الإضافية إخراج العبادة عن حدها الشرعي] - الاعتصام للشاطبي ت الهلالي - جـ ١

[الشاطبي الأصولي النحوي]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ]

- ‌[مَعْنَى حَدِيثِ " بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا

- ‌[التَّحْذِيرُ مِنِ الْبِدَعِ وَبَيَانُ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْجَادَّةِ]

- ‌[التَّرْغِيبُ فِي إِحْيَاءِ السُّنَنِ]

- ‌[سَبَبُ تَأْلِيفِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ تَعْرِيفُ الْبِدَعِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ لَفْظًا]

- ‌[تَعْرِيفُ الْبِدْعَةِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْبِدْعَةُ التَّرْكِيَّةُ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَسُوءِ مُنْقَلَبِ أَصْحَابِهَا]

- ‌[الْأَدِلَّةُ مِنَ النَّظَرِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَدِلَّةُ مِنَ النَّقْلِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ]

- ‌[مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[فَصْلٌ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[فَصْلٌ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[فَصْلٌ مَا جَاءَ عَنِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[فَصْلٌ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَوْصَافُ الْمَحْذُورَةُ وَالْمَعَانِي الْمَذْمُومَةُ فِي الْبِدَعِ]

- ‌[الْبِدْعَةُ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ]

- ‌[صَاحِبُ الْبِدْعَةِ تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ]

- ‌[الْمَاشِي إِلَى الْمُبْتَدِعِ وَالْمُوَقِّرِ لَهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ]

- ‌[الْمُبْتَدِعُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ]

- ‌[الْمُبْتَدِعُ يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا]

- ‌[الْبِدَعُ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ]

- ‌[الْبِدَعُ مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْبِدَعُ رَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا]

- ‌[عَلَى الْمُبْتَدِعِ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِالْبِدْعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]

- ‌[الْمُبْتَدِعُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ]

- ‌[الْمُبْتَدِعُ يُلْقَى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الْمُبْتَدِعُ بَعِيدٌ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْخَوْفُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا]

- ‌[الْخَوْفُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ]

- ‌[اسْوِدَادُ وَجْهِ الْمُبْتَدِعِ فِي الْآخِرَةِ]

- ‌[الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمُبْتَدِعِ]

- ‌[فِتْنَةُ الْمُبْتَدِعِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ ذَمُّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَالرَّدُّ عَلَى شُبَهِ الْمُبْتَدِعَةِ]

- ‌[ذَمُّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ عَامٌّ]

- ‌[فَصْلٌ أَقْسَامُ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْبِدْعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ لَفْظُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ]

- ‌[فَصْلٌ إِثْمُ الْمُبْتَدِعِينَ لَيْسَ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ]

- ‌[الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمِنْ جِهَةِ الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ]

- ‌[الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَعَدَمِهَا]

- ‌[الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَارِجًا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ]

- ‌[الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً]

- ‌[الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ ظَاهِرَةَ الْمَأْخَذِ أَوْ مُشْكِلَةً]

- ‌[الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبِدْعَةِ أَوْ عَدَمِهِ]

- ‌[الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ كُفْرًا وَعَدَمَهُ]

- ‌[فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ شُبَهُ الْمُبْتَدِعَةِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ]

- ‌[الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَهُوَ خَيْرٌ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ الْبِدْعَةَ تَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمُ الْمَشْهُورُونَ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ الْمُقْتَدُونَ بِأَفْعَالِ السَّلَفِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مَأْخَذِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالِاسْتِدْلَالِ]

- ‌[الرَّاسِخِينَ لَهُمْ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالزَّائِغِينَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ وُجُوهُ مُخَالِفَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ]

