المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فصل فيما ابتدع واستميلت به قلوب العوام - الباعث على إنكار البدع والحوادث

[أبو شامة المقدسي]

الفصل: ‌ فصل فيما ابتدع واستميلت به قلوب العوام

21

-‌

‌ فصل فِيمَا ابتدع واستميلت بِهِ قُلُوب الْعَوام

وَمِمَّا ابتدع وروى بِهِ واستميلت قُلُوب الْجُهَّال والعوام بِسَبَبِهِ التماوت فِي الْمَشْي وَالْكَلَام حَتَّى صَار ذَلِك شعارا لمن يُرِيد أَن يظنّ فِيهِ التنسك والتورع فَليعلم أَن الدّين خلاف ذَلِك وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه رضى الله عَنْهُم ثمَّ السّلف الصَّالح كَمَا سنورد من أخبارهم فِي ذَلِك وصفاتهم فِي حركاتهم وسكناتهم فَفِي أَحَادِيث صفة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وشمائله أَنه كَانَ إِذا مَشى صلى الله عليه وسلم تقلع كَأَنَّمَا يمشي فِي صبب وَفِي رِوَايَة كَأَنَّمَا ينحدر من سَبَب

وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن أنس رضى الله عَنهُ كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا مَشى كَأَنَّمَا يتوكاء وَفِيه عَن أبي الطُّفَيْل قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا مَشى كَأَنَّهُ يهوى فِي صبب

قلت معنى يتَوَكَّأ يسْعَى قَالَ الآزهري الإتكاء فِي كَلَام الْعَرَب يكون بِمَعْنى السَّعْي والصبب والصبوب وَاحِد قَالَ الْخطابِيّ وَقَوله يهوى مَعْنَاهُ ينزل يتدلى وَذَلِكَ مشْيَة الْقوي من الرِّجَال قَالَ وَالصَّوَاب إِذا فتحت الصَّاد كَانَ أسما لما يصب على الْإِنْسَان من مَاء وَنَحْوه كالطهور والغسول والفطور وَمن رَوَاهُ يضم الصَّاد فَهُوَ جمع صبب وَهُوَ مَا انحدر من الأَرْض وَقَالَ صَاحب الْمُحكم الصبب من الرمل مَا انصب والصبوب مَا صببت فِيهِ وَالْجمع صبب وَأَرْض صبب وصبوب وَهِي كالهبط والهبوط قَالَ أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ وَفِي صفته صلى الله عليه وسلم إِذا مَشى تقلع أَي كَانَ قوي المشية وَفِي حَدِيث أبن أبي هَالة إِذا زَالَ زَالَ قلعا الْمَعْنى أَنه كَانَ يرفع رجلَيْهِ من الآرض رفعا بَائِنا يقوه لَا كمن يمشي اختيالا وَيُقَارب خطاه تنعما وَهِي المشية المحموده للرِّجَال وَأما النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ يوصفن بقصر الخطو

قَالَ وقرأت هَذِه الْحُرُوف فِي كتاب غَرِيب الحَدِيث لِابْنِ الْأَنْبَارِي

ص: 80

زَالَ قلعا بِفَتْح الْقَاف وَكسر اللَّام وَكَذَلِكَ قرأته بِخَط الْأَزْهَرِي قَالَ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث آخر كَأَنَّمَا ينحط من صبب والانحدار من الصبب والتكفؤ الى قُدَّام والتقلع من الآرض قريب بعضه من بعض قَالَ أَبُو بكر أَرَادَ أَنه كَانَ يسْتَعْمل التثبت وَلَا يتَبَيَّن مِنْهُ فِي هَذِه الْحَال استعجال ومبادرة شَدِيدَة أَلا ترَاهُ يَقُول يمشي هونا ويخطو تكفأ أَي تمايل فِي الْمَشْي الى قُدَّام كَمَا تتكأ السفينه فِي جريها وَقَالَ أَيْضا والهون الرِّفْق واللين وَمِنْه مَا جَاءَ فِي صفة النَّبِي صلى الله عليه وسلم يمشي هونا قَالَ أَبُو بكر بن الانباري مَعْنَاهُ أَنه لتثبته كَانَ يميد فِي مشيته كَمَا يميد الْغُصْن إِذا حركته الرِّيَاح والهون مَعْنَاهُ الترفق والتثبت وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {يَمْشُونَ على الأَرْض هونا}

قلت الْمَحْمُود من ذَلِك ترك العجله المفرطة وَترك التكاسل والتثبط والتماوت وَلَكِن بَين ذَلِك وَفِي كتاب شرح السّنة عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا مَشى مَشى مشيا مجتمعا يعرف أَنه لَيْسَ بمشي عَاجز وَلَا كسلان وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد السلمى حَدثنَا عمر بن سُلَيْمَان بن أبي خَيْثَمَة عَن أَبِيه قَالَ قَالَت الشِّفَاء بنت عبد الله فرأت فتيانا يقصدون فِي الْمَشْي ويتعلمون رويدا فَقَالَت وَمَا هَذَا فَقَالُوا نساك فَقَالَت كَانَ وَالله عمر رضى الله عَنهُ إِذا تكلم اسْمَع وَإِذا مَشى أسْرع وَإِذا ضرب أوجع وَهُوَ الناسك حَقًا

قلت لَعَلَّ هَؤُلَاءِ قد كَانُوا بالغوا فِي ذَلِك مُبَالغَة شَدِيدَة مُجَاوزَة للحد الَّذِي أَمر لُقْمَان عليه السلام ابْنه فِي قَوْله {واقصد فِي مشيك واغضض من صَوْتك} كَمَا أخبر الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز عَنهُ وَتلك الْمُجَاوزَة هِيَ الَّتِي ذممناها وَهِي الَّتِي يرتكبها من اشرنا اليه على مَا نشاهده وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق قَالَ أَبُو مسْهر وَغَيره حَدثنَا مَالك ابْن انس عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله بن عبد الله

ص: 81

قَالَ لم يكن الْبر يعرف فِي عمر وَلَا ابْنه حَتَّى يَقُولَا أَو يفعلا قَالَ يزِيد بن هَارُون أنباءنا عبد الله ابْن عبد الله بن ابي اويس الْمَدِينِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم قَالَ كَانَ عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عمر رضى الله عَنْهُمَا لَا يعرف فيهمَا الْبر حَتَّى يَقُولَا اَوْ يفعلا قَالَ قلت يَا أَبَا بكر مَا يَعْنِي بذلك لم يَكُونَا مؤتنسين وَلَا متماوتين

وَفِي كتاب الْكَامِل لابي الْعَبَّاس الْمبرد قَالَ ويروي أَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا نظرت الى رجل متماوت فَقَالَت مَا هَذَا فَقَالُوا أحد الْفُقَرَاء فَقَالَت قد كَانَ عمر رضى الله عَنهُ قَارِئًا فَكَانَ إِذا مَشى أسْرع وَإِذا قَالَ أسمع وَإِذا ضرب أوجع قَالَ ويروي أَن عمر رضى الله عَنهُ رأى رجلا مظْهرا للنسك متماوتا فخفقه بِالدرةِ وَقَالَ لَا تمت علينا ديننَا أماتك الله وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل رضى الله عَنهُ حَدثنَا يحيى بن آدم حَدثنَا مُحَمَّد بن خَالِد الضَّبِّيّ عَن مُحَمَّد بن سعد الْأنْصَارِيّ عَن أبي الدَّرْدَاء رضى الله عَنهُ قَالَ استعيذوا بِاللَّه من خشوع النِّفَاق قيل وَمَا خشوع النِّفَاق قَالَ أَن ترى الْجَسَد خَاشِعًا وَالْقلب لَيْسَ بخاشع وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رَحمَه الله تَعَالَى سَيَأْتِي أَقوام يتخشعون رِيَاء وَسُمْعَة هم كالذئاب الضواري غايتهم الدِّينَار وَالدِّرْهَم من الْحَلَال وَالْحرَام

وَقَالَ الإِمَام ابْن الامام ابو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن ابْن الامام ابي حَاتِم الرَّازِيّ فِي كِتَابه فِي فَضَائِل الامام أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى سَمِعت أبي يَقُول كَانَ احْمَد بن حَنْبَل إِذا رَأَيْته تعلم أَنه لَا يظْهر النّسك رَأَيْت عَلَيْهِ نعلا لَا تشبه نعل الْقُرَّاء لَهُ رَأس كَبِير معقف وشراكة مُسبل كَأَنَّهُ اشْترى لَهُ من السُّوق وَرَأَيْت عَلَيْهِ ازارا وجبه بر مخططة من اثمار جوز قَالَ عبد الرَّحْمَن أَرَادَ بِهَذَا وَالله أعلم ترك التزني بزِي الْقُرَّاء وإزالته عَن نَفسه مَا يشْتَهر بِهِ

وَفِي كتاب مَنَاقِب الامام احْمَد بن حَنْبَل للشَّيْخ أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ عَن الامام ابي عبد الله مُحَمَّد بن أبراهيم البوشنجي قَالَ مَا رَأَيْت أحدا فِي عصر أَحْمد أجمع مِنْهُ ديانَة وصيانة وَأبْعد من التماوت وَفِيه قَالَ الْخلال أخبرنَا

ص: 82

الْمروزِي قَالَ رايت أَبَا عبد الله إِذا كَانَ فِي الْبَيْت كَانَ عَامَّة جُلُوسه متربعا خَاشِعًا فَإِذا كَانَ يرى لم يكن يبين مِنْهُ شدَّة خشوع كَمَا كَانَ دَاخِلا

قَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الابرى فِي كتاب مَنَاقِب الامام الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى أَخْبرنِي الزبير بن عبد الْوَاحِد حَدثنِي يُوسُف بن عبد الاحد القمي قَالَ سَمِعت الرّبيع قَالَ سَمِعت الْبُوَيْطِيّ يَقُول احذر كل مستميت فانه ملد قلت هُوَ مفعل من اللدد وَهِي الخصومه فَهِيَ مثل مسعر حَرْب وبابه وَالله أعلم وَمِنْه رجل الد ولدود أَي شَدِيد الْخُصُومَة قَالَ الله تَعَالَى {وَهُوَ أَلد الْخِصَام}

وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ وَقَالَت عَائِشَة رضى الله عَنْهَا وَإِذا أعْجبك حسن عمل امريء فَقل اعْمَلُوا فسير الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون وَلَا سيتخفك أحد وَقَالَ مُجَاهِد بن مُوسَى حَدثنَا وليد عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر أَنه سمع مُحَمَّد بن أبي عَائِشَة يَقُول كَانَ يُقَال لَا تكن ذَا وَجْهَيْن وَذَا لسانين تظهر للنَّاس انك تخشى الله وقلبك فَاجر قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ سَمِعت أَبَا بكر الرَّازِيّ يَقُول سَمِعت الْبنانِيّ وَسَأَلَهُ بعض المريدين فَقَالَ لَهُ اوصني فَقَالَ لَهُ كن كَمَا ترى النَّاس وَرَاء النَّاس تكون

قالل المدايني كتب عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ الى عمر بن الْعَاصِ وَهُوَ واليه بِمصْر رفع الى أَنَّك تبْكي بمجلسك فَإِذا جَلَست فَكُن كَسَائِر النَّاس وَلَا تبك

وَأخرج الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي تَارِيخه فِي تَرْجَمَة مُحرز بن عبد الله قَالَ ابْن الْمُبَارك حَدثنَا اسماعيل ابْن عَيَّاش اخبرني مُحرز أَبُو رَجَاء مولي هِشَام أَنه سمع مَكْحُولًا يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا تَكُونُوا عبابين وَلَا مداحين وَلَا طعانين وَلَا متماوتين هَذَا مُرْسل وَأخرج فِي ترحمة

ص: 83

ابراهيم بن أدهم رَحمَه الله تَعَالَى باسناده عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ قلت لِابْنِ الْمُبَارك ابراهيم بن أدهم مِمَّن سمع فَقَالَ قد سمع من النَّاس وَلَكِن لَهُ فضل فِي نَفسه صَاحب سرائر وَمَا رَأَيْته يظْهر تسبيحا وَلَا شَيْئا من الْخَيْر وَلَا أكل مَعَ قوم طَعَاما إِلَّا كَانَ آخر من يرفع يدية من الطَّعَام

وَأخرج فِي تَرْجَمَة عبد الرَّحْمَن ابْن الآسود عَن عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه قَالَ ثمَّ لقِيت عبد الرَّحْمَن بن الآسود وَهُوَ يمشي بِجَانِب الْحَائِط فَقلت لَهُ مَالك قَالَ أكره أَن يستقبلني إِنْسَان فيساءلني عَن شَيْء قَالَ فَقلت لَهُ لَكِن عمر كَانَ شَدِيد الوطيء على على الآرض لَهُ صَوت جَهورِي

وَأخرج فِي تَرْجمهُ الآوزاعي عَن الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ كَانَ الْأَمر لَا يتَبَيَّن على الْأَوْزَاعِيّ حَتَّى يتَكَلَّم فَإِذا تكلم جلّ وملآ الْقُلُوب

وَأخرج فِي تَرْجَمَة عبد الله بن الْمُبَارك من حَدِيث الْحَافِظ أبي بكر الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ الى الْأَصْمَعِي قَالَ سَمِعت ابْن الْمُبَارك يَقُول انه ليعجبني من الْقُرَّاء كل طلق مضحاك فَأَما من تَلقاهُ بالبشر ويلقاك بالعبوس كَأَنَّهُ يمن عَلَيْك بِعِلْمِهِ فَلَا كثر الله فِي الْقُرَّاء مثله وَهَذِه الطلاقة الَّتِي أَشَارَ اليها هِيَ الَّتِي كَانَت تعرف من حسن أَخْلَاق النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهِي كَانَت الْغَالِب على أَصْحَابه رضى الله عَنْهُم وسادات الْمُتَقَدِّمين من الْأَئِمَّة الجامعين بَين الْعلم وَالْعَمَل كسعيد بن الْمسيب إِمَام أهل الْمَدِينَة وَسيد التَّابِعين فِي وقته مَعَ خشونته المعروفه فِي أَمر الله تَعَالَى وكعامر الشّعبِيّ من أَئِمَّة الكوفه وَابْن سِيرِين من أَئِمَّة الْبَصْرَة والآوزاعي من أَئِمَّة الشَّام وَاللَّيْث بن سعد من أَئِمَّة أهل مصر وَغَيرهم رضى الله عَنْهُم قد عرف ذَلِك من وقف على أخبارهم ثمَّ هِيَ طَريقَة إمامنا أبي عبد الله الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى وَطَرِيقه من ارتضيناه من مَشَايِخنَا الَّذين عاصرناهم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

ص: 84