- ‌[اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ وَالْمَكْذُوبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ رَدُّهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي جَرَتْ غَيْرَ مُوَافِقَةٍ لِأَغْرَاضِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ تَخَرُّصُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْعَرَبِيَّيْنِ مَعَ الْعُرُوِّ عَنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ انْحِرَافُهُمْ عَنِ الْأُصُولِ الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَوَاقِفُ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَخْذُ بِالْمُطْلَقَاتِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي مُقَيِّدَاتِهَا]

- ‌[فَصْلٌ تَحْرِيفُ الْأَدِلَّةِ عَنْ مَوَاضِعِهَا]

- ‌[فَصْلٌ بِنَاءُ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ لَا تُعْقَلُ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُغَالَاةُ فِي تَعْظِيمِ الشُّيُوخِ]

- ‌[فَصْلٌ أَخْذُ الْأَعْمَالِ إِلَى الْمَنَامَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ الِاجْتِمَاعُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَالْأَخْذُ بِالذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا]

- ‌[مَعْنَى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْإِضَافِيَّةِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْإِضَافِيَّةِ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَمَا يَبْعُدُ عَنْهَا]

- ‌[فَصْلٌ الْأَخْذُ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ مَعَ الِالْتِزَامِ عَلَى جِهَةِ مَا لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ]

- ‌[فَصْلٌ الدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى إِشْكَالِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى كَرَاهِيَةِ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي يَشُقُّ دَوَامُهَا مُعَارَضٌ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ]

- ‌[فَصْلٌ النَّظَرُ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ عِنْدَ الْعِلَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى إِشْكَالِ أَنَّ الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ تَدَيُّنًا أَوْ شِبْهَ التَّدَيُّنِ]

- ‌[فَصْلٌ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يُتَصَوُّرُ فِي أَوْجُهٍ]

- ‌[فَصْلٌ الْعَمَلُ بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ أَوِ الْعَمَلُ بِشَرْعٍ مَنْسُوخٍ]

- ‌[فَصْلٌ الْخُرُوجُ عَنِ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْإِضَافِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَصْلُ الْعَمَلِ مَشْرُوعًا وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ جَارِيًا مَجْرَى الْبِدْعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الدُّعَاءُ بِإِثْرِ الصَّلَاةِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا]

- ‌[فَصْلٌ سُكُوتُ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ مَا]

- ‌[فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِ عَمِلَ السَّلَفُ بِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ كُلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَهُوَ بِدْعَةٌ أَمْ غَيْرُ بِدْعَةٍ]

- ‌[فَصْلٌ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ إِخْرَاجُ الْعِبَادَةِ عَنْ حَدِّهَا الشَّرْعِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ الْبِدَعُ الْإِضَافِيَّةُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عِبَادَاتٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ]

الفصل: ‌[فصل من البدع الإضافية إخراج العبادة عن حدها الشرعي]

وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَوْ تَنَخَّمَ؛ ابْتَدَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَضُوءَهُ وَنُخَامَتَهُ، فَشَرِبُوهُ، وَمَسَحُوا بِهِ جُلُودَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ؛ سَأَلَهُمْ: " لِمَ تَفْعَلُونَ هَذَا؟ "، قَالُوا: نَلْتَمِسُ الطُّهُورَ وَالْبَرَكَةَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَلْيَصْدُقِ الْحَدِيثَ، وَلْيُؤَدِّ الْأَمَانَةَ، وَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» .

فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ؛ فَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكَهُ، وَأَنْ يَتَحَرَّى مَا هُوَ الْآكَدُ وَالْأَحْرَى مِنْ وَظَائِفِ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ.

وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الرُّقْيَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا، أَوْ دُعَاءِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ سَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ.

فَقَدْ صَارَتِ الْمَسْأَلَةُ مَنْ أَصْلِهَا دَائِرَةً بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَأَنْ تَكُونَ بِدْعَةً، فَدَخَلَتْ تَحْتَ حُكْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ إِخْرَاجُ الْعِبَادَةِ عَنْ حَدِّهَا الشَّرْعِيِّ]

فَصْلٌ

وَمِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ

ص: 485

مَشْرُوعًا؛ إِلَّا أَنَّهَا تُخْرَجُ عَنْ أَصْلِ شَرْعِيَّتِهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ تَوَهُّمًا أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا تَحْتَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَيَّدَ إِطْلَاقُهَا بِالرَّأْيِ، أَوْ يُطْلَقَ تَقْيِيدُهَا، وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّهَا الَّذِي حُدَّ لَهَا.

وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصَّوْمَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لَمْ يَخُصَّهُ الشَّارِعُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَدٍّ فِيهِ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ، مَا عَدَّا مَا نُهِيَ عَنْ صِيَامِهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَالْعِيدَيْنِ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ بِقَوْلٍ، فَإِذَا خَصَّ مِنْهُ يَوْمًا مِنَ الْجُمْعَةِ بِعَيْنِهِ، أَوْ أَيَّامًا مِنَ الشَّهْرِ بِأَعْيَانِهَا ـ لَا مِنْ جِهَةِ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ ـ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ بِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ؛ كَيَوْمِ الْأَرْبِعَاءَ مَثَلًا فِي الْجُمْعَةِ، وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ فِي الشَّهْرِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ بِحَيْثُ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهًا بِعَيْنِهِ مِمَّا لَا يَنْثَنِي عَنْهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: لِمَ خَصَّصَتْ تِلْكَ الْأَيَّامَ دُونَ غَيْرِهَا؟ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ غَيْرَ التَّصْمِيمِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ الْفُلَانِيَّ مَاتَ فِيهِ. . . أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَأْيٌ مَحْضٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، ضَاهَى بِهِ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ أَيَّامًا بِأَعْيَانِهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَصَارَ التَّخْصِيصُ مِنَ الْمُكَلَّفِ بِدْعَةً، إِذْ هِيَ تَشْرِيعٌ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لَهَا تَخْصِيصًا؛ كَتَخْصِيصِ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الرَّكَعَاتِ، أَوْ بِصَدَقَةِ كَذَا وَكَذَا، أَوِ اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِقِيَامِ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ، أَوْ بِخَتْمِ الْقُرْآنِ فِيهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحُكْمِ الْوِفَاقِ، أَوْ بِقَصْدٍ يَقْصِدُ مِثْلَهُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ؛ كَانَ تَشْرِيعًا زَائِدًا.

ص: 486

وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا الزَّمَانَ ثَبَتَ فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَحْسُنُ فِيهِ إِيقَاعُ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْحَسَنُ؛ هَلْ ثَبَتَ لَهُ أَصْلٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ ثَبَتَ فَمَسْأَلَتُنَا؛ كَمَا ثَبَتَ الْفَضْلُ فِي قِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصِيَامِ الْاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَمَا مُسْتَنَدُكَ فِيهِ وَالْعَقْلُ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا شَرْعَ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ؟ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاعٌ فِي التَّخْصِيصِ؛ كَإِحْدَاثِ الْخُطَبِ، وَتَحَرِّي خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ.

وَمِنْ ذَلِكَ التَّحَدُّثُ مَعَ الْعَوَامِّ بِمَا لَا تَفْهَمُهُ وَلَا تَعْقِلُ مَغْزَاهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ وَضْعِ الْحِكْمَةِ غَيْرَ مَوْضِعِهَا، فَسَامِعُهَا؛ إِمَّا أَنْ يَفْهَمَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَهُوَ فِتْنَةٌ تُؤَدِّي إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، وَإِلَى الْعَمَلِ بِالْبَاطِلِ، وَإِمَّا لَا يَفْهَمُ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ أَسْلَمُ، وَلَكِنَّ الْمُحْدِثَ لَمْ يُعْطِ الْحِكْمَةَ حَقَّهَا مِنَ الصَّوْنِ، بَلْ صَارَ التَّحَدُّثُ بِهَا كَالْعَابِثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنْ أَلْقَاهَا لِمَنْ لَا يَعْقِلُهَا فِي مَعْرَضِ الِانْتِفَاعِ بَعْدَ تَعَقُّلِهَا؛ كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ.

وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ، قَالُوا: وَهِيَ صِعَابُ الْمَسَائِلِ، أَوْ شِرَارُ

ص: 487

الْأُصُولِ، وَإِلَّا دَخَلَتِ الْفِتْنَةُ.

وَقَدْ قَالُوا فِي الْعَالِمِ الرَّبَّانِيِّ: إِنَّهُ الَّذِي يُرَبِّي بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ شَاهِدُهَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ، فَقَالَ: بَابُ: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا.

ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ: حَدِّثُوا (النَّاسَ) بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ مُعَاذٍ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ إِلَّا عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا خَشِيَ مِنْ تَنْزِيلِهِ غَيْرَ مَنْزِلَتِهِ، وَعَلَّمَهُ مُعَاذًا لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ.

وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ؛ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ".

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَذَلِكَ أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ غَيْرَ تَأْوِيلِهِ، وَيَحْمِلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ.

وَخَرَّجَ شُعْبَةُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ فِي عِلْمِكَ حَقًّا كَمَا أَنَّ عَلَيْكَ فِي مَالِكِ حَقًّا، لَا تُحَدِّثْ بِالْعِلْمِ غَيْرَ أَهْلِهِ فَتَجْهَلُ، وَلَا تَمْنَعِ الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَأْثَمُ، وَلَا تُحَدِّثْ بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ السُّفَهَاءِ فَيُكَذِّبُوكَ، وَلَا

ص: 489

تُحَدِّثْ بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ فَيَمْقَتُوكَ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِهِمْ، وَبَسَطُوهُ بَسْطًا شَافِيًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يُقَدِّرُ قَدَرَ هَذَا الْمَوْضِعِ يَزِلُّ فِيهِ فَيُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي فَضْلِ السُّنَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْعَمَلُ بِهَا ذَرِيعَةً إِلَى الْبِدْعَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عُمِلَ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَمِنْهُ تَكْرَارُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي التِّلَاوَةِ أَوْ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ لَمْ تُشْرَعْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَلَا أَنْ يُخَصَّ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ؛ لَا فِي صَلَاةٍ، وَلَا فِي غَيْرِهَا، فَصَارَ الْمُخَصِّصُ لَهَا عَامِلًا بِرَأْيِهِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ.

وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ مُصْعَبٍ، قَالَ: سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]؛ لَا يَقْرَأُ غَيْرَهَا كَمَا يَقْرَؤُهَا؟ فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَّبِعُونَ، فَاتَّبِعُوا الْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ نَحْوُ هَذَا، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيُقْرَأَ، وَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ.

وَخَرَّجَ أَيْضًا ـ وَهُوَ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ ـ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّهُ سُئِلَ عَلَى قِرَاءَةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، مِرَارًا فِي الرَّكْعَةِ

ص: 490

الْوَاحِدَةِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي أَحْدَثُوا.

وَمَحْمَلُ هَذَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ مِنْ بَابِ الذَّرِيعَةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ عَنِ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ـ كَمَا فِي الصَّحِيحِ ـ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ فَتَأَمَّلْهُ فِي الشَّرْحِ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّكْرَارَ كَذَلِكَ عَمَلٌ مُحْدَثٌ فِي مَشْرُوعِ الْأَصْلِ؛ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِيهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي الْمَسْجِدِ لِلدُّعَاءِ تَشَبُّهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ.

وَنَقْلُ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ مِنَ الْمَنَارِ وَجَعْلُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ.

فَفِي " سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ "، وَسُئِلَ عَنِ الْقُرَى الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا إِمَامٌ إِذَا صَلَّى بِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمُ الْجُمْعَةَ: أَيُخْطَبُ بِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ! لَا تَكُونُ الْجُمْعَةُ إِلَّا بِخِطْبَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَيُؤَذِّنُ قُدَّامَهُ؟ قَالَ: لَا، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْأَذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ فِي الْجُمْعَةِ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ.

قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِنَّمَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 491

إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَخَرَجَ؛ رَقَى الْمِنْبَرَ، فَإِذَا رَآهُ الْمُؤَذِّنُونُ ـ وَكَانُوا ثَلَاثَةً ـ؛ قَامُوا، وَأَذَّنُوا فِي الْمَشْرَفَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَمَا يُؤَذَّنُ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ، فَإِذَا فَرَغُوا؛ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ»، ثُمَّ تَلَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما، فَزَادَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه ـ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ـ أَذَانًا بِالزَّوْرَاءِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، يُؤْذَنُ النَّاسُ فِيهِ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ حَضَرَتْ، وَتَرَكَ الْأَذَانَ فِي الْمَشْرَفَةِ بَعْدَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى زَمَانِ هِشَامٍ، فَنَقَلَ الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ بِالزَّوْرَاءِ إِلَى الْمَشْرَفَةِ، وَنَقَلَ الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ بِالْمَشْرَفَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنَّ يُؤَذِّنُوا صَفًّا، وَتَلَاهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ بِدْعَةٌ.

قَالَ: وَالَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ.

وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا كَانَ فِعْلَهُ عليه السلام وَفِعْلَ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ، وَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ هِشَامٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هِيَ السَّنَّةُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي أَسَدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " «أَفْضَلُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ". .

وَمَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَنَّ الْأَذَانَ عِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَانَ بَاقِيًا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رضي الله عنه مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ أَرْبَابُ النَّقْلِ الصَّحِيحِ،

ص: 492

وَأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ إِلَّا الْأَذَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَصَارَ إِذًا نَقْلُ هِشَامٍ الْأَذَانَ الْمَشْرُوعَ فِي الْمَنَارِ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِدْعَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَشْرُوعِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَكَذَلِكَ أَذَانُ الزَّوْرَاءِ مُحْدَثٌ أَيْضًا، بَلْ هُوَ مُحْدَثٌ مِنْ أَصْلِهِ، غَيْرُ مَنْقُولٍ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَالَّذِي يُقَالُ هُنَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَذَانِ هِشَامٍ، بَلْ هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَذَانَ الزَّوْرَاءِ وُضِعَ هُنَالِكَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِعْلَامِ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُسْمَعَ إِذَا وُضِعَ بِالْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ فِي زَمَانِ مَنْ قَبْلَهُ، فَصَارَتْ كَائِنَةً أُخْرَى لَمْ تَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَاجْتَهَدَ لَهَا كَسَائِرِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَحِينَ كَانَ مَقْصُودَ الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ؛ فَهُوَ بَاقٍ كَمَا كَانَ، فَلَيْسَ وَضْعُهُ هُنَالِكَ بِمُنَافٍ، إِذْ لَمْ تُخْتَرَعْ فِيهِ أَقَاوِيلُ مُحْدَثَةٌ، وَلَا ثَبْتَ أَنَّ الْأَذَانَ بِالْمَنَارِ أَوْ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَهُوَ الْمُلَائِمُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ؛ بِخِلَافِ نَقْلِهِ مِنَ الْمَنَارِ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ بِذَلِكَ أَوَّلًا عَنْ أَصْلِهِ مِنَ الْإِعْلَامِ، إِذْ لَمْ يُشْرَعْ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ إِعْلَامٌ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بِالْإِقَامَةِ، وَأَذَانُ جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَحَلِّهِ، ثُمَّ أَذَانُهُمْ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ زِيَادَةٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاضِحٌ، وَلَا اعْتِرَاضَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.

وَمِنْ ذَلِكَ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فِي الْعِيدَيْنِ؛ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنْ لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ فِيهِمَا، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَاتِ وَالنَّوَافِلِ، وَإِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْمَكْتُوبَاتِ، وَعَلَى هَذَا مَضَى عَمَلُ الْخُلَفَاءِ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ فِي

ص: 493

الْعِيدَيْنِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ ـ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَرَادَ أَنْ يُؤْذِنَ النَّاسَ بِالْأَذَانِ بِمَجِيءِ الْإِمَامِ، ثُمَّ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا بَدَأَ بِهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِقَامَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ؛ لِيُؤْذِنَ النَّاسَ بِفَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ وَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ.

(قَالَ): وَلَمْ يَرِدْ مَرْوَانُ وَهِشَامٌ [إِلَّا] الِاجْتِهَادَ فِيمَا رَأَيَا؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اجْتِهَادٌ فِي خِلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(قَالَ): وَقَدْ حَدَّثَنِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: مِنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا؛ فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَحْدَثَ الْأَذَانَ مُعَاوِيَةُ، وَقِيلَ: زِيَادٌ، وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَهُ آخِرَ إِمَارَتِهِ، وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّقْلِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْأَذَانَ هَنَا نَظِيرُ أَذَانِ الزَّوْرَاءِ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه، فَمَا تَقَدَّمَ فِيهِ مِنَ التَّوْجِيهِ الِاجْتِهَادِيِّ جَارٍ هُنَا، وَلَا يَكُونُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ هِشَامٍ نَازِلَةٌ لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ بِمَجِيءِ الْإِمَامِ؛ لِخَفَاءِ مَجِيئِهِ عَنِ النَّاسِ؛ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ، ثُمَّ الْإِقَامَةَ لِلْإِعْلَامِ بِالصَّلَاةِ، إِذْ لَوْلَا هِيَ؛ لَمْ يَعْرِفُوا دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ كَأَذَانِ الزَّوْرَاءِ.

ص: 494

وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَجِيءَ الْإِمَامِ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ الْأَذَانُ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ؛ لِبُعْدِهِ بِكَثْرَةِ النَّاسِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يُشْرَعُ فِيمَا بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً، ثُمَّ لَمْ تُشْرَعْ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَصِيرُ مُؤَثِّرَةً.

وَأَيْضًا؛ فَإِحْدَاثُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ انْبَنَى عَلَى إِحْدَاثِ تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا انْبَنَى عَلَى الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ.

وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ فِي النَّوَافِلِ أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ عَلَى حَالٍ؛ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ النَّوَافِلُ كَالْفَرَائِضِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهَا، فَكَانَ إِحْدَاثُ الدُّعَاءِ إِلَى النَّوَافِلِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا.

وَبِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَذَانِ الزَّوْرَاءِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنَّ يُقَاسَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.

وَمِنْ نَوَادِرِهَا الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تُغْفَلَ مَا جَرَى بِهِ عَمَلُ جُمْلَةٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ تَرَبُّصِهِمْ بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَوْقَاتًا مَخْصُوصَةً غَيْرَ مَا وَقَّتَهُ الشَّرْعُ فِيهَا، فَيَضَعُونَ نَوْعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي زَمَنِ الرَّبِيعِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الْخَرِيفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ. . . . وَرُبَّمَا وَضَعُوا لِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِبَاسًا مَخْصُوصًا وَطِيبًا مَخْصُوصًا. . . . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْضَاعِ الْفَلْسَفِيَّةِ يَضَعُونَهَا [عَلَى مَقَاصِدَ] شَرْعِيَّةٍ؛ أَيْ: مُتَقَرَّبًا بِهَا إِلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ، وَرُبَّمَا وَضَعُوهَا عَلَى مَقَاصِدَ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ؛ كَأَهْلِ التَّصْرِيفِ بِالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ؛ لِيَسْتَجْلِبُوا

ص: 495

بِهَا الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْحَظْوَةِ وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ، بَلْ لِيَقْتُلُوا بِهَا إِنْ شَاؤُوا أَوْ يُمْرِضُوا أَوْ يَتَصَرَّفُوا وَفْقَ أَغْرَاضِهِمْ.

فَهَذِهِ كُلُّهَا بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ، بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ؛ لِبُعْدِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ عَنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ مُبَرَّأَةً عَنْ مَقَاصِدِ الْمُتَخَرِّصِينَ، مُطَهَّرَةً لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا عَنْ أَوَضَارِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، إِذْ كُلُّ مُتَدَيِّنٍ بِهَا عَارِفٌ بِمَقَاصِدِهَا يُنَزِّهُهَا عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْوَاهِيَةِ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ دَعَاوِيهِمْ فِيهَا مِنْ بَابِ شُغْلِ الزَّمَانِ بِغَيْرِ مَا هُوَ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ فِي أَصْلِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ هَذَا النَّمَطِ وَالْبُرْهَانِ عَلَى بُطْلَانِهِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ مُفِيدٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ فَرَضْنَا أَصْلَ الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، فَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ فَهِيَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ؛ كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ [الَّتِي] يَزْعُمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَنَى بِهِ الْبَوْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ حَذَا حَذْوَهُ أَوْ قَارَبَهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ فَلْسَفَةٌ أَلْطَفُ مِنْ فَلْسَفَةِ مُعَلِّمِهِمُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَرِسْطَا طَالِيسَ، فَرَدُّوهَا إِلَى أَوْضَاعِ الْحُرُوفَ، وَجَعَلُوهَا هِيَ الْحَاكِمَةَ فِي الْعَالَمِ، وَرُبَّمَا أَشَارُوا عِنْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَذْكَارِ وَمَا قُصِدَ بِهَا إِلَى تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لِطَبَائِعِ الْكَوَاكِبِ؛ لِيَحْصُلَ التَّأْثِيرُ عِنْدَهُمْ وَحْيًا.

فَحَكَّمُوا الْعُقُولَ وَالطَّبَائِعَ ـ كَمَا تَرَى ـ، وَتَوَجَّهُوا شَطْرَهَا، وَأَعْرَضُوا عَنْ رَبِّ الْعَقْلِ وَالطَّبَائِعِ، وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَهُ اعْتِقَادًا فِي اسْتِدْلَالِهِمْ لِصِحَّةِ مَا انْتَحَلُوا عَلَى وُقُوعِ الْأَمْرِ وَفْقَ مَا يَقْصِدُونَ، فَإِذَا تَوَجَّهُوا بِالذِّكْرِ

ص: 496

وَالدُّعَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ حَصَلَ، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَنَفْعًا (كَانَ) أَوْ ضُرًّا، وَخَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا، وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ بُلُوغِ النِّهَايَةِ فِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، أَوْ حَصَلَ نَوْعٌ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، كَلَّا! لَيْسَ طَرِيقُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ مِنْ مُرَادِهِمْ، وَلَا كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ مِنْ نَتَائِجِ أَوْرَادِهِمْ، فَلَا تَلَاقِي بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ النَّارِ وَالْمَاءِ.

فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ يَحْصُلُ التَّأْثِيرُ حَسْبَمَا قَصَدُوا؟

فَالْجَوَابُ: إِنَّ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ مِنْ قَبِيلِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا فِي الْخَلْقِ: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، فَالنَّظَرُ إِلَى وَضْعِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ أَحْكَامٌ وَضَعَهَا الْبَارِي تَعَالَى فِي النُّفُوسِ، يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ التَّأْثِيرَاتِ، عَلَى نَحْوِ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْمَعِينِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، وَعَلَى الْمَسْحُورِ عِنْدَ عَمَلِ السِّحْرِ، بَلْ هُوَ بِالسِّحْرِ أَشْبَهُ؛ لِاسْتِمْدَادِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ.

وَشَاهِدُهُ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي (وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» ، وَشَرْحُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يَلِيقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ وَضْعَ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، لَكِنْ تَارَةً تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِيهَا إِضَافِيَّةً، بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ،

ص: 497